قال المؤلف رحمه الله: [باب الغنائم وقسمتها].
الغنائم: هي الأموال التي تقسم بين المجاهدين غير الخمس والنفل، وهي نوعان:
الأول: قال المؤلف رحمه الله: [أحدهما الأرض فيخير الإمام بين قسمتها ووقفها للمسلمين].
الأرض هي التي فتحت عنوة، وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، يقول المؤلف: فحكمها أن الإمام يختار ما هو الأصلح بين قسمها بين المجاهدين وقت الحرب، وبين وقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجاً مستمراً، فتكون من أرض الخراج، والمتقدمون من الفقهاء يسمون أرض الخراج وقفاً، وهذا اللفظ جعل بعض المتأخرين يفهم أن الوقف لا يجوز بيعه، قال ابن تيمية : وليس المراد بالخراج على إطلاق الفقهاء الوقف أنه لا يجوز بيعه، كما فهم بعض المتأخرين، إنما أرادوا بوقفه أن لها غلة وريعاً، وإن كان يجوز لأصحابها أن يبيعوها فيكون المشتري يخرج خراجها.
قال المؤلف رحمه الله: [ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجراً لها].
انظر كلمة (ممن هي في يده) فلو كانت عند كافر ثم أسلم فبقيت عنده فيخرج الخراج لا لأنه أسلم، ولكن لأنه ما زالت عنده الأرض الخراجية. وقال بعضهم: إذا أسلم الكافر وهي عنده فإنه لا يخرج منها شيئاً. وقال بعضهم: إن هذا مخالف لما فعله عمر في العراق، فإنه أبقاها مع من كانت في أيديهم وأمرهم بالخراج، وكذلك مكة فتحت عنوة والآن هي عند أصحابها.
وأرى والله أعلم أن هذا في حكم الإجماع السكوتي، فيكون الحكم أنه يجوز للإمام أن يبقيها مع أصحابها ولا يأخذ عليها شيئاً، وعلى هذا قلنا بجواز بيع رباع مكة؛ لأن عدم إخراجها وعدم طلب السلطان والإمام من الناس دليل على أنه أذن لهم بالانتفاع بها من غير إخراج شيء, وعلى هذا فيجوز، ولعلنا سمعنا أو قرأنا في كتب المتقدمين أن سفيان الثوري استأجر بيتاً في مكة فأراد المؤجر أن يأخذ أجرته فأبى سفيان الثوري وقال: رباع مكة لا تملك، وأرى والله أعلم أنها تملك، واختار ابن تيمية رحمه الله التفريق بين الإجارة والبيع، والأقرب والله أعلم عدم التفريق وأنها تملك ( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور )، وهذا هو مذهب الشافعي .
قول المؤلف رحمه الله: (الأرض فيخير الإمام بين قسمها ووقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجراً لها، وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه)، يقولون: وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمة فليس لأحد نقضه ولا تغييره، وهذا محل تأمل، نعم إذا رأى الإمام أن مصلحة المسلمين إبقاء ما كان عليه من غير أخذ خراج، والذي أرى والله أعلم جواز ذلك، لكن قلنا بقول المؤلف لحرم تملك أراضي مكة وأراضي العراق -وهذا محل نظر كما لا يخفى- والراجح الجواز، وقد كانوا في الكوفة يخططون -مثلما نسميه نحن اليوم أرضاً مخططة- فيخططون ثم يقسمون فيما بينهم.
قال المؤلف رحمه الله: [الثاني: سائر الأموال فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال، ويستعد له من التجار وغيرهم].
هذا الكلام يعطينا فائدة, أن كل من كان من أهل المقاتلة سواء كان عسكرياً أو مدنياً كما هو في المصطلح المعاصر فإنه يكون من أهل المقاتلة، فإن كان ذهب مع المسلمين يحميهم ويساعدهم أو يكون من الطليعة أو الردف أو حارس أو جاسوس للمسلمين على الكفار فإنه يكون في حكم المجاهد, كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم مع عثمان رضي الله عنه.
قول المؤلف: (فهي لمن شهد الوقعة)، استدلوا على هذا بما جاء عن عمر رضي الله عنه كما أخرجه البيهقي بسند صحيح، أن طارق بن شهاب كتب إلى عمر أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة، والمراد هل يأخذ أهل الكوفة من الغنيمة أم لا؟ فقال عمر: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة.
والذي شهد الوقعة هو من يمكنه القتال، وأما النساء إذا شهدن الوقعة فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لهن بسهم، إنما يرضخ لهن من الغنيمة كما قال ابن عباس .
قال المؤلف رحمه الله: [ويستعد له من التجار وغيرهم سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها].
يعني عثمان رضي الله عنه ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بسهم، ولم يقاتل لكنه قد خرج في حاجة الله وحاجة رسوله، وكل من خرج لمصلحة عامة فإنه يعطى له من الرضخ.
كما لو أن الإمام بعث شخصاً إلى الكفار في دار الحرب، ووقعت الحرب -ومن المعلوم في الاتفاقيات أن الرسل لا تقتل- وغنم المسلمون من الكفار، وبعثوا بهذا المسلم إلى بلاد المسلمين -وهذا يحصل فيكون الأمن الجوي كما يسمونه على خطر، فينتقل من دار الحرب هذه إلى بلد آخر، ومن بلد آخر إلى بلاد المسلمين- فهذا له من السهم؛ لأنه إنما خرج في حاجة لله والمسلمين.
قول المؤلف رحمه الله: (على الصفة التي شهد الوقعة فيها)، فإن كان راجلاً يعطى سهم راجل, وإن كان فارساً يعطى سهم فارس، أو عبداً يعطى سهم عبد، أو مسلماً أو كافراً ولا عبرة بما قبل ذلك ولا بعده، والمؤلف قال ذلك رداً على أبي حنيفة فـأبو حنيفة رحمه الله يقول: يعطون من الغنيمة حال دخولهم دار الحرب ولا علاقة لذلك بشهود المعركة، فلو أن أحدهم دخل دار الحرب التي سوف يحاربونها وهو راجل ليس عنده خيل، ثم حصل على خيل قبل المعركة من دار الحرب فإنه يعطى سهم راجل على قول أبي حنيفة، ولو دخل الحرب ومعه فرس ثم مات الفرس ودخل المعركة وهو راجل فيعطى سهم فارس، ولو دخل الحرب وهو عبد ثم عتق في دار الحرب فجاهد وهو حر فإنه يعطى سهم عبد هذا مذهب أبي حنيفة .
أما مذهب الجمهور فقالوا: العبرة بشهود الوقعة ولا يعتبر ما قبل ذلك وهذا معنى كلامه.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يعتبر ما بعده].
فلو شهد مسلم هذه المعركة بعد انتهائها فإنه لا يعطى شيئاً لما روى سعيد بن منصور بسند جيد أن طارق بن شهاب كتب إلى عمر أن أهل البصرة غزوا نهاوند، وأن أهل الكوفة أمدوهم، فما إن وصل أهل الكوفة إلا وقد انتصر أهل البصرة على الروم، فقال أهل الكوفة: نحن أمددناكم فنأخذ من الغنيمة فقال عمر: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة.
ولما قدم أبان بن سعيد كما روى أبو هريرة وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر وقد نصر الله نبيه والمؤمنين، فجاء أبان بن سعيد فقال: (يا رسول الله! اقسم لنا فإنا قد شهدنا الغنيمة ), يظنون أنها مثل التركة كما قال تعالى:
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
[النساء:8]، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجلس يا أبان! ولم يقسم له)، وهذه لفتة مهمة أحياناً إذا جاءك الرجل يريد شيئاً فلا تتفاوض معه، هدئ باله واجعله على الأمر الواقع، اجلس يا أبان! -وهذا من حنكة وإدارة محمد صلى الله عليه وسلم- ولم يقسم له، أحياناً يأتيك إنسان يستطيع أن يتفاوض ويتكلم معك, وربما يرى أنه من الشجاعة أن يتكلم معك في هذه اللحظة، ولكنه أحياناً لا يستطيع أن يفاتحك بالموضوع مرة ثانية، وهذا أمر طبيعي، فمن حنكة القائد الذي يستطيع أن يتخلص من الوضع ألا يتحدث معه في هذا الحال؛ لأنه إذا فاتحه مرة ثانية يصعب أن يفاتحه، وهذا طبيعي -سبحان الله- ولهذا من الأفضل عدم الجواب على كل سؤال يطرح عليك، فأحياناً سكوتك وهدوءك وطأطأة رأسك كافية في الرد، وأما إذا كان السائل أحمق:
فيزيد سفاهةً وأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيبا
قال المؤلف رحمه الله: [ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره].
قول المؤلف رحمه الله: (بمرض أو غيره) ضمنّه أمرين: أن يكون مريضاً وأن يكون عاجزاً عن القتال، وهذا فهم منه أنه إذا كان مريضاً مرضاً لا يعجزه عن القتال فإنه يأخذ ويعطى من الغنيمة، كما حصل لـسعد بن أبي وقاص في يوم القادسية، مرض وأصيب بالحمى فجعل له عريش يقود منه الجيش، لأنه لا يستطيع أن يقاوم القتال، فإذا كان كذلك فإنه يعطى من الغنيمة، أما لو أصيب بالشلل أو صار زمناً أو مرض مرضاً فيه عدوى نقص المناعة، فإنه لا يكون من أهل القتال ولا يرضخ له ولا يعطى.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا لمن جاء بعدما تنقضي الحرب من مدد أو غيره].
وهذا كما مر معنا وذكرنا قصة أهل الكوفة حينما أمدوا أهل البصرة.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش أسهم له ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم].
المؤلف في هذا الكلام أفادنا في أمرين:
الأمر الأول: أن الذي يخرج لمصلحة الجيش إما أن يكون عيناً أو دليلاً أو من أهل الطليعة أو يذهب مفاوضاً متفاوضاً لأعداء الدين، فهذا لو غنم المسلمون وهو غير موجود فإنه يعطى من الغنيمة.
دليل ذلك: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تخلف عن غزوة بدر؛ لأن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان أن يبقى عند ابنته ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فإن عثمان إنما خرج في حاجة لله وحاجة رسوله، وإني أبايع له فضرب له بسهم مبايعة ) كأنه بايع ليعطيه من الغنيمة، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين الذين جاءوا من اليمن سهماً في خيبر، كما جاء في بعض الروايات إن صحت؛ لأنهم خرجوا في حاجة لله وحاجة رسوله.
قول المؤلف رحمه الله: (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت).
سبق أن السرية إذا غنمت فإنه يخرج الخمس ثم بعد ذلك الربع إن كانوا في البداءة أو الرجعة ثم الباقي يقسم بين السرية والجيش.