الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
وصلنا إلى القاعدة الخامسة عشرة، وهذه القاعدة من مسائل الحكم كما هو معلوم عند علماء الأصول، والحكم: هو ما يتعلق بخطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً وطلباً ونحو ذلك، وما يتعلق بهما من تكرار هذا الطلب؛ هل يفيد التكرار أو يفيد الفورية ونحو ذلك، ونقرأ القاعدة الخامسة عشرة.
الملقي: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الخامسة عشرة: الأمر الذي أريد به جواز التراخي بدليل أو بمقتضاه عند من يراه إذا مات المأمور به بعد تمكنه منه، وقبل الفعل لم يمت عاصياً عند الأكثرين].
الشيخ: هذه القاعدة يقول: (الأمر الذي أريد به جواز التراخي بدليل) مثل أن يقال: افعل هذا وأنت بالخيار: أول الوقت أو آخر الوقت، أو يفيد الإطلاق كما قال الله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فأطلق الله سبحانه وتعالى العدة من صيام، فيكون هذا واجباً موسعاً، إذا مات المأمور به بعد تمكنه أول الوقت هل يكون عاصياً أم لا؟ بمعنى إذا أفطر في نهار رمضان لعذر، ثم تمكن من أداء العبادة أول الوقت ولكنه لم يفعل، فهل إذا مات يكون عاصياً بتركه القضاء مع إمكانه أول الوقت؟ يقول المؤلف: (لم يمت عاصياً عند الأكثرين)، هذا قول عامة أهل العلم؛ بل حكى الغزالي الإجماع على ذلك؛ لأنه لم يفرط؛ بل قال: إن القول بخلاف ذلك هو خلاف إجماع السلف، يقول: فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأةً بعد انقضاء أربع ركعات من أول الوقت، ولتكن على ذكر أن بعض الأقوال لا تعدوا أن تكون عقلية لكن ليس لها أثر في التطبيق، فإن من علماء الكلام من دخلوا في علم الأصول فقرروا بعض القواعد العقلية التي يرون أنها تجب على الله كما تجب على المخلوق، فأوجبوا على الله أقوالاً، وإن كان أحياناً ليس لها تطبيق في واقع الفقه، وهذا مهم جداً يا إخوان! فنجد أحياناً أقوالاً في التطبيق ليس لها ذكر، لكنها من باب أن بعض علماء الكلام دخل في هذه القاعدة فأوجب وجوز على الله سبحانه وتعالى، وهذا على قاعدتهم في الاعتزال أنهم يوجبون على الله ويجوزون على الله كما يجوزون على المخلوق، ويسمونها قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.
الملقي: [وقال قوم يموت عاصياً، واختاره الجويني في مسألة الفور والتراخي، وحكى الأول مذهب الشافعي].
الشيخ: (وحكى الأول) المراد به الجويني .
الشيخ: أما قوله: (أصحهما العصيان) فهذا ليس هو المعروف عند أكثر الحنابلة، فإن أكثر الحنابلة يرون أنه لا يموت عاصياً؛ وهذا هو الصحيح من المذهب، واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه لله، وقلنا: إن أبا العباس يذهب إلى أنه لا يجب عليه القضاء فيما لو وجد مانع أول الوقت مع إمكانية أدائه فلم يتمكن لوجود عذر، فلو حاضت المرأة بعد مضي أربع ركعات أو سبع ركعات أو عشر ركعات أول الوقت فإن مذهب ابن تيمية لا يوجب عليها القضاء؛ لأنها لم تجب الصلاة في حقها ولم يذهب الوقت كما هو مذهب مالك رحمه الله.
الملقي: قال: [وأبداه أبو الخطاب في انتصاره؛ قال: لأنه إنما يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة].
الشيخ: شرط، يقول: (لأنه يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة)، من علماء الحنابلة قالوا: يجوز له التأخير مع شرط العزم على الأداء، يعني: أن يكون عازماً على أن يؤدي العبادة في وقتها لكنه سوف يتأخر، أما إن لم يعزم فوجهان؛ مثال ذلك: امرأة دخل عليها وقت صلاة الظهر، فقالت: سأصليها الساعة الثانية. يقول الحنابلة: لا بأس بالتأخير بشرط العزم على الفعل، فإن لم تعزم ثم وجد المانع فهي آثمة، وهذا المذهب، وهناك رواية أخرى: أن عدم العزم لا بأس به شريطة عدم العزم على الترك، ففرق بين العزم على الأداء والعزم على الترك، فإذا عزم على الترك فهذا يأثم، أما إن عزم على الفعل أو لم يعزم على الفعل ولا الترك مثلما يفعله عامة الناس اليوم فهذا لا يأثم. والله اعلم.
الشيخ: السلعة مثل الغدة، والمقصود من هذا أن الأمر بجواز الضرب إذا ترتب عليه شيء فإنه لا يأثم، فالقاعدة الفقهية تقول: ما ترتب على المأذون فلا ضمان، فإذا أذن الشرع في الشخص أن يفعل، ثم تلف بسبب هذا فلا ضمان، والمؤلف أدخلها في قاعدة أصوليه؛ لأن الأمر بالشيء يترتب عليه عدم الإثم، هذا مراد المؤلف، إذا ضرب المعلم تلميذه فمرض فلا يضمن إذا ضربه بالضرب المعتاد، أما أن يضرب زيادة على المعتاد كما يفعله الآن بعض المدرسين، يضرب الطالب ضرباً مبرحاً، ثم يدخل على إثره المستشفى، ثم يقول: أنا معلم مؤدب، نقول: هذا الضرب غير مأذون لك فيه، لا شرعاً ولا نظاماً، فهذا هو سبب إيراد المؤلف هذا. والله أعلم.
ولكن القاعدة تقول: (الأمر الذي أريد به جواز التراخي بدليل أو بمقتضاه إذا مات المأمور به بعد تمكنه وقبل الفعل لم يمت عاصياً)، والمثال هذا إنما هو فيما يترتب على الفعل، وليس على الترك، إلا إذا قال المؤلف: وقيل الفعل، يعني: إذا مات المأمور بعد تمكنه منه وقيل الفعل لم يمت عاصياً، (وقيل الفعل)، هذه العبارة مشكلة إلا إذا قال: وقبل الفعل، ربما تكون أحسن حالاً، والعلم عند الله.
على كل حال هذا المثال الذي ذكره المؤلف المقصود منه إذا فعل ما أمر به، وليس إذا تركه.
الشيخ: جاء في أثر عن عمر بن الخطاب كما عند ابن أبي شيبة أن عمر دعا امرأة وكانت حاملة، فمن شدة خوفها أسقطت الولد، فسأل الأصحاب؛ أصحاب عمر ، فقال علي بن أبي طالب : تضمنها يا أمير المؤمنين. وهذه -كما قلت- القاعدة الأمر يفيد التراخي إذا تركه، وهذا فعل، ولهذا قول المؤلف: (وقيل الفعل) يعني: إذا فعل ما يفيد التراخي على الفعل يترتب عليه ضمان، هذا الذي يمكن الحمل عليه. والله أعلم.
الملقي: [وقال صاحب المغني: يضمنها إن كان ظالماً لها، وإن كانت هي الظالمة فلا يضمنها].
الشيخ: صحيح؛ لأنه لم يترتب على المأذون فلا ضمان.
الملقي: [قلت: والذي قاله صاحب المغنى بأنه يضمنها إن كان ظالماً لها فلا تردد فيه، وإن لم يكن ظالماً فهذا ينبغي أن يكون محل الخلاف -والله أعلم- وأما جنينها فمضمون، نص عليه الإمام أحمد ؛ لأن الجنين هلك بسبب المعتدي أو المرسل أشبه ما لو اقتص منها، ولنا قول بعدم الضمان؛ لأن المرسل غير متعد].
الشيخ: الأقرب والله أعلم كما قال ابن قدامة ؛ لأن السلطان من واجبه على رعيته حفظ أعراض الناس، وإيجاد الأمن، فإذا فعل ما يوجب ذلك أو من مصلحته فترتب عليه الهلاك فلا ضمان؛ لأن ما ترتب على المأذون فلا ضمان عليه، وهذا هو قول ابن قدامة .
الشيخ: يقول: (هكذا وجه غير واحد من الأصحاب) بقوله: (لأن الوقوف مشروط بسلامة العاقبة)، الذي يظهر والله أعلم أن الحنابلة حينما قالوا: لو أوقف دابة في طريق فلا يضمن؛ لأنهم يرون الأصل أن العجماء جرحها جبار كما في الصحيحين، ولا يكون جرحها فيه الضمان إلا إذا لم يحفظها في وقت حفظها، ففي النهار الأصل أن الإنسان يحفظ ماله بنفسه، ولهذا صارت القاعدة عند الحنابلة أن العجماء جرحها جبار، والله أعلم.
الملقي: [قال الحارثي : والأقوى نظراً عدم الضمان حالة القيام في الطريق، كما أورد القاضي وغيره دون حالة الربط، وإن كان صاحب التلخيص صرح بالخلاف في الربط، فإن الربط عدوان محض لوقوعه في غير ملك؛ ولأن القدر الذي يملكه هو المرور، فالربط غير مستحق، وأما القيام فليس عدواناً، فلا يصير به ضامناً، هذا ما لم تكن الجناية خُلقاً للدابة، فإن كانت خلقاً لها فهي كالعقور. قلت: قول الحارثي القدر الذي يملكه هو المرور، فالربط غير مستحق يرد عليه في القيام، فإن القيام ليس بمرور، ويصير عدواناً فيضمن به].
الشيخ: على كل حال الأصل أن الإنسان لا يضمن إلا إذا فرط في ذلك، فإذا كان راكباً دابته ولم يحفظها بزمامها حتى أفسدت بتفريط منه فهو ضامن، وإذا صنع الحفظ كالعادة فلا يضمن؛ لأن العادة جارية على أن الدابة تسير وتقف في طرقات الناس، لكنه لو أوقفها في طريق ضيق فأفسدت هذا صحيح أنه يضمن؛ لأنه متعد في الوقوف.
الملقي: [ومنها: لو حفر بئراً في طريق واسع لنفع المسلمين ففي المسألة طريقان: أحدهما: إن كان بإذن الإمام جاز، وبدون إذنه روايتان على الإطلاق، قاله أبو الخطاب وصاحب المغني، إذ البئر مظنة العطب، وحيث قلنا بالجواز فلا ضمان، صرح به القائلون بالجواز].
الشيخ: كل هذه الأمثلة كما قلنا في مسألة ما يترتب على المأذون ففيه الضمان أم لا؟
ثم اختلفوا في تحقيق المناط، واعلم يا رعاك ربي أن تحقيق المناط، يقول عنه الغزالي في المستصفى: غاية مباحث العقلاء -أو كلمة نحوها- هي تحقيق المناط، سنتفق أنا وإياكم على قاعدة، لكن تطبيقها في هذه المسألة محل خلاف، فإذا قلنا: ما ترتب على المأذون فلا ضمان، هل وضع الدابة في الطريق مأذون فيه أم لا؟ سوف نختلف، لكن اختلافنا في التطبيق وليس في القاعدة، وعلى هذا فإيراد مثل هذه المسائل على قاعدة نتفق عليها ليس وجيهاً؛ لأنها سوف تأتينا في كل قواعد الأصول، فتطبيقها في الواقع مع الاتفاق ليس خلافاً في القاعدة، ولكن خلاف في تحقق هذه القاعدة في هذه المسألة، ولهذا إيراد مثل هذه المسائل أحياناً فيها نوع من التكلف، فيكفي أننا ذكرنا أمثلة على هذا.
الشيخ: لأنه مأذون له في الوطء، فإذا وجد عيب بسبب هذا الوطء المباح فلا يضمن، هذا معروف، انظروا هنا لم يذكر خلافاً في هذه المسألة، هل الحنابلة مضطربون حينما يقولون في هذه المسألة عدم الضمان وفي غيرها الضمان؟ لا، ولكن هنا لا يتصور الاعتداء في الغالب، فلم يتصور خلاف في تحقق المناط.
الشيخ: المؤلف يقول: ههنا مسألة أن قضاء رمضان على التراخي لقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، إذاً هو على التراخي، يقول: (جزم به غير واحد من الأصحاب، وعزاه في الخلاف إلى نص أحمد )، كتاب الخلاف معروف وهو كتاب القاضي.
يقول: (وذكره القاضي في الخلاف في الزكاة على الفور، أن قضاء رمضان على الفور، واحتج بنصه في الكفارة)، يعني الإمام أحمد نص على الكفارة إذا لم يفعل، يقول: (فعلى قول القاضي لا إشكال)؛ لأنه على الفور؛ لأنه غير داخل في قاعدة التراخي، ثم قال: (وعلى قول الجمهور) الذي يفيد التراخي (إذا أمكنه القضاء فلم يقض فإنه يلزمه الإطعام لكل مسكين يوماً)، هذا هو مذهب الشافعية والحنابلة والمالكية، فإنهم قالوا: إذا جاء رمضان الثاني مع تمكنه من القضاء فلم يفعل فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً لما صح عن ابن عباس بإسناد جيد عند البيهقي أنه سئل: عن الرجل أفطر من رمضان فلم يقض حتى جاء رمضان الثاني، قال: يصوم الثاني، ثم يطعم عن كل يوم قضاه مسكيناً، وكذلك صح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا لا يمنع من القول بالتراخي؛ لأن الذين قالوا بالتراخي قالوا بالتراخي إلى أمد؛ وهو رمضان الثاني، فالمقصود بالتراخي أن ثمة وقتاً طويلاً يمكن أن يؤخر العبادة عن أول الوقت إلى آخره، فعلى هذا قول الجمهور يكون لا إشكال فيه أيضاً؛ لأنهم قالوا: بالتراخي إلى أمد، فإذا تعدى هذا الأمد ففيه الكفارة، والله أعلم.
إذاً على قول الجمهور لا إشكال، إذا قلنا: إن قول الصحابي حجة، وعلى قول الصحابي حجة أيضاً، فإن الذي يظهر -والله أعلم- عند المالكية أن الكفارة على سبيل الاستحباب؛ لأن الله يقول: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وإفتاء الصحابة مبني على قاعدة أصولية أشار إليها الشاطبي رحمه الله -وهذه مهمة جداً- وهي أن فعل الصحابي أو قوله هل يقيد اللفظ العام أم لا؟ فقولنا: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، عام لكل الأيام، وجاءنا فعل الصحابي فقيد، فالذي يظهر -والله أعلم- أن فعل الصحابي يدل على الاستحباب أو على الجواز، لكن لا يدل على الوجوب، وهذه قاعدة معروفة عند علماء الأصول، والله أعلم.
وعلى هذا فالراجح -والله أعلم- أن فتوى ابن عباس وأبي هريرة من باب الاستحباب؛ لأن الاعتماد على اللفظ العام وتقييد الصحابي للفظ عام يدل على الاستحباب، ولا يدل على الوجوب؛ بل يدل إما على الجواز وإما على الاستحباب، من ذلك مثلاً: الشارع أطلق ( وفروا اللحى ) وقيده ابن عباس و ابن عمر بما زاد عن القبضة، فهذا تقييد اللفظ العام، فدل على أن فعل الصحابي يجوِّز، لكن لا يوجب، هذه قاعدة عند علماء الأصول، والله أعلم.
يا إخوان! بعضكم يشكل عليه أنه لم يكتب، لكن بمجرد إشغال الذهن بالتحريرات تتفتق أذهان الكثير منا، فعلم الأصول ليس مثل غيره من العلوم، علم الأصول مثل الصلصال، يسقط شيء من هنا وآخر من هناك حتى يقوى الإدراك، وبعدما تتخرج وأنت تقرأ تجد أن هذه المعلومات شيء من هنا وشيء من هنا، ثم تبدأ تتجمع، فتكون دائرتك كبيرة، فإن لم توجد قراءة فإن هذا الذي أخذته من العلم يتضمر، أما مع القراءة والاطلاع والإشكالات تكبر معلوماتك، وهذا هو المقصود؛ لأن بعض الإخوة يطالب بعض طلاب العلم ألا يقرأ كتب ابن تيمية إلا في سن معينة وهذا خطأ؛ بل نحن نقول: اقرأ كتب ابن تيمية ما دمت في سن الجامعة في السنة الثانية أو الثالثة في الكلية، اقرأ حتى لو لم تفهم؛ لأن ابن تيمية يعطيك طريقة في الاستدلال، يعطيك طريقة في العقلية، قد لا تفهم عبارته، لكن شيئاً فشيئاً حتى تتسع مداركك، ومثل هذا الجوارب كلما وضعت فيها شيئاً من التراب تمددت، فأنت لا بد أن تكون بهذه الطريقة، بعض الناس يقول: والله خرجت من المدرسة ومن الدرس وما فهمت؟ أقول لكم أنا بأسلوب بسيط: الذين يذهبون يتعلمون لغة إنجليزية بعضهم يجلس ثلاثة أشهر يتعلم ثم أربعة أشهر ويقول لم أفهم، لكن في الواقع هو أخذ معلومات ولا يدري، بعد خمسه أشهر ستة أشهر يبدأ يتكلم بالإنجليزية وهو لا يدري، من أين أتى بتلك الكلمات، هذا هو الفقه، هذا هو مدارك النظر نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر