الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, وبعد:
وصلنا إلى القاعدة السادسة.
الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة السادسة: المكره المحمول كالآلة غير مكلف, وهو تكليف بما لا يطاق, ولو أكره وباشر بنفسه فمكلف عندنا وعند الشافعية؛ لصحة الفعل منه وتركه ولهذا يأثم المكره على الفعل بلا خلاف, قاله صاحب المغنى وغيره.
وقالت المعتزلة: لا يجوز تكليفه بعبادة؛ لأن من أصلهم وجوب إثابة المكلف, والمحمول على الشيء لا يثاب عليه, وأطلق جماعة عن المعتزلة أن المكره غير مكلف, وألزمهم القاضي أبو بكر على القتل, قال أبو المعالي : وهي هفوة عظيمة؛ لأنهم لم يمنعوا النهي عن الشيء مع الإكراه, وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى فعل شيء للأمر به, وهذه القاعدة مختلفة الحكم في الفروع في المذهب بالنسبة إلى الأقوال والأفعال على ما لا يخفى, وضابط المذهب أن الإكراه لا يبيح الأفعال وإنما يبيح الأقوال, وإن اختلف في بعض الأفعال واختلف الترجيح].
الشيخ: يقول المؤلف: إن الإنسان قد يكره على قول الكفر, يكره على قول الطلاق, يكره على قول البيع والتلجئة في ذلك, لكنه لا يكره أن يزني, ولا يكره أن يقتل غيره؛ لأن هذا لا يتأتى، هذا هو المذهب على ما ذكره المؤلف, والمسألة بحاجة إلى تفصيل.
الملقي: (... في مسألة الإكراه يحسن أن نبين أن الإكراه نوعان عند جمهور العلماء: النوع الأول: الإكراه الملجئ، وهو الذي يفقد صاحبه الرضا، ولا يبقى معه اختيار بالكلية، ولا قدرة له على الاقتناع عن فعل ما أكره عليه، ... على شخص يقتله، وفي هذا النوع من الإكراه لا يكون للمكره مندوحة عن فعل ما أكره عليه).
الشيخ: هذا يرفع عنه التكليف لأنه لا طاقه له به, لكنه لو أدفع ثم أمسك بشخص وسقط معه فهو يتحمل مثل قصة علي في زبية الأسد, لما سقط شخص أمسك بالآخر, فإمساكه بالآخر غير إكراه, لكنه يتحمل جزءاً من الدية.
أما إذا أكره مثل شخص يقود سيارته فجاءت سيارة أخرى فضربت هذه سيارته، فسقطت في الشارع الثاني فمات شخص, هنا لا إرادة له ألبتة.
الملقي: (النوع الثاني: وهو الذي يفقد صاحبه الرضا، ولكن يبقى معه نوع اختيار وقدرة على الامتناع، كالتهديد بالضرب أو القتل إن لم ... وفي هذا النوع يكون للمكره مندوحة عن الفعل بالصبر على ما هدد به، فأما النوع الأول من الإكراه فقد ... حكى ... العلماء الإجماع على عدم التكليف فيه؛ لكن الواقع أن هناك خلافاً نقله العلماء في ذلك على قولين: الأول: أنه مكلف وهو قول الحنفية كما هو صريح ... وأطلق القول الأول بتكليف المكره كثير من الشافعية والحنابلة, قلت: ولعل من أطلق من الشافعية والحنابلة عنى به المكره إكراهاً غير ملجئ ولم يقصد الملجئ).
الشيخ: نعم, هذا اللي يظهر.
الملقي: (الثاني: أنه غير ... وغير مكلف وهو قول المعتزلة، وقال به الرازي و... و البيضاوي و الأسنوي ... وغيرهم من الشافعية, وكذا قال ابن قاضي الجبل من الحنابلة، ونقله ابن اللحام ... وغيرهم عن الحنابلة والشافعية.
وأما النوع الثاني من الإكراه ...).
الشيخ: قوله في هذا النوع أنه غير مكلف, ثم نقل عن أهل الاعتزال وغيرهم, ونحن لسنا بحاجة إلى ذكر أهل الاعتزال وقد حكى الإجماع على أنه غير مكلف, فكان ينبغي له أن يذكر أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ لأن المعتزلة لا يؤخذ بقولهم إلا على سبيل البيان، والله أعلم.
الملقي: (وأما النوع الثاني من الإكراه فاختلف).
الشيخ: النوع الثاني الذي هو إكراه غير ملجئ.
الملقي: (وأما النوع الثاني من الإكراه فاختلف العلماء في ... على أقوال أشهرها ما يلي:
الأول: أنه مكلف مطلقاً, سواء بعين الفعل المكره عليه أو بنقيضه، وهو قول الجمهور سلفاً وخلفاً.
الثاني: أنه غير مكلف بعين الفعل المكره عليه ومكلف بنقيضه, وهو مذهب المعتزلة كما صرح به الأسنوي وغيره.
الثالث: أنه غير مكلف مطلقاً، سواء بعين المكره عليه أو بنقيضه، وقال به ... الحنابلة و... من الشافعية، وقيل: إنه قد رجع عن ذلك, وذكر كثير من العلماء هذا القول للمعتزلة.
الرابع: التفريق بين الأقوال والأفعال، فيكون المرء مكلفاً بالأفعال المكره عليها دون الأقوال الصادرة منه حال الإكراه، وهو رواية عن أحمد ).
الشيخ: طيب، الآن سوف نتحدث إن شاء الله عن القول المختار في هذا.
الملقي: [وضابط المذهب أن الإكراه لا يبيح الأفعال وإنما يبيح الأقوال، وإن اختلف في بعض الأفعال واختلف الترجيح، إذا تقرر هذا فههنا مسائل تتعلق بالمكره:
منها: إذا أكره على الوضوء فإنه لا يصح على الصحيح، كذا ذكر بعض المتأخرين, وحكي قول بالصحة، ومحل النزاع مشكل على ما ذكره, فإنه إذا أكره على الوضوء ونوى وتوضأ بنفسه فإنه يصح بلا تردد، وكذلك قال الشيخ أبو محمد وغيره: إذا أكره على العبادة وفعلها لداعي الشرع لا لداعي الإكراه صحت].
الشيخ: هذا الصحيح.
الملقي: [وإن توضأ ولم ينو فإنه لا يصح إلا على وجه شاذ أنه لا يعتبر لطهارة الحدث نية].
الشيخ: هذا القول أنه لا يعتبر لطهارة الحدث نية قول عند الأحناف، وعامة أهل العلم على خلاف ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ), وقال المرداوي في الإنصاف: ففهم صاحب القواعد الأصولية -يعني: ابن اللحام- أن المكره بفتح الراء هو المتوضئ, فقال بعد أن حكى ذلك: كذا ذكر بعض المتأخرين, قال: ومحل النزاع مشكل على ما ذكره, إلى أن قال المرداوي : والذي يظهر أن مراد صاحب الفروع بالإكراه, إكراه من يصب الماء أو يوضئه بدليل السياق والسباق, وموافقة صاحب الرعاية وغيره, وتقدير كلامه: وإن أكره المتوضئ يوضئه فعلى هذا يزول الإشكال الذي أورده, إذا أكره على الوضوء فإنه لا يصح على الصحيح, كذا قال بعض المتأخرين.
هذا هو الذي ذكره صاحب الفروع يعني: لو أن شخصاً أكره شخصاً أن يصب له ماء, يقول: هذا الصحيح, وهذا مشكل, والإشكال قد فهمه صاحب القواعد ابن اللحام على أن الإكراه إنما حصل من المتوضئ, والواقع ليس كذلك؛ لأن إكراه الفعل حصل من المتوضئ على الصاب, وهذا لا أثر له في العبادة, ولكن فهم صاحب القواعد ذلك، ولهذا فالذي يظهر والله أعلم أن كلام ابن مفلح يختلف عما أراده ابن اللحام ، وكل الأمثلة التي في هذه القاعدة إنما هي إكراه غير ملجئ إلا في بعض الصور, لكن الأمثلة إنما هي في الإكراه غير الملجئ، أما لو أكره على قتل إنسان فهذا يقتل به, وهو قول عامة أهل العلم؛ لأنه إنما نجى نفسه بقتل غيره, ولا يسوغ له أن ينجي نفسه بقتل غيره.
أما إن أكره على الوطء -يعني: على الزنا- فإن كان إكراهاً حقيقياً, بمعنى أن ما هدده به سوف يوقعه حتماً, وأنتم تعرفون أن بعض الناس قد يهددك فتخاف, فأحياناً ليس إكراهاً لأنه لا يستطيع أن يوقع ما هدد به, وربما لا يستطيع أن يؤذيك لأنه لا يوقع ما أكرهك به, فهذا الصحيح أنه مكلف، أما إن كان الذي هدده يمكن أن يوقعه به وهذا إنما يكون فيمن له سلطة قوية, وليس عليه سلطان من البشر, فالجمهور ومنهم الحنابلة يقولون: لا إكراه في الزنا؛ لأنه لا يمكن الانتصاب مع الإكراه, ولكن الذي يظهر والله أعلم أن الذي أكرهه به وهو قادر على الإكراه وعرف عنه أنه إذا قال أوقع أن ذلك إكراه معتبر, يرتفع به التكليف وكذلك الأفعال الأخرى إلا القتل، والله أعلم.
منها: إذا أكره على الوضوء فإنه لا يصح على الصحيح، كذا ذكر بعض المتأخرين, وحكي قول بالصحة، ومحل النزاع مشكل على ما ذكره، فإنه إذا أكره على الوضوء ونوى وتوضأ بنفسه فإنه يصح بلا تردد، وكذلك قال الشيخ أبو محمد وغيره].
الشيخ: أبو محمد هو ابن قدامة نعم.
الملقي: [وكذلك قال الشيخ أبو محمد وغيره: إذا أكره على العبادة وفعلها لداعي الشرع لا لداعي الإكراه صحت، وإن توضأ ولم ينو فإنه لا يصح إلا على وجه شاذ أنه لا يعتبر لطهارة الحدث نية].
الشيخ: قوله: (وإن توضأ ولم ينو فإنه لا يصح) هذا قول عامة أهل العلم بما فيهم الحنابلة؛ لأنهم يرون أن رفع الحدث لا بد فيه من نية؛ لأن رفع الحدث من باب المأمور, وباب المأمور لا بد فيه من نية, بخلاف اجتناب المحظور كالنجاسات فإنها عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها ولو من غير نية, أما رفع الحدث فلا بد فيه من نية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ).
قال: (إلا على وجه شاذ), هذا القول الشاذ هو قول أبي حنيفة وقول الأحناف, والراجح كما هو معلوم أنه لا بد فيه من نية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ), فالمحدث حدثاً أكبر لو اغتسل للتبرد ولم ينو رفع الحدث لم تصح طهارته, والمعلم إذا توضأ ليعلم الطلاب وهو محدث ولم ينو رفع الحدث لا يصح وضوءه وطهارته.
وأما قول المؤلف: (فإنه لا يصح على الصحيح كذا ذكر بعض المتأخرين، وحكي قول بالصحة) ذكرنا أنه يقصد ابن مفلح في الفروع، وكلام ابن مفلح ليس بصحيح, وقد ذكر المرداوي رحمه الله أن صاحب القواعد فهم عن ابن مفلح ما لم يقله, وذلك أن ابن مفلح لم يذكر المتوضئ ولكن ذكر الصاب للمتوضئ كما أشرنا إلى ذلك, عندما ذكر الخلاف وقال: (وحكي قول بالصحة).
الملقي: [وقد يقال: لا يصح ولو نوى؛ لأن الفعل ينسب إلى الغير فبقيت النية مجردة عن فعل فلا يصح، وقد ذكروا أن الصحيح من الروايتين في الأيمان أن المكره بالتهديد إذا فعل المحلوف على تركه لا يحنث؛ لأن الفعل ينسب إلى الغير].
الشيخ: يعني: لو أن المكره قال: والله لا أفعل كذا, فأكره على الفعل فإنه حينئذٍ لا يحنث؛ لأن المقصود بذلك حال وجود الإرادة؛ ولهذا لو فعل ما حنث فيه ناسياً أو جاهلاً فإنه على ما نواه ولا كفارة, وكذلك المكره, وقلنا: إن الإكراه والجهل والنسيان على حكم واحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه وقواه ابن رجب من حديث ابن عباس : ( إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ), والخطأ هو الجهل، وما استكرهوا عليه هو الإكراه.
بقيت عدة مسائل سنذكر جملة منها، والباقي حكمها على القاعدة.
ومنها: لو أكره على الكلام في الصلاة، فألحقه بعض أصحابنا بالناسي فيكون فيه الروايات التي في الناسي].
الشيخ: قال صاحب القواعد: إن ضابط المذهب أن المكره إكراهاً غير ملجئ يعذر في الأقوال دون الأفعال, وإن كان في بعض الأفعال لا يكلف على حسب اختلاف في الترجيح, وهذا كما قلنا في المذهب أن القاعدة عندهم أن اليقين هو في الأقل, إلا في بعض المسائل فإنه يعمل بغلبة الظن حين يتعذر الأخذ باليقين، والله أعلم.
وعلى هذا فإذا أكره على الكلام في الصلاة صار حكمه حكم الناسي, وإذا صار حكمه حكم الناسي في الكلام فإن حكم الناسي إذا تكلم في الصلاة اختلف الحنابلة فيه؛ فالقول المشهور عندهم أن صلاته صحيحة, والقول الثاني: أن صلاته باطلة, وحينئذٍ يكون إكراهه أو نسيانه للشيء يعذر به من حيث رفع الإثم.
وهذه كلها قواعد من باب عوارض الأهلية.
الملقي: [وقال القاضي : بل هو أولى بالعفو من الناسي؛ لأن الفعل لا ينسب إليه بدليل الإتلاف, واختار الشيخ أبو محمد الإبطال بكلامه بخلاف الناسي، قال: كما لو أكره على زيادة ركعة أو ركن, ومراد الشيخ والله أعلم بالركن: الركن الفعلي لا القولي, ومنها: لو أكره على الحدث في الصلاة فإنه تفسد صلاته، أجاب به القاضي في الخلاف, وذكر معه الإفساد بالإكراه على الكلام في هذا الموضع, وهو مخالف لقوله الأول وقاس].
الشيخ: انظروا يا إخوان! اجتناب المحظور في الصلاة يختلف عن فعل المأمور, فلو أكره على ترك المأمور كالطهارة مثلاً فإن الطهارة لا تصح, فإذا جعلنا عوارض الأهلية لا علاقة لها بصحة الصلاة فإن الناسي والجاهل لو صلى محدثاً لا تصح صلاته؟ وكذلك المكره, وأنتم تعلمون أن قاعدة أبي محمد بن قدامة يقول: (واختار الشيخ أبو محمد الإبطال بكلامه بخلاف الناسي)؛ لأن قاعدة الرواية الأخرى عند الحنابلة وهو اختيار ابن قدامة أن الناسي يعذر, والجاهل لا يعذر، وقد ذكرنا هذه القاعدة وقلنا: استدل ابن قدامة على أن الجاهل لا يعذر بحديث ثوبان : ( أفطر الحاجم والمحجوم ), قال: وإنما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في حق جاهلين, ومع ذلك أفسد صومهما على خلاف الاحتجاج بهذا الحديث, لكن قاعدة ابن قدامة بخلاف الناسي, فإن الناسي أعذره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاوية بن عبد الحكم عندما تكلم في الصلاة, فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة, وعلى هذا فالمكره أخذ حكم الجاهل عند ابن قدامة ؛ لأن الجاهل غير معذور عند ابن قدامة .
ومنها: لو أكره على الحدث في الصلاة فإن صلاته تفسد وهذا لا إشكال فيه؛ لأن من أحدث جاهلاً أو أحدث ناسياً في الصلاة لا تصح, وكذلك المكره.
الشيخ: أنتم تعلمون أن أداء الزكاة فيه أمران: خطاب تكليف وخطاب وضع؛ لأن الزكاة حق المال, فإذا أكره الإنسان على أداء زكاته فإنها تقبل ظاهراً ولا يؤمر بأدائها مرة ثانية، وأما مسألة الثواب والعقاب الأخروي فهذا يكون على حسب نيته, هذا هو مرادهم رحمهم الله بقولهم: تجزئ ظاهراً ولا تجزئ باطناً؛ أي وباطناً بينه وبين الله, فإن كان لا يريد أداءها ولا يريد الثواب فهذا معروف أنه لا يؤجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ), أما أن يؤمر مرة ثانية فلا, ولهذا قال: [قلت: وهذا أصوب].
الملقي: [قلت: وهذا أصوب، وصححه صاحب المستوعب، والله أعلم].
الشيخ: والغالب أن أكثر الأصحاب على هذا الذي ذكره محفوظ الكلوذاني و ابن عقيل رحمهم الله.
الملقي: [وفرق الأولون بين الصلاة والزكاة بأن الزكاة تدخلها النيابة فقامت نية الإمام مقام نية الممتنع, كولي اليتيم والمجنون, والصلاة لا تدخلها النيابة فلا بد من نية فاعلها، وفي هذا الفرق بحث].
الشيخ: يقول الحنابلة -كما نقلها صاحب القواعد- قالوا: تقوم نية الإمام عن نية المؤدي فيؤجر, وقالوا: إنه يفرق بينها وبين الصلاة؛ لأن الصلاة لا تدخل النيابة, وأما الزكاة فتدخل النيابة.
يقول المؤلف: (وفي هذا الفرق بحث), نعم في هذا الفرق بحث من حيث الحكم هل تدخل النية في النيابة أم لا؟ لأننا قلنا: ولو تدخلها النيابة فإنه لا يؤجر, مثلما لو قال الموكل لوكيله: لا تتصدق بمالي فتصدق بماله, فإنه لا يؤجر, إلا إذا كان إذناً ضمنياً وليس صريحاً وهذا كما اشتكى الزوج زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! إنها تعطي مالي ولم آمرها, قال: الأجر بينكما ), وقول النبي: (الأجر بينكما) يعني: لو أذنت لها فالأجر بينكما، والله أعلم.
الشيخ: الآن الذين يغمى عليهم في حوادث وهم صائمون, ثم يفاجئون وعليهم المغذية فهؤلاء في حكم المكره، فيكون صومهم صحيحاً, وهذا إن أخذنا بقاعدة ابن قدامة أن المكره يأخذ حكم الجاهل.
طيب عند ابن قدامة أن الناسي في الأكل والشرب وهو صائم يعذر, فالجاهل والمكره من باب أولى؛ ولهذا لا يقضي.
الملقي: [ومنها: إذا أكره المعتكف على الخروج من المسجد فإنه لا يبطل اعتكافه ولو خرج بنفسه، وجزم صاحب المحرر لا ينقطع تتابع المكره, وأطلق بعضهم فيه وفي الناسي وجهين. ومنها: إذا أكره على الجماع فجامع فإنه يجب عليه القضاء والكفارة، هذا ظاهر المذهب, ونقل ابن القاسم : كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة].
الشيخ: أخذنا قاعدة في المذهب باختصار وبأسلوب أسهل, وهي أنه إن كان قولاً فيعذر؛ لأنه ليس شيء أشد من الكفر، وقد قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106], وأما الإكراه على الفعل فلا يخلو من أن يكره على مخالفة مأمور, مثل أن يكره على الحدث في الصلاة فهذا ينظر فيه؛ فإن كان لا يعذر في الجهل والنسيان فلا يعذر حينئذٍ, ومعنى (لا يعذر) أي لا تكون عبادته صحيحة, وإن كان يعذر في جهل ونسيان فإنه حينئذ يعذر, وأما اجتناب المحظور فهذا عندهم فيه خلاف, فمنهم من ألحقه بالناسي, ومنهم من ألحقه بالجاهل, فالمشهور من المذهب أن الجاهل لا يعذر, وهناك رواية أخرى بعذره اختارها ابن تيمية , وأما الناسي فالذي اختاره ابن قدامة رحمه الله في المغني أن الناسي يعذر, والرواية الأخرى لا يعذر, والمذهب عند المتأخرين على قاعدة ابن قدامة , والمذهب عند المتأخرين كالروض والكشاف على قاعدة ابن قدامة , وحينئذٍ تكون قاعدة المذهب بهذه القواعد الثلاث أو الأربع.
الرواية الثانية: أنه يعذر، اختارها ابن تيمية وهو المذهب عند الشافعية, أما على المذهب لا يعذر, والقاعدة في المذهب واضحة, لو أكره على الجماع في الصيام, أو أكره على الجماع قبل التحلل الأول, فالمذهب عندهم أنه لا يعذر, والرواية الأخرى فإنه يعذر وهو اختيار ابن تيمية , هذا هو الإكراه على فعل المحظور.
الملقي: [ومنها: لو أكره المحرم على حلق رأسه فإن الفدية تجب على الحالق في أشهر الوجهين].
الشيخ: الآن حلق الرأس يأخذ حكم المكره على فعل المحظور, فإما أن يأخذ حكم الجاهل, وإما أن يأخذ حكم الناسي, لكنهم قالوا في حلق الرأس وفي تقليم الأظفار: لم ننظر فيها إلى هذين الحكمين لأمر واحد وهو أن فيها إتلافاً، قالوا: فكما أن جزاء الصيد فيه الكفارة ولو لم يكن متعمداً لأن فيه إتلافاً, فكذلك هنا.
والرواية الثانية: على الأصل في القاعدة عندهم, إذاً هذه من المسائل التي استثنوها كما استثنوا الجماع.
إذاً القاعدة التي ذكرناها نحن مضطربة عند الحنابلة, لكنهم استثنوا الجماع وفعل محظور فيه الإتلاف, لكي تعلم أن الحنابلة يمشون على قواعد, فإذا قلت أنت: إنهم مضطربون, مرة يعذرون ومرة لا يعذرون, قال لك الحنبلي: لا, فإننا لا نعذر من ترك مأموراً, ولا نعذر من فعل محظوراً بوطء, ولا نعذر من فعل محظوراً فيه الإتلاف.
الشيخ: هذه العبارة فيها إشكال وتحتاج إلى شرح, يقول الحنابلة: ولا يصح بيع المكره لو أكره، صورة المسألة: لو أكره على بيع سيارته, ففي المذهب لا يصح البيع, لكنه لو أكره على وزن مال أو إن شئت فقل: لو أكره على دفع مائة ألف, فاضطر إلى بيع سيارته التي هي بقيمة مائة ألف أو مائة وعشرين ليعطيها المكره يصح بيع المكره حينئذٍ؛ لأنه لم يكره على بيع السيارة, ولكنه أكره على وزن مال بقيمة السيارة؛ ولهذا قالوا: وإن أكره على وزن مال بغير حق فباع ماله لأجل ذلك، باختصار عندهم صورتان:
الصورة الأولى: شخص أكره على بيع سيارته, فهذا بيعه لا يصح.
الصورة الثانية: شخص أكره على بذل مائة ألف, سواء باع سيارته, أو عنده مال في الحساب الجاري أو غير ذلك, المهم أنه يكره على دفع مائة ألف, فاضطر إلى بيع سيارته, فهو لم يبع السيارة مكرهاً؛ ولكنه اضطر إلى أن يبيعها لأجل دفع المال, فهنا يقول الحنابلة: يصح على الصحيح مع كراهة الشراء.
لكن ابن تيمية يقول: إنه يصح من غير كراهة؛ لأنك إذا قلت: يكره الشراء أوقعت المكره في حرج, هذه هي صورة المسألة, والبيع إكراه قول إيجاب وقبول, فعلى المذهب أنه يعذر بالقول فلا يصح إلزامه بذلك.
الحنابلة يقولون: ولو أكره على وزن مال -يعني: فاضطر إلى بيع شيء من ماله- صح البيع وكره الشراء, و ابن تيمية يقول: صح البيع ولم يكره الشراء.
وقد قلنا أن المكره استثنى الحنابلة فيه الإكراه على الجماع والإكراه على الإتلاف, سواء كان الإتلاف لحق الله أم لحق المخلوق؛ وحق الله مثل كفارة المحظور في الحج, وحق المخلوق لو أكره على إتلاف مال الغير فهنا يضمن.
الشيخ: لو أن شخصاً أعطى آخر سيارة وديعة ليحفظها عنده, فجاء شخص ثالث فأكره المودع عنده على أن يدفعها إلى آخر, فيكون المكره حينما أكره على إعطائها للغير يكون عمله إما بمثابة الإتلاف أو ليس بمثابة الإتلاف فإن قلنا: بمثابة الإتلاف فيضمن، وإن قلنا: إن هذا ليس بمثابة الإتلاف, فإنه لا يضمن, فالقاضي أبو يعلى يقول: إن فعل المودَع ليس بمثابة الإتلاف؛ ولهذا قال المؤلف: (قال القاضي: لا ضمان عليه؛ لأنه ليس بإتلاف), وذكره في المجرد مفرِّقاً بينه وبين الإكراه على القتل؛ لأن القتل لا يعذر فيه بالإكراه بخلاف ذلك, [قال شيخنا -يعني: ابن رجب - وهذا التعليل يشمل الإتلاف أيضاً].
الملقي: [وقد يقال: هو معذور في التسليم دون المباشرة لأنها أغلظ, ولهذا فرق ابن عقيل والقاضي بين الإكراه على القتل والإكراه على الإتلاف كما تقدم؛ لأن القتل أغلظ, وقد يقال: إنه لا يضمن إذا أكره على التسليم, ويضمن إذا أكره على الإتلاف؛ بأن هذا إكراه على سبب وذاك إكراه على مباشرة, يؤيده نص الإمام أحمد في رواية ابن ثواب على أن حافر البئر عدواناً إذا أكرهه السلطان على الحفر لم يضمن, وتابع ابن عقيل في الفصول وصاحب المغني و القاضي في المجرد وفي شرح الهداية لـأبي البركات أنه لا يضمن، كما لو حلف لا يدخل الدار, فدخلها مكرهاً, قلت: هذا القياس إنما يأتي على إحدى الروايتين في عدم الحنث].
الشيخ: القول الذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا أعطى المودع بالإكراه غير صاحبها فإنه يعذر؛ وذلك لأن إعطاءه بالإكراه ليس إتلافاً؛ لأننا نقول في القتل: لو أكره على بذل السلاح لمن سيقتل فإنه لا يقتل به, فلو أكره على إعطاء المكرِه سيفاً أو سكيناً أو مسدساً فأخذه فقتل به فإن المكرَه معذور, فلو أكره على أن يقتل بالمباشرة فإنه لا يعذر, لكنه إذا كان بالتسبب فإنه يعذر, هذا هو الذي يظهر والله أعلم, والباقي من المسائل كلها لا تخرج عن هذا الأمر.
في مسألة اثنين وعشرين, قال: لو أكره على الرضاع, وهذه ليس لها علاقة بمسألتنا؛ لأن الإكراه على الفعل لا علاقة له بالمكره؛ فالرضاع متعلق بذات اللبن من قبل الصبي, والعبرة بخطاب وضعي وليس خطاباً تكليفياً، والله تبارك وتعالى أعلم, لعلنا نقف عند هذا والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
إن شاء الله الأسبوع الثاني من بداية الدراسة نشرع في القاعدة السابعة, بس قبل أن نختم هذا, لو قرأت خاتمة يا شيخ! صفحة مائة وثلاثة وستين, عندما ذكر المؤلف أمثلة في هذا, قال: خاتمة.
الشيخ: هنا عمار فعل الرخصة و خبيب فعل العزيمة, فكان خبيب أفضل من عمار والله أعلم, وهذا مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إذا كان أمره بالمعروف سوف يؤدي إلى ضرر به, فإن جمهور أهل العلم -وحكاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم- أنه يعذر والله أعلم, لكنه لا يقول باطلاً, فالعالم يسكت عن قول الحق خوفاً لكنه لا يقول باطلاً.
والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر