إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
فسوف نشرح في هذه الجلسات كتاب الحدود.
وكتاب الحدود هو من الكتب التي يقل فيها الخلاف عند الفقهاء؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد حدها وقدرها، والعقوبات منها ما قُدرت في الشرع ومنها ما لم تُقدر، فالتي قُدرت في الشرع هي الحدود وهي ستة والسابع مما اختلف فيه الفقهاء، وهي: أي الحدود: حد السرقة، وحد الزنا، وحد الحرابة، وحد القذف، وحد السُكر، وحد الردة، والسابع: حد البُغاة، والمالكية ورواية عند الحنابلة يزيدون فيها: حد الغيلة، وإن كانت الغيلة داخلة في الحرابة عند الجمهور.
وعلى هذا فالخلاف إن وجد فهو في بعض التفصيلات التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله، والإمام ابن قدامة رحمه الله في كتابه هذا حاول أن يختار الراجح عندهم من مجموع الروايات التي رويت عن الإمام أحمد رحمه الله، واختيارات ابن قدامة أحياناً تكون مخالفة لما هو في كتب المتأخرين مثل كتاب: زاد المستقنع؛ لأن البهوتي في الروض أو الحجاوي في الزاد قد يختار ما هو مخالف لما اختاره ابن قدامة في كتابه المقنع؛ لأنه قد يذكر في المسألة روايتين.
وابن قدامة رحمه الله ألف هذا الكتاب كما تعلمون انطلاقة للفقيه في مشوار حياته العلمية.
قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الحدود: ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم، ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها )، وليس له قطعه في السرقة، ولا قتله في الردة، ولا جلد مكاتبه ولا أمته المزوجة، وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر، ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط].
والحدود في الاصطلاح لم يُعرفها المؤلف، وهذا فائدة أن الأئمة المتقدمين لا يهتمون بتعريفات المصطلحات، وإنما تكون تعريفاتهم كما يقول علماء المنطق والأصول: تعريفات بالرسم، التي نسميها أحياناً بالمثال، فأما تعريف على طريقة المناطقة وهو أن يكون جامعاً مانعاً فهذا قل أن تجده في كتب المتقدمين من العلماء رحمهم الله، خاصة إذا كان الباب معروفاً مشهوراً فهم ليسوا بحاجة إلى ذكر تعريفه، ولهذا أراد المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب أن يُبين للطالب عدم اهتمامه كثيراً بالتعريفات بأكثر مما هو من مُجمل مسائله وبعض تفصيلاته.
لكن بسبب الطريقة المعتادة نقول: إن الحدود في الاصطلاح هي: عقوبة مقدرة شرعاً لحق الله تعالى في معصية لتمنع الوقوع في مثلها، وهذا التعريف فيه فائدة كما قال ابن تيمية رحمه الله قال: والحدود صادرة عن رحمة الخلق والإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يُعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض. انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا الكلام فيه فائدة عظيمة وهي: أن الله سبحانه وتعالى حينما قدر هذه الحدود وقدر عقوباتها أراد بها تأديب الخلق لا التشفي والانتقام، معاذ ربي فهو أرحم بالخلق، وعلى هذا فيجب على نواب الخالق -كما يقول صاحب الروض- أن يرحموا الخلق في هذا الأمر، ولهذا تجدون في كتب الاعتقاد أن أهل السنة والجماعة هم أرحم الخلق بالخلق، ولهذا إذا أراد الإمام أو القاضي أن يُصدر العقوبة على صاحب المعصية فلا بد أن يستشعر النية في ذلك، هذا أولاً، ثانياً: أن يستشعر أن هذا ليس مقصوداً به الانتقام والتشفي إنما المقصود به الإحسان إليه والرحمة به، ولهذا تجدون بعض الإخوة أحياناً في بعض المنكرات إذا أراد أن يضرب صاحب المنكر يبالغ في ذلك كأنه يريد أن يتشفى لنفسه وهذا خطأ بل لا بد من استحضار النية الصالحة في مثل هذه العقوبات، سواء كانت مقدرة أم غير مقدرة كالتعزيرات التي يُجريها القاضي أو الإمام أو نائبهما مثل بعض رجال الحسبة وغير ذلك.
أما الكتاب فكل آية فيها حد السرقة أو الزنا أو ما ذكرناه فإنها تدل على إثبات الحدود.
وأما السنة فنقول: كل حديث ثبت فيه عقوبة الزنا أو القذف أو غير ذلك فإنه دليل على ثبوت الحدود.
وأما الإجماع فقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على ثبوت الحدود.
فقول المؤلف رحمه الله: (مكلف عالم بالتحريم)، ذكر شرطين فقط.
والذمي هو الذي يقال فيه: ملتزم بأحكام المسلمين، فلو أن ذمياً عاش في بلاد المسلمين وزنى فإنه يجب أن يُقام عليه الحد، ودليل ذلك ما ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود وأصله عند البخاري و مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على يهوديين )، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال ابن عمر : ( والله لقد رأيته، يعني: اليهودي، وهو يقيها الحجارة بجسده )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد الزنا على الذميين.
هنا المؤلف رحمه الله استثنى السيد، وهذا السيد جوز له في عقوبة واحدة؛ وهي عقوبة الجلد، وعقوبة الجلد تشمل حد الزنا لغير المحصن، والسُكر، فهذا الحد هو الذي يجوز للسيد إقامته على عبده، وجوازه للسيد هنا إنما هو في رقيقه القن فقط، والقن: هو العبد الخالص في عبوديته لسيده فليس هو مكاتباً، وليس هو المبعض في حريته، فإن هذين لا يجوز للسيد أن يقيم حد الجلد عليهما، وكذلك الأمة المزوجة فإن السيد لا يقيم الحد عليها؛ لأن لهذه المرأة حقاً مشتركاً مع زوجها، والمؤلف استثنى السيد لإقامة الحد لورود النص فيه، وهذا القول هو قول جمهور الفقهاء خلافاً لـأبي حنيفة ، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها )، وقال علي بن أبي طالب كما في الصحيحين: ( أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يُحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد زنت فأمرني أن أقيم عليها الحد )، قال العلماء كـابن قدامة وغيرهم: وأما غير الجلد فلا يسوغ له أن يقيمه؛ لأن غير الجلد يتطلب شروطاً ولا يؤمن معه الحيف وهو: الظلم والتجاوز، فأحياناً إذا كان غاضباً على عبده الذي سرق ربما يزيد في القطع. هذا أولاً.
ثانياً: أن إزهاق الروح ليست للسيد؛ فإن فيها حقاً لله سبحانه وتعالى، وما كان فيه حق لله فإنما يقيمه الإمام أو نائبه، والعلماء رحمهم الله حينما قالوا: يجوز للسيد، قالوا: علم السيد بزنا عبده لا يخرج عن ثلاثة أشياء: إما بإقرار العبد، وإما ببينة شهود يشهدون أن العبد زنى، وإما بعلم السيد وبرؤيته فهذه ثلاثة أشياء، قالوا: فإن كان باعترافه فللسيد أن يقيم الحد عليه، وإن كان بشهود فلا يسوغ للسيد -هكذا يقول المذهب في رواية- أن يقيم عليه الحد؛ لأن الشهادة تتطلب معرفة الشهود، وهل هم عدول أم لا؟ وما هو الذي يشهد له؟ وما هو الذي يشهد عليه؟ وهؤلاء الشهود يلزمهم أن يشهدوا في مجلس واحد وفي مكان واحد وفي وقت واحد، وفي الغالب أن السيد يجهل هذه الشروط، فإنما مناطها الإمام أو نائبه، وقال بعضهم: إن كان السيد يعلم ثبوت ذلك فإن له أن يقيم الحد، وهذا هو الأقرب والله أعلم، وهو أن السيد إذا كان يحسن استيفاء الشروط فله إقامة الحد على عبده، والدليل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رواية الدارقطني والصواب وقفه على علي قال: ( أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يُحصن )، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها)، وقوله: (إذا زنت) إذا ثبت زناها، وثبوت زناها لا يكون إلا بالثلاثة الآنفة الذكر، وهذا يدل على أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال، وهذه مهمة، وأحياناً تجد بعض الأئمة يُقيد قيوداً مخالفة لعموم النص، فهذا التخصيص يُنظر فيه. إن ثبت بدليل خارجي أو ثبت بما هو موافق لقواعد الشرع قبلناه، وإلا فإن الأصل هو أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال، وهذه القاعدة ذكرها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة وسار الناس عليها بعد ذلك.
لكن يجوز للسيد إذا رآه واقعاً في حد أن يقيم عليه الحد، والدليل على هذا أن فاطمة رضي الله عنها أقامت الحد على جارية لها، و ابن مسعود رضي الله عنه أقام الحد حينما قال له رجل: ( اقرأ عليّ سورة فقرأ
قول المؤلف رحمه الله: (ولا جلد مكاتبه)؛ لأن المكاتب فيه شائبة الحرية بحيث أنه كاتب سيده، ولا يجوز لسيده أن يُبطل عقد المكاتبة.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا أمته المزوجة)، أي: وليس له أن يقيم الحد على أمته المزوجة؛ لأن فيها حقاً لزوجها، وقد جاء من قول ابن عمر أنه قال: (إذا كانت الأمة ذات زوج فزنت دُفعت إلى السلطان، فإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصنة)، وهذا الحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
دليل ذلك قوله تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، والآن ثبت لدينا أن العبد والأمة عقوبتهما نصف ما على الحر من العذاب لكن كل من العبد والأمة تقطع يديهما في السرقة، وفي القود يقتلا، لكن الرجم لا يُرجم العبد؛ لأن الرجم لا يُنصف، وقال بعضهم: يُرجم العبد، مثله مثل القتل، والأدلة في هذا آثار لم يتسن لي ترجيح أي القولين، والعلم عند الله، لكن الجمهور يقولون: إن العبد لا يُرجم؛ لأن الله يقول: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، والرجم لا يُنصف، ولكن نقول: القطع في السرقة لا يُنصف ومع ذلك تُقطع يده، لكن القتل ربما يختلف؛ لأن القتل قصاص حق لآدمي، لكن نقول: الرجم، والعلم عند الله.
معنى هذا: أن الإنسان لو أقر عند الإمام بحد فأراد أن يقيمه عليه ثم رجع فإنه يقبل رجوعه، ولهذا يقول العلماء: إن من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاء على إقراره إلى تمام إقامة الحد، فلو أُقيم عليه بعض الحد ثم هرب أو رجع فلا يُتبع؛ لما جاء في بعض الروايات عند مسلم : ( أن
قال ابن قدامة : إنه إذا أقيم عليه الحد ثم هرب فإنه لا يُتبع، وأرى والله أعلم أن هذا على سبيل الندب والأولوية لا على سبيل الوجوب لأمور: أن هذا الرجل استوفى حد الإقرار، فـماعز مثلاً أقر أربع مرات، ثم أُقيم عليه الحد، فلو كان قبول رجوعه واجباً بعد ذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (هلّا تركتموه)، فكلمة (هلّا) المقصود بها الحض والحث والترغيب، وهذه الصيغة لا يُراد منها الوجوب في ترك من رجع بعد إقراره للحد، فهذا يدل على أن للإمام أن يُقيم عليه الحد ويُنفذ، وله أن يقبل رجوعه، وتأملوا هذين المعنيين. وسوف نستفيد منه في أنه هل يلزم في إقراره أن يُقر أربع مرات أم يكفي مرة واحدة؟
الحنابلة والحنفية قالوا: لابد من إقراره أربع مرات، واستدلوا بقصة ماعز.
و مالك و الشافعي قالوا: يكفي مرة واحدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (واغد يا
والدليل: حديث ماعز ، ( هلّا تركتموه )، فهذا دليل على أن ما كان إثبات الحق بالإقرار فإن الإمام له مندوحة في أن يتغاضى عن إقراره، والدليل على ذلك قصة الغامدية التي استقبلت الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فأعرض عنها، فجاءته من الوجه الآخر فقالت: يا رسول الله! ما لك تردني لعلك تردني كما رددت
أما إذا كان إثبات الحد بالشهود فإذا أُقيم عند الإمام فلا يسوغ بعده الرجوع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـأسامة : ( أتشفع في حد من حدود الله )، وقوله صلى الله عليه وسلم لـصفوان حينما كان نائماً في المسجد على بردته فجاء رجل فأخذها وهو نائم، فأمسك به وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد، فقال صفوان : ( يا رسول الله! أتقطعه في أربعة دنانير، هو عليه صدقة، قال: هلّا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، وعلى هذا فقول المؤلف: (سقط الحد) إنما هو على سبيل الأفضلية، ودليل ذلك ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (هلّا تركتموه).
نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر