الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في الدرس الثاني من دروس كتاب الحج من متن عمدة الفقه لـابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى، يتفضل بشرح هذا الكتاب فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يشرفني في هذا اللقاء وفي كل لقاء أن أرحب بضيفنا، فحياكم الله دكتور عبد الله !
الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين.
المقدم: أيضاً أرحب بأحبتي وبالإخوة الحاضرين معنا في الأستوديو والذين حضروا للاستفادة من هذا اللقاء، وللإفادة أيضاً أرحب بالإخوة والأخوات على موقع الأكاديمية الإسلامية، ومن خلاله أسعد بملاحظاتكم وأسئلتكم وعرضها على ضيفنا الكريم، كما أسعد باتصالات الإخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات على أرقام الهواتف التي ستعرض على الشاشة تباعاً بين الفينة والأخرى، فأهلاً ومرحباً بالجميع وعلى بركة الله نبدأ درسنا.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم!
وقفنا على قول المؤلف: [ ويشترط للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد ].
حينما ذكر المؤلف المحرمية بين أن المحرم للمرأة من الاستطاعة كما أشار إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وبينا أن المحرم شرط من شروط الوجوب كما هو مذهب الحنابلة والحنفية، وذكرنا أدلة ذلك كما في حديث ابن عباس وغير ذلك، ولا داعي لذكر ما سبق أن شرحناه.
لكن الذي يهمنا والذي توقفنا عليه ما هي شروط المحرم؟
المحرم شرطه أن يكون مكلفاً والمكلف هو: العاقل البالغ الراشد أي: الذي يعرف أمور الحياة، بحيث إذا أصاب المرأة شيء يستطيع أن يحل مشاكلها، وأن يكون عوناً لها في طريقها.
إذاً: المحرم هو البالغ العاقل الراشد، وأيضاً من شروط ذلك أن يحرم عليها على التأبيد كما أشار إلى ذلك المؤلف: (وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد إما بنسب أو بسبب مباح) مثل: ابنها وأخوها وعمها وخالها.
أما النسب فمعروف، وأما السبب المباح فمثلاً: لو تزوج الرجل المرأة فإن أبا الزوج يكون محرماً للمرأة وكذلك جد الزوج وهلم جراً.
قول المؤلف رحمه الله: (فمن فرط حتى مات)، يعني: من توفرت شروط الوجوب في حقه بأن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً مستطيعاً ولكنه فرط في ذلك، فإن المؤلف يقول: (فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله)، وقوله (من ماله) يفيد أنه يجب ذلك قبل قسمة الميراث وبعد إعطاء الناس حقوقهم من الديون وغيرها، فقبل أن يقسم الميراث يجب أن يبقى جزء منه لحجه وعمرته حتى يستنيب من يحج أو يعتمر عنه إن لم يكون قد اعتمر عمرة الإسلام، هذا مراد المؤلف رحمه الله، ودليل ذلك أن الحج والعمرة باقيان في ذمته، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من وجب عليه الحج والعمرة ولم يحج وجب من يحج عنه، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس عن الفضل بن عباس ( أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك )، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم علة ذلك، فقال: ( أرأيت إن كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا فالله أحق بالوفاء )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن وجوب الحج والعمرة باقٍ في ذمته فيجب أن يخرجان من تركته.
وقولنا: إنه يخرج من تركته أي: من جميع المال، فلو أنه خلف مثلاً مائة ألف وقد سدد الديون فإنه يجب أن تخرج تكلفة حجه وعمرته من المائة الألف كاملة، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب مالك رحمه الله إلى أنه إن كان قد أوصى بأن يحج عنه أو يعتمر عنه فإنه يخرج من جميع ماله، وإن كان لم يوص بذلك فإنه يخرج من ثلثه، يعني: المائة ألف ثلثها تقريباً ثلاثة وثلاثون ألفاً، فيخرج منه ثلاثة وثلاثون فيحج عنه، فإن كفت فالحمد لله وإن لم تكف فلا يجب على الورثة إخراجها.
والراجح -والله أعلم- أن الحج والعمرة يجب أن يؤخذ من جميع المال، وسبب ذلك هو أنه بقي في ذمته ولا يبرأ من ذلك حتى يسدد الدين الذي عليه وهو دين مستقر عليه فيكون من رأس ماله.
وهنا مسألة: إنه من فرط يستنيب من يحج عنه، هذا المستنيب من أين يحج هل يحج من وقت وجوب الحج على الميت؟ بمعنى أن الميت مثلاً من أهل الرياض ولم يستغن، ثم ذهب إلى المدينة المنورة.
فاستغنى وفرط في الحج سنتين ثم مات، فهو من أهل الرياض ثم مات في المدينة هل يجب أن يحج عنه من المدينة؟ بمعنى لو وجد رجل يحج عنه من أهل مكة هل نقول له: يخرج من مكة إلى التنعيم إن كان عمرة أو من مكانه إن كان من أهل مكة في الحج، أم يجب عليه أن يذهب إلى المدينة فيحج عن الميت؛ لأن الحج وجب عن الميت في المدينة؟
الحنابلة رحمهم الله يقولون: يجب أن يحج عنه من مكانه الذي وجب عليه الحج، وبينوا هذا فقالوا: إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه، لا من الموضع الذي مات فيه، فهم يفرقون بين الموضع الذي مات فيه والموضع الذي أيسر فيه، فلو أنه أيسر في المدينة ثم سافر إلى ينبع مثلاً فمات في ينبع فإنه يجب عليهم أن يحجوا عنه من المدينة؛ لأنه الموضع الذي أيسر فيه لا من الموضع الذي مات فيه.
وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنه لا يلزم المستنيب أن يحج في المكان الذي أيسر فيه الميت، بل يحج متى شاء في أي مكان شاء، المهم أن تكون حجته وعمرته صحيحة، فلو فرض أن مكياً حج عن آفاقي بعيد فله ذلك متى ما توفر شروط الحج في حق المستنيب، وهذا هو الأظهر والله تبارك وتعالى أعلم؛ لأن مسألة أن يحج عنه من حيث أيسر من باب الوسائل، والله سبحانه وتعالى كلف العبد الحج والعمرة، ولم يكلف العبد أن يحج من المكان، فلو فرض أنه عجز عن الحج فله أن ينيب من يحج عنه ولو كان من أهل مكة؛ لأن الواجب الحج والعمرة، والله أعلم.
وقوله: (ولا تقولوا: قال ابن عباس) هذا يفيد أن له حكم الرفع.
أما صحة حج الصبي فقد بينا أن ذلك إجماع من أهل العلم وقد نقل الإجماع ابن عبد البر و النووي و الترمذي وغير واحد من أهل العلم، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر )، وهذا بإجماع أهل العلم.
وما نقله ابن بطة الحنبلي وتبع ذلك ابن حجر وكذا الوزير بن هبيرة أن أبا حنيفة يقول: لا يصح حج الصبي، فإن معنى (لا يصح حج الصبي) أي: يصح صحة تتعلق بها وجوب الكفارات.
وهنا مسألة مهم نطرحها: وهي أن الصبي إذا حج هل إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام هل يجب على وليه أن يخرج الفدية لأجل فعل الصبي المحظور أم لا؟
جمهور أهل العلم من المالكية والحنابلة والشافعية قالوا: إن الصبي إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام إن كان ذكراً فيأخذ أحكام الذكر، وإن كان أنثى فإنه يأخذ أحكام الأنثى إن فعل محظوراً من محظورات الإحرام متعمداً، قالوا: إن كان هذا المحظور مثل تغطية الرأس أو لبس المخيط فإنه ليس عليه شيء؛ لأن عمد الصبي خطأ، أما لو أتلف الصبي مثلما ذكر: قلم الأظفار أو حلق الرأس أو قتل الصيد فإنه يجب أن يخرج الفدية في حقه؛ لأن هذا يسمونه من باب خطاب الوضع ضمان عليه، والصبي يضمن من ماله إن كان قد أتلف مثل ذلك قالوا: لو أن الصبي قد أحرم بالعمرة أو أحرم بالحج وجب على وليه أن يكمل حجه وأن يكمل عمرته، وذهب أبو حنيفة رحمه الله وهو قول ابن حزم إلى أنه لا يلزم الولي أن يكمل حج الصبي أو عمرته، فلو فرض أنه أهل بالصبي بأن يحج ثم وجد مشقة وحرجاً ولم يكن قد اشترط للتحلل، ولم يقل: فإن حبسه حابس. أو يقول الصبي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ثم ذهب إلى مكة فوجد زحاماً شديداً يخاف على ابنه، هل له أن يقول لابنه: تحلل من عمرتك أو تحلل من حجك ولا يجب عليه شيء؟ فـ أبو حنيفة يقول: له ذلك والجمهور يقولون: ليس له ذلك، والأقرب -والله أعلم- هو قول أبي حنيفة؛ وذلك لأن إتمام العمرة وإتمام الحج واجب لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فالمراد بها الإتمام ومعلوم بالإجماع أن الصبي غير مكلف فلا يلزم أن يكمل عمرته أو حجته؛ لأنه غير مكلف أما لو فعل محظوراً فيجب على وليه أن يمنعه من ذلك، فإن فعل محظوراً من غير علم الولي فإنه لا يلزمه أن يخرج من ماله ولا من مال ابنه، هذا هو الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم، وقد قوى ذلك -كما قلنا- ابن حزم في المحلى وهذا أظهر والله أعلم.
يقول المؤلف: (ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئهما)، العبد لو حج فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام فيجب عليه أن يحج، وقد قلنا: إن هذا إجماع من أهل العلم، وقد نقل الإجماع النووي و الترمذي و ابن عبد البر و ابن المنذر وقد قال ابن المنذر : من شذ، ومن الذين شذوا وقالوا: إن العبد يأخذ أحكام الحر في جميع الأحكام الإمام ابن حزم رحمه الله، فقال: لو فرض أن العبد حج فإن حجه صحيح ولا يلزمه إن أعتق أن يحج مرة أخرى وهذا كما قلنا: اجتهاد لـابن حزم وقال: إنه مكلف مثله مثل الحر، والراجح -والله أعلم- هو قول ابن عباس وقال: ولا تقولوا: قال ابن عباس فيأخذ حكم الرفع لقوله: ( أيما عبد حج ثم أعتق فيجب عليه أن يحج حجة أخرى ) وهذا كما قلنا: يأخذ حكم الرفع. والله أعلم.
ولو حج هذا الفقير وتكلف أو أعطي وهو غير مستطيع هل يصح حجه؟ نقول: نعم يصح حجه وهذا بلا خلاف، كذلك المرأة وقد قلنا: إن المحرم للمرأة شرط وجوب، فلو حجت المرأة من غير محرم فإن حجها يعتبر صحيحاً ولا إشكال، ولكنها تعتبر آثمة حينما ذهبت من غير محرم على قول أحمد و أبي حنيفة .
وقال المؤلف: (ويجزئهما)، وهذا بلا إشكال وهو مجمع عليه.
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: قالوا: هو قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، قال ابن القيم وكذا الحافظ ابن حجر و ابن هشام كما في السيرة قالوا: إن هذه الآية نزلت عام الوفود حينما جاء وفد نجران وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عليهم الجزية قالوا: ومن المعلوم أن عام الوفود إنما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج في السنة التاسعة؛ لأنه كان يستقبل الوفود فهذا يدل على أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة، فعلى هذا قالوا: إن الحج على الفور، والذي منع الحبيب عليه الصلاة والسلام أن يحج في السنة التاسعة هو لأجل أنه كان في قريش من كان يطوف وهو عريان، وكان يطوف وهو مشرك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن ينادي: ألا يطوف في البيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك. وهو من مقاصد التشريع أنه لا بأس أن يؤخر الإنسان إذا كان فيه مصلحة راجحة في ذلك مثل خوفه من أمن الطريق أو مصلحة في بقائه أعظم من حجه كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله -وهو القول الثاني في المسألة- إلى أن الحج إنما فرض في السنة السادسة قال: لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، قال: إن هذه الآية نزلت مقترنة مع قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، قال: ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت في حق كعب بن عجرة حينما كان قد آذاه هوام رأسه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق وأن يفتدي، قال الشافعي: وهذا كان في السنة السادسة في زمن الحديبية لكن الجمهور قالوا: إن هذه الآية ليست دليلاً على ما ذهب إليه الشافعي؛ لأن قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، إنما هذا فرض في الإتمام لا في الابتداء؛ لأن الصحابة حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلوا بإحرامهم أنزل الله هذه الآية؛ لأنه يجب عليهم أن يتحللوا بالإحصار المعروف في هذه الآية وهذا الأقرب والله أعلم.
وعلى هذا فنقول: إن الحج إنما فرض في السنة التاسعة، وأنه يجب على المسلم أنه إذا توفرت في حقه الشروط الخمسة أن يحج، ومن المعلوم أن جميع الأوامر هي على الفور، ولو قلنا: إنه ليس على الفور فمتى يحج؟ قال الشافعي إذا خشي العطب، يعني: الأصل أنه لا يحج، فإذا خاف على نفسه مثل أن يخاف مرضاً مخوفاً أو مرضاً لا يرجى برؤه، فعلم أنه سوف يمرض أو ربما يصعب عليه أن يحج بعد هذا العام فيجب عليه؛ لأنه خشي العطب السنة القادمة، وهذا فيه إشكال كما لا يخفى، ولهذا قلنا: الأقرب -والله أعلم- أن الحج على الفور ولو لم نقل: الحج على الفور لكان في ذلك إسقاط لفرضية الحج في الغالب؛ لأن الغالب أن الناس لا يحجون ويقولون: حتى السنة القادمة، وإلى السنة القادمة، ثم تذهب السنون وهو لم يحج والله أعلم.
المؤلف يقول: لا يصح أن يحج عن الغير، ولو وقعت فإنها تقع عن الفقير، وكذلك لو كان عليه نذر وعليه حجة الإسلام، مثل شخص قال: لله علي أن أحج سنة من السنين وهو لم يحج في الإسلام ثم قدر فهل له أن يبدأ بحج النذر قبل حج الإسلام؟ قال المؤلف: لا يصح ولو فعل حج النذر قبل حج الإسلام لوقعت عن حجة الإسلام، ولو أراد أن يتطوع مثله كأن يكون صغيراً ابن سبع عشرة سنة أو ست عشرة سنة، ويقول: أنا لا أريد أن أحج حجة الإسلام حتى أعقل وأن أميز الأحكام وأن أدرك غور الشريعة والعبودية في مناسك الحج، ولكني الحمد لله قادر وأستطيع، فأريد أن أحج حج نفل، فهو بلغ الآن واستطاع فيقول: أنا ابن خمس عشرة سنة أو ابن ست عشرة سنة، فأريد أن أحج لكنني أجعل هذه نفلاً، هل للإنسان أن يحج حج نفل قبل أن يحج حجة الإسلام التي هي عليه؟
قال المؤلف: لا يصح، وبين المؤلف أن ذلك لو وقع فإنما يقع عن حجة الإسلام، واستدل المؤلف على ما ذهب إليه بما رواه الإمام أحمد و البيهقي و أبو داود وغيرهم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حج، فسمع رجلاً يقول: لبيك عن
ولكن هل دليل الحنابلة والشافعية في أن كل من حج عن الغير قبل أن يحج عن نفسه أنها تقع ابتداء عن النفس؟ الواقع أن هذا محل تأمل ونظر فإن مالكاً و أبا حنيفة رحمهما الله وهو رواية عن أحمد قالوا: إن كل من لم يحج عن نفسه لو حج عن الغير صح حجه عن الغير ولو لم يحج عن نفسه، لكن الأولى والأحرى والواجب أن يحج عن نفسه، قالوا: دليلنا هو حديث ابن عباس.
أولاً: إن الصحيح من حديث ابن عباس أنه موقوف وليس بمرفوع، وقد بين أن الصحيح أن الحديث موقوف الإمام أحمد و الطحاوي ، و ابن المنذر قال: لا يثبت رفعه، وذلك لأن الرواة عن قتادة إنما رووه عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من قوله أنه هو الذي خاطب هذا الرجل قال: لبيك عن شبرمة.
الدليل الثاني قالوا: ولو فرض صحة الحديث فإنه دليل لنا وليس دليل لأصحاب القول الأول قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من
يقول المؤلف رحمه الله: (وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره)، يعني: قول الحنابلة: إن الحج يقع ابتداء عن النفس، ولكن هذا يسعفهم الدليل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: هذه أصلها عن نفسه بل قال: ( اجعل هذه عن نفسك )، فدل ذلك على أنه قلب نيته عن الغير إلى النفس، وهذا خاص في الحج؛ لأنه من المعلوم أن الإنسان لو صلى الظهر أو لو صلى العصر فعلم بعد إحرامه بالعصر أنه لم يصل الظهر لا يصح أن يقلبها، لكن هذا خاص بالحج والله تبارك وتعالى أعلم.
انتهينا من هذا الباب.
كان سؤالكم -يا شيخ- السبت الماضي عن الاستطاعة في الحج؟ وقد وردت إجابات كثيرة لعلي أستعرض أسبقها في الوصول ثم تعلقون عليها يا شيخ.
أختنا خديجة من المغرب تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الاستطاعة التي ذكرها المؤلف هي الاستطاعة المالية والبدنية، فيجب الحج بشروط خمسة هي الإسلام، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، والقدرة، والقدرة على الحج هو الذي يتمكن من أدائه جسمياً ومادياً، فإن كان قادراً بماله وبدنه وجب عليه الحج بنفسه، فأما القدرة المالية، فهي الزاد والراحلة بأن يمكنه الركوب ويتحمل السفر فيجد من ماله بلغته التي تكفيه ذهاباً وإياباً، وأيضاً ما يكفي أولاده، ومن تلزمهم نفقتهم إلى أن يعود إليهم. وأما القدرة البدنية بأن كان قادراً بماله دون بدنه بأن كان كبيراً هرماً أو مريضاً مزمناً لا يرجى برؤه لزمه أن ينيب من يحج ويعتمر عنه، ويخرج من تركته لكي يحج عنه لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حجي عنه)، متفق عليه.
الشيخ: الإجابة -ما شاء الله- وافية إلا أنها قالت في ابتداء جوابها: إن الاستطاعة القدرة المالية والبدنية، فهذا فيه إشكال، لكنا نقول: القدرة هنا القدرة المالية أو البدنية إذا استطاع إلى ذلك، أما إذا قلنا: القدرة المالية والبدنية فيجب أن يتوفر في حق المستطيع شرطان، فلو كانت المالية والبدنية لما وجب في حق الرجل الذي قالت المرأة: (إن أبي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة)؛ لأنه ليس عنده قدرة بدنية لكن نقول: القدرة هنا هي القدرة المالية أو البدنية، والبدنية لها صورة واحدة وهو فقير مدقع لكنه من أهل مكة يستطيع أن يحج ويقدر نقول: يجب عليه؛ لأنه يعد مستطيعاً، أما من كان قادراً ببدنه ولم يكن عنده مال وهو بعيد عن الحج فإن الحج في حقه لا يجب.
المقدم: الأخت فاتن من السعودية تقول: الاستطاعة التي ذكرها المؤلف استطاعة مالية فقط.
أيضاً عبد الرحيم المغراوي من المغرب يقول: أحسن الله إليكم يا شيخ! وبارك فيكم وفي علمكم، الاستطاعة في شروط الحج بدنية ومالية وإن كان شخص قادر بماله وبدنه فيجب عليه الحج بنفسه، وإن كان شخص قادر بماله فقط فيجب عليه أن ينيب من يحج عنه بماله، وإن كان شخص قادر بماله فقط فالأصل أنه لا يجب عليه الحج إلا إذا كان قريباً من مكة، وإن كان شخص ليس قادراً بماله ولا ببدنه فلا يجب عليه الحج مطلقاً والله أعلم.
أم الزبير من السعودية تقول: المقصود بالاستطاعة هي: الاستطاعة المالية فإنه يجب عليه الحج إذا كان مقتدراً مالياً وليس بدنياً بحيث ينيب من يحج عنه والله أعلم.
إيمان من السعودية تقول: الاستطاعة تكون مالية وبدنية، فلو وجد المرء زاداً، لكن لم يجد ما يحمل به الماء ولم يجد شيئاً يشتري به الدلو إن مر على بئر فإنه لا يكون مستطيعاً، وكذلك لو وجد راحلة ولم يجد معها سرجاً فإنه لا يستطيع أيضاً، فيكون مستطيعاً إن وجد زاداً وراحلة بآلتهما مما يصح لمثله، وفي ماله أن يكون فاضلاً عما يحتاج إليه، ومن تجب عليه نفقته إلى آخر إجابتها.
الشيخ: حقيقة نشكر الإخوة والأخوات الذين تواصلوا معنا في إجابتهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصهم على طلب التعليم والتعلم، أما الإجابة فإن المؤلف إنما ذكر الاستطاعة المالية وأشار في آخر شيء أنه إذا كان قادراً ببدنه وهو يستطيع أن يحج مثل القريب من مكة -هذا في الشرح- ولكن المؤلف إنما أشار إلى القدرة المالية، وأما ما ذكره الإخوة في التفصيل فهذا هو الراجح أن المراد هي القدرة المالية أو البدنية إذا كان في البدنية مستطيعاً، وقد بينا ذلك بالتفصيل، وقد ذكر الإخوة إجابة وافية في مثل ذلك، وهو أن يكون قادراً بماله وبدنه فيجب عليه أن يحج بنفسه أو أن يكون قادراً بماله لا ببدنه فيجب عليه أن ينيب من يحج عنه.
الثالث: أن يكون قادراً ببدنه دون ماله فإنه لا يجب أن يحج إلا إن كان قريباً من مكة ويستطيع أن يذهب، فنقول: لا بأس بذلك، أو قال: أستطيع أن أذهب مع الناس أخدمهم وأحج، فنقول: حينئذ هذا في حقه يجب أن يحج.
القسم الرابع: ألا يكون قادراً بماله ولا بدنه فهذا لا يجب عليه الحج، ولا يجب أن يستنيب من يحج عنه والله أعلم.
الجواب: هذا سؤال جيد وإجابته لا تخلو من حالين: الحال الأولى: أن يكون قد توفي قبل أن يدخل في النسك فحينئذ يجب على الورثة أن يخرجوا من مال مورثهم شيئاً لحجه وعمرته إن كان لم يعتمر قبل ذلك؛ لأنه لم يدخل في النسك وقد وجب في حقه وما زالت همته مشغولة.
الحال الثانية: أن يكون قد دخل في النسك ولبى في الحج ولبى في العمرة فحينئذ هل يجب على ورثته أن يحجوا أو يخرجوا من ماله؟
نقول: في ذلك خلاف عند أهل العلم: القول الأول: قالوا: لا يلزم الورثة أن يحجوا عنه؛ لأنه يعد أنه قد حج وقد أحصر، والرسول صلى الله عليه وسلم بإجماع أهل العلم عدوا عمرته يوم صلح الحديبية مع أنه لم يكملها اعتبروها من عمره، فهذا الرجل الذي لبى بالحج أو لبى بالعمرة ثم مات في ذلك فإنه لا يجب أن يحج عنه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته ناقته: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً )، ولم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أهله أنه يجب على ورثته أن يحجوا عنه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، هذا هو القول الأول وهذا -والله أعلم- هو الأظهر.
القول الثاني: قالوا: ما دام أنه لم يكمل عمرته أو حجه فيجب على ورثته أن يخرجوا من ماله ما يحج به أو يعتمر به، ولكنا قلنا: إن القول الأقرب هو القول الأول والله أعلم.
القسم الثاني: المواقيت الزمانية وهو ما أشار إليه المؤلف بقوله: (وأشهر الحج) فهذه المواقيت هي الزمانية.
بالنسبة مصر بينها وبين مكة بحر فنقول: هذا قبل أن تنشأ قناة السويس فقد كان مسيرهم من قارة أفريقيا إلى آسيا، ومن آسيا إلى أفريقيا، فكانوا يأتون من طريق البر، فيأتون إلى الشام ثم يدخلون إلى مكة، فكانت هي ميقاتهم.
يقول المؤلف: (ولنجد قرن)، وقرن يبعد عن مكة مرحلتين، وهو خمسة وثمانون أو تسعون كيلو متر تقريباً، وهذا القرن يسمى السيل الكبير، ويوازيه من جهة كراء وادي محرم فللمرء أن يحرم من وادي محرم إذا جاء من طريق كراء، أو يحرم من طريق السيل إذا جاء من قبل نجد، هذه هي المواقيت.
والقول الآخر في المسألة: إن الذي وقت ذلك هو عمر بن الخطاب، فالإمام البخاري قد روى في صحيحه عن ابن عمر قال: (أن ناساً أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدما فتح المصران، يعني: البصرة والكوفة في العراق، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسولنا صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرناً، وإن قرناً جورٌ عن طريقنا، فقال عمر بن الخطاب : انظروا إلى حذوها من ميقاتكم فوقت لهم ذات عرق). وأياً كان النبي عليه الصلاة والسلام وقت ذات عرق أو عمر فقد أجمع أهل العلم على أن أهل المشرق لو أحرموا من ذات عرق فإنما أحرموا من الميقات، وهذا إجماع منهم رضي الله عنهم، كما نقل ذلك الإمام الشافعي في الأم وكذا ابن عبد البر رحمة الله تعالى على الجميع.
وأما حديث المواقيت فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دونه فمحله من حيث أنشأ حتى أهل مكة يهلون منها )، ولـمسلم من حديث ابن عمر ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة ) ... الحديث، وفي هذا دلالة على أن الإحرام من المواقيت واجب، وهذا بلا خلاف عند أهل العلم في وجوبه، ولكن اختلفوا في صحة الحج هل لو حج من غير الإحرام من المواقيت هل يصح حجه؟ الصحيح الذي عليه عامة الفقهاء أنه يصح حجه خلافاً لـسعيد بن جبير حيث قال: لا يصح حجه، ولكن الراجح هو قول عامة الفقهاء: إن حجه يصح، ولكنه ترك واجباً فعليه أن يجبره بدم كما سوف نشرح ذلك قريباً إن شاء الله.
الجواب: وبالنسبة لميقات السيل ما هو نهاية الميقات الذي هو ميقات المنازل؛ ما هي نهاية الميقات التي لا يجوز لأحد أن يتجاوزها لأنه من المعلوم أن قرن المنازل؛ واد كبير فما هو النهاية التي لا بد للإنسان أن يحرم قبلها؛ لأن بعض الناس يفهم أن الميقات من المسجد الذي هو الآن مبني؟
الجواب: الذي أعرف أن البناية في رابغ قرية دون الجحفة، ولكن العلماء أجمعوا على أن ميقات الجحفة من أحرم دونه فإن إحرامه صحيح، وأن المسجد كان في جهة رابغ، هذا الذي نعرفه، وتصحيح الأخ جزاه الله خيراً يتأكد من هذا.
أما مسألة الميقات فالميقات على الوديان، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه مناد من ربه قال: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك )، يعني: وادي ذي الحليفة، قال: ( صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حج )، هذا في الفجر ولم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم وقد سار كثيراً حتى كان الظهر فأحرم بالظهر كما هو في الصحيح مسلم من حديث ابن عباس و المسور بن مخرمة فهذا يدل على أنه ما دام في وادي ذي الحليفة فله أن يحرم، وكذلك يقال في قرن المنازل، فليست العبرة في المساجد الموجودة في المواقيت بل العبرة في الأماكن التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا قرناً مثلاً لا وادي محرم، فللمرء أن يحرم إذا جاء من طريق كراء مع العلم أنه أبعد إلى مكة من قرن المنازل فهو أحرى من الميقات والله أعلم.
الجواب: اختلف أهل العلم هل يجوز للمسلم أن يبعث من يحج عنه أو يعتمر إذا كان غير قادر أو قادراً بعدما حج حجة الإسلام واعتمر عمرة الإسلام؟ قولان عند أهل العلم:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة في المذهب عندهم وهو قول عند الشافعي إلى أن للمسلم أن يحج عن غيره إذا كان قادراً على الحج أو عاجزاً عن الحج وهو حي، وهذا القول فيه قوة، ودليله هو حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حينما قال: لبيك عن
وذهب الحنابلة في رواية وهو مذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يجوز لمن حج حجة الإسلام أن يحج عنه غيره أو يبعث أحداً يعتمر عنه ما دام حياً إلى أن يموت، وهذا -كما قلنا- مذهب مالك قالوا: لأن الأصل في العبادات التوقيف، وهذا صحيح أن الأصل في العبادات التوقيف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحج يجوز النيابة فيه لغير المستطيع الذي هو الحي لقول الخثعمية : (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه)، فهذا يدل على أن الإنسان له أن يبعث من يحج عنه سواء كان حياً أو ميتاً والله أعلم.
الجواب: من كان لا يستطيع أن يحج عن نفسه إما لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه، ثم بعث من يحج عنه وبعد أن برَأَ وقدر على الحج فإن أهل العلم قالوا: إنه لا يلزمه أن يحج مرة أخرى بعد أن حج عنه غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف العبد أكثر من مرة، وهذا القول هو قول أكثر أهل العلم، نعم لو فرض أنه لم يستطع أن يحج لكبر أو مرض ثم بعث من يحج عنه، وفي أثناء الحج قدر على الحج فحينئذ نقول: يقلبها المستنيب نفلاً أو عن نفسه ويستمر، ويجب عليه أن يحج مرة أخرى، أما بعد انتهاء الوكيل في الحج فإنه لا يلزمه أن يحج مرة أخرى والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر