إسلام ويب

عمدة الفقه - كتاب الحج [18]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للحج والعمرة أركان وواجبات، فأما أركان الحج فهي الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة، وأما واجباته فهي الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والسعي بين الصفا والمروة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الوداع، وأما أركان العمرة فالإحرام والطواف، وواجباتها الإحرام من الميقات والسعي والحلق أو التقصير، فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً جبره بدم.

    1.   

    أركان الحج

    المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مشاهدينا الكرام في كل مكان! نحييكم بتحية الإسلام الخالدة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    في هذا الدرس المبارك، في درس العمدة عمدة الفقه يسرنا باسمكم جميعاً أن نرحب بشيخنا الكريم الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي، الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للقضاء؛ نرحب بشيخنا الفاضل أجمل الترحيب، فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ.

    الشيخ: حياكم الله، وبالإخوة المستمعين والمستمعات.

    المقدم: ويمتد ترحيبنا كذلك للإخوة الدارسين والدارسات في موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، ونرحب كذلك من أعماقنا للإخوة الذين حضروا معنا هنا في الأستوديو، جزاهم الله خيراً على حضورهم وتفاعلهم.

    مشاهدينا الكرام! نستقبل أسئلتكم وتفاعلاتكم على هواتف البرنامج التي تظهر أمامكم تباعاً، وعلى موقع الأكاديمية إسلام أكاديمي دوت نت.

    كلنا شوق إلى أن نستمع من شيخنا الكريم استفتاحة هذا الدرس المبارك، فنترك المجال لشيخنا الفاضل، فتفضل يا شيخنا مشكوراً مأجوراً.

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم علمنا ما ينفعنا! وانفعنا بما علمتنا! وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل! وبعد:

    وصلنا إلى باب أركان الحج والعمرة، ومن هنا سوف يكون شرحنا قليلاً بسبب أننا قد مررنا على كثير من المسائل هنا؛ ولكن هذا من باب المراجعة.

    قال المؤلف رحمه الله: [ باب أركان الحج والعمرة:

    أركان الحج: الوقوف بعرفة وطواف الزيارة؛ وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والسعي والمبيت بمنى والرمي والحلق وطواف الوداع.

    وأركان العمرة: الطواف. وواجباتها: الإحرام والسعي والحلق، فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً جبره بدم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه، ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، فيتحلل بطواف وسعي، وينحر هدياً إن كان معه، وعليه القضاء، وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك، وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج، ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه رضي الله عنهما ].

    تعريف الركن

    الشيخ: المؤلف يقول: (باب أركان الحج والعمرة).

    أركان: جمع ركن وهو ما لا يقوم الشيء إلا به، وهو ما كان داخل الماهية، كما يقوله بعض علماء المنطق، ومعنى (ما كان داخل الماهية) يعني: ما كان هذا الواجب أو هذا الركن داخلاً في ماهية العبادة، يعني في أصل العبادة، أما إذا كان هذا الواجب خارجاً عن العبادة فيسمى شرطاً، فاستقبال القبلة خارج عن الصلاة، وأما الركوع فهو داخل في الصلاة، وهذا معنى الركن.

    ركنية الإحرام ودليل ذلك

    الشيخ: المؤلف رحمه الله قال: (أركان الحج).

    والحج له أركان كما سبق، وله مستحبات، وله واجبات، فالمؤلف هنا قال: (أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة)، عد اثنين؛ الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة. والأقرب -والله أعلم- أن أركان الحج ثلاثة: الركن الأول: الإحرام، ونعني بالإحرام، نية الدخول بالنسك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب ، فلا تتم عبادة إلا بالنية، والإحرام هو نية الدخول في النسك، وقد سبق معنا أن التجرد من المخيط ولبس ثياب الإحرام ليس هو الإحرام، إنما الإحرام هو نية الدخول في النسك، فجائز أن يلبس ثياب الإحرام ولو لم يدخل في النسك، وجائز أن يدخل في النسك ولو لم يخلع لباسه المعتادة، لكن هل عليه دم؟

    نقول: لا، إذا كان قال: لبيك حجاً أو لبيك عمرة يشرع في الخلع ولا حرج عليه في ذلك كما مر معنا في حديث يعلى بن أمية حينما قال: ما ترى أصنع في عمرتي وقد لبس جبة؟ فقام فخلعها من أعلاها، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يمزقها، فترك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بشيء، فدل ذلك على أنه لا يلزمه أن ينزعها أو يخلعها من أسفل، إنما يخلعها كالخلع المعتاد، هذا الركن الأول.

    ركنية الوقوف بعرفة ودليل ذلك

    الشيخ: الركن الثاني: الوقوف بعرفة: دليله: ما ثبت عند أهل السنن من حديث سفيان الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر أن أناساً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! كيف الحج؟ قال: ( الحج عرفة، فمن أتى عرفة قبل طلوع الشمس فقد تم حجه وقضى تفثه، أيام منى ثلاثة ...)، الحديث، وهذا الحديث من أفضل ما روى الثوري ، يقول محمد الذهلي : هذا الحديث من أفضل ما رواه الثوري يعني بذلك عن أهل الكوفة، وقال وكيع : هذا الحديث هو أم المناسك، وقد أجمع أهل العلم -ونقل الإجماع غير واحد من أهل العلم- على أن الوقوف بعرفة ركن.

    ركنية طواف الإفاضة ودليل ذلك

    الشيخ: الركن الثالث: يقول المؤلف: (وطواف الزيارة).

    طواف الزيارة يقصد بذلك طواف الإفاضة.

