الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، أوابين منيبين، اللهم تقبل توباتنا، واغسل حوباتنا وثبت حجتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، وبعد:
فقد شرحنا سابقاً ثلاثة شروط من شروط البيع:
الشرط الأول: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو مأذوناً له فيه.
والشرط الثاني: أن يكون جائز التصرف.
والشرط الثالث: أن تكون العين المباعة مباحة النفع من غير حاجة.
وذكرنا أمثلة وأدلة ذلك، والأمثلة كانت من واقعنا المعاصر.
واليوم نذكر الشرط الرابع ولم يذكره المؤلف رحمه الله، وهو معلوم من أدلة النصوص في الكتاب والسنة، وهو الرضا بين المتعاقدين، فلا يجوز إبرام عقد فيه إكراه لأحد المتعاقدين، ودليل ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، ولما روى الدارقطني و ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما البيع عن تراض )، وهذا الحديث إسناده حسن.
ومعنى التراضي هو: أن يدخل المرء راضياً مختاراً في هذا العقد.
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما يصنعه بعض الناس حينما يكون عليه دين فيذهب إلى المحكمة فيضع دعوة كيدية غير مقصودة فيذهب فيقول لشخص: أنا أطلب فلان بن فلان مبلغاً من المال، فيقول: نعم صحيح عندي له مال، ولكني لا أملك مالاً، حتى يصدر القاضي عليه صك إعسار، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يطالبه، فإذا أثبت الغرماء أن له مالاً من عقارات أو غيرها فإن القاضي حينئذٍ يبيع ماله.
القسم الثاني: إكراه بغير حق، وهذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يُكرهه على بيع ماله المعين من عقار أو قُنية، فيقول: أُكرهك على أن تبيع سيارتك هذه وإلا والله لأفعلن بك وأفعلن، أو أكرهه على أن يبيع عقاره، ومن أمثلة ذلك: أن يأتي شخص فيطلب من صاحب الأرض الخام أن يبيع عقاره على فلان وإلا لن يستطيع أن يُخرج مخططاً معتمداً، فهذا يكون إكراهاً، فهو لا يريد بيع ماله ولا يريد بيع عقاره ولكنه أُكره على ذلك وإلا لصار على عقاره الكساد، هنا إكراه.
جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة قالوا: إن عقد البيع الذي فيه إكراه عقد باطل، ومعنى البطلان: أن ما ترتب على هذا البيع وإذا اشتراه هذا الشخص وخطط وباع، فكل هذا مبني على باطل، وما بُني على باطل فهو باطل، ويكون المال في يد المشتري المكره يد أمانة ضمان.
وذهب المالكية رحمهم الله إلى أن بيع المكره موقوف على إجازته وهو الذي يسميه الفقهاء عقداً موقوفاً، فيقولون: لو أُكره، ثم بعد ذلك قدر، فإنه يُنظر؛ لما جاء في تقعيد هذه المسألة من حديث عروة البارقي ، وأرى أن هذا الخوض خاصة يترتب عليه مسائل ربما يصعب حصرها وإنهاؤها من قِبل المحاكم، فأرى أن إمضاء العقد أولى، وما مُنع عقد الإكراه إلا لأجل حق المكره، فيستطيع أن يأخذ حقه في إمضاء العقد سواء طلب الزيادة من المال أو لم يطلب؛ لأنه أحياناً يحصل بين الشركاء نوع إكراه، وبعضهم يقول: لا بد أن تبيع هذه الأرض عليّ وإلا ما أدخلك في المساهمة الفلانية، أو سوف أُلغي الشراكة، وهو يريد أن يلغي الشراكة إلا أن يبيع، فيبيع، ثم يأخذ هذا المشتري المخطط ثم يبيعه ويبني أُناس على هذا المخطط، ثم بعدما يستقل هذا المكره يُطالب مرة ثانية، فإذا أرضى القاضي المكره فإنه يكون موقوفاً، وأرى أن قول المالكية أسلم.
القسم الثاني من الإكراه: ألا يُكرهه على بيع مال معين، ولكن يُكرهه على مبلغ من المال، يقول له: أريد منك خمسين ألفاً، وإلا لأفعلن بك وأفعلن، فالآن هو أكرهه على المال، هو إما أن يكون عنده مال، وإما ألا يكون عنده مال، فإن كان عنده مال سوف يعطي، وإن لم يكون عنده مال فسوف يضطر إلى بيع شيء من أمواله العينية إما عقاراً أو سيارة أو غير ذلك، الحنابلة يقولون: وإن أُكره على وزن مال فباع ماله لأجله كُره الشراء، يعني: أكرهت على أن أعطي زيداً من الناس خمسين ألفاً وليس عندي خمسين ألفاً، فبعت سيارتي لأجل أن أعطي المكره هذا المال، قالوا: كُره الشراء منه؛ لأنه ما باعه عن رضاً مطلقاً، وإن كان فيه نوع رضاً باختيار لكن فيه نوع غبش، هذا مذهب الحنابلة، واختار أبو العباس بن تيمية جواز ذلك قال: لأننا لو قلنا بكراهة هذا الشراء لوقع المُكره في ورطتين، ورطة أن هذا يُلزمه، وورطة أنه لا أحد يشتري منه، قال: بل لو قيل بجواز ذلك فهو أولى، وهذا أفضل. هذه مسألة الرضا بين المتعاقدين.
ومن أمثلة ذلك في واقعنا المعاصر أحياناً يكون الرجل صاحب مال فيموت ويُخلف عقارات، فبعض الأولاد يريد البيع، وبعض الأولاد لا يريد البيع، فهذا يسمونه: قسمة إجبار فيُضطر للبيع وإن كان مُشاعاً للمصلحة، فهذا لا بأس به إن شاء الله.
ومن الأدلة على هذا الشرط ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر )، والغرر كما يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: الغرر هو مجهول العاقبة، الذي لا يُعلم حصوله، فيقع المشتري بين الغُرم المتحقق أو الغُنم المتوقع، فهو دائماً لا يحصل يقيناً، يشتريه المشتري بسعر أقل من سعر السوق، فهو إذا اشتراه بسعر أقل إن لم يحصل له يكون المستفيد البائع، وإن حصل له يكون المستفيد المشتري؛ لأنه سوف يبيعه بسعر أعلى من السعر الذي اشتراه، وهذا هو الغرر، وهو محرم ولا يجوز العقد.
وينقسم الغرر إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: غرر مُجمع على جوازه، وهو الغرر اليسير الذي لا تخلو بعض المعاملات منه مثل الجهالة في حيطان البيوت والأبراج، فهذا مُغتفر، والجهالة في بعض البيوع مثل بيع ما مأكوله في جوفه كبيع البيض، وبيع البطيخ، وبيع الرُمان، فهذا مُغتفر، وقد أجمع العلماء على جوازه بالجملة.
القسم الثاني: غرر فاحش، وهذا أيضاً مُجمع على تحريمه، ومن أمثلة ذلك: بيع الملامسة وبيع المنابذة، وغير ذلك من الأمثلة التي يذكرونها.
ومن أمثلة الغرر الفاحش في واقعنا المعاصر هو: عقد التأمين التجاري، عقد التأمين التجاري هو في حقيقته غرر، قد يتصور بعض الناس أن التأمين التجاري فيه ربا، كالتأمين على الحوادث، الظاهر والله أعلم في نظري القاصر أنه ليس فيه ربا؛ لأن الشركة المؤمنة سوف تعطيك خدمة إصلاح السيارة، أو بدلها، أو شركة التأمين الصحي التجاري سوف تعالجك، لكن هو غرر فاحش؛ لأن المؤمن سوف يدفع ثلاثمائة وخمسين ريالاً لمدة سنة، فإما ألا يحصل عليه شيء فيكون قد خسر، وإما أن يحصل عليه شيء بمقدار ثلاثمائة وخمسين، وإما أن يحصل عليه ضرر أعظم من الثلاثمائة والخمسين، وهذا العقد في حق المؤمن الفرد غرر، لكنه في حق شركة التأمين هو غرر لكنه غرر متوصف وهو القسم الثالث الذي سوف نتحدث عنه؛ لأن شركة التأمين تتلاشى وتمنع أي عقد لا فعل للبشر فيه، فهي لا تؤمن على الكوارث ولا على الحروب، ولا على البراكين، ولا على البرد، ولا على الفيضانات؛ لأن هذا لا علاقة للبشر فيه، وإذا أمنت بعض الشركات على هذه الأشياء فسوف تكون قيمة القسط أعلى بكثير مما للبشر فيه فعل.
فالشركات التي تعمل في تأمين السيارات خاصة في حي النسيم أمن بعض الناس والبعض لم يؤمن، وكانت الشركة تجهل واقع هذه البلاد، فجاء بَرَد شديد أدى إلى ضرر في السيارات، تضررت السيارات كلها فالذين أمنوا استفادوا فخسرت شركات التأمين هنا بما فيها شركة التأمين التعاوني، ثم اضطروا إلى وضع هذا الشرط أي: أنه لا تأمين على البرد، ثم ذكروا البراكين وهو لا يوجد، لكن قالوا: يمكن يصير فيه براكين، فهم لا يؤمنون على ما لا للبشر فيه فعل، أما ما للبشر فيه فعل -فسبحان الله! من حيث الدارسة في نظرية الإحصاء، الذي يسمونه: النظام الإكتواري- فهو في الغالب أنه ناجح.
إذاً: الحوادث من الألف كم؟ مائتين وخمسين، إذاً: مائتين وخمسين حوادثهم تقريباً كذا وهم إذا أرادوا أن يأخذوا يأخذون على الألف، فيقسمون بعملية حسابية من الألف إلى مائتين وخمسين فتكون ثلاثمائة وخمسين أو ثلاثمائة وستين مناسبة لعدد الحوادث، هم يقدرون على 30% ، فالشركة مع مجموع الأفراد تربح، ولهذا أرى أن الغرر إنما هو في حق الفرد، وعلى هذا فشركة التأمين التجاري محرمة؛ لأن المرء يدفع ثلاثمائة وخمسين، فبعض المشايخ يقول: هو يدفع للأمان، طيب أي أمان؟ هو حقيقة الأمر أن الشركة تقول: أعطني ثلاثمائة وستين وإذا حصل هذا الشيء فأنا أتحمله، وبعض المشايخ قاس هذه المسألة على مسألة الحراسة، يقول: لو أنك أتيت شركة تريد منها حراستك سواء سُرقت أو لم تُسرق فعليك دفع حق الحراسة، فهذا قياس بعيد كل البعد، وقياس ليس مع الفارق ولا مع الفوارق كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع، ولا يمكن أن يكون قياساً فقهياً؛ لأن الشركة هذه التي جاءت للحراسة قد وضعت عاملاً ووضعت بعض الأشياء وحرست فهو عقد إجارة وعوض، وبالتالي قياس شركة التأمين على هذا الأمر قياس لا يصح.
وفرق بين هذه المسألة وبين مسألتنا؛ لأنني إذا قلت: أنا أدخل مع فلان شراكة وإذا حصل خسارة فأنا ضامن، فهذا ليس فيه إشكال؛ لأني متبرع، لكن لو قلت له: أعطني مائة ريال وإذا حصل لك ضرر بدخولك مع فلان متاجرة أو بسلوكك هذا الطريق فأنا أتحمل كل الخسارة، فنقول: دخلت في القمار وهو الغُرم المتحقق والغُنم المتوقع، وبالتالي قياس هذا بشركات التأمين قياس مع الفارق، وهذه المسألة بعض الناس يتصور أنها من المسائل الجديدة، ومالك رحمه الله ذكرها في المدونة وهي من أعظم كتب الفقه ذكر ابن القاسم قال: في مسألة ضمان السلعة قال: فإن أعطاه لذلك مالاً على أنه متى ما حصل للسلعة شيء فعليه الغُرم، قال: فهو قمار، هذه هي نفس مسألة التأمين، وذكرها ابن عابدين ؛ لأن بعض الباحثين يذكر أن أول من تحدث واستنكر هذه ابن عابدين ، والحقيقة أنه ذكرها ابن القاسم قبل الإمام أحمد رحمه الله، وهي مسألة معروفة عند الفقهاء وأن ذلك لا يجوز، وطريقة تجويزها يمكن بطريقة التأمين التعاوني المقنن كما يوجد في كثير من البلدان كالسودان وبعض الأردن يتعاملون بنظام التأمين التعاوني وهو معروف، والحمد لله نظام مصلحة التقاعد تأمين تعاوني، والتأمين الاجتماعي تأمين تعاوني، وهذا يمكن ضبطه وتقنينه.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا معجوز عن تسليمه كالآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء] إنما مُنعت هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يقدر على تسليمها، ولو قدر على تسليمها فسوف يشتريها بسعر أقل من سعرها فيما لو كانت حاضرة وبالتالي دخل في الغرر؛ لأن الغرر في الغالب يحصل على الإنسان فيه ضرر، لكن هل المتاجرة في الأسهم قمار؟ لأن بعض الفضلاء يقول: المتاجرة بالأسهم قمار، ويفتي بأن كل الأسهم حرام، أنا أقول: المتاجرة بالأسهم ليس فيها قمار ولا 1%، وليس فيها غرر ولا 1%، نعم فيها تغرير وفيها خداع وفيها غش، وفيها تدليس، وفيها تلبيس، هذا يمكن لكن ليس فيها قمار خاصة في سوق المال في هذه البلاد، لكن يمكن أن يكون قماراً في العقود المستقبلية، الذي يسمونه: عقود الفيوتشر فهذه حرام وهي قمار؛ مثلاً: سهم سابك، أتوقع أن يكون السهم في سابك بألف وثمانمائة، تقول أنت: لا، أنا أتوقع أن يكون بألف وأربعمائة، أقول: إذاً أنا أبيع لك أو أشتري سهم سابك بعد ثلاثة أشهر منك بألف وأربعمائة، وأنت تبيع لي بألف وأربعمائة بعد ثلاثة أشهر، أحياناً يرتفع السهم إلى ألف وثمانمائة وسوف أشتريه منك بألف وأربعمائة، كم كسبت؟ أربعمائة ريال، وأحياناً ينزل السوق ألف ومائتين ويكون الرابح هنا البائع، فيكون هذا قمار وغرر، وهذا لا يتأتى في سوق المال في النظام، لكن لو وجد مكانه عقود المستقبليات فالعقد فيه قمار.
وهذا الشرط هو قول عامة الفقهاء، وإن شئت فقل: الإجماع في الجملة.
الأمر الأول: إما برؤيته، والرؤية إما أن تكون حال العقد أو قبل العقد بما لا يختلف فيه الثمن غالباً، أقول لك: أريد أن أبيع لك سيارتي، فنقول: ما هي سيارتك؟ فأقول: سيارتي التي رأيتها قبل يومين نوع فكتوريا موديلها كذا مواصفاتها كذا، فتذكرتها أنت، فإذا كنت قد رأيتها قبل زمن بعيد يختلف فيه الثمن فتكون الرؤية غير مُعتبرة؛ لأن الثمن يختلف، أما إذا كانت الرؤية قريبة حال العقد بما لا يختلف فيه الثمن فهذا يحصل به الرؤية، وهذا الأمر الأول في معرفة المبيع.
الأمر الثاني: الوصف المنضبط بما يثبت به السلم: أن تصف هذه السلعة، ووصفك لها إما أن يكون بوصف منضبط أو برؤية مشابهة لها، يعني: بعض الناس لا يعرف الوصف لكن لو قلت له: مثل هذه الكامري بالضبط، فأنت إذا رأيت قتلها اكتفيت، فبدل أن أقول لك: كامري موديل كذا كذا، فرؤية سيارة شبيهة لها كأنها رؤية للوصف.
منع المالكية والحنابلة من بيع شيء لم يُر ولم يوصف، وهو قول الجمهور، وكذا الشافعية، والشافعية أشد المذاهب، فـالشافعي يقول: لا يجوز إلا برؤية، أما الوصف فلا يجوز إلا إذا كان سلماً، فإذا بعت أرضاً لم يرها المشتري على مذهب الجمهور فإن العقد يكون باطلاً، وهذا يوجد في واقعنا كثيراً، كبيع المزادات العقارية فإنهم يبيعون ويشترون في الفندق، حيث يعرض البائع المخطط ويقول: هذا البلك الذي على شارع الستين قد أخذته؟ والثاني يقول: رأس البلك هذا قد أخذته، وهو لم يره، والعقار لا يمكن ضبطه، الآن هذا حي اليرموك، الأرض التي هنا تختلف عن الأرض التي هناك الجهة الشمالية تختلف عن الجهة الجنوبية، والشرقية تختلف عن الغربية، بل الأرض المجاورة للأرض الأخرى تختلف؛ لأنها ربما تكون أرضاً سهلة والتي بجانبها أرض وعرة، فبالتالي قال العلماء: لا يصح السلم في العقار؛ لأنه لا يمكن ضبطه، فالذين يبيعون الآن في المخططات السكنية في هذه الرسومات عند جمهور الفقهاء هذا عقد باطل، وهذا هو أحد القولين عند ابن تيمية رحمه الله حيث قال في مجموع الفتاوى في المجلد التاسع والعشرين عندما ذكر هذه المسألة قال: وأعدل الأقوال هو قول مالك ورواية عن أحمد أن المبيع إذا لم يُر أو يوصف وصفاً منضبطاً بطل البيع، قال: وهذا أعدل الأقوال.
والقول الثاني في المسألة: هو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية رحمه الله في القول الآخر له في كتابه: قاعدة العقود، وهو فعل بعض الصحابة كـطلحة و جبير بن مطعم ، ولا يسع الناس إلا هذا في هذا الزمان خاصة، فيجوز أن أشتري ما لم أره، ولكن بشرط الخيار للمشتري إذا رآه، ومما يدل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه باع قصراً له بالكوفة على طلحة ، فقال طلحة : لي الخيار؛ اشتريت ما لم أره، قال عثمان : بل لي الخيار بعت ما لم أره، فتقاضيا عند جبير بن مطعم فقضى جبير بالخيار لـطلحة ، وهذا يدل على وجوده وإقراره، ولولا وجود الخيار لبطل العقد؛ لأن الخيار لا يتم إلا مع عقد صحيح، وكل عقد فيه خيار دليل على أن العقد صحيح، وهذا القول هو أعدل الأقوال، وبالتالي فشراء المخططات العقارية لا بأس بها.
قد يقول قائل: هب أني حنبلي أو مالكي أو شافعي ووضعت ضمن الشرط: وقد رأى المشتري الأرض المباعة رؤية نافية للجهالة والغرر، وبالتالي ليس لي الخيار، وهو إذا لم يرها فهو قصور منه، نقول: وهذا أيضاً صحيح، وهل يدخل في بيع الشيء من غير رؤية ولا وصف شراء الأسهم؟
حقيقة الأمر أن بعض الناس يدخل إلى الصالة أو إذا كان عنده خدمة الإنترنت في البيع والشراء، وهو لا يعرف ما هو شغل (صدق)، ولا يعرف ما هو شغل (سابك)، ولا يعرف عن شغل (لُجين)، ولا يعرف عن شغل (شمس)، ولا يعرف عن شغل غيرها من الأسهم الكثيرة، فيدخل ويشتري بخبر أو بتحليل، فهو لم ير السيارة ولم ير شبيهاً ولا يعرف عنها، فهل يكون هذا داخلاً في هذه المسألة؟
حقيقته هي داخلة عند بعض الناس دون بعض؛ لأن بعض الناس يعرف أن شركة مكة تُتاجر بالعقارات، فإذا اشترى فكأن العُرف قائم على أن الشراء لا يُقبل فيه الإقالة، فليس فيه خيار مجلس، ومجرد أمرك للبنك وتنفيذ ذلك فإن البنك يُخلي مسؤليته وليس لك حق الخيار، وهذه مسألة إبطال خيار المجلس وقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن خيار المجلس قائم ما لم يُبطلاه نصاً كما مر معنا، وذهب مالك إلى أنه ليس فيه خيار وهو قول أكثر الحنفية.
وابن تيمية -وانظر إلى فقه هذا الرجل كأنه يحكي زماننا- قال: وقد يُقال بإبطال خيار المجلس في بيوع المزادات -التي نحن نسميها الحراج- لأن في إيجاب خيار المجلس ضرر على البائع؛ ولكن ينبغي الحذر فعندهم نوع من التضليل على المشتري، ولهذا الذي يأتي إلى سوق الحراج وهو لا يعرف ربما يخسر خسارة كبيرة.
وأنا أعرف أحد المشايخ الكبار ذهب يشتري سيارة لولده ومعه سيارته وهو إنسان ما تعود على السوقية هذه، يقول: فذهبت لأشتري سيارة لولدي فخرجت من الحراج وقد بعت سيارتي؛ لأنهم أحياناً يضللون الإنسان بحيث لا يشعر، ماذا يصنعون؟ مجرد رفع السيارة للحراج، يقول الإنسان: بأربعين ألف، ذاك يقول: بواحد وأربعين، ثلاثة وأربعين، خمسة وأربعين وهكذا ثم يعطيك ويقول: اركب السيارة، إذا ركبت السيارة الآن أبطلت الحراج، مجرد إعادة السيارة للحراج إما فيه صعوبة، وأحياناً يحتاج زمناً، وإما أنك إذا أعدت السيارة مرة أخرى سوف يقول الناس: ما أُعيدت إلا لعيب فيها وهي لا تستاهل خمسة وأربعين ألفاً، فهو يقول: اركب السيارة فيركب السيارة كأنه يريد أن يجربها ويقول: تريدها بأربعين وإلا لن آخذها، ماذا يصنعون؟ يقول: تعال، هي عليك بخمسة وأربعين ويلزمك خمسة وأربعون.
وأرى أن خيار المجلس هذا يبطل إما بنص وإما بعُرف قائم، وأرى أن هذا من العُرف، وأن مجرد قبول المشتري للسيارة وإنزال السيارة من الحراج يُعتبر قبولاً، ولا يجوز له إلغاء العقد إلا بإقالة برأس المال أو بسماح من البائع، ومثل ذلك أيضاً إبطال خيار المجلس في عقود المناقصات التي تقوم بها الحكومات والشركات الخاصة. ومن ذلك بيع الأنموذج، الذي نحن نسميه بيع النمونة، أو العَيِّنة، منع منها الحنابلة والشافعية، ومن ذلك الكتلوج منعوه، وذهب أبو حنيفة إلى جوازه مع وجود الخيار؛ لأنه أحياناً الصورة تُغري، تشتري الأثاث بصورة فاخرة فإذا رأيته وجدته ليس كما هو في الصورة فلك الخيار، وبالتالي وجود هذا الشرط يمنع من أن أقول: بعتك عبداً من عبيدي، كما قال المؤلف: أو شاة من قطيعي، إلا فيما تتساوى أجزاؤه، وفرق بين ما تتساوى قيمه وبين ما تتساوى أجزاؤه، فما تتساوى أجزاؤه هو كل ما يُكال؛ لأن الرز مثلاً حباته واحدة تتساوى، والقمح والذرة والشعير وغير ذلك، قالوا: هذا يجوز أن يقول له: بعتك صاعاً من هذه الصبرة، فإذا كانت تتساوى أجزاؤها فلا بأس، قالوا: وأما ما تتساوى قيمه فلا يجوز، قال المرداوي في الإنصاف: يبعد أن تتساوى قيمه.
وأرى -والله أعلم- وهو أحد القولين عند بعض الحنابلة جواز بيع عبدٍ أو شاة من قطيع فيما تتساوى قيمه، وهذا يحصل أحياناً في وقت الأضاحي يضعون محلات أو حضائر وكل واحدة في الحضيرة بسبعمائة، أو بستمائة، أو بخمسمائة، فيقول: أبيع هذه الأضاحي كل شاة منها أو جذع بسبعمائة وخمسين ولم يُحدد، هل يجوز أم لا يجوز؟
الحنابلة يمنعون، والصحيح جواز ذلك؛ لأنه تتساوى قيمه فليس فيه إشكال، قد يقول: ما هي الفائدة؟ الفائدة هو: أني إذا كنت أعرف أن فلاناً يؤكل ماشيته شيئاً طيباً فاتصلت عليه بالتلفون وقلت: ما عندك؟ قال: عندي من سبعمائة وخمسين، وعندي من ستمائة وخمسين، قلت: كم عندك؟ قال: عندي سبعمائة وخمسين رأساً، قلت: أريد خمسين رأساً، فهذا يحصل كثيراً، واسألوا إن شئتم أصحاب حملات الحج.
وهنا فائدة وهي: أن تعاملات الناس في هذا الزمان، ودخول التكنولوجيا تجعل أهل الخبرة يستطيعون أن يحددوا ما لا يعرفه أهل العلم، وهذا الوصف يمكن ضبطه في الجملة وإن اختلفت الأسعار، لكن اختلاف الأسعار لا يؤثر في الثمن في الغالب، مثال ذلك في واقعنا المعاصر: بيع المنتجات البترولية، يقول: أنا أنتج لك الآن الخام، فمثلاً شركة سابك تُعطي المصانع البلاستيكية خام الخام وهذا مقسم إلى ثلاثة أنواع: مرة يزيد هذا النوع، ومرة يزيد النوع الثاني، ومرة يزيد النوع الثالث، لكن كلها بقيمة معينة، ما حكم هذا؟ يأخذ حق امتياز من شركة سابك أنه يشتري هذا الخام طن أو عشرة طن أو ألف طن أو مليون طن كل ثلاثة أشهر يأخذ من سابك، وسابك تُخرج، فهو يقول: لو لم أشتر من سابك هذا العام بهذا الالتزام لمدة خمس سنوات أو سنة فلن أستطيع أن أبيع، فأرى والله أعلم أن هذا يجوز؛ لأنه في حكم بيع الصبرة، وبيع الصبرة لا يلزم معرفة أجزائها كلها، فإذا عُرف في الجملة والسعر لا يختلف فأرى جواز ذلك، فهو يدخل في الوصف.
نقف على هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر