اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نزل، أو أن نظلم أو نظلم، أو أن نجهل أو يجهل علينا، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [فصل في الفيء].
والفيء: هو ما يدخل على المسلمين من أموال الكفار من غير قتال، والفيء لغة: الرجوع وكأن هذا المال رجع إلى المسلمين؛ لأنه هو الأصل.
قال المؤلف رحمه الله: [وما تركه الكفار فزعاً وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب].
أي: يغنم المسلمون غنائم الكفار من غير أن يجاهدوا، ومن غير أن يوجفوا -يعني: يتحركوا حركة السير- بخيل ولا ركاب ولذلك قال المؤلف رحمه الله: [أو أخذ منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين ] لما جاء في القرآن: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:7-8]، وكذلك وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ [الحشر:9]، وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10]، كل هؤلاء لهم من الفيء، ولهذا عمر رضي الله عنه عندما قرأ هذه الآيات: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:7]، إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10]، قال: قد استوعبت المسلمين عامة، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو -وهو مكان مرتفع من الوادي- نصيبه فيها، ولم يعرق فيها جبينه، هذا هو العدل في العطية، يقول: والله! لئن عشت ليغنم المسلمون غنائم وأوزع هذا الفيء للراعي الذي ما علم عنا شيئاً ولم يعلم عن حالنا شيئاً، لأعطين الراعي وهو بسرو من غير أن يعرق جبينه، ما أعدله رحمه الله ورضي الله عنه.
قول المؤلف رحمه الله: (ومن وجد كافراً)، يعني حربياً (ضالاً عن الطريق) دخل في صحراء البلد المسلم وضاع ووجده أحد المسلمين، (فأخذه فهو له)، فليس من الغنائم؛ لأنه في حكم المباحات كالكلأ والعشب واللقطة والصيد، فلا يلزم أن يذهب به ويكون غنيمة، فليس هذا من الغنائم، هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وهذا يكون عند دخول جماعة من المسلمين بلاد الكفر -المحاربة- التي ليس بينها وبين المسلمين عهد واتفاق في عدم الحرب، وكان دخولهم متلصصين ولم يدخلوا بأمان أما إن دخلوا بالتأشيرات فهي تعد أماناً, فإذا دخل المسلم بناءً على نظام التأشيرات فلا يجوز له أن يفعل شيئاً في دار الحرب. أما إذا كان بينه وبينها اتفاق فلا شك في حرمة فعل شيء، كما سيأتي في باب الجزية، وإن دخل من غير أمان وهي دار حرب فهناك لجواز الأخذ منها شرطان: الشرط الأول: أن يكون دخوله متلصصاً من غير أمان.
الشرط الثاني: أن تكون الدار دار حرب؛ فإن دخل المسلمون بهذين الشرطين بإذن الإمام صار ما أخذوه غنيمة، وإن كان من غير إذن الإمام فما أخذوه يكون لهم جميعاً ولكن بعد أخذ الخمس هذا كلام المؤلف.
وهذا هو قول أكثر أهل العلم لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41].
والقول الثاني: قال به أبو حنيفة: وهو أن ما أخذوه فهو لهم مطلقاً من غير أن يخمس، لا يؤخذ منه الخمس.
وهذا الباب من أهم الأبواب، وخاصة في هذا الزمان، وينبغي أن يكثر بحثه وأن يستدل له حتى يعلم الناس أن دين الله وسط ليس بالغالي ولا الجافي.
والأمان: هو العهد الذي يعطاه المسلم من قبل الحربي، أو يعطاه الحربي من قبل المسلم، فيجري عليه حكمهم.
بالنسبة لدار الحرب فيجوز للمسلمين أن يقتلوا فيها، ودار الحرب في زماننا هذا مثل إسرائيل، فهي دار حرب وليس بيننا وبينهم اتفاق ولا عهد. أما دار العهد والاتفاقات فهي الدول الغربية والشرقية؛ لأن بينها وبين المسلمين اتفاقات وعهود.