    وطواف الإفاضة ركن، لا يصح الحج إلا به، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، كما نقل ذلك ابن عبد البر في كتاب التمهيد قال: لا خلاف بين أحد من أهل العلم كافة أن طواف الزيارة -أو قال: طواف الإفاضة- ركن لا يتم الحج إلا به، وكذلك نقل الإجماع ابن قدامة و النووي ، وغير واحد من أهل العلم، ودليله: قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، وقوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ومما يدل على أنه لا يصح إلا به، قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: أفضنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطفنا يوم النحر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من صفية كما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حاضت، قال: ( عقرى، حلقى، أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! إنها قد أفاضت، قال: فلتنفر إذاً )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أحابستنا هي؟ ) دليل على أن من لم يطف بالبيت فإنه حابس حتى يفعله.

    ابن قدامة رحمه الله قرر أن السعي ليس بركن، وجعله من ضمن الواجبات، وهذا هو الراجح كما سوف يأتي تفصيله.

    المؤلف يقول: وواجباته، المؤلف فرق بين الركن وبين الواجب، والفرق بسيط، أما الاتفاق بينهما: فكله مأمور به على لسان الشارع من الكتاب أو من السنة أو من الكتاب والسنة، فتجد أن الواجب مأمور به، وتجد أن الركن مأمور به. ويفرق بين الركن وبين الواجب أن الركن دل دليل على أنه لا تصح العبادة إلا بوجوده، وأما الواجب فلم يدل دليل إلا على أصل الوجوب، فأنت ترى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة )، قال: ( فمن أدرك عرفة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحج )، فهذا دليل زائد على أصل الوجوب، وهو أنه لا تصح العبادة إلا بوجود هذا الركن، فهذا هو الفرق بين الركن وبين الواجب، أما الواجب فغاية ما فيه أن الشارع أمر به، وكون الشارع يأمر بالشيء لا يدل على أنه لا يصح الشيء إلا به إلا بدليل ثان، فجائز أن يجبر كغيره من الأشياء التي تجبر، فأنت ترى أن واجبات الصلاة تجبر بسجود السهو، وواجبات الحج تجبر بالدم، كما ثبت ذلك من حديث عطاء عن ابن عباس : ( من ترك نسكاً فليهرق دماً ).

    إذاً الواجب: إما أن يجبر بسجود سهو كالصلاة، وهذا يسمى البدل، ومثله أن يجبر بدم الحج.

    وإما أن يسقط للعجز، كما قال ابن تيمية رحمه الله: وغاية الواجبات أنها تسقط بالعجز، لا بالنسيان، ودليله: قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، قال أبو العباس ابن تيمية : فدل ذلك على أن من فعل ما اتقى الله به كان من المتقين.

    إذاً الواجب: إما أن يسقط، وإما أن يكون ببدل -إما جبره بدم، أو جبره بسجود سهو- وإما أن يفعل، وهذا قليل، من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن ذبح قبل الصلاة فليعد مكانها أخرى )؛ لأنه يمكن له أن يفعله؛ لكن قال بعض العلماء: إن هذا من ضمن البدل، والبدل: إما أن يكون بالدم، وإما أن يكون بسجود سهو، وإما أن يفعل مثل ما ترك.

    1.   

    واجبات الحج

    الإحرام من الميقات

    الشيخ: المؤلف يقول: (وواجباته: الإحرام من الميقات).

    الآن عندنا إحرام، وهو نية الدخول في النسك، وعندنا تجرد من المخيط، وهذا يسمى أيضاً إحراماً، وعندنا إحرام من الميقات، ثلاثة أشياء لها علاقة بالإحرام، المؤلف رحمه الله جعل الإحرام من الميقات هو الإحرام للدخول في النسك، قال الشارح: أما الإحرام فهو أن ينوي الدخول في العبادة، وقلنا: إن هذا ليس من الواجب إنما هو ركن، فلعل فالمؤلف رحمه الله أراد به الاستطراد، وأما إذا أراد به الوجوب فلا، فقد أجمع أهل العلم على أن نية الدخول في النسك إنما هي ركن وليست بواجبة.

    طيب، الإحرام من الميقات سبق معنا، وقد قلنا: إن قول عامة الفقهاء أن الإحرام من الميقات واجب، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل)، ومعنى (يهل) خبر بمعنى الأمر، بل جاء ذلك صريحاً في صحيح مسلم من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأمر أهل الشام ومصر أن يهلوا من الجحفة... ) الحديث، فهذا يدل على الأمر، والأمر يدل على الوجوب.

    طيب، هذا الإحرام من الميقات، فلو أحرم من دون الميقات قلنا: إحرامه صحيح، ولكنه ترك واجباً، فيجبره بدم، كما سوف نأتي إلى أدلة من ترك واجباً فليجبره بدم.

    الوقوف بعرفة إلى الليل

    الشيخ: الثاني من واجبات الحج: (الوقوف بعرفة إلى الليل).

    وكان الأولى بالمؤلف أن يقول: الوقوف بعرفة إلى الليل لمن دخلها نهاراً؛ لأنه لو أتاها ليلاً فحجه صحيح بإجماع الفقهاء، مثلما ثبت ذلك عند أهل السنن و أحمد من حديث عروة بن مضرس، فقد وقف بعرفة ليلاً، وأجزأه حجه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً )، أما المؤلف فيقول: (الوقوف بعرفة إلى الليل)، يعني: لمن دخلها نهاراً، فمن دخل عرفة نهاراً لا يجوز له أن يخرج منها حتى يغيب قرص الشمس، وهذا قول عامة الفقهاء، بل ذكر مالك أن ذلك ركن؛ أن يجمع بين النهار والليل ركن، أو يجمع بين الليل أصلاً وحده، وهذا قول مالك ، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أتى عرفة نهاراً وجب عليه أن يبقى إلى الليل، واستدلوا على ذلك بأدلة:

    أولاً: قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال: ( لتأخذوا عني مناسككم ).

    الثاني: أن الله أمر بذلك بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، وهذا يدل على وجوبها. و الشافعي كما مر معنا لا يرى الوجوب، إنما يرى الأفضلية، فلو وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً -كما في حديث عروة - أجزأه حجه، نقول: أما إجزاء الحج فنعم، أما أنه ليس عليه شيء، فنقول: الأقرب -والله أعلم- أنه أساء، ولو جبره بدم فهو حسن، وما منعنا أن نقول بعدم وجوب الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فقد تم حجه وقضى تفثه )، وإن كان لا ينبغي له أن يترك الوقوف إلى الليل، طيب، هذا الواجب الثاني.

    المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل

    الشيخ: الواجب الثالث: يقول المؤلف: (والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل).

    ذكرنا أن المبيت بمزدلفة بالجملة واجب، وهو قول الأئمة الأربعة أبي حنيفة ، و مالك، و الشافعي و أحمد ، إلا أن هؤلاء الأئمة الأربعة اختلفوا فيما بينهم؛ فـمالك يرى أن أصل الوجوب إنما هو بمقدار حق الرحال، فلو خرج بعدما جلس بمقدار حق الرحال أجزأه الوقوف بمزدلفة، فلو صلى المغرب والعشاء في مزدلفة، ثم خرج على رأي مالك أجزأه الأجر. و أبو حنيفة يرى أن الوجوب بمزدلفة هو من بعد طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، فلو أتى مزدلفة ليلاً ما أداه إلا سنة.

    أما الحنابلة والشافعية فيرون أن من أتى مزدلفة قبل منتصف الليل وجب عليه أن يبقى إلى منتصف الليل، ومن جاءها بعد منتصف الليل أجزأه بمقدار حق الرحال ثم يخرج، وقلنا: إن هذا التفصيل يحتاج إلى دليل صريح، وإلا فإن الأقرب -والله أعلم- هو أن الوجوب في مزدلفة هو أصل البقاء، ولا ينبغي له أن يخرج منها إلا بعد منتصف الليل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رخص لهم، ولم يحدد في ذلك وقتاً معلوماً لأجل الرخصة، إنما الرسول عليه الصلاة والسلام رخص في الخروج مطلقاً، فدل ذلك على أنه لا ينبغي له أن يخرج إلا لحاجة أو عذر، فإن فعل وخرج فقد أساء كما مر معنا تفصيل ذلك، وقلنا: إن قول المؤلف: (والمبيت بمزدلفة) محل تأمل، إذ أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة إطلاق البيتوتة على مزدلفة كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله، إنما إطلاق البيتوتة في حق منى، وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب في البيتوتة في منى، أما مزدلفة فلم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة إطلاق البيتوتة عليها، إنما فيها فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وهذا يدلنا على وجوبها، ودليل الوجوب هو قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي فيها، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم)، وقال: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نبدأ وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).

    السعي بين الصفا والمروة

    الشيخ: المؤلف يقول: الرابع: (السعي).

    المؤلف هنا ذكر السعي من الواجبات، وهذا هو قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد اختارها ابن قدامة رحمه الله في المغني، و أبو يعلى ونصرها ابن تيمية رحمة الله تعالى على أئمة الإسلام جميعاً.

    وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول عائشة و عروة رضي الله عن عائشة ، وغفر الله لـعروة : هو الركنية، واستدلوا على الركنية بأثر عائشة وبحديث.

    إذاً القول بالركنية قول الجمهور، واستدلوا بما جاء في الصحيحين من أثر عائشة أنها قالت: ( فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، وطاف المسلمون معه، فلعمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة )، هذا قول عائشة ، وهذا الأثر في الصحيحين.

    والحديث: ما رواه عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة ( عن حبيبة بنت أبي تجراة أنها قالت: دخلت مع نسوة من قريش إلى دار آل أبي الحسين، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي )، هذا دليل من قال بالركنية، وهذا الحديث ضعيف؛ فـعبد الله بن المؤمل ضعيف لا يحتج به، كما أشار إلى ذلك الإمام الذهبي ، قال: هذا الحديث لم يصح، وكذلك ضعفه الدارقطني ، و ابن المنذر و ابن قدامة ، وغير واحد من أهل العلم، وجاء من طريق آخر صححه ابن عبد الهادي و ابن عبد البر ، والأقرب -والله أعلم- أن الحديث ضعيف لما فيه من الاضطراب والضعف، قال ابن قدامة رحمه الله: وحديث بنت أبي تجراة لو صح فإنما غايته: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر به، فمعنى: (كتب الله) يعني: أوجب، فغايته: أن الله أوجب، ومن أين لكم أنه ركن لا يتم الحج أو العمرة إلا بها؟! فهذا يدل على أن القول بالركنية محل تأمل، أما أثر عائشة فإنه معارض لقول غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح بإسناد صحيح عن ابن عباس كما روى ابن أبي شيبة : أن ابن عباس يرى أنه سنة، قال: من شاء طاف بين الصفا والمروة، ومن شاء لم يطف، هذا قول ابن عباس ، وإن كان ابن أبي شيبة بوب على ذلك بأن قال: باب من ترك السعي بين الصفا والمروة ناسياً، واستدل القائلون بالسنية -وهو قول ابن عباس و ابن مسعود - بما جاء في مصحف ابن مسعود : أن الله قال في القرآن: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، قالوا: وهذا مصحف ابن مسعود ، ولو لم يكن قرآناً إلا أنه تلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة ابن أم عبد لكفاه، لكنا نقول: هذا يحتاج إلى إسناد صحيح، والأقرب أنه واجب، ودليل الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى قال: (بم أهللت؟ قال: إني قلت: اللهم إني أهللت بما أهل به نبيك! قال النبي: فإني قد سقت الهدي، فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر، وأقم حلالاً )، وهذا دليل على أنه مأمور به، وهذا هو غاية الواجب، والله أعلم.

    المبيت بمنى

    الشيخ: الواجب الخامس: قال: (والمبيت بمنى).

    سبق أن ذكرنا أن المبيت بمنى واجب بالجملة، ودليل ذلك أمور أذكرها على عجل: حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب عن البيتوتة من أجل سقاية الحجاج.

    الثاني: ما ثبت عند الإمام مالك وأهل السنن من حديث ابن عاصم بن عدي عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في البيتوتة خارجين عن منى، وقول عمر بن الخطاب : لا يبت أحد من وراء العقبة في أيام منى، فهذا يدل على وجوب المبيت بمنى، وقلنا: إنه يسقط مع العجز والعذر، فمن كان معه مريض مرافق له سقط عنه، ومن لم يجد مكاناً سقط عنه؛ لأن غاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم القدرة.

    رمي الجمار

    الشيخ: الواجب السادس: يقول المؤلف: (والرمي).

    ودليل وجوب الرمي قوله صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن من حديث ابن عباس أنه قال: ( بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو )، وهذا قول عامة الفقهاء.

    الحلق والتقصير

    الشيخ: الواجب السابع: الحلق، وقلنا: العلماء اختلفوا في الحلق: هل هو محظور من محظورات الإحرام أو هو واجب من واجبات الحج والعمرة أو هو محظور ونسك؟

    الأقرب -والله أعلم-: أنه محظور من محظورات الإحرام، وهو نسك من أنساك الحج، وقولنا: محظور من محظورات الإحرام، إذا جاء وفعله الحاج أو المعتمر قبل وقته، فإنه يعد محظوراً، فإذا كان قبل أن يطوف، وقبل أن يسعى فإنه يعد الحلق أو التقصير محظوراً، وإذا جاء وقته وهو بعد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة فهو نسك يجب أن يفعله، وعلى هذا فالحلق نسك، يعني: أنه واجب، ودليل الوجوب: قوله صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى : ( فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر، وأقم حلالاً )، وكذلك روي نحوه عند مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين، هذا هو الواجب السابع من واجبات الحج.

    طواف الوداع

    الواجب الثامن: يقول المؤلف: (وطواف الوداع).

    طواف الوداع واجب، ودليل ذلك: حديث ابن عباس في الصحيحين: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض )، وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وبعض أهل العلم قال: هو أمر استحباب، بدليل أن الحائض لا تفعله، ولو كان واجباً لجبر ترك فعلها بدم، نقول: إن الحائض هنا لم يوجب عليها أصلاً حتى يقال: إنها تجبره بدم، الحائض لم يجب عليها أصلاً، ومعنى التخفيف تخفيف في عدم الوجوب، وليس تخفيفاً في الرخصة إلى التخفيف، وفرق بين الأمرين، فـالعباس بن عبد المطلب واجب عليه، ولكن خفف لأجل سقايته، أما الحائض فليس واجباً عليها أصلاً، والله أعلم.

    المؤلف رحمه الله يقول: (وطواف الوداع)، هل طواف الوداع واجب أيضاً في العمرة؟

    المؤلف ذكر أركان العمرة وواجباتها، ولم يذكر طواف الوداع، وقد اختلف الفقهاء في حكم طواف الوداع للعمرة، الآن قلنا: طواف الوداع واجب في الحج، وهل هو واجب في العمرة؟ لم يذكر المؤلف ذلك، والمسألة فيها خلاف، القول الأول: قول عامة الفقهاء، بل نقل بعضهم الإجماع -كبعض أصحاب أبي حنيفة - على أنه ليس بواجب في العمرة، هذا قول جماهير الفقهاء، واستدلوا على ذلك بما رواه الشافعي في مسنده من حديث ابن عمر : ( أمر الحاج أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف )، فهذا أمر للحاج، وأما غير الحاج فلا يجب، وقالوا: ولو كان واجباً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اعتمر أربع عمر، ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه طاف للوداع.

    القول الثاني في المسألة: قول الشافعي و ابن حزم، وقول بعض مشايخنا، قالوا بوجوب طواف الوداع في الحج، وكذا العمرة -والأقرب والله أعلم- هو عدم الوجوب؛ لأنه خص طواف الوداع بالحاج؛ لقوله: ( أمر الحاج )، أما استدلالهم للوجوب بما جاء في حديث يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما تصنع في عمرتك؟ قال: فاصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )، الذين قالوا بالوجوب قالوا: فهذا لفظ عام، كل ما وجب في الحج وجب في العمرة، ولا يخرجه إلا نص أو إجماع، قالوا: فخرج وجوب الرمي عن العمرة بالإجماع فلا أحد يرمي في العمرة، قالوا: وكذا الهدي، وكذا الوقوف بمزدلفة، والوقوف بمنى، ويبقى ما شاركت العمرة الحج، وقلنا: هذا الدليل بهذا الاستدلال محل نظر؛ نقول: السبب: هو أنه جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما غشي عليه، ورفع عنه الوحي، قال: ( أين السائل عن العمرة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ما تصنع أنت في حجك؟ قال: أصنع في حجي: أخلع عني جبتي، وأغسل عني أثر الخلوق، قال: فاصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )، فهذا يدل على أن هذا الدليل إنما هو في محظورات الإحرام، وليس في واجبات ولا في أركان الحج والعمرة، وهذا دليل قوي لمن تأمله.

    1.   

    أركان العمرة

    الشيخ: المؤلف يقول: (وأركان العمرة).

    انتهى المؤلف من أركان وواجبات الحج، ثم شرع في أركان العمرة قال: (وأركان العمرة: الطواف)، المؤلف لم يذكر ركناً للعمرة إلا واحداً وهو الطواف، والأقرب -والله أعلم- أن نقول: هما ركنان: الركن الأول: الإحرام، والإحرام: هو نية الدخول في النسك، الإحرام للعمرة ركن، وكذا الطواف، أما العمرة فدليله ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وليسع بين الصفا والمروة، وليقصر، وليحلل )، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالطواف، وهو ركن الحج، وكذا هو ركن العمرة: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، يعني: لا يتحلل إلا للطواف بالبيت، هذان ركنان.

    1.   

    واجبات العمرة

    الشيخ: المؤلف يقول: (وواجباتها).

    يعني: واجبات العمرة، ولم يذكر المؤلف إلا الإحرام، والسعي، والحلق، فالمؤلف قال: (الإحرام)، يقصد بذلك الإحرام من الميقات، والإحرام من الميقات للحج أو العمرة واجب، ودليله: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ).

    الشيخ: فهذا هو المراد، وأما شرح المؤلف لذلك فمحل نظر، يقول المؤلف: الإحرام، والثاني: السعي، والخلاف في السعي هنا كالخلاف في الحج، وأغرب ابن العربي وقال: إنما الخلاف في السعي في وجوبه، أو ركنيته أو استحبابه، إنما هو في الحج، أما في العمرة فأجمعوا على أنه ركن، انظر اختلاف أهل العلم، الآن ابن العربي ينقل الإجماع على أن السعي في العمرة ركن، وأن الخلاف السابق إنما هو خلاف في السعي في الحج، هذا ابن العربي من المالكية. و الطحاوي من الحنفية ادعى الإجماع على خلاف ذلك، قال: وأما السعي في العمرة فأجمعوا على أنه سنة، وهذا يدل على ما قاله الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، ومعنى كذب في لغة الحجاز يعني: أخطأ، ما تدري لعلهم اختلفوا وأنت لا تعلم، قل: لا نعلم في ذلك خلافاً، وهذا الأدب الذي جعل ابن قدامة يقول ذلك في كتابه العظيم المغني، حتى إنك ربما لو سألت طالب علم صغيراً أو كبيراً، من الذي يقول: لا نعلم في ذلك خلافاً؟ لابتدرك وقال ابن قدامة رحمه الله، وهذا من أدبه رحمه الله، وبعض طلاب العلم إذا سئل عن مسألة أو جاءه ما يخالف ما يعلم قال: هذا ما قال به أحد، أو هذا إجماع أهل العلم، ولو بحث بأدنى بحث في كتب المصنفات، لوجد اختلافاً كثيراً، لكنه لم يبحث.

    مثلما قالوا بالإجماع أنه لم يرد عن أحد من الصحابة أنه طاف أو أنه رمى قبل الزوال أيام التشريق، وقد ثبت أيضاً من أثر ابن عمر و ابن عباس ، وهو من طريق ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار قال: ذهبت أرمي فقلت: هل رمى ابن عمر ؟ قالوا: لا، ولكن أمير المؤمنين رمى قبل الزوال، وهذا دليل على أن أمير المؤمنين هو عبد الله بن الزبير وهو صحابي، هذا أثر ابن الزبير ، أما أثر ابن عباس فقد رواه ابن أبي شيبة و عبد الرزاق في النسخة المفقودة كما أشار إلى ذلك ابن عبد البر من طريق ابن جريج عن أبي العالية ، عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس .

    إذاً واجبات العمرة هي الإحرام والسعي والحلق، والحلق واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى : ( فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر، وأقم حلالاً )، وهذه هي عمرة كاملة، والتقصير والحلق واجبان؛ لكن الأفضل الحلق.

    1.   

    مسائل وأحكام فقهية في الحج والعمرة

    أحكام من ترك ركناً أو واجباً من الحج والعمرة

    الشيخ: المؤلف يقول: (فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به).

    وهذا الأمر الزائد على الواجب دليله حديث عبد الرحمن بن يعمر في عرفة قال: ( فمن وقف بعرفة قبل طلوع الشمس فقد تم حجه ).

    (ومن ترك واجباً جبره بدم)، ودليل من قال: إن من ترك الواجب يجبره بدم هو ما ثبت عند مالك و البيهقي و الدارقطني وغيرهم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: من ترك نسكاً أو نسيه فليهرق دماً، ومعلوم أن قوله: (ترك نسكاً) إنما المقصود به الواجب، لقوله صلى الله عليه وسلم كما يقال في السهو: ( لكل سهو سجدتان ).

    إذاً من ترك واجباً في الصلاة يجبره بسجود سهو ومن ترك سنة نقول: يستحب له، ومن ترك ركناً فلا يتم إلا أن يفعله، كذلك يقال في الحج: من ترك سنة في الحج الأفضل أن يجبره، وللقربى من الله سبحانه وتعالى، لكن لا يجب، لكن لو ترك واجباً جبره، ونقول: هذا قول ابن عباس ولا يعلم له مخالف من الصحابة، بل إنك لا تكاد تجد أحداً خالف ابن عباس من أئمة الإسلام إلا ابن حزم، فـابن حزم يرى أن من ترك واجباً لم يصح حجه، والقول الجديد -وهو قول بعض المتأخرين من أهل زماننا فإنهم قالوا قولاً جديداً، وأنا أرى أن هذا القول قول حادث- قالوا: من ترك واجباً فإن حجه صحيح مخالفة لـابن حزم ، ولا يجبره بدم مخالفة للجمهور، وهذا قول جديد في المسألة لم يقل أحد من أهل العلم به، أما إن قالوا: هذا قول ابن عباس ، قلنا: ينبغي ألا ننفك عن أقوال الصحابة في الحج، وإلا لو قلنا: هذا قول ابن عباس للزم علينا مسائل كثيرة لم يكن عندنا فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: إيجابها بقول صحابي إما أن نبطلها ونبطل ترك الواجب، وإما أن نثبتها ونثبت من ترك واجباً، خذ مثالاً على ذلك: من لم يقف بعرفة -كما سوف يأتي إن شاء الله- حتى طلعت الشمس أو طلع الفجر فالواجب في حقه أن يتحلل بعمرة، من أفتاه بذلك؟ أفتاه عمر بن الخطاب، وأمره بدم من جامع قبل التحلل الأول الواجب عليه دم، من أين لنا هذا؟ هذا من قول الصحابة وأما قول بعضهم: إن هذا إجماع من الصحابة، قول ثلاثة: ابن عباس ، و ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص قلنا: وهذا قول ابن عباس ولم يخالفه حتى أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عمر وأصحاب عبد الله بن عمرو بن العاص كلهم قال بذلك، ولهذا أرى أن القول بأن من ترك واجباً ليس عليه شيء قول محدث في هذه المسألة، لم نجد سلفاً لهذا الأمر، وقد نقل الإجماع على أن من ترك واجباً يجبره بدم غير واحد من أهل العلم، كـابن قدامة و ابن رشد و القرطبي ، وأيضاً الإمام محمد الأمين الشنقيطي في شرحه لكتاب الحج في أضواء البيان، وقال على هذا الحديث وغايته الاستدلال في الوجوب بحديث ابن عباس: إما أن يقال: هذا لا مجال للرأي فيه فيكون تعبدياً، فلا يسوغ لنا أن نخالفه، وإما أن يكون قول صحابي ولم يرد ما يخالفه، وقد اشتهر، وقول الصحابة إذا اشتهر ولم يوجد له مخالف فهو حجة.

    حكم من فاته الوقوف بعرفة

    الشيخ: المؤلف يقول: (ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج).

    هذا يسميه الفقهاء باب الفوات، يعني فوات الحج، ولا يفوت الحج إلا بترك الوقوف بعرفة، فمن ترك الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، وعلى هذا فيتحلل بعمرة بأن يطوف ويسعى ويقصر، ويهدي إن كان عليه هدي، ويحج من قابل، وهذا على سبيل الاستحباب كما سوف يأتي، ودليل الفوات ما رواه البيهقي في السنن و مالك من طريق هبار بن الأسود ( أن رجلاً حج -وقيل: هو هبار بن الأسود كما جاء في بعض الروايات- من الشام، فقدم يوم النحر، فقال له عمر: ما حبسك؟ قال: حسبت أن اليوم عرفة، يقصد أن يوم العيد هو يوم عرفة، قال عمر: فانطلق إلى البيت فطف به سبعاً، وإن كان معك هدي فانحرها، ثم إن كان عام قابل فحج، وإن وجدت ساعة فأهد، فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت ). هذا هو أصل باب الفوات، وفيه مسائل:

    أولاً: أنه يلزمه أن يتحلل بعمرة، مع خلاف هل يتحلل بعمرة أو يعمل أعمال العمرة؟ والأقرب -والله أعلم- أنه يتحلل بعمرة ولا إشكال في ذلك.

    الثاني: هل يلزمه هدي؟ نقول: الأقرب -والله أعلم- أنه يلزمه هدي لتركه الحج، فهو حكمه كحكم المحصر، فالمحصر يلزمه هدي، فإن كان معه هدي نحره، ولا حرج عليه في ذلك، وإن لم يكن وجب عليه أن يذبح هدياً.

    الثالث: هل يلزمه القضاء من قابل أم لا؟ ومعنى من قابل أي: من السنة القادمة، العلماء اختلفوا في ذلك: فذهب بعضهم -وهم الحنابلة- إلى أنه يلزمه أن يحج من قابل بأمر عمر بن الخطاب هبار بن الأسود .

    والقول الثاني في المسألة، وهو قول ابن عباس كما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قال: إنما البدل -يعني بذلك الحج من قابل- على من نقض حجه بالتلذذ، أما من حبس لعذر أو غير ذلك فلا، وقوله رضي الله عنه: (إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ)، يقصد بذلك الجماع، أما غيره فلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج مرة فما زاد فهو تطوع )، وهذا هو الأقرب، وعلى هذا نقول: إن كان حجه حجة الإسلام ولم يقف بعرفة فيجب عليه أن يحج من قابل على شروط الحج، وإن كانت حجته حجة نفل فإنه لا يلزمه أن يحج من قابل؛ لأنه لا يجب عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الحج مرة، فما زاد فهو تطوع )، لكن هل يلزمه هدي؟ الأقرب -والله أعلم- أنه يلزمه هدي لأمر عمر بن الخطاب في ذلك، وحكمه كحكم المحصر.

    أحكام الوقوف بعرفة في غير يوم عرفة

    الشيخ: المؤلف يقول: (وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك).

    يعني: لو أن جميع الحجاج وقفوا يوم العاشر ظانين أن هذا اليوم هو يوم عرفة، فالمؤلف يقول: صح حجهم، وهذا إجماع، يعني أنهم إذا كان الوقوف متأخراً صح حجهم إجماعاً، يعني: وقفوا العاشر ظانين أنه يوم عرفة فصح حجهم، ودليل ذلك ما رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صومكم يوم تصومون، وأضحاكم يوم تضحون )، وهذا الحديث رواه الترمذي وحسن إسناده، وتحسين الترمذي لإسناد الحديث يدل على تضعيفه ما لم يقل: (حسن صحيح) أو (صحيح)، والأقرب -والله أعلم- هو قول عائشة رضي الله عنها: ( الصوم يوم يصوم الجماعة )، وكذا رواه الإمام أحمد عن ابن عمر ، وعلى هذا نقول: صح حجهم إجماعاً.

    أما لو وقفوا يوم الثامن ظانين أنه يوم التاسع فإنا نقول: يجب عليهم أن يقفوا يوم التاسع، فإن لم يعلموا إلا بعد إتمام الحج صح حجهم على قول الحنابلة خلافاً للجمهور، فالمسألة أصبحت مسألتين: الأولى: إذا وقفوا يوم العاشر فنقول: صح حجهم إجماعاً إذا كانوا كلهم، والثانية: إذا وقفوا يوم الثامن ولم يعلموا إلا بعد انتهاء يوم عرفة نقول: أيضاً يصح حجهم على الراجح وهو قول الحنابلة.

    المؤلف يقول: (وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج)، والنفر يقصد بهم القليل، يعني: لو أن قوماً وقفوا يوم العيد، ظانين أنه يوم عرفة إن كانوا ليسوا هم الأكثر فإن حجهم يكون باطلاً، فيتحللوا كما قال عمر، فهذا قول الحنابلة والحنفية. أما إن كانوا كثيراً، ولكنهم ليسوا كلهم، فأيضاً صح حجهم كما هو مذهب أبي حنيفة و أحمد رحمه الله، يعني: إذا كانوا أكثر من الذي وقف صح.

    فلو اختلف الناس في الوقوف، فجاء أناس وقالوا: نحن نقول: إن غداً عرفة، والبعض قالوا: لا، والإعلام الرسمي من قبل ولاة أمر هذه البلاد قالوا: هو بعد غد، فجاء قوم ووقفوا غداً والأكثر وقف بعد غد، فصار بعد ذلك أن ثبت أن الصواب مع القلة، فنقول: حج الأكثر صحيح، وحج هؤلاء القليل خطأ؛ لأن العبرة ليست برؤية الهلال في السماء، بل العبرة بما اشتهر عند الناس، كما قال ابن تيمية رحمه الله.

    وعلى هذا نقول: فالعبرة بالكل أو بالأكثر فيصح حجهم وما عداهم فلا.

    1.   

    أحكام زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام

    الشيخ: يقول المؤلف: (ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما).

    نقول: إن شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، وهذا قول الأئمة رضي الله عنهم، ولم يخالف في ذلك إلا نفر قليل من أهل العلم، كـالجويني ، و ابن عبد السلام ، وغيرهم من بعض فقهاء الشافعية، فجوزوا ذلك، ولم يستحبوه، فجاء المتأخرون فاستحبوه، والأقرب -والله أعلم- أن شد الرحال لا يجوز؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )، فإذا شد الرحل إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا حرج عليه؛ بل يستحب أن يأتي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فيزور الرسول صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه ويسلم على صاحبيه، وأما الحديث الوارد: ( من حج فزار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي )، فهذا حديث منكر، يرويه هارون أبو قزعة الرجل من آل حاطب عن حاطب ، وهذا الخبر منكر، لانقطاعه ونكارة وجهالة هارون ، ولهذا قال الحافظ الذهبي : هذا الخبر لا يثبت، وروي عن ابن عباس من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وقالوا: هذا خبر مكذوب على ابن جريج .

    وعلى هذا فلا يصح في الباب شيء؛ لكن يستحب لمن قصد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويزور قبر صاحبيه، ولا يجوز أن يتمسح بالحجرة، ولا يجوز أن يتمسح بالقبر؛ لأن ذلك من البدع الظاهرة المعلومة عند أهل العلم بالضرورة، وقد حج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحج التابعون بعدهم، ولم ينقل عن واحد منهم أنه تمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبر، وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مطأطئ الرأس خاشع لا يتكبر؛ بل يخضع للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول: السلام عليك يا رسول الله! نشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فجزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ثم يتقدم قليلاً ويسلم على أبي بكر ويقول له: نشهد أنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنك قد أديت الأمانة، ثم يتقدم فيقول لـعمر مثلما قال لـأبي بكر ، ولا يجوز له أن يدعو وهو مستقبل القبر، بل يستقبل القبلة وهو يدعو، وما ذكر المؤلف رحمه الله في قصة العتبي أنه كان جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم.. الأثر، فقال: قم يا عتبي ! قم قل لهذا الأعرابي: إن الله قد غفر لك، نقول: هذه أخبار لا يثبت بها حكم شرعي، وقد ثبت بإسناد صحيح من حديث علي بن الحسين أنه رأى رجلاً قد أدخل رأسه في كوة -يعني فتحة- في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ يدعو، فقال: يا هذا! تعال، ألا أحدثك حديثاً يرويه أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )، فالذي يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم عند الحجرة مثله مثل الذي سلم عليه في مكاننا هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    بيان معنى القاعدة: العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بمكانها

    السؤال: ما معنى أن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من المتعلقة بغيرها؟ وهل هي قاعدة عامة أم أن لها ضوابط؟

    الجواب: القاعدة الصحيحة هي: أن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بمكانها وليس بغيرها، ومعنى هذه القاعدة: أن الإنسان إذا تعارض في حقه أمران، مثلاً: الشارع حث وحظ الإنسان على أن يفعل العبادة في هذا المكان، مثل الطواف قرب البيت، فالطواف قرب البيت أفضل، ولكن هذه الأفضلية إذا كانت سوف تؤدي إلى عدم خشوع وعدم دعاء، وانزعاج بالزحام فإنا نقول: ابتعد عن البيت وطف بعيداً عن البيت حتى تخشع؛ لأن العبادة المتعلقة بذاتها -يعني بخشوعها، وإقبال العبد على ربه- أولى من العبادة المتعلقة بمكانها وهو القرب من البيت، وهذه قاعدة مطردة معروفة عند أهل العلم، فالأصل هو الخشوع في هذا المكان، فإذا لم يحصل خشوع في هذا المكان فإنه يبتعد حتى يخشع، والله أعلم.

    الواجب على من ترك المبيت ليلة بمنى

    السؤال: هل من ترك المبيت ليلة بمنى عليه دم؟

    الجواب: نقول: الواجب هو أن يترك ليلتين، فمن ترك ليلتين فإنه يجبره بدم، أما من ترك ليلة نظرت، فإن كان لأجل الزحام أو لأجل العذر فليس عليه شيء إطلاقاً ولا يأثم، وإن كان متعمداً لتفريطه فإنه يأثم، ولكن ليس عليه شيء، وإن تصدق فهو حسن، من باب أن العبد إذا أذنب ذنباً فإنه يتصدق حتى تطفئ صدقته غضب الرب كما جاء ذلك عند أهل السنن وغيره.

    حكم الدعاء بين الركن وباب الكعبة ودليل ذلك

    السؤال: هل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دعا بين الركن والباب؟

    الجواب: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، أنهم وقفوا للدعاء بين الركن والباب، إلا ابن عباس رضي الله عنه، وهذا يدل على عدم الاستحباب.

    الفرق بين القارن والمفرد

    السؤال: ما الفرق بين القارن والمفرد؟

    الجواب: المفرد طوافه لحجه وسعيه لحجه، أما القارن: فطوافه لحجه وعمرته وسعيه لحجه وعمرته، فالمفرد لم يعتمر أصلاً، وعلى هذا نقول: الفرق بينهما أمور: الأمر الأول: أن القارن إذا طاف طاف لحجه وعمرته، والمفرد إذا طاف طاف لحجه.

    الأمر الثاني: أن السعي في حق القارن للحج والعمرة دون المفرد.

    الأمر الثالث: أن المفرد ليس عليه هدي، والقارن عليه هدي.

    الحكم على الأحاديث الواردة في التزام الملتزم

    السؤال: نريد توجيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الملتزم أنه فعله يوم الفتح، وما روي عن أبي داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: طفت مع عبد الله لما حاذى دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا، وبسطهما بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

    الجواب: قد بينا أن أحاديث عبد الرحمن بن صفوان ضعيفة، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ضعيف؛ لأن في سنده المثنى بن الصباح، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن كبار الصحابة أنهم كانوا يلتزمون بالملتزم، إنما روي عن ابن عباس ، وبعضهم يشكك في إسناد ابن عباس ، والأقرب -والله أعلم- أنه صحيح من حديث مجاهد أنهم كانوا، ومعنى (كانوا) أنهم كانوا يفعلونه، وبعض الصحابة أنكر، كـأبي سعيد ، و جابر و أبي هريرة و ابن عمر ، وعلى هذا نقول: فعل ابن عباس دليل على عدم البدعية وعدم الاستحباب، وترك الصحابة دليل على عدم الاستحباب، والله أعلم.

    توضيح كون القارن عليه هدي ولا يلزمه سوقه

    السؤال: هل نقول: إن الفرق بين المفرد والقارن أن القارن يسوق الهدي، أما المفرد فلا يجب عليه الهدي؟

    الجواب: نعم، ليس عليه أن يسوق الهدي لكن عليه الهدي، ففرق بين السوق والإهداء.

    مداخلة: و(عليه) هذه بمعنى الواجب؟

    الشيخ: نعم بمعنى الواجب، لكن نقول: لا يلزم سوق الهدي، ولكن عليه أن يهدي، فسواء ساقه أو لم يسقه.

    1.   

    أسئلة البرنامج

    المقدم: طيب، أحسن الله إليك، شيخنا الكريم! لعلكم تذكرون سؤال هذا الدرس المبارك.

    الشيخ: طيب، السؤال الأول: ما حكم شد الرحل لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الدليل؟

    السؤال الثاني: ما الفرق بين الركن وبين الواجب؟ والله أعلم.

    المقدم: مشاهدينا الكرام! ها نحن وإياكم نصل إلى نهاية هذا الدرس المبارك، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي شيخنا خير الجزاء، وإلى لقاء متجدد بإذن الله تعالى، نترككم دائماً وأبداً بحفظ الله ورعايته، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا اله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952770