الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم إنا نسألك إيماناً صادقا، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، واغفر لوالدينا وذرياتنا يا رب العالمين، اللهم أدخلنا مُدخل صدق، وأخرجنا مُخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، وبعد:
وهذا يسمى خيار العيب، وهو إعطاء أحد المتعاقدين الخيار بين إمضاء العقد أو رده إذا وجد في المبيع عيباً.
وخيار العيب مُجمع عليه. والعقد صحيح، ونقل بعض المالكية الإجماع على صحة العقد كما في حديث المصراة، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لمن اشترى شاة مصراة وهي معيبة،
والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح.
الشرط الأول: عدم معرفة المشتري بالعيب عند إبرام العقد.
الشرط الثاني: أن يكون العيب ثابتاً قبل إبرام العقد فلو حدث عيب بعد إبرام العقد فإنه لا يثبت الخيار للمشتري.
الشرط الثالث: ألا يبيعه بشرط البراءة من العيوب، فإن باع البائع السلعة بشرط البراءة من العيب أو من كل عيب فإنه لا يحق للمشتري أن يرجع بالعيب إذا وجده، وهذه المسألة تُسمى: مسألة البراءة من العيوب.
وقد اختلف العلماء على خمسة أقوال في تفصيلاتها وأرجحها هو أن البيع بشرط البراءة من العيوب يصح إذا لم يعلم البائع بالعيب، فإن علم وكتمه فإن للمشتري الخيار في رد المبيع، وكيف يعلم المشتري أن البائع يعلم؟ يكون ذلك بطلب اليمين من البائع، فنقول له: احلف بالله العظيم أنك بعته إياه ولم تعلم أن بالمبيع عيباً، فإن حلف فليس للمشتري الخيار، وإن نكل -والنكول: هو الامتناع عن الحلف- فإنه يثبت الخيار للمشتري، كما ثبت عند البيهقي أن ابن عمر قال لـجبير بن مطعم : أبيعك هذه العبيد بشرط البراءة من العيوب، فوجد جبير بأحد العبيد عيباً فاشتكاه وتخاصما عند عثمان رضي الله عنه، فقال جبير: إن العيب كان موجوداً قبل أن أشتريه، فقال عثمان : يا ابن عمر أتحلف أنك بعته إياه ولم تعلم به عيباً، فأبى أن يحلف ابن عمر ، فقضى عليه بالنكول.
إذا ثبت هذا فإن المشتري مُخير بين إمساك المبيع وبين رده، ودليل ذلك حديث المصراة: ( لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاع شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إما أن يُمسكها وإما أن يردها ومعها صاعاً من تمر )، إذاً: له أن يردها ولا إشكال.
فإذا رغب المشتري في إمساك المبيع فهل له أن يُطالب البائع بالأرش؟
ذهب الحنابلة والشافعية إلى أن للمشتري أن يُطالب البائع بأرش العيب وله أن يُمسكه، لأن الأرش هو الجزء الفائت في المبيع، والعقد تام، فله أن يُطالب بأرش النقص الحاصل؛ لأنه إنما أبرم العقد على أن السلعة سليمة، فإذا نقص شيء منها فكأنه أنقص البائع ما أُبرم العقد عليه، مثل ما لو باعه خمسة أصناف فأنقص البائع صنفاً فعلى المشتري أن يُطالب بإرجاع قيمة الصنف الخامس، هذا هو مذهب الحنابلة والشافعية، وقالوا: إن كل جزء من المبيع له وقع في الثمن فإذا نقص فإنه له أن يُطالبه؛ لأن العقد إنما أُبرم على شيء سليم.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة و مالك واختيار أبي العباس بن تيمية والشيخ ابن سعدي وهو الراجح: أن الأرش معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا الطرفين، وإلزام البائع بالأرش ربما يكون من غير رضا، ومن شروط العقد رضا المتعاقدين، وهذا هو الراجح.
قد يقول قائل: يا شيخ! أرأيت هذا البائع الذي باع السلعة معيبة وهو عالم بذلك أليس من الحكمة أن نُلزمه بالأرش عقوبة له على خيانته وعدم وفائه بالعقود؟
فأقول: إن الضرر لا يُزال بضرر مثله، والشارع قد جعل على هذا البائع عقوبة بأنه يحق للمشتري الفسخ، ثم إن الضرر الحاصل على المشتري يُمكن إزالته بإعطائه الفسخ، أما إلزام البائع بالأرش فهذا ضرر جديد والضرر لا يُعالج بضرر مثله، وهذا هو الراجح.
قول المؤلف رحمه الله: (فله رده، أو أخذ أرش العيب)، قلنا: إن الراجح أنه ليس له ذلك.
وأحياناً قد لا يعلم المشتري بأن هذه مصراة إلا بعد ثلاثة أيام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فله الخيار ثلاثة أيام بعد أن يحلبها )، يعني: بعد أن يعلم، لكن أحياناً ما يعلم إلا بعد يومين ثم حلبها ثلاثة أيام فصارت خمسة أيام، ثم أتى بتيس ونزا على هذه الشاة فحملت، فإذا أراد أن يُرجع الشاة ردها وصاعاً من تمر؛ ضماناً على اللبن الموجود في الضرع حين إبرام العقد، وهي قضاء حكومة، وأما اللبن الذي كان المشتري يشربه وقت بقائها عنده فالخراج بالضمان؛ لأنه يؤكلها ولو هلكت فهي من ضمانه فالخراج بالضمان.
فإذا حملت الشاة عند المشتري فهل له أن يقول للبائع: أعطني مائة؛ لأن الشاة صارت حاملاً وما حملت إلا عندي؟
نقول: لا يخلو هذا النماء من أن يكون نماءً متصلاً أو نماءً منفصلاً، والمتصل: هو الذي يكون في المبيع من غير إمكانية فصله، فهنا يرد المشتري السلعة بنمائها، وهذا إجماع؛ لأنه لا يمكن أن يرد الأصل إلا برد زيادته، فلم يجز الرد دونها.
القسم الثاني: إذا كان النماء منفصلاً، مثاله: لو اشترى شاة حاملاً، ثم ولدت عنده فأراد أن يُرجعها فذهب إلى البائع وقال: خدعتني، وجدتها مصراة فأريد أن أُرجعها وأبقي هذه السخلة، فقال البائع: لا، إما أن تُرجعهما معاً وإما ألا تُرجعها.
فهذا النماء المنفصل اختلف الفقهاء فيه على قولين، والراجح أن المنفصل حق للمشتري وليس للبائع؛ لأن الخراج بالضمان، فلو أن المبيع هلك فإنه من ضمان المشتري، وكذلك يقال فيه هنا، ولهذا قال المؤلف: (وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له)، يعني للمشتري.
وبالنسبة للمثال السابق نقول: أصلاً المشتري كاذب؛ لأنها إذا كانت حاملاً لم تكن مصراة، فدعواه بأن البائع غشه ليست صحيحة، فهو إذاً طلب إعادة السلعة بعد التفرق، وهو لا يصح، وطلب البائع السخلات مع علمه أن المال المنفصل حق للمشتري، فهي معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا الطرفين.
إذاً طلب البائع من المشتري أن يأخذ السخلات هو معاوضة جديدة لا علاقة له بالنماء المنفصل أو غيره.
هذا هو الفرق، ولهذا إذا أتتك مسألة فاتئد فيها وتأمل.
أو يكون عنده عبد أعتقه في سبيل الله فله أن يُطالبه بالأرش؛ لأنه اشتراه بأغلى من سعر المثل فكأنه غُبن فيه، أو تعذر رده، ويتعذر الرد بأن يُهديه لغيره فيعلم به عيباً بعد ذلك، أو يبيعه على الغير فيعلم به عيباً بعد ذلك، فحينئذ له أن يأخذ الأرش، وهذه المسألة بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم.
وفي الاصطلاح: عدم حلب البهيمة، أو وضع شيء على ثدي البهيمة كي لا تحلب حتى إذا انتفخ ضرعها باعها.
وهذا التدليس يسميه العلماء تدليس بالفعل.
والمصراة يثبت للمشتري فيها الخيار بين الإمساك وبين الرد، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً للحنفية الذين ردوا هذا الحديث، ولهم فيه كلام طويل، والراجح سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وآله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما نسي الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوار
والتدليس ينقسم إلى قسمين:
والتدليس بالفعل يثبت فيه الخيار عند عامة أهل العلم وُحكي الإجماع.
ذهب الشافعية والحنفية في المشهور عندهم وقول عند المالكية: إلى أنه لا يثبت فيه الخيار.
وذهب الحنابلة وهو اختيار أبي العباس بن تيمية : أنه يثبت فيه الخيار. ومنه الدعايات الإعلانية التي يغرون فيها المشتري بأنواع السحر اللفظي حتى إذا اشترى السلعة وقدم البيت تأسف وتحسف وتحسر على شراء هذه السلعة، والراجح والله أعلم أنه يثبت له فيه الخيار كما في النجش.
قول المؤلف رحمه الله: (فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها)؛ لأن الصاع إنما هو لأجل اللبن الذي حُلب، فإذا ردها قبل الحلب فلا يرد معها شيئاً، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فله الخيار بعد أن يحلبها ).
فيجمع الماء بحيث إذا جاء المشتري ليشتريها فك الماء بحيث يذهب سريعاً فيظن الظان أن تجميعه من الطاحون والحقيقة أن الطاحون ضعيف جداً جداً لا يستطيع أن يحمل الماء ولو حمل مثل هذا لتوقف، فيظن المشتري أن هذا الماء إنما هو من هذا الرحى، ولهذا قال: (ضم الماء)، يعني: جمعه.
وهو ثابت؛ لأن فيه كذب وتغرير، وغش، وخداع، وتلبيس، وتدليس، مثل أن يقول: هذه الصناعة يابانية، وإذا هي تجميع تايوان وليست صناعة يابانية. أو يقول: صناعة ألمانية وإذا هي صناعة صينية، فهذا يثبت فيه الخيار، لكن أحياناً قد لا يستطيع البائع أو المشتري أن يرده مثل: أن يطلب من صاحب دهان أن يدهن جداره بدهان من الأنواع الجيدة مثل: جوجن، أو الجزيرة، أو الدهانات العربية. فيأتي بدهان أقل، فيدهن به الجدار، ويصعب رده، فله أن يطالبه بإزالته، فإن لم يستطع أو ضر السلعة فله أن يأخذ الأرش، والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (لو وصف المبيع بصفة تزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد، أو كتاب أو أن الدابة هملاجة)، ومعنى هملاجة: أي سريعة، (والفهد صيود، أو مُعلم، أو أن الطائر مصوت ونحوه)، يعني: مثل البلبل، وهذا يدل على أنه يجوز شراء البلبل لصوته، وكذلك شراء الببغاء، وكذلك يجوز شراء الهرة وشراء المناظر الجمالية شريطة ألا يكون فيها إسراف.
أو أن يبيعه السلعة برأس مالها وهذا يسميه العلماء: التولية. أو يبيعها برأس مالها وخسارة عشرة ريالات أو 10% وهذا يسميه العلماء: الوضيعة، وهذه البيوع يسميها العلماء: بيوع الأمانات، المرابحة، والتولية، والوضيعة، فإن قال البائع: أبيعك برأس مالي وربح عشرة ريالات ورأس مالي مائة ريال فتصير مائة وعشرة ريالات فإذا تبين أن رأس ماله ثمانون ريالاً (رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان مرابحة)، وهذا يدل على أنه ليس له الحق إلا بإرجاع الزيادة فقط وليس له الرجوع في البيع.
والقول الآخر في المسألة: أن له الخيار بين أن يأخذ الزيادة، وبين أن يُبطل العقد؛ لأنه لا يرضى بالخيانة، فلا يأمن عليه أن يخونه في جودة السلعة وغيرها، وهذا القول له حظ من النظر.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن بان أنه مؤجل ولم يُخبره بتأجيله، فله الخيار بين رده وإمساكه)، يعني: أن يبيع البائع المبيع وهو مؤجل عليه ولم يعلم المشتري بالتأجيل، فيقول البائع أبيعك برأس ماله مائة وربح عشرة، فيتبين أن رأس ماله -المائة هذه- ليست حالة إنما هي مؤجلة، ومن المعلوم أن المؤجل أغلى في الثمن من الحال، فيبيعه على أن رأس ماله مائة وزيادة عشرة ولم يعلم المشتري أن البائع إنما اشتراه مؤجلاً.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن بان أنه مؤجل)، يعني: بان أن رأس المال -الذي هو مائة- مؤجلة وليست حالة (ولم يُخبره بتأجيله)، يعني: لم يُخبر المشتري بأن رأس المال كان بالتأجيل، (فله الخيار، بين رده وإمساكه).
يعني: رد السلعة أو إمساك الثمن حالاً، فله أن يُطالبه بالزيادة التي لأجل التأجيل، هذا مراد المؤلف رحمه الله، لأن البائع لم يرض بذمته، يعني: بأن يبيعه مؤجلاً وقد خانه بذلك، فكأنه قال: حالاً، فكذب فيه، وقد قلنا: بأنه لو قال: أبيعك برأس ماله مائة وزيادة عشرة فتبين أنه كذب فيه، فله أن يرده. ولما كذب وغر صار له أمران: الكذب لأجل الرد، والتغرير لأجل الخيار.
مثاله: أن أبيع عليك السيارة بمائة ألف فتأخذ السيارة فنتفرق، ولم تعطني الثمن، فقلت لي: اشتريتها بثمانين، وقلت أنا: إنما بعتك بمائة، فاختلف البيعان هنا في قدر الثمن. فما الحكم؟
الحكم أن يقول هو: والله إني قد اشتريتها بثمانين، وأقول: والله إني بعتها بمائة، فنتحالف، فإن تحالف البائع والمشتري صار كل واحد منهما عنده بينة، وهي يمينة فيُفسخ العقد حينئذ، فلو حلف البائع أنه إنما باعها بمائة فإن رضي المشتري بذلك فله أن يأخذه بما حلف عليه صاحبه، وهذا إذا كانت السلعة موجودة قائمة، أما إذا كانت السلعة تالفة، بأن اشترى مثلاً جرة عسل سدر حضرمي فلما قبضه قال: بعتك بثلاثمائة، فقال المشتري: إنما بعتني بمائة وخمسين، فيحلفان، فإن كان العسل قائماً فيُفسخ العقد، وإن كان تالفاً وقد حلف كل واحد منهما رجع عليه بقيمة المثل، وليس بالقيمة التي قال بها البائع، فننظر إلى قيمة المثل هذه لأن البائع قد يبيعه بمائة وهو يساوي سبعين أو ثمانين وهلم جرا.
ونكون هنا قد انتهينا من باب الخيار.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه، والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم والتقوى، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: إذا كان المُنتج معلوماً مواصفاته مثل الكامري 2008 يُعلم مواصفاتها قبل طرحها، وهذه المواصفات دقيقة فلا حرج أن يشتريها الإنسان، ولكن العلماء يقولون: هل هذا الشراء من باب عقد السلم فيُشترط فيه تسليم رأس المال في مجلس العقد، أم هو من عقد الاستصناع فلا يلزم؟ وأرى والله أعلم أنه لا يُلزم بتسليم رأس المال في مجلس العقد، إلا أنه ينبغي أن تكون الصورة واضحة وضوحاً يكفي في السلم، والله أعلم، لكن هذا المشتري من المصنع أو من الوكالة لا يجوز له أن يبيعه على الناس؛ لأنه لا يجوز له أن يربح ما لم يدخل في ضمانه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر