إسلام ويب

عمدة الفقه - كتاب الحدود [7]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله هذا الدين تاماً، وشرع أحكاماً وحدوداً تنتظم بها مصالح العباد، وتستقيم بها حياة الفرد والمجتمع، ومن ذلك: حد المحاربين وقطاع الطريق فينفوا من الأرض، أو يقتلوا، أو يقتلوا ويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وذلك على حسب جرمهم وخطيئتهم، إلا من تاب قبل القدرة عليه، غير أنه لا يعفى من حقوق الآدميين.

    1.   

    حد الحرابة وقطع الطريق

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك إن نضل أو نُضل، أو نزل أو نُزل، أو أن نظلم أو أن نُظلم، أو أن نجهل أو يُجهل علينا، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا كريم، وبعد:

    فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب حد المحاربين.

    وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب حتى يشتهر ودُفع إلى أهله، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع السارق به، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالاً نفي من الأرض، ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى، وأُخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها ].

    ضابط المحاربين وقطاع الطريق

    قول المؤلف رحمه الله: (باب حد المحاربين)، المحاربون هم الذين يعرضون للناس في طرقهم بسلاح أو عصي فيخيفونهم سواء كانوا في الصحراء أو في البحر أو في الجو أو في البنيان، وهذا هو تعريفهم، والمؤلف هنا إما أن يكون ذكر الصحراء على سبيل المثال، وإما أن يكون ذكرها على سبيل الحصر، وهناك فرق بين الأمرين، فإن كان على سبيل المثال فجائز أن يكون أيضاً في الجو مثل اختطاف الطائرات، أو في البحر مثلاً بالدخول على الناس بالسباحة وإلقاء الصواريخ المائية، أو يكون في البر التي هي الصحراء، وأيضاً قد يكون في البنيان، بل قال أبو العباس بن تيمية وهو قول لـمالك : إن إخافة الناس في البنيان أشد، مثل: أن يكون هناك عصابة من العصابات تسطوا على بيوت الناس في بيوتهم وتأخذ المال وتخيف السبيل، وربما قتلت وهتكت العرض.

    وقول المؤلف: (ليأخذوا أموالهم) ليس فقط ليأخذوا أموالهم فأحياناً قد يقطعون الطريق لإشاعة الفساد من قتل وأخذ مال وهتك عرض، كما يوجد في بعض البلدان مثل: عصابة المافيا وغيرها من العصابات.

    حد المحارب إذا قتل وأخذ المال

    المؤلف هنا قسم المحاربين حسب جرائمهم إلى أقسام، وهذا بناء على أحد الأقوال:

    فالقسم الأول: من قتل منهم وأخذ المال فحده القتل والصلب، حتى يشتهر أمره، أما القتل فمن قتل منهم فإنه يقتل بغير خلاف كما يقول ابن قدامة .

    الصلاة على المحارب وقاطع الطريق بعد إقامة الحد عليه

    ولم يذكر المؤلف هل يصلى عليهم أو لا؟ لكن نقول: يُصلى عليهم وجوباً؛ لأنهم مسلمون، ولكن هل يُصلى عليهم قبل الصلب أم بعد الصلب؟ المذهب أنه قبل الصلب، والأولى أنه يصلى عليهم قبل الصلب؛ لأنه مسلم وليست جريرته داعية لإسقاط حق الإسلام، وحق الإسلام فيه أن يصلى عليه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( صلوا على صاحبكم )، فيبقى حقه وهو الصلاة عليه، فلا ضرر ولا ضرار، فضرره الحاصل بأن يُقام عليه الحد فيقتل ويصلب لكن إن قتل فإنه يُصلى عليه، والصلاة عليه ترحماً، وهذا يدل على أن عقوبتنا له من باب التأديب، قال ابن تيمية : وينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم، وهذا هو المقصد، ولو أخر الصلاة عليه لقصد الدفن جاز، لكن العلماء يفرقون بين الصلاة عليه وبين الدفن.

    والقول الثاني: قال: إن الجثة أحياناً يُتأخر بها بعد مماتها، لكن إن صُلي عليها فإنها تُدفن سريعاً، وهذا سوف يُصلب فلا يُصلى عليه حتى إذا أُريد دفنه، والمسألة مبنية على تعاليل وليس في المسألة دليل صريح في هذا.

    قول المؤلف رحمه الله: (ودُفع إلى أهله)، يعني: حتى يغسلونه ويكفنونه، هذا قصد المؤلف، وهذا تعليل قوي، لكن الصلاة عليه ليس لها ارتباط بالكفن أو عدمه، وهذا جيد أنه إذا صُلي عليه فإنه يُكفن، والأولى أن يكون بعد الصلب، وهذا تعليل قوي، أن يكون الصلاة عليه بعد الصلب.

    هم يقولون: إن عبد الله بن الزبير ما صُلي عليه إلا بعد الصلب، لكن أنا أقول: حتى الصلاة عليه فإنه لا يشترط فيه الكفن المعروف في حال الدفن.

    حد المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال

    القسم الثاني: قول المؤلف رحمه الله: (ومن قتل ولم يأخذ المال قُتل ولم يُصلب)، وهذا إجماع من أهل العلم، والقتل هنا حق لله، فلو عفا أهل القصاص فإنه يقام عليهم الحد، بل قال ابن تيمية : لا يجوز إسقاط الحق إلا بعد التوبة وقبل أن يُقبض عليه، ولهذا قلنا: إنه حد، والحدود لله سبحانه وتعالى.

    حد المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل

    القسم الثالث: قال المؤلف: (ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحُسمتا)، هذا القول هو قول ابن عباس .

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع السارق به)، يعني: أنه لو أخذ دون النصاب فإنه لا تقطع يده، ولو أخذ ما زاد على النصاب فإنه تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ لأنه جمع بين الإخافة والسرقة، ففعُل به ذلك.

    حد المحارب إذا أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال

    القسم الرابع: إن أخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل، فقال المؤلف: ( نُفي من الأرض )، هذا القول الأول وقد حكي هذا القول عن ابن عباس ولكنه لم يصح عنه.

    وقال بعضهم: إن الإمام يُخير في صلبه وقطع إحدى يديه ورجليه من خلاف وبين نفيه، فإن كان قد قتل فإنه يقتل قولاً واحداً، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33]، قالوا: (أو) في القرآن كما قال ابن عباس : للتخيير، قالوا: وعليه فالتخيير هنا من باب الولايات العامة فهي حق للإمام، وهذا القول حسن لو تأملته، وأما قول الحنابلة: إن ابن عباس إنما قال ذلك مع علمه أن (أو) للتخيير إما أن يكون لغة وإما أن يكون توقيفاً، قال: وسواء كان لغة أو توقيفاً فهو حجة، فإن كان لغة فقول الصحابي حجة في اللغة، وإن كان توقيفاً فقد أخذه من الرسول صلى الله عليه وسلم، والأقرب والله أعلم أنه للتخيير، أما إن قتل فإنه يُقتل، ولكن صلبه أو قطع أيديه وأرجله من خلاف أو نفيه إنما هو لحق الإمام، ومن المعلوم أن من كان ذا صولة وجولة وتخويف وذعر للناس فإن فيه من الشر ما ليس في غيره ممن تكون شوكته ضعيفة، فالإمام يزيد في الردع ما لا يزيد في غيره ممن لا يخيف السبيل.

    معنى نفي المحارب وقاطع الطريق من الأرض

    قول المؤلف رحمه الله: (نفي من الأرض) النفي هنا هو تشريده عن البلدان والأمصار، قالوا: فلا يترك يأوي إلى بلد، فإذا ذهب من بلدة إلى بلدة أخرى فلا يُسكن، وسوف يضطر أن ينتقل إلى بلدة أخرى ثم يضطر أن ينتقل إلى بلدة أخرى، وهذا نوع من الهجر، وأن تضيق عليه الأرض بما رحُبت مثل ما ضاقت على أهل السبيل حينما أخافهم، هذا هو المراد، والتغريب غير النفي في الأرض، التغريب إن كان في بلدة ما فإنه يُنتقل به إلى بلدة أخرى فيُفارق الأهل والأوطان، ومفارقة الأهل والأوطان صعب على النفوس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام حين خرج من مكة: ( والله إنك لأحب البلاد إليّ ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت )، رواه الدارقطني في إلزاماته على البخاري و مسلم ، والتغريب هنا هو نقله من بلد إلى بلد آخر، وقال أبو حنيفة : إن تغريبه هو حبسه، وهذا فيه كلام طويل هل يكون الحبس من التغريب أم لا؟ وهذا رواية عن الإمام أحمد أن من التغريب الحبس، لكن الآن لو غُرب الشخص عن بلده ربما يفرح ولا يقع في قلبه من المشقة في ذلك، وفي السابق كان يحصل فيه الردع، والشارع إنما قصد من ذلك ردعه بحيث لا يعرف الناس وتعيش في وحشة، ولو قيل: إن من التغريب السجن لم يكن بعيداً؛ لأنه يحصل به من الردع مثلما يحصل بالتغريب، فالسجن نوع تغريب؛ لأنه سوف يجلس مع أناس لم يعتاد عليهم وغير ذلك. والله أعلم.

    وكما ذكر ابن القيم عن عمر أنه غرب نصر بن الحجاج ، وهو الرجل الذي كان حسن المنظر وقد كانت النساء تُفتتن به فحلق رأسه فزاده جمالاً، ثم غربه إلى الشام، حتى جلس أربعة أشهر أو ستة أشهر، ثم ذكر أبياتاً وتوسط له بعض الصحابة ثم أرجعه عمر ؛ لأنه لم يستطع العيش، لكن الآن لو تذهب به إلى بعض البلدان ربما يزيد شره، ومن التغريب أنه يُمنع من دخول الدولة الفلانية أو يُمنع من دخول البلد الفلاني مدة معينة، وهذا فيه نوع من التغريب.

    حكم توبة قاطع الطريق والمحارب

    قول المؤلف رحمه الله: (ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله)، يعني: أن المحارب إذا تاب توبة حقيقية نظرت فإن كانت توبته قبل القدرة عليه قُبلت؛ لأنه ما تاب إلا لأنه تاب توبة ظاهرها الصحة، لكنه لو تاب بعد القبض عليه فإنها في الغالب تكون تقية، وأيضاً أننا إذا قدرنا عليه سوف نعاقبه؛ لأن الأصل أن الجاني إذا بلغ إلى الإمام فلا يسقط الحد، كما قال عليه الصلاة والسلام في حد السرقة: ( هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به )، فالأصل أن الجاني إذا بلغ أمره إلى الإمام وأمسك به فلا شفاعة، فكذلك قيل للمحارب: إنه إن تاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط حق الله سبحانه وتعالى؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34]، أما حقوق العباد فلو قتل مثلاً فإنه يبقى عليه حق العبد فيُقتص منه إن رأى أولياء المقتول ذلك، وإن عفا أولياء المقتول فإنه لا يقتل، فنفهم من هذا أن القتل قبل أن يتوب فيه حقان: حق الله، وحق المخلوق، وحق الله هنا يبقى ولو أسقط المخلوق حقه فحق الله باقٍ، لكن لو تاب قبل القدرة عليه فيسقط حق الله ويبقى حق المخلوق.

    ودليل معرفة التوبة أنه إذا تاب قبل أن يقبض عليه يُقلع عن ذلك ويعمل صالحاً، ويظهر منه في سلوكياته الصلاح في العمل.

    قول المؤلف رحمه الله: (وأُخذ بحقوق الآدميين)؛ لأن العبد لا يسقط حقه إلا برضاه، ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه )، وقال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، فهو حق للمخلوق ولا بد من رضاه عند إسقاطه.

    نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795497