قول المؤلف رحمه الله: (ومن قال لحربي) لو جاء يهودي إلى بلاد الإسلام عن طريق شركة، وقالت له الشركة: لك أمان الله أو أنا أمنتك، وذهبت إلى وزارة الخارجية وأعطته تأشيرة فقد أعطته أماناً؛ لأن كل أمان على حسب الزمان، فمن قبل كان يدخل الكافر ويكون الأمان بالقول مثل قول أم هانئ: أجرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد أجرنا من أجرت يا
فصفة الأمان أن يقول: أمنتك أو أجرتك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد أجرنا من أجرت يا
ثم قال المؤلف رحمه الله: [حراً كان أو عبداً، رجلاً كان أو امرأةً؛ لقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم )]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) رواه البخاري و مسلم.
آحاد الرعية أي: امرأةً أو ذكراً أو عبداً أو حراً يؤمن مجموعة يسيرة كشركة أو غيرها، كما حصل للعبد الذي قد أعطاهم أمان الله وعهده، أما أن يؤمّن قبيلة أو دولة فهذا مناطها لإمام المسلمين فهو أعلم بمصالح المسلمين, ولو أمّن فإنه لا يقبل أمانه.
يعني: إمام المسلمين واحد لكل بلاد المسلمين مثلاً, وأرسل أميراً على جيش في بلد وفي ناحية من الثغور في الشرق أو الغرب فله أن يؤمن هذه الدولة؛ لأنه أعلم بمصالحه؛ ولأن الإمام قد أعطاه بعض الصلاحيات، لكن لا يصح لهذا الأمير أن يؤمن البلد الغربي وهو في الشرق أو البلد الجنوبي وهو في الشمال؛ لأنه ليس له صلاحية إنما صلاحيته للإمام.
أي أنه إذا رأى الإمام معاهدة الكفار لضعف المسلمين وعدم إمكانيتهم، وعدم قوتهم وعدم ظهورهم على الكفر، فجعل بينه وبين الكفار جميعاً اتفاقاً ومعاهدة لمصلحة المسلمين حتى تشتد شوكتهم وتقوى حميتهم ويظهر اقتصادهم فلا بأس بذلك.
لو أن مسلماً دخل دار الحرب وأعطوه الأمان، أو دخل دار العهد وأعطوه الأمان، (ومن دخل دارهم بأمانهم) يعني أعطوه الأمان، وأعطوه التأشيرة وقالوا له: تجلس لمدة شهر وتجلس مثلنا، صار حكمه حكمهم في هذه المدة.
قال المؤلف رحمه الله: [فقد أمنهم من نفسه].
ومعنى (أمنهم من نفسه): أنه لا يجوز لهذا المسلم الذي دخل بأمانهم أن يصنع في بلاد الكفر شيئاً؛ لأنه إن صنع فقد خانهم في عهدهم, والله لا يحب الخائنين. قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، يعني أن الرسول الذي بينه وبين الكفار عهد خشي من هؤلاء أن يخفروا عهدهم، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بعيونه وجواسيس المسلمين أنهم سوف يخفرون، فيقول لهم: ليس بيننا وبينكم عهد، وقد ألقينا عليكم العهد وبدأنا الحرب، ولا يخادعهم حتى ولو علم خفر عهدهم، وهذا من لأن الله لا يحب الخائنين، وقد قال صلى الله عليه وسلم حينما صالح أهل قريش في الحديبية على أن من جاء من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً وجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرده؛ لأن بينهم عهداً واتفاقاً، فجاء أبو جندل و أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلموا فأعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم قريش، فقال عمر: يا رسول الله! أيرجعون إلى بلاد الكفر، قال: نعم هكذا عهد الله معهم، فكان عمر يذهب إلى أبي جندل فيقول: اصبر يا أبا جندل ! ومعه السيف قد أخرجه من غمده وهو يتمنى أن أبا جندل يأخذ السيف ويقتل الكافر وهو يشير إليه، لم يتحمل عمر ذلك الموقف، ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلم طبق العهد والميثاق، وكان عمر يقول بعد ذلك: فلم أزل أعتق وأكفر وأصوم عل الله أن يغفر لي بسبب معارضتي لهذا الأمر.
ومما يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سلم أبا جندل و أبا بصير لقريش قال المسلمون: ( يا رسول الله! كيف ذاك؟ قال: إنه لا يصلح في ديننا الغدر)، وهذا الحديث رواه البيهقي بسند جيد، ومما يدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان وأباه اليمان حينما خرجا من مكة إلى المدينة في معركة بدر، قالوا: إنكم تريدون محمداً لتغزوا معه، قالوا: والله ما نريد أن نغزوا معه، إنما نريد المدينة، قال: فلما أعطوهم عهد الله وأمانه تركوهم، فجاءوا ووجدوا رسول الله قد تجهز لغزو قريش في معركة بدر, فقالوا: يا رسول الله! إننا أعطينا عهد الله وأمانه لقريش ألا نغزوا معك قال: ( نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم ).
وعلى هذا فالنتائج لا يلزم بالضرورة أن تكون شرعية إذا كانت الوسيلة غير شرعية، فالغاية لا تبرر الوسيلة، فالأضرار التي تحصل في بلاد الكفر تسر المؤمن؛ لأن هذا من نوع إثخانهم، وإلقاء الهلكة والتبعة بهم، ولكن إذا كان ذلك في خفر الذمم بأن تهتك الذمم، ويقتل الكفار بأمانهم الذي أعطوه بتفجيرات وغيرها فهذا مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يقال: إن الكفار قد حاربوا البلد الفلاني, حتى لو أن المسلم دخل دار حرب مثل إسرائيل وأعطوه الأمان فعلى كلام المؤلف وهو قول أهل العلم لا يجوز له أن يصنع شيئاً؛ لأنه قد أعطاهم الأمان، فهذا ديننا، أهواؤنا لو كانت على رغباتنا لصار شيئاً آخر، لكن ديننا يأبى علينا، فلا يصلح في ديننا الغدر.
هذه المسائل تخفى كثيراً لا أقول على عامة الناس بل أقول على طلاب العلم، وأحياناً قد ينسى الإنسان.
مرة من المرات كان هناك أحد الإخوة، وكنت أناقش مسألة: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، وذكرت الخلاف في المراد بجزيرة العرب، وذكرت كلام الحافظ ابن حجر فقال: لا, جزيرة العرب من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، قلت: هذا ليس عن علم، فيعتقد ثم يحكم وهذا هو الهوى، قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42]، وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [ص:26].
يعني لو أن مسلماً أسره الكفار، فقالوا: نطلق سراحك لكن بشرط أن تذهب إلى بلادكم وترسل لنا المال، يجب عليه أن يفي بهذا العهد, ولو قالوا له: وإن لم تبعث لنا المال عليك أن ترجع لنأسرك، فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: يجب عليه أن يرجع كما حصل لـأبي بصير و أبي جندل.
والقول الثاني: لا يرجع؛ لأنه يعود عليه بالفتنة, وهذا الأقرب والله أعلم، إلا إذا كان رجوعه وحبسه لا يعود عليه بالفتنة، فحينئذٍ يجب عليه أن يرجع، إلا المرأة فإنه لا يجوز لها أن ترجع لأنها عورة، وقد كان اتفاق قريش أن من جاء من النساء من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إرجاعها، وقد قال الله: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، فالمرأة عورة.
قال المؤلف: [فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز عنه لزمه العود]، هذا كلام المؤلف وهذه إحدى الروايتين؛ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد أهل الحديبية على رد من جاء مسلماً، فرد أبا جندل و أبا بصير وقال: لا يصلح في ديننا الغدر، والرواية الأخرى: أنه لا يرجع؛ لأن الرجوع إليهم معصية فلا يلزم بالشرط، وأما قصة النبي صلى الله عليه وسلم فهي اتفاق وعهود بين دولتين أو بين رئيس ورئيس، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لعل الله أن يفرج عنكم ) والمسألة محتملة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر