وصلنا إلى القاعدة السابعة عشرة.
الملقي: [القاعدة السابعة عشرة: ما لا يتم الواجب إلا به. للناس في ضبطه طريقان:
إحداهما: وهي طريقة الغزالي و أبي محمد المقدسي وغيرهما أنه ينقسم إلى: غير مقدور كالقدرة والأعضاء, وفعل غيره كالإمام, والعدد في الجمعة فلا يكون واجباً. وإلى ما يكون مقدوراً له كالطهارة وقطع المسافة إلى الجمعة والمشاعر فيكون واجباً.
قال أبو البركات : وهذا ضعيف في القسم الأول؛ إذ لا واجب هناك، وفي الثاني باطل باكتساب المال في الحج والكفارات ونحو ذلك.
الطريقة الثانية: أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب كالقسم الأول، وكالمال في الحج والكفارات. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مطلقاً، وهذه طريقة الأكثرين من أصحابنا وغيرهم.
قال أبو البركات : وهي أصح].
الشيخ: لعل هذا هو الأقرب، الناس مختلفون على أربعة أقوال، لكن هذا القول الذي ذكره في الطريقة الثانية هي الصحيحة، أن ثمة فرقاً بين ما لا يتم الوجوب، وبين ما لا يتم الواجب، فإذا لم يكن عنده مال لأن يحج فهذا لا يجب عليه؛ لأنه لم يكن عنده مال، فهل يجب أن يعمل لكي يحج؟ نقول: هذا مبني على ما لا يتم الوجوب إلا به، وكمن ليس عنده نصاب الزكاة، هل يجب أن يعمل حتى يتوفر له النصاب؟ هذا مبني على خلاف ما لا يتم الوجوب إلا به.
ومن المعلوم أن الوجوب لا يجب على المكلف؛ لأنه من باب خطاب الوضع فلا يلزم تحصيله؛ فلهذا يقال: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
أما ما لا يتم الواجب إلا به فإنه واجب، فإذا كان يملك المال ويريد أن يحج وجب عليه أن يشتري سيارة، أو أن يشتري دابة؛ لأن ما لا يتم الواجب -الحج على القادر- إلا به صار واجباً؛ لأن عنده الشيء الواجب، والله أعلم.
الملقي: [وسواء كان شرطاً: وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، أو سبباً وهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
وقال بعض الأصوليين: يكون أمراً بالسبب دون الشرط.
وقال بعضهم: لا يكون أمراً بواحد منهما، حكاه ابن الحاجب في المختصر الكبير، واختاره في مختصره المعروف في الشرط: أنه إن كان شرطاً شرعياً وجب، وإن كان عقلياً أو عادياً فلا].
الشيخ: هذه أربعة أقوال معروفة.
الشرط الشرعي: مثل: الوضوء للصلاة، وأما العقلي: كترك أضداد المأمور به، المأمور به له ضدان، كترك أضدادهما، والعادي: كغسل جزء من الرأس في الوضوء، هل المقصود بكل الرأس أم بعض الرأس؟ قالوا: هذا لغوي، وليس شرطاً شرعياً، على خلاف عندهم.
منها: هل يجب على الصائم إمساك جزء من الليل أم لا؟ في المسألة قولان: قال ابن الجوزي : أصحهما لا يجب، وقطع جماعة بوجوبه، وذكره ابن عقيل في الفنون و أبو يعلى الصغير وفاقاً في صوم ليلة الغيم، وذكره القاضي في الخلاف في النية من الليل ظاهر كلام أحمد وأنه مذهبنا].
الشيخ: إذا طلع الفجر يجب عليه الإمساك، وهل يجب عليه أن يمسك قبل طلوع الفجر لأجل أن يصوم جزءاً من الليل، هذا مبني على خلاف ما لا يتم الواجب إلا به فإنه واجب، والراجح أنه لا يجب.
الآن صيام جزء من الليل، هل هذا الآن بوجود الليل أو نهاية الليل وجود؟ النهار سبب للصيام، فهل يشترط في الصيام من باب إتمام الواجب صيام الليل الذي هو جزء من الليل، أم لا يجب؟
فإذا قلنا: ما لا يتم السبب إلا به، يعني من باب تحقيق صيام النهار كاملاً فلا بد أن نصوم جزءاً من الليل، ومن المعلوم أن جزءاً من الليل ليس داخلاً في النهار، ولكن من باب تحقيق إكمال الصيام كاملاً، فقال بعضهم: أصحهما أنه لا يجب؛ لأنه ليس من النهار؛ لأن الواجب أن نصوم النهار، وقال بعضهم بوجوبه من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا هو القصد من هذا المثال في هذه القاعدة. انظر إلى المثال الآخر.
الشيخ: إذا كثر ما يشك به أحد مع وجود الكثرة، فيقول: هذا جائز كالقبيلة الكبيرة، إذا اشتبهت زوجته بأجنبية فيجب عليه الكف في الجميع، هذا صحيح، لماذا؟ لأنه إذا لم يتم الواجب إلا بترك الحلال وجب ترك الحلال.
الملقي: [والثاني: المنع كدون العشر، وحيث قلنا بالجواز فهل يلزمه التحري أم لا؟ في المسألة وجهان:
قال بعض متأخري أصحابنا: يتوجه مثل هذه المسألة اشتباه الميتة بالمذكاة. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: أما شاتان لا يجوز، فأما إذا كثر فهذا غير هذا. ونقل الأثرم أنه قيل للإمام أحمد : فثلاثة؟ قال: لا أدري].
الشيخ: طيب, إذا كان عنده إناءان، أحدهما يعلم أنه نجس، وأحدهما يعلم أنه طاهر، فهل يتحرى؟ أكثر الأصحاب على أنه هنا لا يتحرى، لماذا؟ لأنه يغلب على ظنه أنه وقع على نجاسة، قال: وأما إذا كثر الطاهر ما عاد بنجس فالمذهب أنه يتركها، والرواية الأخرى: يتحرى.
والأقرب والله أعلم وهو المذهب عند الشافعية واختاره أبو العباس أن له أن يتحرى مطلقاً، ولعل هذا القول قوي، لكن بلا شك أن الإناءين ليس أكثرها طاهراً.
الملقي: [وهل يكتفى بمطلق الزيادة أو يعتبر ذلك بعشرة أوان طاهرة, فيها واحد نجس أو عشرة طاهرة وواحد نجس، أو بما هو كثير عادة وعرفاً؟ فيه أقوال للأصحاب].
الشيخ: وعلى القول بأنه يجوز له أن يتحرى لا أثر لهذا التفريق أو لهذا الخلاف.
الملقي: [ومنها: إذا اشتبه عليه الماء الطاهر بالطهور فإنه يلزمه استعمالهما لتبرأ ذمته بيقين، وهل يتوضأ وضوءاً كاملاً من كل واحد منهما، أو منهما وضوءاً واحداً؟ في المسألة وجهان].
الشيخ: إذاً: على المذهب أنه طاهر طهور، وأن الطاهر لا يرفع الحدث، لو أن عند شخص إناءين؛ إناء طاهر ويعلم أنه طاهر لكن لا يعرفه بالتحديد، وإناء طهور لكنه لا يعلمه بالتحديد، قالوا: فإنه يتوضأ من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، يعني: يغسل من هذا اليد اليمنى، ثم يغسل من الثاني اليد اليمنى، ثم التالي، وهلم جراً.
وهل يصح أن يتوضأ من هذا وضوءاً كاملاً ثم من هذا وضوءاً كاملاً؟ بعض الأصحاب قال: لا؛ لأنه إذا توضأ من هذا وضوءاً كاملاً ثم توضأ من الثاني فجائز أن يعتقد أن وضوءه الأول صحيح، ثم إذا أراد أن يصحح الوضوء الثاني لا بد أن يكون بنية رفع الحدث، فلو كان الثاني هو النجس، فقد بطلت نيته الأولى، هذا الكلام فيه عسر، أي عامي فإنه لا يفقه هذا!
وهذا الذي دائماً نقوله كما أشار الشاطبي في الموافقات: أن الأحكام الشرعية المناطة بعامة الناس يجب أن يفقهها عامتهم. وعلى هذا فالذي يظهر أنه لو توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة أو توضأ من هذا كاملاً ومن هذا كاملاً جاز والله تبارك وتعالى أعلم؛ بخلاف النجس فإنه لا يتوضأ منهما.
هنا يا إخوان ميزة الكتاب، صحيح أن بعض المسائل أحياناً ليست داخلة في القاعدة على سبيل الوضوح، لكن تعطي طالب العلم فائدة، وهي أنه يطبق أصول الفقه واقعاً، فإن أكثر مسائل أصول الفقه ليس فيها أمثلة، والغريب أن أمثلة أصول الفقه حتى عند الذين يؤلفون الكتب المعاصرة أمثلتها مكررة، كما أن الذين يشرحون مصطلح الحديث تجد أن أمثلتهم واضحة ومشهورة.
ولو أعدنا صياغة مصطلح الحديث بأمثلة جديدة وكذلك القواعد لهان الخطب واستفاد طالب العلم، خاصة أن كتاب القواعد أو كتاب تخريج الفروع على الأصول لها أمثلة كثيرة في كل كتب المذهب، ومع ذلك قل أن تجد هذا عند بعض الباحثين.
الشيخ: وهذا لأنه يجب علينا أن نصلي بثوب طاهر، وهذا الوجوب لا يتأتى إلا بأن نصلي بعدد النجس، ونزيد صلاة حتى نخرج من عهدة الصلاة.
وإذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة، فإنه يدخل فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب، ويدخل فيها قاعدة أخرى وهي اليقين لا يزول بالشك. فعندنا يقين أن من هذه الثياب نجسة، ولا يزول هذا اليقين بالنجاسة حتى نتحقق من صلاتنا بالطاهر، وهذا لا يتأتى إلا بصلاة عدد النجس وزيادة واحدة. إذاً: دخلها قاعدتان، وإذا أخذنا بالقول الراجح وهو أن فعل المأمور مبني على غلبة الظن بفعله، فيدخل فيه قاعدة التحري، والخروج من عهدة الطلب بغلبة الظن كثيرة في الأحكام الشرعية.
الملقي: [وقال ابن عقيل : يتحرى إذا كثرت الثياب النجسة للمشقة، وقال في فنونه ومناظراته: يتحرى مطلقاً].
الشيخ: إذا، كثرت الثياب أم قلت فإنه يتحرى مطلقاً، وهذا مبني على قاعدة أن فعل المأمور يخرج منه المرء بغلبة الظن.
الشيخ: إذا اشتبهت عليه القبلة فيصلي أربع جهات؛ لأجل أنه يغلب على ظنه أنه خرج من عهدة الطلب بيقين، فإن صلى جهة الشمال يمكن أن تكون في الجنوب، وإذا صلى في الشمال والجنوب يمكن أن تكون في الشرق، وإذا صلى في الشمال والجنوب والشرق فيمكن أن تكون في الغرب. فإذا فعل الجهات الأربع خرج من عهدة الطلب، وهذا بلا شك أنه تكلف.
وهذا ليس رواية عند الحنابلة ولكنه تخريج، وفرق بين الرواية والتخريج، ومن المعلوم أن الحنابلة يرون وجوب التحري هنا. وأيهما أفضل؟ ذكرنا هذه قاعدة دائماً، أيهما أفضل أن نذكر للقاعدة مستثنيات فيكون المستثنى خرج بدليل ونبقى على قاعدة، أو المستثنى خرج لأجل مشقة، أو المستثنى خرج لعدم إمكانية تطبيقه، أو نلغي قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بهذه الصورة ونجوز مسألة التحري؛ لأن غلبة الظن موجود في الشريعة؟ الأفضل التحري؛ ولهذا كان المحققون من أصحاب الحنابلة يرون التحري كما هو قول ابن عقيل وهو من أذكياء العالم، و أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه استهلاك، فيخرج قدر الحرام ولو من غيره، قاله شيخنا].
الشيخ: شيخنا يقصد به: ابن رجب .
هنا ذكر مسألة: لو كان عنده زيت وهو ملك له، وعنده زيت غصبه فخلطه، هنا الخلط لا يمكن أن يتميز معه زيته من زيت غيره، فلأجل هذا الإشكال: إما أن يتحرى ويخرج قدر المغصوب مع يقين أن من هذا القدر ما هو ملك لغيره أو يتركه كله.
كما لو علم أنه ثمة ثياباً طاهرة وثياباً نجسة ولا يعلم قدر النجس، فإن الحنابلة يقولون: يغسلها كلها وإن صلى في أحدها فإنه مأمور ويجب عليه أن يصلي بواحدة منها، وأن يعيد إذا تحقق؛ لأنها كانت نجسة في حقه، فهم يرون أنه لو صلى في ثوب نجس وجب أن يصلي في هذا الثوب النجس، ويجب عليه أن يعيد؛ لأنه فعل الشرط من غير كمال، هذا مذهب الحنابلة.
فهنا اختلط المغصوب بغيره، فقالوا: اختلط أوله وآخره، الأعجب أن يتنزه من هذا كله، هذه قاعدة عند الحنابلة أنه إذا لم يمكن التحري أو لا يمكن الخروج من الواجب فإنه يتركه كله.
والذي يظهر والله أعلم أنه إن كان الغاصب يعلم المغصوب منه فإنه يستأذنه في ذلك؛ فإما أن يخرج قدر نصيب المغصوب منه، وإما أن يبيعه كله ويخرج بينهما نصيب كل واحد منهم، وإن كان لا يعلم حال المغصوب منه جاز أن يخرج قدر الحرام، ولو من غيره, والله أعلم.
إذاً إن كان يعلم المغصوب منه استأذنه بأن يخرج القدر منه أو من غيره أو يبيعه ويعطي هذا نصيبه وهذا نصيبه، فإن اختار المغصوب أي من الصورتين فعل، وإلا من حيث أنه لا يعلم فإنه يخرج قدر الحرام سواء كان من الزيت أو من غيره، كما قال ابن رجب، والله أعلم.
الشيخ: الآن الأكل من مال من في ماله حرام، إذاً: الغالب أن ماله إما أن يكون حراماً أو حلالاً، لكن ليس كله حرام، يقول المؤلف: في المسألة أربعة أقوال.
الملقي: [أحدها: التحريم مطلقاً، قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج في كتابه المنتخب قبيل باب الصيد، وعلل القاضي وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك لاختلاط الأموال لأخذهم من غير جهته ووضعه في غير حقه.
وقال الأزجي في نهايته: هذا قياس المذهب، كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة].
الشيخ: ابن تيمية قال في الأكل مع من اختلط ماله بحرام: إن كان يغلب الحلال فليس بينهم نزاع في جواز الأكل، وإنما الخلاف في الورع.
فهذا القول عند ابن تيمية يخالف قول عبد الوهاب بن أبي الفرج حينما قطع بالتحريم، ولم يفرق بين قليل الحرام أو كثيره، فإن كان من أكل من بماله حرام مع أن الغالب أن الأكثر الحلال، فيقول ابن تيمية : يجوز الأكل منه بلا نزاع، وإنما الخلاف في التورع من عدمه، كما قال أحمد : لا يعجبني، أما أن نقول بأنه حرام فهذا ليس هو معروف عن أحمد كما هو ظاهر كلام أبي العباس بن تيمية .
الملقي: [وسأل المروذي أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده؟ قال: لا. ( قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله )، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة].
الشيخ: نعم، ابن تيمية رأى أن هذا من باب الورع؛ ولهذا قال: وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة كما في حديث النعمان بن بشير : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ).
الملقي: [والقول الثاني: إن زاد الحرام على الثلث حرم الكل وإلا فلا. قدمه في الرعاية؛ لأن الثلث ضابط في مواضع، والثالث: إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا إقامة للأكثر مقام الكل، قطع به ابن الجوزي في المنهج.
نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالاً فيه حرام: إن عرف شيئاً بعينه رده، وإن كان الغالب على ماله الفساد تنزه عنه، أو نحو ذلك. ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالاً إن كان غالبه نهباً أو رباً: ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه إلا أن يكون يسيراً لا يعرف.
ونقل عنه أيضاً: هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالاً مضاربة ينفعهم وينتفع؟ قال: إن كان غالبه الحرام فلا].
الشيخ: واضح من كلام أحمد رحمه الله هنا أنه من باب الورع لأنه قال: تنزه عنه، وفي رواية أنه قال: ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه، وهذا كله لا يجب على التحريم من نصوص أحمد , والله أعلم.
نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر