الحمد لله وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم إنا نسألك إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا، وارزقنا علماً وعملاً يا كريم!
اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وصبراً وفقهاً يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الربا: عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ).
ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون بجنسه إلا مثلاً بمثل، ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً، ولا موزون كيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النسأ فيه، ولا التفرق قبل القبض إلا في لثمن بالمثمن.
وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد إلا أن يكونا من أصلين مختلفين، فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان.
ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه ولا خالصه بمشوبه ولا نيئه بمطبوخه.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المزابنة وهو شراء التمر بالتمر في رءوس النخل، ورخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً ].
وأما في الاصطلاح الشرعي: فهو الزيادة في أشياء مخصوصة من غير عِوض.
وقولنا: في أشياء مخصوصة، دل ذلك على أن الزيادة في غير هذه الأشياء المخصوصة التي خصها الشارع لا بأس بها، وقولنا: من غير عِوض؛ لأن الربا هو أن يزيد درهماً بدرهمين فيكون الدرهم الثاني من غير عوض له، ولهذا قال العلماء: الزيادة في أشياء مخصوصة من غير عِوض.
وباب الربا من أدق أبواب المعاملات المالية ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم أحسن الناس معرفة بالربا وأكثرهم تجارة كما روى أبو نضرة رضي الله عنه قال: جاءني رجل فسألني في شراء أو في صرف الذهب بالفضة؟ فقلت: ربا، يعني: نسيئة، قال: قد بعته في السوق، فلم يُنكر ذلك عليّ أحد، تأملوا، قال الراوي لـأبي نضرة : بعته في السوق، يروي أبو نضرة عن أبي سعيد فسأل أبا سعيد ؟ فقال أبو سعيد : ربا، قال: قد بعته في السوق ولم ينكر ذلك عليّ أحد، قال: اذهب إلى زيد بن ثابت فإنه كان أعظم تجارة مني، فذهب إلى زيد بن ثابت فأخبره بذلك، وقوله: فإنه أعظم تجارة مني، دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أكثروا من المال أكثروا من الفقه فيه، بخلاف زماننا والله المستعان، فكلما كثُر المال كلما كثُر الانشغال عن العلم والاشتغال بالمال.
ولقد تناظر أبو الوليد الباجي المالكي مع أبي محمد علي بن حزم الظاهري فجلسا أياماً يتناظران في أصول المالكية وفي أصول الظاهرية، حتى إذا انتهى بهما المطاف في المناظرة، قال أبو الوليد الباجي : سامحني يا أبا محمد! فإني لا أكاد أقرأ الكتب إلا على ضوء القمر، يريد أن يُشير إلى أنه ليس عنده كتباً كثيرة؛ لأنه كان فقيراً وليس عنده من الكتب ما يقرأ، فقال أبو محمد : وأنت اعذرني فإني لا أكاد أقرأ إلا على ضوء الذهب والفضة، يعني: أنني كنت وزيراً وصاحب مال وصاحب تجارة، فلم تُلهني هذه التجارة في طلب العلم إلا قليلاً، وهذا يدل على أن الفتنة بالمال أكثر من الفتنة بالفقر، ولهذا قيل: إن أبا محمد كاد أن يفلجه أبو الوليد لولا ختمه في نهاية هذه المناظرة.
أقول أيها الإخوة: باب الربا باب عظيم وينبغي لطلاب العلم أن يتأملوه خاصة في المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية الربوية، فإن الربا يمشي في تصرفات البنوك بحيث لا يشعر به إلا الحُذاق من أهل العلم، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليأتين على الناس زمان من لم يأكل الربا أصابه من غباره، أو قال: من دخانه )، وهذا أمر مُشاهد فلو سألت أي جماعة في مسجد ما: هل عندكم بطاقة من البطاقات الائتمانية التي اشترط فيها الربا؟ وجدت أن كثيرين مع الأسف الشديد من المسلمين عندهم بطاقات ائتمانية قد اشترط فيها الربا، وربما وقع في الربا وهو لا يشعر، وقد جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليأتين على الناس زمان لا يُبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام )، والعياذ بالله، ولقد قال عمر بن الخطاب : إن كنا لنترك تسعة أعشار المباح خوفاً من الوقع في الحرام، وقول عبد الله بن المبارك : والله لئن تترك درهماً فيه شبهة خير لك من أن تتصدق بمائة ألف، ثم مائة ألف، ثم مائة ألف، والبعض يسأل وخاصة الذين يسألوننا في خارج هذه البلاد، يقول: أضع مالي في البنوك الربوية وآخذ عليها فوائد ربوية ثم أتخلص منها أو بالتصدق بها في أوجه الخير، فنقول له: حالك هذه كالحالة التي قال فيها الشاعر:
ومطعمة الأيتام من كسب فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
والعجب الذي لا ينقضي أن تجد الناس لا يكترثون لأكل الربا، بخلاف بعض المحرمات التي ربما لا تصل إلى المنكرات الكبيرات من الموبقات ونحوها، خذ مثالاً بسيطاً على ذلك، وهذا مع الأسف الشديد قد فشا وانتشر حتى لربما لا تتمعض فيه الوجوه ولا تتمعر، لو قلت لكم أيها الإخوة: إن من جماعة هذا الحي من أخذ فتاة لا تحل له أجنبية وأغراها بمعسول القول، وأركبها في سيارته ثم ذهب إلى المطاعم العائلية ودخل هو وإياها وربما كان بينه وبينها بعض الأحاديث المتبادلة المحرمة، وربما حدث بينهما بعض الذي يفعله الرجل مع زوجته من غير الوقوع في الزنا، لربما رأيت كثيرين منا قد وضعوا أيديهم على رءوسهم وعلى قلوبهم يسألون الله سبحانه وتعالى أن ينجيهم وذريتهم وجميع المسلمين من هذا المنكر، ولرأيت تمعر الوجه ظاهراً في وجوههم، وهذا بلا شك محرم ويجب أن يُنكر، وأن يظهر الإنكار فيه، غير أننا ربما لو رأينا رجلاً قد خرج من البنك الربوي وقد أبرم عقداً محرماً ربما نقول: الله يهديه فلان يأكل الربا، ولا يمانع أحدنا أن يكون أكيله وجليسه ولا ينكر عليه.
إذاً: مع أن هذا قد وقع في كبيرة من أكبر الكبائر، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، قال أبو العباس بن تيمية : وذكر الله هذه الآية بقوله: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، دليل على أن حصول الربا يُذهب غالب الإيمان الواجب الذي يجب على المسلم أن يُطيعه، وهذا يدل على ذهاب الإيمان الواجب وإن كان أصل الإيمان باق فيه، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وجاء في السنة أيضاً حرمة الربا: قال صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء )، هذه أدلة الكتاب والسنة.
وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من أهل العلم وكل من كتب في باب الربا نقل الإجماع على أن الربا محرم تحريماً مُجمعاً عليه وأنه من الكبائر، ولا أعلم عالماً من علماء الإسلام له قدم صدق في الإسلام وفي خدمة دينه قال: إن الربا محرم من غير كبيرة، بل كلهم أجمعوا على أنه من كبائر الذنوب.
جمهور أهل العلم رأى أن حكم هذه الأصناف الستة التي عدها صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصاً بهذه الأصناف الستة، خلافاً لـابن حزم و ابن عقيل الحنبلي وغيرهما فقالوا: إن هذه الأصناف الستة معللة بعلة، وقالوا: إن العلة في هذه الأصناف الستة منقسمة إلى علتين: علة للذهب والفضة، وعلة للأصناف الأخرى.
القول الآخر وهو مذهب سعيد بن المسيب وهو قول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله و ابن القيم على أن العلة في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية، فالله سبحانه وتعالى حينما جعل الذهب والفضة إنما جعلهما لأنهما قيم للأشياء ولأروش الجنايات، فكل ما كان بمثلهما واعتاد الناس عليهما وجعلوهما على نحو الذهب والفضة فإنه يجري فيه ما يجري في الذهب والفضة، ولهذا قال الإمام مالك كما في المدونة: ولو أن السلطان سك للناس سُكة من جلد لرأيت أنه يجري فيهما الربا مثلما يجري في الذهب والفضة.
فالراجح أن العلة في الذهب والفضة هي: مطلق الثمنية، أو غالب الثمنية وإن كان بعضهم فرق بين الأمرين، والأحسن أن نقول: مطلق الثمنية، وعلى هذا فالريال السعودي والريال اليمني والريال البرازيلي يجري فيهما الربا، إلا أن كل دولة لها اقتصادها ولها كيانها ولها عملتها، فكل عملة جنس مستقل، وإن تساووا في الاسم، فالريال السعودي جنس، والدولار الأمريكي جنس، والريال اليمني جنس، والريال البرازيلي جنس، والجنيه الاسترليني جنس وهكذا، فكل دولة لها عملة مستقلة ولها كيانها، ولهذه العملة غطاؤها من الاقتصاد ومن قوة الدولة.
وهل الريال الورقي والريال المعدني، جنسان أم جنس واحد؟
اختلف مشايخنا في هذا على قولين:
فذهب بعض مشايخنا وهو رأي شيخنا محمد بن عثيمين إلى أن الريال الورقي جنس والريال المعدني جنس آخر، فلا بأس أن يجري فيهما ربا الفضل، يعني: الزيادة، فلا بأس أن تبيع ريالاً ورقياً بريالين معدنيين!
والقول الآخر والله أعلم وهو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز على أن الريال الورقي والريال المعدني سواء، وهذا أظهر والله تبارك وتعالى أعلم، لأن العبرة بالمعنى، أرأيتم لو أن عندنا الآن عملة، الريال أو العشرة ريالات أو الخمسة ريالات تغيرت الطبعة الجديدة هل نقول: إن الطبعة القديمة من المائة تختلف عن الطبعة الجديدة؟
نقول: لا تختلف؛ لأن هذه الدولة حرسها الله جعلت العملة القديمة والعملة الجديدة بمعنى واحد، وكذلك نقول: هذه الدولة وهذا الاقتصاد جعل الريال المعدني والريال الورقي بمعنى واحد، وهذا الذي يظهر والله أعلم، وعلى هذا فلا يجوز بيع ريال ورقي بريالين معدنيين. وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم.
إذاً: علة الربا في الذهب والفضة الراجح أنها مطلق الثمنية.
قد يقول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد : ( وكذلك الميزان )، والريال الورقي لا يوزن، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أشار إلى ما يوزن، فكيف تُجري الربا في الريال الورقي وهو لا يوزن؟!
نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد في قوله: ( وكذلك الميزان )، بيان علة الربا فيه، إنما لبيان المماثلة والمساواة، والمماثلة المعتبرة في الشرع هي المماثلة في الكيل والوزن، وليست المماثلة والتساوي في القيمة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا البُر بالبُر إلا مثلاً بمثل )، وقال: ( ولا تبيعوا الصاع بالصاعين )، إذاً: العبرة بالكيل مع العلم أن صاعاً من تمر السكري قد يساوي في القيمة ثلاثة أصع من تمر آخر رديء، وإن كان ثلاثة أصع من هذا قيمتها مثلاً بمائة ريال فصاع من السكري قيمته مائة ريال، إذاً: هذه تساوت في القيمة، فهل المعتبر التساوي في القيمة؟ نقول: لا، التساوي في الكيل أو الوزن.
هنا المؤلف أشار إلى علة الملح والشعير والقمح والتمر، وهو الطعم مع الكيل أو الوزن، وعلى هذا نظر الحنابلة إلى البُر وإلى الشعير وإلى الملح وإلى التمر وإلى الزبيب فقالوا: إن هذه الأشياء إنما تُكال وهي مطعومة، فنظرنا إلى العلة فيهما فجمعناهما فقلنا: العلة في هذه الأشياء الطُعم مع الكيل، نأتي إلى الادخار الآن، مع الكيل أو الوزن، فلا عبرة بطعم ليس فيه كيل أو وزن مثل: الخضروات والفواكه؛ لأنها تُباع عداً لا كيلاً ولا وزناً، والاعتبار هنا بوقت الصحابة لا وقت زماننا، الآن بهيمة الأنعام تُباع بالوزن، ليس العبرة بما نحن عليه الآن، العبرة بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فالفواكه لا يجري فيها الربا، فلا بأس أن تبيع بالكيلو أو بالوزن تفاح أمريكي سكري بكيلوين تفاح من هذا البلد وإن كان الوزن مختلفاً؛ لأنه لا يجري فيهما الربا، إذاً: هنا طُعم.
أيضاً إذا انتفى الطعم مع وجود الكيل أو الوزن مثل: بيع الحديد، فالحديد لا يجري فيه الربا؛ لأنه وإن كان موزوناً لكنه ليس بمطعوم، هذا الذي اختاره المؤلف رحمه الله، وليس هو المشهور من مذهب الحنابلة، فالمشهور من مذهب الحنابلة هو الكيل أو الوزن، وفي رواية أخرى ثالثة هي: الطعم، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
القول الرابع: وهو مذهب مالك قال: قالوا: العلة في البُر والشعير والتمر والزبيب ونحو ذلك هي الاقتيات والادخار، ولا عبرة بوزن ولا كيل ولا نحوه، هذا قول مالك ، وهذا القول نصره ابن القيم رحمه الله، وهي من المسائل التي خالف ابن القيم شيخه أبا العباس ، فـأبو العباس يرى أن العلة في الأصناف الخمسة الطُعم مع الكيل أو الوزن، أما ابن القيم فوافق مالكاً في أن العلة هي الاقتيات، ولكن يُعكر على ما أشار إليه ابن القيم أن الملح ليس قوتاً وهو مذهب مالك ، فالملح ليس قوتاً، هل رأيتم أحداً يأكل الملح فقط؟ لا، هو ليس قوتاً ولكنه يخدم الطعام، فدل ذلك على أن العبرة والله أعلم هي الطعم مع الكيل أو الوزن، ودليل ذلك ما ثبت عند الإمام أحمد من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرما )، والرما هو الربا، وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم.
ولنعلم أن الربا يحصل في قسميه: ربا النسيئة وربا الفضل، فربا النسيئة هو بيع الشيء الربوي بجنسه آجلاً، وربا الفضل هو: بيع الشيء الربوي بجنسه زائداً.
وسوف أذكر صورة بيع الشيء الربوي بجنسه آجلاً وهو ربا النسيئة، وربا النسيئة محرم بإجماع أهل العلم ولم يجوز ربا النسيئة أحد من أهل العلم، والأحاديث والآيات الواردة في الربا يدخل فيها ربا النسيئة بدلالة المطابقة والتضمن، وصورة المسألة: جاءني شخص وقال لي: يا فلان عندك تمر؟ قلت: نعم، قال: بع عليّ تمرك، وإذا أخرجت مزرعتي من تمر هذه السنة فسوف أبيعك بمثله، فهذا لا يجوز؛ لأنه باع تمراً بتمر من جنسه نسيئة، أو قال شخص: يا فلان! بع عليّ البر المطحون وإذا أخرجت مزرعتي براً فسوف أبيعك مثله، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأنه باع ربوياً بجنسه آجلاً.
وكذلك لا يجوز بيع ربوي بجنسه متفاضلاً، عندي مائة ريال قلت لشخص: عندك فكة؟ قال: نعم، قلت: عندك ريالات، قلت: والله أريد الريالات لأولادي لأعطيهم من أجل المدرسة، قلت: أعطني مائة ريال من فئة ريال وسوف أعطيك مائة وعشرة ريالات؛ لأن هذه نحتاجها ولا نجدها في المحلات، فهذا لا يجوز، ونسمي هذا ربا فضل، وربا الفضل يحصل فيه التقابض في المجلس من غير تأجيل.
وعلى هذا نقول: إذا اتحدت علة الربا والجنس الربوي، حرم التفاضل والنسيئة.
صورة المسألة: ريال سعودي بعشرة ريالات سعودية، هل يجوز أن أقول: أعطني عشرة ريالات بريال؟ لا؛ لأن العلة في الريال السعودي والعشرة السعودية واحدة، والجنس واحد، والعملة واحدة، فيحرُم التفاضل ويحرم النسيئة.
لو جاءني جاري -وأنا وإياه لا نفارق المسجد بعد صلاة الظهر، والعصر، والمغرب- وعنده طقم ذهب، وقلت: يا فلان! أرنيه وسوف أذهب به إلى زوجتي، فإن رضيت به فسوف أشتريه، وإن لم ترض به فسوف أرده، قال: لا، صاحب المحل يرفض، قلت: بكم تبيع هذا الطقم؟ قال: أبيعه بثلاثة آلاف، قلت له: أنا سأعطيك أربعة آلاف، قال: إذا كان الأمر كذلك فحسن، فأعطاني الطقم فأريته الزوجة فرضيت به، فلما كان المغرب قلت: يا فلان! هذه أربعة آلاف، سؤال: أولاً: هل جرى هنا ربا؟ ثانياً: هل جرى فيه ربا النسيئة أم ربا الفضل، أم ربا النسيئة والفضل؟
الطقم ما زال عند الزوجة، والزوجة أخذت الطقم ولبسته في المناسبة، فلما كان المغرب أخذت أربعة آلاف في جيبك ووضعتها في جيب صاحبك، فما حكمه؟ وما الدليل على أنه ربا؟
لم يكن هناك قبض للثمن وقبض للمُثمن في مجلس واحد، إذاً هو ربا النسيئة، وأما ربا الفضل فليس فيه لاختلاف الجنس، قد يقول قائل: يا شيخ! أنت تتكلم بكلام عن زمن الواحد منهم لا يملك إلا الألف والألفين وإذا كثُر العشرة والعشرين ألفاً، الآن مصنع ذهب يُقدر بمليار ريال أتريد الإنسان إذا أراد أن يُبرم العقد معه يحمل كيساً فيه مليارات الريالات من أجل إبرام العقد معه، تريد الناس يصنعون هذا؟! هذا الكلام الذي تقوله ذهب زمانه.
نقول: إن هذا كلام يُخشى على قائله، وينبغي أن يتقي الله سبحانه وتعالى فيما يتلفظ به، ( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله عليه سخطه إلى يوم القيامة )، الرواية الأخرى: ( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً )، ألست مؤمناً بأن الدين باقٍ إلى يوم القيامة؟ فإن الله لا يحرم أمراً من الأمور إلا ويفتح باباً من المباح، نقول: الشيك المصرفي يُعد في حكم النقد، ويكون هذا قبضاً حكمياً، فإذا جاء إلى المصنع وأعطاه المصنع الذهب كاملاً فيعطيه المشتري شيكاً مصدقاً، والآن لا يوجد شيك مصدق، في الماضي كان هناك شيك مصدق، أما الآن فهناك شيك مصرفي وليس هناك شيك مصدق، لكن الناس تداولوا هذه اللفظة إلى يومنا هذا فيقولون: شيك مصدق، وهو الشيك العادي الذي يكتب فيه الإنسان: ادفعوا لأمر عبد الله بن ناصر السُلمي مبلغاً وقدره كذا، وهذا حتى يصبح مصدقاً، يأتي صاحب الشيك إلى البنك فيقول للبنك: اختم عليه ووقع على أنك حجزت هذا المبلغ لأمر عبد الله بن ناصر السُلمي، فيوقع، فيأتي هذا المشتري فيعطيني هذا الشيك الذي فيه ختم البنك -الذي يُسمى: مصدق عليه- أن المبلغ ما زال موجوداً، الآن هذه الطريقة لا توجد، بل البنك يُصدر شيكاً مصدقاً ليس هو حتى مثل الشيكات العادية.
قول المؤلف: (ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بجنسه وزناً) كل ما كان يُكال لا يجوز بيعه بالوزن؛ لأن الوزن يختلف، فلو بعت صاعاً من تمر خلاص بصاع تمر مكتومي أو صفري جاز، لكني لو وزنت بالوزن فأخذت الصاع فوضعته في الوزن ثم أخذت صاع الصفري ووضعته في الوزن، لوجدت أن الوزن يختلف بينهما، ولا يتساويا في الوزن لكنهما تساويا في الكيل، فلو أنني حاولت أن أزيد فيما خفض حتى يتساويا في الوزن فلا يجوز؛ لأن كل ما كان يُكال لا يجوز بيعه إلا بالكيل، وكل ما كان يوزن لا يجوز بيعه إلا بالوزن، وعلى هذا فالراجح أن الزيت يجوز بيعه وزناً بوزن أو كيلاً بكيل، والعسل وزن.
أما التمر فلا بأس أن يُباع بالوزن في هذا الزمان؛ لأن العبرة بما تعارف عليه الناس، أما العبرة بما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو الكيل. أوضح لكم الصورة: جاءني شخص وقال: أريد صاعاً من التمر بمائة ريال، قال: والله ما عندي إلا خلاص، وليس عندي إنما عندي وزن، قلت: لا بأس، أعطني كيلوين بمائة ريال، قال: لا والله، نحن نقدر الصاع بكيلو ونصف، قلت: أنا أريد كيلوين، قال: عندك فتوى؟ قلت: عندي فتوى، قال: أنت تتحمل فتواك، فأعطاني كيلوين بالوزن بمائة ريال، فهل الآن زادني، والمفترض أنه كيلو ونصف فزادني نصف كيلو وزناً، مع أن التمر يُكال ولا يوزن، فهذا يجوز؛ لأنه اختلف الجنس والعلة، وهذا القسم الثالث الذي سوف نذكره وهو أنه إذا اختلف الجنس والعلة جاز التفاضل والنسأ، ودليله تجويز النبي صلى الله عليه وسلم بيع السلم، وهذا أمر مجمع عليه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، هذا فيما إذا كانت علته واحدة أو متحدة، أمثلة على ذلك: الآن علة الذهب تختلف عن علة البُر، أليس كذلك؟ فلا بأس أن أبيع البُر بالذهب متفاضلاً ونسيئة؛ لأن علة البُر تختلف عن علة الذهب.
لكن الآن في مسألة التمر لا يجوز بيع تمر سكري وزناً كيلو بتمر خلاص كيلو؛ لأن التساوي هنا لا بد أن يكون بالكيل لا بالوزن.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد ولم يجز النسأ فيه)، وهذا مر معنا، وهو إذا اتحدت العلة واختلف الجنس.
قول المؤلف رحمه الله: (إلا في الثمن بالمثمن)، يعني بذلك أنه إذا اختلفت العلة والجنس جاز التفاضل والنسأ، والثمن هو الذهب والفضة وما عُلل بعلتهما، والمثمن هو البُر والتمر والشعير والزبيب ونحو ذلك، وقوله: (إلا الثمن بالمثمن) الثمن: هو الذهب والفضة، والمثمن: هو البُر والشعير التمر والتين والأرز، فيجوز بيع الثمن بالمثمن متفاضلاً، ويجوز بيع الثمن بالمثمن نسيئة؛ لأن العلة والجنس مختلفان.
الآن المؤلف أراد أن يُبين ما هو الجنس، فالجنس كل شيئين جمعهما اسم خاص من أصل الخلقة فإنهما يعدان جنساً واحداً، فلو جئت بالتمر مثلاً، التمر أجناس وأنواع تمر نبتة علي، وتمر روثانة، وتمر سكري، وتمر خلاص، وتمر صفري، وتمر روتانه، وتمر نبوت سيف أنواع، وكلها يجمعها اسم واحد من أصل الخلقة وهو أنه تمر، فتكون هذه الأنواع جنساً واحداً، فلا بأس أن أبيعك كل هذه الأنواع متساوية صاعاً بصاع، وإن اختلفا في الصفة والجودة، قال الرجل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أين لك هذا؟ أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري التمر الصاع بالصاعين، قال: أوه أربيت عين الربا، عين الربا )، فكان عنده تمر جنيب والجنيب هو الرديء، فيبيع صاعين من التمر الجنيب بصاع واحد من التمر الجيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوه أربيت عين الربا، عين الربا ).
قول المؤلف رحمه الله: (إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس)، الآن عندي دقيق قمح وعندي دقيق شعير، وعندي دقيق أرز، هل هذه جنس واحد أم لا؟ نقول: لا، ليست جنساً واحداً، وإن كان كل منها دقيق، لكن هذا دقيق قمح، وهذا دقيق شعير، وهذا دقيق أرز.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان) فإنها أجناس وليست جنساً واحداً، فتقول: هذا دهن من البعير، وهذا دهن من البقر، وهذا دهن من الغنم، فهذه الأدهان تعتبر جنساً واحداً، فالدهن من بهيمة الأنعام كله جنس واحد، لكنه فروع، لكن الدهن الذي يخرج من السمسم، والدهن الذي يخرج من بهيمة الأنعام والدهن الذي يخرج من دوار الشمس والدهن الذي يخرج من الذرة فكل هذه الدهون تعتبر جنساً واحداً.
فقول المؤلف رحمه الله: (فإن فروع الأجناس أجناس)، كما مثلنا بالتمر قلنا: جنس، لكن تمر السكري وتمر الخلاص، وتمر الروثانة، فهذه مسمياتها تعتبر أجناساً؛ لأن هذا الجنس الذي هو تمر السكري تحته فروع، وهذا الاخلاص تحته فروع خلاص ممتاز، وخلاص ملكي، وخلاص عادي، فهي فروع الأجناس لمن تحتها.
التمر الرُطب يختلف حجماً بينه وبين التمر اليابس، فلو أتيت بصاع من رُطب السكري بصاع من تمر السكري لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما جاءه الصحابة: قالوا: ( يا رسول الله هل نبيع الرُطب بالتمر؟ قال: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً )، فلا يجوز بيع الرُطب بالتمر، جاءني شخص وقال: عندي رُطب روثان هل عندك سكري ضميد؟ السكري الضميد هو المكنوز، أعطني صاعاً من السكري الضميد وأعطيك صاعاً من روثانة المدينة لا يجوز؛ لأن الروثانة رُطب والسكري تمر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أينقص الرُطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً )، ولم يجوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لأهل العرايا، كما سوف يأتي بيانه.
بالطبع اللبن يوزن ولا يُكال، الصحابة عندهم صاع من خشب لو كيل لسقط، لكن الزيت يختلف عن اللبن، حتى اللبن يختلف بعضه عن بعض فهذه بقرة تحلبها، وهذه بقرة أخرى تحلبها، لكن تجد أن الوزن مختلف بينهم ولا يمكن ضبطه إلا بالوزن، والعبرة بالمماثلة والمماثلة باللبن في الوزن أدق وأولى من المماثلة في الكيل، الآن لو صببت لبناً في بركة فإنه يختلط بالماء ولو أخذت دهن زيت وصببته في بركة فإنه يطفو.
إذاً: الدهن والزيت يختلفان عن اللبن، وعلى هذا فاللبن الخالص لا يجوز بيعه بلبن مشوب، فلو أن عندك لبن نجدية أو لبن المراعي وقلت: أعطني لبن المراعي كيلو، وأعطيك لبن طازج من عندنا كيلو، هل يجوز؟ لا؛ لأن هذا مبني على أن اللبن الذي يُباع فيه البودرة فهو مشوب؛ وإذا كان مشوباً فلا يجوز.
يعني: ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه، والنيء يعني الذي لم يُطبخ، والمطبوخ هو الذي أُتي به على النار، فالسمسم المحمص غير السمسم غير المحمص؛ لأن النار تجمع أجزاءه وربما تتطاير فلا يجوز، فالنار تُذهب برطوبة هذا الشيء فلا بد من المماثلة في النيء بالنيء لا في النيء بالمطبوخ، وقل مثل ذلك في اللحم، هل يجري فيه الربا؟ اللحم مطعوم مع الكيل أو الوزن، أما الحيوان فإنه يجوز بيع حيوان بحيوانين.
المزابنة مثلها المحاقلة والمخابرة، والمحاقلة: هي بيع الحب في سُنبله بجنسه، فهذا نقول: لا يُعلم قدره، والقاعدة في هذا: أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فنحن نجهل مقدار الحب الذي في السُنبل، ولا نجهل مقدار الحب الذي قد نُظف وخرج، فلو جاءنا شخص فقال: أنا أخرص مقدار الحب في هذه السنابل بعشرة آصع، فهل يجوز بيعه بعشرة آصع؟ نقول: لا؛ لأن الخرص تخمين والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، ولا يجوز إلا لأهل العرايا، وأهل العرايا هم الفقراء الذين لا يجدون مالاً يشترون به رُطباً هذا العام، ويحتاجون إلى أكل الرُطب.
الشرط الأول: ألا يُباع بأكثر من خمسة أوسق، أو أن يُباع فيما دون خمسة أوسق؛ لأن العلماء اختلفوا في رواية: ( رخص في العرايا فيما دون خمسة أوسق، ورخص في العرايا في خمسة أوسق )، فقالوا: شك الراوي، واليقين هو (فيما دون خمسة أوسق).
قد يقول قائل: ما الفرق بين خمسة أوسق وستة أوسق؟ نقول: لأن القاعدة: ما رُخص للحاجة لا يُتعدى قدره، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر الحاجة في أقل من خمسة أوسق.
الشرط الثاني: أن يكون مشتريها محتاجاً إلى أكل الرُطب، يريد أن يتفكه هذا العام، وعنده تمر وليس عنده ثمن يشتري به رُطباً، هذا الشرط ذكره الحنابلة استدلالاً بما رواه محمود بن لبيد عن زيد بن ثابت قال: ( ما عراياكم هذه؟ قال: فسمى
قد يقول قائل: إذا كان عندهم تمر وليس عندهم ثمن، لكن يستطيعون أن يبيعوا التمر ويحصلوا على الثمن ويشترون رطباً، نقول: نعم، لكن في شرائهم للتمر ربما يتضررون؛ لأنه ربما لا يشتري أحد إلا برخص؛ لأن التمر الجديد جاء، وربما وقت الصيف لا يشترونه إلا بأقل من سعر السوق فيتضررون، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب العرايا، والله أعلم.
الشرط الثالث: ألا يكون لهم نقد؛ لقول زيد بن ثابت : ( ولا نقد بأيديهم ).
الشرط الرابع: أن يشتريها بخرصها.
الشرط الخامس: أن يتقابضا في مجلس العقد كي لا يجري فيه الربا. هذه خمسة شروط.
المعنى الأول: أن ينظر إلى هذا الرُطب، كم سيكون لو يبس وصار تمراً؟ فيقول: لو صار تمراً فإنه يساوي مثلاً ستة آصع، لكن لو يبُس صارت خمسة آصع، فيأخذ منه ستة آصع رطباً ويعطيه خمسة آصع تمراً.
المعنى الثاني: قالوا: أن يبيعها بمثل ما فيها من الرُطب، صورة المسألة: أن يكون ما لديه من الرُطب ثلاثة آصع، فيطلب من الآخر ثلاثة آصع من التمر فيتبادلان، وبهذا يظهر الفرق بين الأمرين.
والقول الأول أظهر؛ لقوله: ( بخرصها تمراً يأكلها أهلها رُطباً )، وهذا الراجح والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر