اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نزل، أو أن نظلم أو نظلم، أو أن نجهل أو يجهل علينا، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويُخير الإمام في أُسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن].
الاسترقاق بأن يكونوا أرقاء عبيداً، والفداء بأن يفديهم بغيرهم وهو ما يسمونه في المصطلح المعاصر تبادل الأسرى، والمن: بمعنى أن يُرسلهم إلى بلادهم من غير مقابل، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بـثمامة بن أثال عندما قال له: ( ما عندك يا
قال المؤلف رحمه الله: [وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة].
يعني أنه إن تبادل الأسرى أو أخذ عليهم مالاً أو استرقهم، فإن الرق والمال الذي يؤخذ من الفدية غنيمة كما يقول المؤلف: (فهو غنيمة)، يعني يقسمون حسب قسمة الغنائم، وقسمة الغنائم سيأتي تفصيلها إن شاء الله، وهناك فيء: وهو أن يأخذه المسلمون من غير إيجاف خيل ولا ركاب، بحيث يهرب الكفار من بلدتهم، فيغنم المسلمون مثلاً.
وهناك شيء آخر وهو النفل بحيث وهو أن ينفل الإمام الناس على حسب ما ورد في السنة غير الغنيمة بأن يعطيهم الثلث حال الرجوع أو يعطيهم الربع وقت الإقبال. ومعنى الربع: يخرج الجيش ثم يأمر سرية أن تغزوا جهة معينة، فإن غنمت هذه السرية فإنهم يعطون ربع الغنيمة ثم يعطون من الغنيمة، يعني: هب أن الغنيمة صارت مليوناً فيؤخذ منها الخمس، كما قال ابن عمر: والخمس في هذا واجب كله، يؤخذ الخمس وما بقي يعطى من النفل الذي هو الربع، والباقي يقسم بين الغانمين بما فيهم الذين قد أعطوا النفل, وكذلك ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، فهذا يسمى من النفل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قول المؤلف رحمه الله: (فهو غنيمة) وليس فيه خلاف عند أهل العلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسرى بدر بين الغانمين.
أي أنه لا يجوز للإمام أو نائبه إذا كان في الغنيمة سبايا أن يفرق بين والدة وولدها، فإذا كان الولد غير بالغ فلا يجوز التفريق؛ لما روى الترمذي من حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من فرق بين والدة وولدها فرق الله بين أحبته يوم القيامة )، وهذا الحديث في سنده بعض الضعف، وعليه العمل عند أهل العلم، فقد كان علي بن أبي طالب يصنع ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يفرق بين الأم وولدها )، كما رواه البيهقي ، وإن كان في سنده أيضاً ضعف شديد إلا أن أهل العلم ذهبوا إلى ذلك، والدليل على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في كل كبد رطبة أجر )، ومن المعلوم أن حزن الأم على ابنها قبل البلوغ شديد، وربما أصابها من الهم والغم ما لا يخفى, والصبي غير البالغ أو الجارية غير البالغة ربما لا تعلم شئون نفسها في الغالب، فلا بد أن يكون عندها من يساندها، أما بعد البلوغ فيجوز ذلك لأمور:
أولاً: لما جاء في الصحيحين أن سلمة بن الأكوع حينما استطاع أن يتعب أهل فزارة حتى جاء المسلمون وسبوا سبيهم كان من السبي امرأة وابنتها وكانت بالغة، يقول سلمة: وكانت من أحسن نساء العرب؛ فنفلنيها أبو بكر لأنه هو الذي استطاع بعد الله سبحانه وتعالى أن يتسبب في أن يستولي المسلمون على هذا (قال: فنفلنيها
قول المؤلف رحمه الله: (ولا يفرق في السبي بين ذوي رحم محرم)، عام فيشمل التفريق بين الأم وولدها وبين الوالد وولده وبين الإخوة، أما الإخوة فاستدل المؤلف بأنه لا يجوز التفريق بين الأخوين إذا كانا غير بالغين بما روي عن علي بن أبي طالب قال: ( وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته فقال: رده رده )، يعني لا يجوز أن تفرق بين الأخوين، والحديث في سنده ضعف، ومثله ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: لا تفرقوا بين أخوين ولا بين الأم وولدها في البيع. هكذا استدل المؤلف، والأحاديث في هذا الباب ضعيفة، فـعبد الرحمن بن فروخ مجهول ولو قيل بأن الأولى أنه لا يفرق بين الأم وولدها وجوباً، ويدخل فيه بين الوالد وولده، أما بين الإخوة فهو على سبيل الاستحباب والأفضلية، أما الوجوب فيحتاج إلى ركن يعتمد عليه، ولا دليل صحيح في ذلك.
معنى كلام المؤلف: لو أن رجلاً اشترى من رجل في سوق النخاسين -يعني: سوق بيع الإماء- امرأة وابنتها، فطبيعة الحال أن الصحابة يعلمون أنه لا يجوز التفريق بينهما، فإذا اشترى الرجل المرأة وابنتها فبان للمشتري أن هذه المرأة ليست هي أماً للبنت فحينئذٍ يجوز التفريق، والمعروف بطبيعة الحال أنه إذا فرق بينهما تزيد القيمة، وعليه يقول المؤلف: (رد الفضل الذي فيه التفريق)، يعني أن البائع قد يكون لم يعلم بأن هذه ليست رحماً لهذه البنت, فحينئذٍ يكون كأنه باعه بأقل من سعر مثلهما؛ ولهذا قال: (رد الفضل الذي فيه التفريق) فيجب على المشتري أن يرد الزائد على ما اشتراه.
فمثلاً لو أن كل جارية أو امرأة وابنتها يساوون عشرة آلاف، لكن لو فرق ولم تكن ذا محرم لبيع بخمسة عشر، هذه سبعة وهذه ثمانية، فالزائد خمسة، فيرد المشتري للبائع خمسة آلاف, كما لو باع البائع السلعة على أنها معيبة فبان خلاف ذلك.
قول المؤلف رحمه الله: (ومن أعطي شيئاً يستعين به في غزوه) غزوه مطلقاً، سواءً هذه الغزوة التي سوف يذهب لها أو غيرها فالحكم قال: (فإذا رجع) بعد نهاية الغزو (فله ما فضل)، سواء كان سيفاً أو سيفين أو درع وضاع الدرع وبقي السيف فله السيف، ولو أعطي خيلاً وبقي الخيل فله هذا الخيل، (فله ما فضل) وله أن يتصرف فيه بما شاء من تصرف الملاك، واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث عمر أنه قال: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه صاحبه)، فمعنى حملت على فرس يعني أني تصدقت ووهبت ( فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: لا تشتره ولو باعكه بدرهم، ولا تعد في هبتك، فإن العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، ووجه الدلالة من الحديث أن هذا الصحابي أعطي هذا الفرس في سبيل الله لجميع غزوه فيكون قد ملكه حينئذٍ، والدليل أنه قال: (فظننت أنه بائعه برخص)، وكونه يبيعه دليل على ملكه وله التصرف فيه.
وهذا سواء أعطيه أو حمل على فرس كلاهما واحد هذا وجه الدلالة، وسواء أعطي فرساً أو أعطي من اللأمة والسلاح، واللأمة التي تلبس في الرأس تبع الدرع، لكن إذا أعطاه له بعينه وقال: خذ هذا في سبيل الله، لكن لو أعطى هذا السلاح ليس لأحد بل قال: هو وقف لله تعالى, فلا يجوز لأحد أن يملكه، وله الانتفاع به في الغزو، كما صنع خالد بن الوليد فقال عليه الصلاة والسلام: (أما
والأقرب والله أعلم أنه إذا أعطاه على أنها عارية فلا يملكه، أما إن أعطاه وقال: خذ هذا فاغز به فإنه يملكه، مثلما لو قال: خذ هذا الألف وحج به فإن بقي شيء فإنه بأس أن يملكه.
إذا استولى المسلمون على أموالهم من الكفار في دار الحرب, فلا يخلو هذا من حالين:
أن يعلم صاحبه فبل قسمته, أو لا يعلم إلا بعد القسمة، فإن علم قبل القسمة رد إلى صاحبه، وهذا قول عامة الفقهاء، لما روى ابن عمر أن عبداً له أبق إلى العدو فظهر عليهم المسلمون، ووجدوا العبد من السبي فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم: هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء أخذها بنو عقيل -يعني الكفار- وسبوا معها امرأة من الأنصار من المسلمين, فلما حان منهم غرة خرجت في الليل وخرجت من الخيمة المحبوسة، فجعلت كلما أتت على ناقة رغت -أي: أخرجت صوتاً- فعلمت أنها ليست هي العضباء؛ لأن العضباء ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم مدربة -والتي ترغي يعني لا تحسن التدريب ولم تتدرب بعد- فجعلت إذا دنت إلى الناقة رغت فتتركها حتى دنت إلى العضباء فركبتها ثم اشتدت, فنظروا فأرادوا أن يبحثوها, فنذرت إن ردها الله سالمة أن تنحرها, فلما أصبحوا وجدوا المرأة عند المسلمين، ووجدوا العضباء، (قالوا: يا رسول الله! هذه المرأة وهذه العضباء وأنها نذرت إن ردها الله سالمة أن تنحرها قال: بئس ما جزَّتها! لا نذر في معصية، ولا في ما لا يملك العبد )، فهي نذرت فيما لا تملكه فلا نذر عليها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم. هذا القسم الأول.
وأما الكفارة على من نذر فيما لا يملك فالحنابلة رحمهم الله يرون أن من نذر معصية أو نذر فيما لا يبتغى به وجه الله مثل نذر فيما لا يملكه, فعليه كفارة، وهذا قواه أبو العباس بن تيمية في كتابه الرسالة التي حققها محمد حامد الفقي ، التي سماها خطأ نظرية العقد، وهي قاعدة في العقود، قوى هذا، وذكر آثاراً أنه يكفر كفارة يمين إن أعطى أكثر من ذلك -كما جاء عن بعض الصحابة أنه نحر جزوراً فحسن.
القول الثاني: وهو قول المالكية والشافعية والجمهور قالوا: لا كفارة إلا فيما ابتغي به وجه الله، واستدلوا بما جاء في الصحيحين: ( لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله )، فيكون ليس فيه كفارة، أما حديث: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ) فهذان حديثان رويا من طريق الزبير عن أبيه وعن عمران وحديث عائشة رضي الله عنها وكلاهما ضعيف جداً، كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري في التاريخ الصغير، والمعروف عند الناس الكبير، لكن أشار إلى هذا وضعف الأحاديث الواردة في هذا الباب كما يسمونه الآن التاريخ الأوسط، وبعضهم يقول: عند البخاري ثلاثة كتب التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير، ولو كفر حسن، استدلالاً بفعل الصحابة.
القول الأول: قول المؤلف رحمه الله: (فله أخذه بثمنه الذي حسب به على آخذه)، يقال: تعال, هذا أخذ السيف وأخذ هذا العبد من الغنيمة على أن له خمسة وعشرين ألفاً، فأخذ العبد بقيمة خمسة وعشرين ألفاً، فيعطي مالكيه قبل أن يذهب إلى دار الحرب لمن أخذه خمسة وعشرين ألفاً ويكون له، (فله أخذه بثمنه الذي حسب به على آخذه).
قد يقول قائل: لماذا يدفع وهو صاحبه؟ نقول أيضاً: ولماذا يسقط حق المسلم الذي غنم من الغنيمة؟ فالجواب: لا يسقط حق المسلم الذي أخذ من الغنيمة فلا يأخذ من بيت المال؛ لأن بيت المال شيء والغنيمة شيء, لبيت المال الخمس، وهذا معروف حقه، أما الغنيمة الباقية فللمسلمين، فهي ليست من بيت المال، فيدفع ويحتسب الأجر، هذا قول.
واستدلوا على ذلك بأحاديث ضعيفة منها ما رواه الدارقطني و البيهقي بسند ضعيف من حديث ابن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وجد بعيراً كان المشركون أصابوه، إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة )، يعني بقيمة ما دخل على الغانم.
والقول الثاني: رواية أخرى عن أحمد رحمه الله أنه إذا قسم فلا حق له فيه؛ بل يكون للغانم، وهذا هو قول عمر رضي الله عنه، وكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل له إليه، والحديث في سنده أيضاً ضعف, ولكن مما يدل على ذلك أن المسلمين الذين فتحوا مكة كانت لهم أموال استولى عليها الكفار فأسلم الكفار وبقيت في أيدي الكفار ولم تعط المسلمين؛ لأنهم أخرجوها في سبيل الله، وهذا القول أظهر والله أعلم، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمه الله وأشار إلى ضعف قول: فهو أحق به أي بالثمن.
يعني: مثلاً: لو قسمن الغنائم وكان نصيب زيد عبداً بعشرين ألفاً فجاء زيد الذي أخذ نصيبه من الغنيمة وباع العبد على علي، فعلي الآن أخذه شراءً, فعلم بكر أن العبد الذي هو له وقد أبق إلى العدو عند علي يقول المؤلف: فإنه يأخذه بالثمن وهو أحق به، والراجح خلاف ذلك كما مر معنا، فإنه لا يأخذه بعدما قسم، فلا توجد شبهة، والمؤلف قال في بعض الروايات: إنه بمنزلة مشتري الشقص، هذا إذا قلنا: أحق به بالثمن، والراجح أنه ليس له أخذه بعد القسمة.
يعني أخذ أحد المسلمين هذا المال بغير شيء، كأن يكون فلو أن مسلم تنصل من الكفار الحربيين وهرب وأثناء هروبه أخذ بعض المال الذي هو للمسلمين عند الكفار؛ فإنه ليس له شيء مثلما حصل في قصة المرأة التي أخذت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني مسلم دخل دار الحرب فوجد مسلماً يباع من المسلمين الذين يعرفهم، فاشتراه بعشرين ألفاً ثم خرج به، فإن المسلم الأسير هذا حر لا يجوز بيعه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل باع حراً فأكل ثمنه )، فهذا حر لكن يجب على الحر الأسير أن يفتدي بنفسه، فإن كان هناك بيت المال فيجب على بيت المال أن يفتدوه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر