إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويصح إسلام الصبي العاقل] يعني بذلك: أن الصبي يصح إسلامه بأن يعرف الخطاب ويرد الجواب، أما الصبي الغير مميز فإن دينه على دين آبائه، أما لو صار الصبي عاقلاً مميزاً يعني: يعقل -وليس المراد بالعقل الذي هو ضد الجنون، بل أن يكون مميزاً-.
قال المؤلف رحمه الله: (يصح إسلامه)، ودليل ذلك أن علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام أسلما وهما أبناء ثمان سنين، وكان ذلك من مناقبهم، ولهذا يقال: أول من أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب ، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )، والصبي المميز العاقل يعرف ما معنى لا إله إلا الله، غير أن بعض الحنابلة كـالخرقي قال: يصح إسلام الصبي ابن عشر سنين وما دونه فلا يصح إسلامه، قال: لأن كلامه وهو دون عشر كلام صادر ممن لا يعقل ما أقر به، وفي كلامه نظر، والأقرب الرواية الأخرى عند الحنابلة وهي: أن الصبي إذا بلغ سبع سنين فيصح إسلامه؛ لما جاء عند أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين )، فقوله: (عشر سنين) يدل على أنه يصلح أن يؤدب وأن تمييزه أعظم من ابن سبع، لكن لم ينف عن السبع عدم التمييز والإدراك.
يعني: بعض الصبيان يكون صاحب قراءة، أنا أعرف شخصاً كان عمره ثمان سنين وقرأ أكثر كتب علماء الأدب، وقرأ كتباً كثيرة جداً جداً، وأعرف أن كثيراً من المثقفين لم يقرأ مثل ما قرأ هذا الصبي، فأحياناً يكون هناك نوع من التمييز.
قال المؤلف رحمه الله: [وإن ارتد] يعني: هذا الصبي. يعني: أسلم ثم ارتد بدأ يقرأ كتب الشيوعيين والماركسيين وبدأ يقر: لا دين والحياة مادة، وأقر بذلك، وقال: أنا مؤمن بها، فهذا ردة لكنه لا يقام عليه حد الردة حتى يبلغ ثم يستتاب، لهذا قال المؤلف: [وإن ارتد لم يقتل حتى يستتاب ثلاثاً بعد بلوغه]؛ لأنه استتابته هنا غير صحيحة؛ لأنه غير مكلف، فلا يتوجه له أمر أو نهي، ولا يوقع عليه حكم نهي، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واضربوهم عليها وهم أبناء عشر )، إنما هو ضرب تأديب.
ومما يدل على ذلك: أن الغلام لا يجري عليه حكم لا في القصاص ولا في الزنا فكذلك لا يقام عليه أيضاً حد في الارتداد.
يعني: أسلم ثم ارتد بدأ يقرأ كتب الشيوعيين والماركسيين وبدأ يقر: لا دين والحياة مادة، وأقر بذلك، وقال: أنا مؤمن بها، فهذا ردة لكنه لا يقام عليه حد الردة حتى يبلغ ثم يستتاب، لهذا قال المؤلف: [ وإن ارتد لم يقتل حتى يستتاب ثلاثاً بعد بلوغه ]، لأنه استتابته هنا غير صحيح؛ لأنه غير مكلف، فلا يتوجه له أمر أو نهي، ولا يوقع عليه حكم نهي، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واضربوهم عليها وهم أبناء عشر )، إنما هو ضرب تأديب.
ومما يدل على ذلك: أن الغلام لا يجري عليه حكم لا في القصاص ولا في الزنا فكذلك لا يقام عليه أيضاً حد في الارتداد.
يعني: إذا ارتد الإنسان ثم أسلم قبل إقامة الحكم عليه أو بعد إقامته؛ لأن الاستتابة دليل على قبول التوبة، ومما يدل على أنها تقبل توبته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة عبد الله بن أبي السرح وكان قد ارتد، وقُبلت توبة عيينة بن حصن كما قيل: إنه ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قُبل منه وحسُن إسلامه بعد ذلك، وهذا إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، فقد إسلامه أقر النبي صلى الله عليه وسلم توبة عبد الله بن أبي السرح ، إلا أن إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دماء بعض المرتدين لا يعني بالضرورة قبول توبتهم في الآخرة؛ لأن التوبة عند الفقهاء يطلقون عليها معنيان: توبة في عدم إقامة الحد عليه، وتوبة في دخوله في الإسلام، فمن سب النبي صلى الله عليه وسلم في وقتنا الحالي من غير شبهة يقام عليه حد القتل، ولا تقبل توبته بمعنى لا يسقط عنه هذا الحكم، وإن قُبلت توبته بينه وبين الله بأن يقال: هو مسلم إذا أظهر الإسلام بعد ذلك، فلو أن شخصاً سب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مسلم فسجن فأمر الحاكم بقتله، فأعلن إسلامه في السجن وحفظ القرآن وتاب لا يسقط هذا الحد كما أشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله؛ لأن على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم حد يجب أن يقام بخلاف الارتداد؛ لأن الارتداد حق لله، أما سب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق للرسول وقد مات عليه الصلاة والسلام ولا يسقط هذا الحق.
ووصوله إلى الحاكم ليس له علاقة، سواء بعد الوصول أو قبل الوصول، فساب الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشار ابن تيمية يقتل إذا كان مسلماً وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، كـسحنون من المالكية، و ابن تيمية ، و ابن حجر ، و النووي ، و الخطابي ، و ابن المنذر ، و القاضي عياض ، كلهم نقلوا الإجماع على أن كل مسلم سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل حداً، أما من سب الرسول من الذميين أو من الحربيين فهل تقبل توبته ولا يقتل؟ قولان عند أهل العلم، فذهب مالك و أحمد إلى أنه يقتل، وذهب الغير من العلماء إلى عدم قتله، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، والمسألة محل اجتهاد والعلم عند الله.
معنى كلام المؤلف: أن من ارتد عن الإسلام بأن قال: أنا غير مسلم، فهذا ارتد، ولكن يقبل إسلامه بعد ذلك بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا يكون إذا ارتد عن الإسلام بالكلية فيقبل منه الشهادتين، أما إن كان ارتد بسبب جحده ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو وجوبه أو إباحته ما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، فإنه لا يكفي فيه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بل مع الشهادتين أن يُقر بما أنكره، فإن كان أنكر الوجوب يجب عليه أن يقر بالوجوب، وإن كان أنكر التحريم وجب عليه أن يقر بالتحريم؛ لأنه جائز أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنه يُنكر هذا الحكم قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85].
يعني: رجل وامرأة أسلما ثم ارتدا وذهبا إلى بلاد الكفر ثم صار حرب بين المسلمين وبين دار الكفر هذه، فسُبي الرجل والمرأة، يقول المؤلف: (لم يجز استرقاقهما)؛ لأنهما ليسا بكفار أصليين حتى يجوز استرقاقهما، ولكنهما ارتدا بعد الإسلام وكل من ارتد بعد الإسلام يجب قلته ( من بدل دينه فاقتلوه ).
قال المؤلف رحمه الله: [ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما].
يعني: لو أن رجلاً وامرأة لهما أولاد ثم ارتدا وذهبا بأولادهما إلى بلاد الكفر ثم وقعت حرب بين المسلمين وبين الكفار واُسترق الرجل والمرأة ومعهما أولادهما، فإن المؤلف يقول: (لا يجوز استرقاق الولد)؛ لأن الولد هنا على دين والديه قال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمجسانه )، هذا كلام المؤلف، قالوا: لأن الأطفال محكوم بإسلامهم تبعاً لآبائهم، ومعنى هذا أنهما ما زال باقيين على الإسلام فكيف يُقبل استرقاق المسلم، فالأولاد تبعاً لآبائهم، والآباء أسلموا، وهؤلاء الصبيان تبع للآباء، فارتداد آبائهم لا يلزم أن يكونوا قد ارتدوا، وهذا هو معنى كلام المؤلف، وعلى هذا فالوالدان يقتلان لأنهما مرتدان والأولاد لا يقتلوا لأنهم مسلمون.
أما من حدثت ولادته حال ارتداد الوالدين فيقول المؤلف: فهم محكوم بكفرهم، وإذا حُكم بكفرهم فهل يجوز استرقاقهما؟
قول المؤلف رحمه الله: (ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما، ويجوز استرقاق سائر أولادهما) أي: الذين ولدوا بعد الارتداد، والمؤلف أطلق هنا، وظاهر كلامه أنه يجوز استرقاقهما سواء كانا عرباً أو غير عرب، وسواء كانا وثنيين أو كانا من اليهود والنصارى، وهذا هو اختيار ابن القيم رحمه الله أنه يجوز استرقاق العرب وقريش إذا كانوا وثنيين؛ لما رواه مسلم من حديث بريدة ، وقد استرق علي بن أبي طالب امرأته التي تزوجها وهي أم محمد بن الحنفية ، والحنفية من العرب من نجد بني حنيفة حينما ارتدوا في عهد أبي بكر فسبيت نساؤهم، وهذا يدل على الجواز، وهذا هو الأقرب والله أعلم.
إذاً: إذا أسلم الأولاد قبل ردة الوالدين كانوا مسلمين؛ لأن الوالدين مسلمان، يعني: ارتد الأب والأم ومعهما أولادهم، فالأب والأم مرتدون ولكن الأولاد ما زالوا على الإسلام فيبقون مسلمين. ولا يجوز استرقاقهم؛ لأنهم مسلمون، ولا يجوز استرقاق المسلم، بل الاسترقاق في حال الكفر.
قول المؤلف رحمه الله: (ويجوز استرقاق سائر أولادهم) أي: الذين ولدوا بعد الردة، وهذا يجوز مطلقاً سواء كان من العرب أو غير العرب على الراجح.
يكثر الكلام في مسألة المرتد هل يقام عليه حد الردة أم لا خاصة وأن حقوق الإنسان تخالف ذلك، ولو أقيم عليه الحد لصار هناك ضجة مثل ما حصل في بعض البلاد الإسلامية، حينما حكم القضاة بردة رجل وخلع زوجته منه، وذكر بعض المفكرين أن إقامة الردة تختلف من شخص مستور على نفسه واحد أو أشخاص لهم منعة، هذا التفريق يحتاج إلى دليل، ولكن إذا كان شخص ارتد ولا يُعلم عن ردته يعني: لا أحد يعلمه، فكيف نقيم عليه الحد؟ نقول: إما أن يُظهر هذا الأمر في منتديات أدبية أو ملتقيات ثقافية ويُعلنها صريحة، فيجب على السلطان أن يقيم الحد عليه، ولا يسوغ لأحد الرعية أن يفتات على حق الولاية العامة، وهذا واضح جداً، إلا أن يُهدر السلطان دمه، إذا أهدر السلطان دمه حينئذ يكون كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـعبد الله بن أبي السرح قال: ( لو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه )، حتى دخل مع عثمان بن عفان فشفع له عثمان وأن يكون له الأمان، أما غير ذلك فلا يسوغ ولا يجوز أن يُصاب بشيء مما حقه حق السلطان إلا بإذن السلطان، والله أعلم.
الجواب: يعني معنى السؤال: هل تبطل عبادة من ارتد أم لا؟ ذكر الخلاف ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين وفي طريق الهجرتين، وغير واحد من أهل العلم، والأقرب والله أعلم أنها لا تبطل عبادته وقت الإسلام قبل ردته، هذا هو الراجح والله أعلم، وهو اختيار ابن تيمية .
الجواب: قال ابن حزم : إنه لا يسقط الدم إلا بأن يرضى الجميع؛ لقوله: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، والولي واحد، فهذا سلطانه فلا يسقط حقه. وذهب الجمهور -وهذا الذي رجحته- أن الأولاد لو عفا واحد منهم فإنه لا يقام عليه الحد، والدليل على ذلك، قالوا: لأن القتل لا يتجزأ، وعلى هذا فيسقط القتل.
وهل تثبت لهم الدية أم لا؟ ينظر إن طالبوا بالدية فلا إشكال، وإن قال بعضهم: عفوت لوجه الله، أو قالوا: عفونا سقطت الدية، فإن الدية تثبت على القول الراجح ما لم يقولوا: لا نريد الدية، أو عفونا لوجه الله، أما من قال منهم: عفونا لوجه الله فيسقط حقه هذا، ويبقى حق الورثة الآخرين من الدية، والله أعلم.
الجواب: الله سبحانه وتعالى يقول: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، يعني بذلك: أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفرو فطُبع على قلوبهم فلن تقبل توبتهم، فكأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أخبر أن هؤلاء لا ينفع فيهم الإسلام فقد طُبعوا على الكفر.
لكن لو وجد المرتد فإنه يقام عليه الحد، لكن هؤلاء آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا في بلد أقيم عليهم الحد أصلاً ويجب إقامة الحد في أول مرة، يعني: يجب على السلطان أن يقيم عليهم الحد، ما ينتظر إيمانهم مرة ثانية.
والمعنى: استتيبوا فتابوا فآمنوا، ثم تابوا تُقبل توبتهم، أما قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، معناه: أن مثل هؤلاء طُبع لهم، مثل ما يسميه العلماء الزنادقة، الزنادقة هم المنافقون، هذا الذي يظهر والله أعلم، لكن يجوز للسلطان إذا رأى مثل هؤلاء وظهر شرهم أن يقيم عليهم الحد.
الجواب: نعم لا بد من إثبات ذلك، فإذا قال على ملأ وشهود: أنا تنازلت لوجه الله، فهذا مباشرة يسقط، أو يذهب إلى القاضي ويكتب تنازله؛ لأنه إذا قال: أنا تنازلت فلا بد من إثبات البينة؛ لأن هذه شاهدة بالإقرار.
وبهذا أكملنا كتاب الحدود من عمدة الفقه، نقف عند هذا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر