الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في درس جديد من دروس عمدة الفقه، ضيفنا في هذا الدرس وفي كل درس من هذه الدروس لهذا الفصل هو فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، عضو هيئة التدريس للفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
يسرني باسم الجميع أن أرحب بضيفنا الكريم، حياكم الله يا شيخ عبد الله !
الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات.
المقدم: الترحيب موصول لكم أيها الأحبة سواء تابعتمونا من خلف شاشاتكم، أو على موقع الأكاديمية الذي نسعد من خلاله باستقبال مداخلاتكم واتصالاتكم في جميع فترة الحلقة، ولا يشترط أن يكون بعد الفاصل، وإنما نسعد باستقبال مداخلاتكم في الحلقة كاملة، وعلى بركة الله نستهل درسنا، ونبدأه إذا أذنتم لي يا شيخ عبد الله ! في الدرس الماضي وقفنا على مسألة: متى ينتهي الوقوف بمزدلفة؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وصلنا إلى متى ينتهي وقت الوقوف بمزدلفة؟
وقت الوقوف بمزدلفة يبدأ من بعد وقوف عرفة، كما ذكر ذلك أهل العلم، وقد ذكره ابن تيمية رحمه الله فقال: وفي النص في الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على أن الوقوف بمزدلفة لا يعد إلا بعد الوقوف بعرفة، فمتى وقف بعرفة ثم وقف بمزدلفة أجزأه ذلك.
وقولنا: بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه لو وقف بعرفة أول النهار، ثم خرج من عرفة قبل غروب الشمس، ثم وقف بمزدلفة أجزأه ذلك عند بعض أهل العلم؛ لأنه وقف بمزدلفة، وقال بعض أهل العلم: إنما يبدأ الوقوف بمزدلفة بعد غروب شمس يوم عرفة، وهذا القول فيه قوة؛ لأنها سميت ليلة جمع، ولا تسمى ليلة إلا من بعد غروب الشمس، وهذا أقوى والله أعلم.
وعلى هذا فوقت الوقوف بمزدلفة يبدأ من بعد غروب الشمس بعد الوقوف بعرفة.
وأما متى ينتهي؟ فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الوقوف بمزدلفة ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، وهذا القول فيه نظر، وأما القول الثاني: وهو قول أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن وقت الوقوف بمزدلفة ينتهي قبيل طلوع الشمس من صبيحة يوم العيد، يعني بعد الفجر فمن جاء بعد الفجر فإنه يدرك الوقوف بمزدلفة قبل طلوع الشمس.
والأدلة على هذا القول كثيرة جداً، أولى هذه الأدلة: ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي من حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه: ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفجر فقال: يا رسول الله! جئت من طي، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، فوالله ما تركت من جبل إلى وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه )، وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فقد تم حجه وقضى تفثه )، ولفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى جبره بدم أو نحوه، مما يدل على أن عروة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفجر، ولهذا قال: (يا رسول الله! جئت من طي)، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفجر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا نص في أن مزدلفة تدرك بعد طلوع الفجر كما تدرك قبل الفجر؛ لأن هذا السائل إنما وافاها بعد طلوع الفجر؛ وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حجه تام وانتهى حجه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، إذ لو كان عليه شيء لأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا يصح أن يقال: إن الرجل ربما جاء قبل الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع )، ومن المعلوم أن إدراك الصلاة يكون بعد طلوع الفجر، هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: ما رواه سعيد بن منصور في سننه من طريق إبراهيم النخعي عن الأسود أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدما أفاض بعرفات، فقال: يا أمير المؤمنين! الآن جئت، قال: أما كنت قد وقفت بعرفة قبل ذلك؟ قال: لا، قال: فاذهب فقف بعرفة هنيهة، ثم أفض حتى تقف معنا، فلما أصبح عمر رضي الله عنه قال: أقد جاء السائل؟ قالوا: لا، وفي رواية: أقد جاء الأعرابي؟ قالوا: لا، ثم ذكر الله، ثم قال: أقد جاء الأعرابي؟ قالوا: نعم، قال: فلننفر إذاً، وهذا الحديث رواه سعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال: واحتج به الإمام أحمد على أن الوقوف بمزدلفة ينتهي قبيل طلوع الشمس، ومجيء هذا الرجل إلى عمر حينما سأله وهو بمزدلفة لا يعد شيئاً، لأن المزدلفة قلنا: إنها تعتبر بعد الوقوف بعرفة، وهو لم يقف بعرفة.
الدليل الثالث على أن الوقوف بمزدلفة ينتهي قبيل طلوع الشمس: هو ما رواه بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ناس فقالوا: ما الحج؟ قال: الحج عرفة )، أناس سألوا عن الحج، قال: (الحج عرفة، فمن جاء عرفة قبل طلوع الفجر فقد تم حجه )، ومن المعلوم أن العبادات المتعاقبة لا يدخل وقت بعضها على بعض، بل يكون وقت أحدها بعد وقت الأخرى كالصلوات، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمة الله عليه، والأدلة في هذا كثيرة جداً، وقد أسهب في هذا الأمر أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم في شرحه عمدة الفقه، وهو من أفضل الشروح، إلا أنه لا يوجد إلا العبادات فقط، هذه مسألة.
ذكر ابن قدامة رحمه الله أنه لا يعلم خلافاً عند أهل العلم في جواز تقديم الضعفة قبل الفجر ليلة مزدلفة، والأدلة على هذا كثيرة جداً، منها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( استأذنت
والحديث الآخر: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة عن سالم بن شوال قالت أم حبيبة : ( كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نخرج ليلة جمع بغلس إلى منى )، والحديث الآخر حديث ابن عمر كما في الصحيحين من حديث سالم عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام، فيذكرون الله ما بدا لهم قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وقال ابن عمر : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة ما جاء في الصحيحين من حديث أسماء : ( أنها أتت مزدلفة فصلت ساعة، ثم قالت: لغلامها
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، ومنها حديث ابن عباس في الصحيحين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت في من قدم النبي صلى الله عليه وسلم بضعفة أهله بليل )، رواه مسلم ، قال: ( بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس ليلة جمع بثقل النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على جواز تقديم الضعفة ومن في حكمهم من الأقوياء؛ لأن ابن عباس قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أغيلمة
والمقصود بمن هم في حكم الضعفة: مثل الأقوياء الذين معهم ضعفة فيذهبون معهم؛ لأنهم يدخلون معهم تبعاً.
إذاً: قولهم: منتصف الليل: فيه نظر.
والقول الثاني: هو عند مغيب القمر، ومغيب القمر يصدق عليه أنه عند ثلث الليل الآخر، ويصدق عليه أنه عند التغليس، وهذا هو الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك أن الوقت قبل الفجر قصير، هو فعل ابن عمر حينما كان يقدم ضعفة أهله فمنهم من يقدموا منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فلو كان بمنتصف الليل فإن بين منتصف الليل وبين الفجر أربع ساعات إلا قليلاً وقت طويل، فهم يستطيعون أن يذهبوا إلى منى ويجلسوا فيها، ويذهبوا إلى البيت فيرمون قبل الفجر ثم يذهبون إلى البيت الحرام، بعض أهل العلم كـأبي يعلى من الحنابلة قال: بمنتصف الليل؛ لما روى الإمام أحمد وغيره و الدارقطني أن عائشة قالت: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
انظر إلى الأئمة رحمهم الله، الإمام أحمد لم يتعصب إلى قوله، فعندما قال يحيى بن سعيد : إنما الذي حفظته من طريق أبي معاوية عن الأعمش ( حتى توافي البيت ) وليس (توافيه) وقال: يحيى بن سعيد للرجل: اذهب إلى عبد الرحمن بن مهدي فيحدثك، فحدثه عبد الرحمن بن مهدي بمثل ما ذكر يحيى بن سعيد ، فذهب الراوي إلى أحمد فأخبره بهذه القصة فقال: ما أشد تثبت يحيى بن سعيد ! وهذا دليل على أن الإنسان وطالب العلم يجب عليه أن يرجع إلى الحق، ولا يتعصب لقوله، والإمام أحمد رجع إلى هذا، وهذا يدل على أن الإمام أحمد ضعفه ثم رجع عن تضعيفه كما في بعض هذه الروايات.
لم أذكر قول الحنفية ولا قول المالكية، متى وقت خروج الضعفة؛ والسبب في ذلك أن الحنفية لا يرون وجوب الوقوف لأهل الضعفة؛ لأنهم يرون أن وقوف المزدلفة يبدأ من بعد الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، ولهذا قالوا: يجوز للضعفة ألا يأتوا إلى مزدلفة أصلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لهم.
قالوا: والوقوف الواجب يبدأ من بعد الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، هذا قول الحنفية، ولهذا نقول: لو خرجوا على مذهب أبي حنيفة -الضعفة ومن في حكمهم- قبل منتصف الليل جاز لهم ذلك.
ولم نذكر أيضاً قول المالكية؛ لأن المالكية يقولون: الوقوف الواجب في مزدلفة هو قدر زمن حط الرحال، فإذا وقفوا بمقدار زمن حط الرحال أو صلوا المغرب والعشاء جاز لهم أن يخرجوا قبل منتصف الليل، ولكن الأفضل أن يخرجوا كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بعض نسائه أن يخرجن بعد مغيب القمر، ولهذا أرى أن السنة لمن كان من الضعفة أو من في حكمهم ألا يخرجوا من مزدلفة إلا بعد مغيب القمر، ولو خرجوا قبل منتصف الليل فقد أساءوا ولا شيء عليهم إن شاء الله.
هذا هو الذي ذكرناه في مسألة الوقوف في مزدلفة عند قوله: (ثم يبيت فيها).
أي: في أول الوقت، ولهذا جاء في صحيح البخاري أن ابن مسعود صلى الفجر في جمع وقائل يقول: قد طلع الفجر, وقائل يقول: لم يطلع الفجر، وهذا يدل على تأكيد التبكير في الصلاة.
ولكن نلاحظ بعض الحجاج هداهم الله يخطئون كثيراً، من ذلك أنهم حينما يستيقظون من النوم تجدهم يصلون الفجر قبل وقتها، يعني: قبل أن يدخل وقت الفجر، وهذا خطأ كبير، فيجب على الحجاج أن يتأكدوا من دخول وقت الفجر فيصلوا عند ذلك.
ومن الأخطاء أيضاً أنهم لا يبالون في استقبال القبلة، فتجدهم يصلون كيفما اتفق، بل إنك تجد بعض الحجاج حينما يرى جماعة اثنان أو أكثر يتجهون إلى جهة فإنهم يقلدونهم ولا يرعوون ولا يهتمون ولا يجتهدون، وهذا خطأ كبير، والحمد لله أن ولاة الأمر قد وضعوا مراسيم تبين اتجاه القبلة، في كل منطقة من مناطق مزدلفة، فعلى هذا يجب على الحجاج أن يراعوا هذا الأمر حتى لا تكون صلاتهم باطلة، ولم يجتهدوا الاجتهاد الواجب الذي يكفيهم.
المؤلف يقول: (ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده)، ولا يلزم أن يقف عنده بل يقف في كل مزدلفة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقفت هاهنا وجمع كلها موقف )، المؤلف يا شيخ معمر ! يقول: (فيقف عنده ويدعو)، وهذا الدعاء يكون بعد الفجر قبل الإسفار، فيذكر الله سبحانه وتعالى، ومن الملاحظ أن كثيراً من الحجاج بعد صلاة الفجر لا يذكرون الله بل ينشغلون بالتهيؤ، والأولى أنهم يهيئون أمورهم قبل الفجر أو في الليل، فإذا صلى الإنسان الفجر فإنه يدعو؛ لأن هذا الدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص عليه، بأبي هو وأمي، وكان من دعائه أنه يستقبل القبلة ويحمد الله ويدعوه ويكبر ويهلل، هذا الذي رواه جابر ، قال: ( ثم ركب ناقته القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، وحمد الله وهلله وكبره ووحده ).
أما المؤلف هنا فيقول: (ويكون من دعائه، اللهم كما وقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واعفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]) الآيتين.
أولاً: نقول: هذا الدعاء لم يرد، الصحيح أن الذكر في الآية على سبيل الإطلاق فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] دليل على التوسعة، فيذكر الإنسان ما بدا له من خير الدنيا والآخرة، لكنه لا ينبغي له أن يقتصر في دعائه على أمور الدنيا، كما قال الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:200-201]، فليدعو الإنسان بخير الدنيا والآخرة.
أما قوله: (وقولك الحق فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] الآيتين)، فذكر الآيتين هنا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، ولا أعلم حديثاً يستحب ذكر الآيتين في مثل هذا الموطن، وعلى هذا فالأقرب والله أعلم أنه لا يذكر هذه الآيتين، نعم يذكرها ليس على سبيل الاستحباب إنما من باب الذكر، لكن تقييد ذلك في هذا الموطن فأرى أن هذا لا يستحب، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يذكرن ذلك، وقد ذكر جابر أنه وقف وحمد الله ووحده وهلله وكبر، وذكر علي بن أبي طالب أنه وقف وقال: ( هذا قزح وجمع كلها موقف )، (هذا قزح وهذا الموقف وجمع كلها موقف)، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أمر واضح.
وأيضاً هناك من المشايخ حفظهم الله من يفتي بالانصراف إلى منى في منتصف الليل، ومنهم من يقول: في الثلث الأخير، ومنهم من يقول: آخر الليل، فما هو الضابط؟
الجواب: الأخ سأل: متى يخرج الإنسان من مزدلفة؟ نقول: السنة أن يخرج بعد مغيب القمر، ومعنى بعد مغيب القمر أي: قبل الفجر بسويعات، يعني: بساعة، أو ساعة ونصف، أو ساعتين هذا الأولى، ولكن لو خرج بعد منتصف الليل، جاز له ذلك، لا لأنه ورد في ذلك تحديد، ولكن يقترب منه قول عائشة : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بـ
الجواب: لعلي يا شيخ أقف عند هذا لأجل أن نذكر إحدى مسائل المزدلفة ثم نذكر هذه المسألة، الأخ قال: عن الوقوف بمزدلفة يتعمد الخروج قبل الفجر من الأقوياء، بعض أهل العلم -منهم أهل الحديث وهي رواية عند الإمام أحمد- ذكروا أن الأقوياء لا يجوز لهم الخروج بعد مغيب القمر، إلا لمن كان في حكم الضعفة أو داخل معهم، أما القوي من الشباب أو الرجال الذين ليس معهم ضعفة فلا يجوز أن يخرجوا بعد منتصف الليل أو بعد مغيب القمر، واستدلوا على ذلك بقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرخص في الضعفة ولم يرخص لغيرهم، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبيل الفجر، ولو كان ثمة جواز لأذن صلى الله عليه وسلم وهو ( ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما )، وقالوا: إن ابن عمر قال: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الأقوياء إذا خرجوا بعد مغيب القمر فقد أساءوا ولا شيء عليهم، قالوا: لأنه حينما رخص للضعفة أن يخرجوا فإنه دليل على أنه وقت للخروج، أما الأقوياء فقد أساءوا حينما لم يأخذوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان يجوز لهم ذلك.
وأما قوله: أرخص في أولئك، فالرخصة في كلام أهل العلم تطلق على معنيين: الرخصة التي ضدها العزيمة، والثاني: الرخصة التي هي بمعنى المباح، مثل: صلاة المغرب والعشاء في المطر، فهي رخصة وليست سنة، هي جائزة، فمعنى أرخص في أولئك يعني: جوز لهم.
ومما يدل على ذلك ما جاء في بعض الروايات (أنه أرخص لهم بليل)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع)، فهذا هو الاعتبار (مقدار وقت قصير)، وهذا هو الواجب، وعلى هذا فأقول: إن الأقوياء لا يسوغ لهم أن يخرجوا من مزدلفة إلا قبيل طلوع الشمس، ولكن لو خرجوا فقد أساءوا، وينبغي لهم أن يرجعوا، ولكن لا شيء عليهم.
وذهب الأحناف إلى أنهم إن لم يقفوا بعد الفجر بمقدار لحظة فعليهم دم، والأقرب والله أعلم هو قول جماهير الفقهاء، كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله في المغني.
الجواب: أما مسألة حكم السعي فقد ذهب جماهير الفقهاء من الحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية إلى أن المتمتع يلزمه سعيان، والسائل يقصد المتمتع؛ لأن المفرد عليه سعي واحد بالإجماع، وكذلك القارن على قول جماهير الفقهاء خلافاً للأحناف، أما المتمتع فالراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- هو قول جماهير الفقهاء: أن عليه سعيان، سعي لحجه، وسعي لعمرته، وذهب الإمام أحمد في رواية اختارها ابن تيمية رحمه الله ونصرها وهي أن المتمتع لا يلزمه إلا سعي واحد، واستدل على ذلك بأدلة:
أولاً: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر أنه قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً )، قالوا: ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين معه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً. هذا قول جابر ، و جابر ممن تحلل، ولهذا قال في صحيح مسلم : ( فأهللنا -يعني: يوم الثامن- من البطحاء )، فهذا دليل على أنه تحلل.
وذهب الجمهور إلى أن جابراً ربما لم يبلغه ذلك، والدليل على أن المتمتع يلزمه سعيان أمور:
الأمر الأول: ما رواه البخاري في الصحيح من حديث عائشة قالت: ( فأهل الذين حلوا من عمرتهم طوافاً آخر )، فقولها رضي الله عنها: ( طوافاً آخر )، دليل على أن المقصود به السعي؛ لأن طواف الإفاضة يلزمهم الجميع، فقولها: ( بعد عرفة طوافاً آخر )، دليل على أن هذا الطواف هو السعي بين الصفا والمروة.
وأما قول ابن تيمية : إن هذا حديث ضعفه الإمام أحمد وقال: إنه من قول الزهري ، فنقول: عامة المحدثين -وهو اختيار البخاري و مسلم - أن هذا الحديث صحيح، ومما يقوي هذا من حيث النظر هو أن المتمتع يأخذ عمرة مستقلة ويهل بحج مستقل، وهذا الراجح وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين على أن المتمتع لو قال: لبيك عمرة، أو لبيك عمرة متمتعاً بالحج، وأخذ عمرة كاملة، لا يلزمه أن يحج من عامه، فلو جاءه ظرف لا يلزمه أن يحج، فهذا يدل على أنه أخذ عمرة مستقلة وحجاً مستقلاً، بل إن أهل العلم قالوا: لو أخذ عمرة وليس في نيته أن يحج من عامه، ثم بدا له صبيحة يوم عرفة أو يوم الثامن أن يحج فليحج وليسعى، فهذا يدل على أن سعيه الأول سعي للعمرة، وليس هو سعي للحج والله أعلم.
وعلى هذا فالراجح أن المتمتع يلزمه سعيان، سعي لعمرته المستقلة، وسعي لحجه المستقل، ولا يقال: إن حكمه حكم قارن؛ لأن القارن أمره منفرد، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ( يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ )؛ لأن عائشة كانت قارنة فقال لها رسول الله: ( طوافك في البيت وبين الصفا والمروة يجزئ عن حجك وعمرتك جميعاً )، أما القارن المتمتع فإن عمرته مستقلة، وحجه مستقل، هذا هو الأقرب، والله تبارك وتعالى أعلم.
الجواب: الرخصة عند الفقهاء تطلق على معان: الرخصة وضدها العزيمة، وهي الوجوب، ومن أدلة ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري : ( إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا، قال: فكانت عزمة )، ومن المعلوم أن الفطر في السفر رخصة، فدل ذلك على أنه سوف يتأذى المسلمون ولن ينتصروا على الأعداء إذا لم يفطروا ( والفطر أقوى لكم )، فهذه رخصة مقابلة للوجوب.
القسم الثاني: الرخصة التي هي مبنية على الاستحباب، مثل: المسح على الخفين، فهي رخصة، ومع ذلك فإنها مستحبة، فالإنسان إذا لبس الجوربين أو لبس الخفين، فالمسح عليهما مستحب.
ومن الأمثلة على أن الرخصة يقصد بها الاستحباب: الفطر في السفر، فذهب جمهور السلف خلافاً لجمهور الفقهاء إلى أن السنة في حق المسافر الفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس من البر أن تصوموا في السفر ).
القسم الثالث: الرخصة التي يقصد بها الإباحة، مثال ذلك: جواز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء وهو مقيم غير مسافر للحاجة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر )، وفي رواية: ( من غير خوف ولا مطر )، فهذا دليل على جواز الجمع في الليلة المطيرة أو في الظهر والعصر للحاجة، وقدر روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس أنه خطب الناس بعد أذان الظهر، فأطال حتى كان قريباً من دخول وقت العصر، فقام رجل من تيم يقول: يا ابن عباس ! الصلاة الصلاة، فلحظ إليه ابن عباس ولم يباله، ثم بدأ يحدث الناس ويعلمهم أمور دينهم، فقال: يا ابن عباس ! الصلاة الصلاة، وهذا أعرابي ربما لم يفقه فقه ابن عباس ، فقال ابن عباس : ( أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ).
قال عبد الله بن شقيق الراوي: فذهبت فحاك في صدري ما قال ابن عباس ، أو ما فعل ابن عباس ، فذهبت إلى أبي هريرة فقال: صدق ابن عباس ، فهذا يدل على أن هذا الجمع مباح، ومن ذلك نقول: الضعفاء مباح لهم ذلك، والسنة في حقهم إذا كانوا يقدرون على البقاء، ولهذا قالت عائشة: ( استأذنت
الجواب: أنا قلت: ضعيفة مرفوعة، يعني لا يستدل بها من حيث الرفع، وإلا ابن تيمية رحمه الله ذكر في المجلد السادس والعشرين أن أحمد رحمه الله ذكر أنها مدرجة من كلام الزهري ، فأنا قصدي: ضعيفة يعني مرفوعة، وليست من قول عائشة رضي الله عنها، هذا قصدي.
وعامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحللوا إلا خمسة أو ستة كما قال ابن القيم ، فكيف نحمل عموم هذا الحديث على الصحابة مع أن أكثرهم كانوا متمتعين؟ ... السعي الواجب هو واحد واثنان يكون على وجه الاستحباب؟
الجواب: قول ابن القيم رحمه الله: لم يتحلل إلا خمسة، هذا محل تأمل؛ لأن الأقرب والله أعلم أن الذين كانوا مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ربما يكونون خمسة، أما الذين تحللوا فهم كثير، والدليل على هذا قول جابر : لسنا ننوي إلا الحج، لا نعرف العمرة، فهذا يدل على أن أكثر الصحابة قد تحللوا إلا من ساق الهدي، والذي ساق الهدي هم ربما يكونون خمسة كـالرسول صلى الله عليه وسلم و علي و طلحة وغيرهم.
مداخلة: أنا قصدت من هذا أن ابن القيم كلامه في أنهم لم يتحللوا، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا متمتعين، فكيف نحمل حديث جابر ( لم يطف الصحابة إلا القارنين ) وهم خمسة، وأكثرهم متمتعون، فاستدلال ابن القيم من جهة كونهم متمتعين، وهم ما طافوا إلا طوافاً واحداً؛ لأنهم أكثر الصحابة؟
الشيخ: لكن أنا قلت: إن جابراً رضي الله عنه لعله لم يبلغه، وربما اختلف الصحابة، فنحن الآن بين قولين من الصحابة: قول عائشة ، وقول جابر ، وهنا سيكون أحدهما أصاب والآخر أخطأ.
فنحن نرجح قول عائشة على قول جابر لأمور:
أولاً: لأن عائشة أثبتت طوافاً واحداً، والقول المدرج يحتاج إلى دليل، وأما الدعوى هذه فهي تحتاج إلى دليل.
الأمر الثاني: أن المتمتع سوف يعتمر عمرة مستقلة، وسوف يحج حجة مستقلة، والعلماء حتى ابن تيمية رحمه الله، ذكر أن حجة المتمتع -التي هي من مكة- ليست بأفضل من حجة المفرد، فالمفرد سوف يسعى سعي حج، وسوف يطوف طواف الإفاضة، فإذا كان كذلك فالمتمتع في اليوم الثامن لا بد أن يحج، فستكون حجته مكية، كما قال موسى بن عقبة : تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال الناس: تكون حجتك مكية؛ لأنه سوف يهل بالحج من مكة.
والسؤال: المكي لو أهل بالحج فهل يلزمه السعي؟ يلزمه، التابعون كانوا متوافرين، ويقولون لـموسى : تكون حجتك مكية؛ لأنه سوف يفعل ما يفعل المكي المتمتع.
جابر رضي الله عنه قال لـموسى وكان قد حج معه عام ساق الهدي وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يهلوا بالحج من يوم التروية، فهذا يدل على أن المتمتع يكون حجه مستقلاً عن عمرته، ولكن العمرة سبب لوجوب الهدي، فهذا يدل على أن المتمتع من حيث النظر يلزمه سعيان؛ لأن سعيه الأول سعي للعمرة، والآخر سعي للحج، ولو قلنا بالدمج لكان لا يسوغ له أن يتحلل، وهذا قول ابن تيمية ؛ لأن ابن تيمية رحمه الله يرى أن كل من أهل بالعمرة في أشهر الحج وقد بقي ناوياً الحج فإنه يلزمه أن يحج من عامه، والقول الآخر: أنه لا يلزمه، وهذا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز ، وشيخنا محمد بن عثيمين .
الجواب: بعض أزواج النبي دفعن قبله، يقول ابن عباس كما في صحيح مسلم : ( بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس في الثقل )، و أم حبيبة كما في صحيح مسلم قالت: ( كنا نفعله في عهد رسول صلى الله عليه وسلم، نخرج من مزدلفة إلى منى بغلس ).
الجواب: الأقرب والله أعلم أن قزح جبل صغير قريب من المسجد، والمسجد جزء منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر علي صعد على الجبل، فقزح هو الجبل الصغير الذي يصعد عليه، فيكون المسجد قريباً من قزح أو حوالي جبل قزح.
الجواب: سؤال الأخت فيه شقان: الشق الأول: حكم رمي جمرة العقبة قبل الفجر، المسألة الثانية: الصلاة بعد خروج الوقت، أما مسألة الرمي قبل الفجر فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الحنابلة والشافعية إلى أن رمي جمرة العقبة يبدأ من بعد منتصف الليل، أو من بعد مغيب القمر على الخلاف في ذلك، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
أولاً: ما جاء في الصحيحين من حديث سالم عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام فيذكرون الله ما بدا لهم قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، ثم يقدمون منى، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، فيقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـابن عمر رضي الله عنه علق الأمر بمجرد وصولهم، فإذا وصلوا ولو قبل الفجر جاز لهم أن يرموا، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء : ( أنها صلت ساعة ثم خرجت بغلس، فرمت الجمرة بغلس فقال لها غلامها
والقول الثاني: هو قول الحنفية والمالكية، قالوا: لا يجوز الرمي إلا بعد الفجر، على خلاف عندهم، هل بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، أم بعد طلوع الشمس؟ لكني أقول: العبرة بالحديث، واستدلالهم بما رواه الحسن العرني عن ابن عباس قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أغيلمة
الشق الثاني تقول: إننا لم نصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فنقول: أسأتم وأخطأتم، وكان الأولى أن تصلوا صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، فإن كنتم في الحافلات فإنكم تستقبلون القبلة وتصلون كيفما اتفق، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؛ لأن المحافظة على الوقت من الأهمية بمكان، أما وقد فعلتم وصليتم بعد طلوع الشمس نقول: استغفروا ربكم وتوبوا إليه، ولا شيء عليكم بعد ذلك إذ قد صليتموها.
وعليه: إذا خشي الإنسان وهو يمشي في شدة الزحام من خروج الوقت فإنه يصلي راكباً أو على رجليه، كما قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، لأن المحافظة على الوقت من الأهمية بمكان.
هذه هي السنة، أن يدفع الإنسان قبل طلوع الشمس، مخالفة للمشركين، كما روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: إن المشركين كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير ومعنى أشرق ثبير: أن جبل ثبير في مزدلفة فإذا خرجت الشمس من فوقه نفروا أو أفاضوا إلى منى، فيقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعنى: (كيما نغير)، يعني: حتى ندفع للنحر، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خالفهم فلم يخرج إلا عند الإسفار ومما يدل على ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر قال: ( حتى أسفر جداً ثم نفر إلى منى )، هذا هو السنة أن يخرج قبل طلوع الشمس.
هناك مسائل ولكن لعلنا نرجئها؛ لأنه ربما تكون هناك مسائل أهم منها.
محسر: وادي، وهو برزخ بين مزدلفة وبين منى، وقد اختلف العلماء هل وادي محسر بمنى، أو بمزدلفة، أو ليس بمنى ولا بمزدلفة؟ فذهب جماهير الفقهاء إلى أن وادي محسر برزخ ليس من منى وليس من مزدلفة، واستدلوا على ذلك بما جاء من حديث رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن أبي معبد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ارفعوا عن بطن عرنة، وارفعوا عن بطن محسر )، ومثله ما رواه أيضاً ابن خزيمة من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن ابن عباس أنه كان يقال: ( ارتفعوا عن بطن محسر، وارتفعوا عن عرنات )، وهذا سنده جيد وهذا القول أقوى.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن محسراً من منى، وهو رواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما جاء من صحيح مسلم من طريق ليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن أبي معبد عن ابن عباس عن الفضل -وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، وغداة ليلة الجمع حينما نفر الناس إلى منى- قال: ( عليكم بالسكينة، وهو كاف ناقته حتى دخل محسراً -وهو من منى- فقال: عليكم بمثل حصى الخذف التي يرمى بها الجمرة )، فقوله: (وهو من منى) اختلف العلماء هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فيه نظر، والأقرب -والله أعلم- أنه ربما يكون من قول بعض التابعين، أو من قول مسلم رحمه الله؛ لأن في المطبوع أنهم وضعوا على لفظ (وهو من منى) قوسين، وقد يقال: إنه من قول التابعين، أما أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهذا محل نظر؛ لأن الأحاديث الصحيحة تخالف في ذلك، ومما يدل على أن هذه الزيادة مدرجة أن البخاري رواها ولم يذكر: (وهو من منى) وعلى هذا فالصحيح أن محسراً ليس من منى وليس من مزدلفة.
المؤلف يقول: (أسرع قدر رمية بحجر) يقول الإمام النووي رحمه الله: فهذه سنة من سنن السير في ذلك الموضع، أنه يسرع من مزدلفة إلى منى، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن هذا من عادته صلى الله عليه وسلم، أنه في المواضع التي نزل بها بلاء أو بأس بأعدائه أنه يصنع ذلك، كما صنع ذلك -بأبي هو وأمي- في سلوكه في الحجر وديار ثمود، تقنع بثوبه وأسرع السير، هذا كلام ابن القيم .
وقوله رحمه الله: أنها في الموضع الذي ينزل فيه بأس الله إنما ذكر ذلك؛ لأنه يرى -والعلم عند الله- أن محسراً إنما سمي محسر؛ لأن فيل أبرهة حسر في هذا الموطن، وفي هذا نظر والصحيح والله أعلم أن فيل أبرهة لم يحسر في وادي محسر، إنما حسر في المغمس، وفيل أبرهة لم يدخل منطقة الحرم أصلاً، ووادي محسر من الحرم، وهذا هو الراجح والله أعلم.
وقال بعض أهل العلم: إنما أسرع -وهذا أرى أنه من القوة بمكان- مخالفة للمشركين؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا وصلوا إلى محسر بعد مزدلفة يقفون فيها ويذكرون وينشدون أشعارهم، ويتمادحون في قبائلهم وأنسابهم وعشائرهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف في ذلك، ومما يقوي هذا الأمر ما جاء في بعض الروايات أن عمر رضي الله عنه كان إذا أتى محسراً أسرع، ويقول:
إليك تعدو قلقاً وضينها مخالفاً دين النصارى دينها
معترض في بطنها جنينها
فهذا فعل لـعمر رضي الله عنه، وبين أن ذلك لأجل مخالفة المشركين، وأرى أن هذا أقوى والله أعلم.
فذهب الشافعي رحمه الله ورواية عند الحنابلة أن الحصى يجمعها من جمع، وقد ذكر البيهقي في السنن الكبرى أن ابن عمر كان يجمع الحصى من جمع كراهية أن ينزل، وقال: سعيد بن منصور : كانوا يتزودون الحصى من جمع، هذا قول الشافعية وقول عند الحنابلة.
والقول الآخر عند الحنابلة قالوا: يجمع الحصى من حيث شاء من طريقه.
والقول الثالث: وهو قول ابن حزم ورواية عن الإمام أحمد -وأرى أنها أقوى-: أنه يجمع الحصى من منى في أيام منى، وفي ليلة صبيحة يوم النحر، والدليل على ذلك ما رواه النسائي من طريقه، و ابن ماجه من طريق زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة العقبة: ألقط لي حصيات، قال: فلقطت له بمثل حصى الخذف، فأخذهن بكفه فنفضهن، وقال: بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو ).
وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال لـابن عباس : ( ألقط لي حصيات )، ومن المعلوم لدى كافة أهل العلم أن ابن عباس كان ليلة جمع قد خرج بثقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى، وقد لقيه في منى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألقط لي حصيات )، فذلك دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس في منى، هذا هو الأقرب والله أعلم.
وقد أجمع بعض أهل العلم على أنه متى لقط الحصى من أي مكان أجزأه ذلك، إلا أنهم كرهوا أن يلقطها من خارج الحرم، ولهم تفصيلات في حكم لقطها من بعد ما رمي بها، أو رمى بنجاسة، سوف نذكرها إن شاء الله في موطنها.
هذا هو السنة أن يبدأ الحاج في منى بجمرة العقبة ولا يبدأ بغيرها، وجمرة العقبة تحية منى، وقد بين ابن تيمية رحمه الله أن رمي جمرة العقبة بمنزلة صلاة العيد للحاج، وأن النحر للحاج بمنزلة الأضحية لغير الحاج، كما أشار إلى ذلك في كتابه العظيم مجموع الفتاوى.
قال: (فيبدأ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات) هذا هو السنة أن يرميها بسبع حصيات (كحصى الخذف، يكبر مع كل حصاة) هذا هو السنة، أن يكبر بعد كل حصاة، ولكن المؤلف لم يذكر أن النبي لم يزل ملبياً حتى رمى جمرة العقبة، كما جاء في الصحيحين من حديث الفضل : ( لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، ومتى يقطع التلبية، هل من أول حصاة أو من آخر حصاة؟ الصحيح أنه من أول حصاة، وما رواه ابن خزيمة من أنه قطع التلبية عند آخر حصاة فهذه زيادة ضعيفة كما أشار إلى ضعفها البيهقي رحمه الله.
ثانياً: صلاة المغرب والعشاء جمعاً بعد العشاء في مزدلفة سنة، ومن صلاهما خارج مزدلفة فقد أساء، وإن كانت صلاته تجزئه فالأولى والأحرى ألا يصلي الحاج إلا في مزدلفة، إلا إذا خاف خروج وقت صلاة العشاء، والدليل: رواية البخاري رحمه الله تعالى: ( إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان )، إذاً: من صلى سواء المغرب وحدها والعشاء وحدها دون جمع، أو صلاهما في غير مزدلفة بدون عذر فقد أساء وترك الأفضل والله أعلم.
الشيخ: أحسنت، إجابة وافية.
الجواب: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع ) فهذا وقت قصير، فإذا كان كذلك فيمكن أن يدرك بمقدار الصلاة ثم وقف حتى يدفع، فهذا يدل على أن هذا الوقوف هو الواجب، والله أعلم.
الجواب: لا، لا يلزم، الوقوف وقوف بعرفة، ووقوف بمزدلفة، لكن العلماء قرروا هذا؛ لأن البيتوتة لا تكون إلا في الليل، وقولنا: الوقوف بمزدلفة؛ لأن الحنابلة والشافعية الذين قالوا: وجوب المبيت لا يرون وجوبه في من وافاها بعد الفجر، مع من وافاها بعد منتصف الليل، أو بعد مغيب القمر، حتى الأقوياء.
الجواب: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( افعل ولا حرج )، العبرة بالفعل، فإذا أدى الإنسان الفعل فالحمد لله، ويصعب على الإنسان في هذا الزمان أن يطبق السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لمشقة الزحام، بل إني أقول: ربما أنه في فعل السنة مع الإضرار بالحجاج يكون أكثر إثماً مما لو لم يفعلها، والله أعلم.
الشيخ: السؤال الأول: ما هو المشعر الحرام؟
السؤال الثاني: هل محسر من مزدلفة، أو من منى؟ والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر