اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد وصلنا إلى القاعدة الثانية والأربعين.
الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة الثانية والأربعون: في الأوامر والنواهي هل هي حقيقة في القول المخصوص، وفي الفعل مجاز؟ هذا قول الجمهور، وقال بعض الفقهاء: هي مشتركة بين القول والفعل، نحو قولنا: كنا في أمر عظيم، إذا كنا في الصلاة، وقال أبو الحسين : هي موضوعة للقول والفعل وللشيء أيضاً، نحو قولنا: أتى بأمر ما، أي: بشيء، وللشأن أيضاً نحو قوله تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]، معناه ما شأننا في اتخاذنا إلا ترتيب مقدورنا وإرادتنا من غير تأخير كلمح البصر، وللصفة أيضاً كقول الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسود من يسود
واشترط جمهور المعتزلة في حد الأمر العلو دون الاستعلاء، وهو ظاهر قول أصحابنا].
وهذه القاعدة أثرها الفقهي ليس محل اهتمام كثير؛ لأن تطبيقاتها الفرعية ليس لها اهتمام إلا على سبيل المبالغة، وسبق أن قلنا: إن بعض الأمثلة التي ذكرها المؤلف فيها نوع من التكلف، وكنت أحب أن كتب القواعد الأصولية، أو كتب تخريج الفروع على الأصول أن يكون فيها النفس الاستنباطي، بمعنى: على طريقة ابن رشد الحفيد في كتابه: بداية المجتهد، عندما يقول: وسبب الخلاف في هذا مبني على أصل مذهب مالك ، أو على أصل مذهب أحمد ، فلو جعلت هذه الطريقة ويقال: أصل أحمد في الأوامر كذا، ولأجل هذا فرع عليه كذا، وأصل أبي حنيفة كذا وفرع عليه كذا، لو كان الترتيب هكذا لكان أنفع لطالب العلم.
وهذه الطريقة أحسب أنها أنفع، يعني: إذا كان المؤلف حنبلياً أو شافعياً؛ يذكر هذه القاعدة بناءً على قاعدة أئمته، الأصل في الأوامر مثلاً الوجوب، يقول: وهذا هو أصل أحمد في المشهور عنه، وقال بعض الأصحاب كذا وكذا، وإذا انتهى؛ فرع عليه أصول أحمد ، ثم بعد ذلك يقول: وأما أصول أبي حنيفة فإن الأصل في الأوامر عنده أنها ليست حقيقة في الوجوب، ولكنها حقيقة في مطلق الأمر، ومن ذلك فرع عليه كذا، ثم يأتي إلى مذهب الشافعي ومذهب مالك ، هذا أنفع لطالب العلم، ولهذا كان كتاب شرح مفتاح الوصول إلى علم الأصول، وكنا قد شرحناه قبل عدة سنوات في جامعنا الذي في سويدي، كان كتاباً أصولياً، ثم يفرع عليه مسائل ويطبقها، وفيها نفع طيب، لكن الإشكال في الأمثلة عندما ينسب إلى مذهب أحمد وليس هو مذهب أحمد في المشهور عنه، أو ينسبه إلى الشافعي وليس هو مذهب الشافعي في المشهور عنه، لكنه من حيث التطبيق جيد.
ثم يعقبه هذا الكتاب قواعد ابن اللحام، الذي وددت أن نقرأه لأجل هذه القواعد وهو جيد، لكن الإشكال أنه ذكر مسائل كان الأولى ألا تذكر، وهناك كتاب الآن اسمه تخريج القواعد الأصولية، كتاب جيد، وإن كان مؤلفه أثنى على نفسه ثناءً أكثر من حجمه، وإلا فالكتاب جيد أيضاً، وهناك كتاب آخر اسمه نظرية التخريج الفقهي، وهو جيد أيضاً.
الملقي: [وتابعهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، ونقل القاضي عبد الوهاب في الملخص].
الشيخ: القاضي عبد الوهاب المالكي إمام على مذهب مالك مذهب البغداديين، الذين يسمونهم العراقيين، أو المصريين، لكنه على مذهب مالك وليس على مذهب المدونة، وله كتب عظيمة، وهي إن دلت فإنما تدل على نفس فقهي عريق، وهو شاعر نحرير، ومن كتبه الملخص، وله الإشراف على مسائل الخلاف، وله المعونة في مذهب عالم أهل المدينة، وله كتاب التلقين، وهذه الكتب كلها مطبوعة، وله كتاب الملخص، وهذا الكتاب يذكره المؤلف، لكنه غير موجود.
الشيخ: يعني العلو والاستعلاء، العلو أن يكون عالياً، لكن لا يلزم منه الاستعلاء؛ لأن العلو يمكن أن يكون الإنسان يأمر من تحته لأنه أعلى منه، لكن لا يلزم أن يكون استعلاء عليه، بمعنى أنه يكون له وجه أن يأمره، مثل الأمير مع مأموره، والرئيس مع مرءوسه، فهذا لا يلزم منه الاستعلاء، فمن الأمر أن يكون من الأخ الكبير مع أخيه الأصغر، وإن كان هذا ليس على سبيل الاستعلاء، وبعضهم يجعله إذا كان ليس على سبيل الاستعلاء من باب الالتماس، أو من باب الحث والحض.
الملقي: [وذكر الإسنوي عن القاضي فقال: ويجب أن يشترط العلو والاستعلاء معاً، مع حكايته عنه ما قاله في الملخص في أول المسألة: وهو أنه يشترط العلو دون الاستعلاء، ولم يذكر أنه اختلف قوله في ذلك].
الشيخ: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن القاضي عبد الوهاب عندما قال: يشترط العلو والاستعلاء معاً مع حكايته عنه ما قاله في الملخص، ولم يذكر أنه اختلف قوله؛ لأنه رحمه الله ليست طريقته على طريقة المتكلمين، ولكنه أراد أن المقصود بالأمر لا بد أن يكون من عالٍ، سواء بمعنى الاستعلاء، أو بمعنى عدم الاستعلاء، فكأن العلو والاستعلاء عنده متساويان، وكأنهما سيان.
الملقي: [وقال الإمام فخر الدين : الذي عليه المتكلمون أنه لا يشترط علو ولا استعلاء، فتحرر من ذلك أربعة أقوال: أحدها اشتراط العلو والاستعلاء، والثاني: لا يشترطان، والثالث: حيث قلنا: اشتراط العلو دون الاستعلاء، والرابع: عكسه.
تنبيه: حيث قلنا باشتراط العلو أو الاستعلاء أو أحدهما، فما حدهما؟ فحاصل ما ذكره القرافي : أن الاستعلاء هو الطلب لا على وجه التذلل، بل بغلظة ورفع صوت، والعلو أن يكون الطالب أعلى مرتبة، ومع التساوي فهو التماس، ومع دنو الطالب فهو سؤال، والله أعلم].
الشيخ: ولهذا كان القاضي عبد الوهاب عندما قال: العلو والاستعلاء، يرى أن العلو والاستعلاء بمعنى الرفعة فقط دون الغلظة وغيرها، يعني لا يلزم منها الغلظة.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما يأمر عباده: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزمر:53]، هل يلزم أن يكون استعلاء وغلظة؟ لا، المقصود بها العلو فقط، الاستعلاء هذا أثر من أثر عدم الاستجابة، فيستعلي عليه، ... هذا نوع من صفة العلو، صفة العلو قدراً، صفة العلو لفظاً، صفة العلو مكانة، كل هذه، لا، أنا قلت: كلها ما لها أثر، هذا كله مصطلح أصولي، علماء الأصول أدخلوا في علم اللغة، وأطنبوا في مسألة القياس في اللغة أو عدم القياس، وهذا شأنه شأن أهل اللغة.
الملقي: [فائدة: قال أبو البركات : ولا بد في أصل صيغة الأمر مطلقة من اقترانها بما يفهم منه أن مطلقها ليس كحاك عن غير ولا هاذ كالنائم، والله أعلم].
أحدها أنه يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة تصرفه إلى غيره، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في مواضع، وهو الحق، وبه قال عامة المالكية وجمهور الفقهاء، وقال إمام الحرمين في البرهان والآمدي في الإحكام وغيرهما: إنه مذهب الشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع: إن الأشعري نص عليه في إملائه على أصحاب أبي إسحاق الإسفراييني في بغداد، لكن هل يدل على الوجوب بوضع اللغة أم بالشرع؟ فيه مذهبان مذكوران في الشرح المذكور على اللمع].
مذهب أحمد رحمه الله في المشهور عنه، ونقل عن الشافعي أن الأصل في الأمر المجرد أنه يقتضي الوجوب، والقول الثاني: يقتضي الاستحباب، والقول الثالث: يقتضي مطلق الأمر، ومعنى مطلق الأمر: يعني لا بد من وجود قرينة في كل أمر ما يحفه من قرائن، حتى نقول إنه للوجوب، أو للاستحباب، ولا نصرفه، لكن لو قلنا: الأصل في الأوامر الوجوب؛ اقتضى وجود أي قرينة تصرف هذا الوجوب إلى الاستحباب.
هذه القاعدة يقصدون بها أننا رأينا من حكمة الشارع: أن مثل هذه الأحكام المتعلقة بالآداب، أنها تصرف من الوجوب إلى الاستحباب، ما الصارف؟ لأنه يبعد أن تكون الصفة واجبة ابتداءً، مثال: الآن ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه )، هذا الأمر في طلب الغمس هل واجب أن تشرب الماء؟ طبعاً لا، فصفة شربه مع وجوده أمر، فكيف يقال بوجوب الغمس، مع أن شرب الماء أصلاً ليس بواجب؟ فهذا هو نوع من الصوارف، فلا حاجة أن تتطلب صارفاً نصياً من الكتاب والسنة، لا يلزم، وعلى هذا فقس، والله أعلم.
وهل الأصل في الأوامر يقول المؤلف: هل هو واجب بأصل الوضع -وضع اللغة- أم بلفظ الشارع؟
الذي يظهر لي -والله أعلم- أننا نقول: إن ذلك بلفظ الشارع، يعني: بوضع الشارع، والدليل على هذا أننا نستدل فنقول: الدليل على أن الأصل في الأوامر الوجوب؛ فنذكر أدلة من الكتاب والسنة، عندما قال: ( ما منعك يا أبي حينما أمرتك أن تأتي؟ قال: يا رسول الله! إني كنت في صلاة. قال: أو ما سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] )، إذاً هذا دليل على أن الأمر يقتضي الوجوب بوضع الشارع.
الملقي: [والأول وهو كونه بالوضع، نقله في البرهان عن الشافعي ، ثم اختار هو أنه بالشرع، وفي المستوعب للقيرواني قول ثالث أنه يدل بالعقل، والمذهب الثاني: أنه حقيقة في الندب. وحكاه الغزالي ].
الشيخ: المذهب الثاني: الأصل في الأوامر المجردة، يقول: حكاه الغزالي في المستصفى، و الآمدي في كتابه.
الشيخ: ما معنى مشترك بين الوجوب والندب؟ يعني: مطلق الأمر، ومطلق الأمر يفيد اشتراكهما في الوجوب أو الندب، أو حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب كما في القول السادس، لكن هذا كله لا أثر له.
الملقي: [وجزم به الإمام في المنتخب، وكذلك صاحب التحصيل كلاهما في باب الاشتراك. المذهب الخامس: أنه مشترك بين هذين وبين الإرشاد، ونقله الآمدي في الإحكام عن الشيعة وصححه، ونقل عنهم في منتهى السول المذهب الذي قبله].
الشيخ: يعني نقل عنهم صاحب نهاية السول عن الشيعة أنهم يقولون بأنه مشترك بين الوجوب والندب.
الشيخ: الشافعي رحمه الله حينما قال: متردد بين الوجوب والندب، يقصد أمراً معيناً نظر إليه مع وجود قرائن، قال فيه: إنه ليس حقيقةً في الأمر في الوجوب أو الندب، أما أن يكون الشافعي رحمه الله يقول بأن الأصل في الأوامر الاستحباب فهنا محل نظر؛ لأن غالب كتبه أن الأمر إنما يأمر به بناءً على حقيقة الأمر، وينهى عن الشيء ويحرمه بناءً على حقيقة النهي، فدل ذلك على أن صاحب المستصفى عندما ذكر أن الشافعي نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب، لم يذكر الشافعي هذا بناءً على القاعدة من حيث هي، وإنما ذكر ذلك في مثال أو في معرض المثال الذي هو بصدد الحديث عنه، فيكون هذا من باب قضية عين لا من باب التنظير التأصيلي.
الشيخ: المستصفى للغزالي غير المنخول للغزالي ، المنخول ألفه الغزالي عندما كان تلميذاً للجويني صاحب البرهان، ثم بعد ذلك بعد أن تحررت له كثير من قواعد الأصول، وصار إماماً مجتهداً في ذلك ألف كتاب المستصفى، ولهذا عندما ألف كتاب المنخول ثم ذهب به إلى شيخه ليراه، فنظر إليه الجويني فقال: دفنتني وأنا حي، يقوله من؟ الجويني، يعني: كأنك أخذت العلم ونسبته لك، أو ما أبقيت لي شيئاً من حسن هذا الكتاب، ومن حسن تقريره لمذهب شيخه ونسبة القول له في بعض مواطنه، فقال: دفنتني وأنا حي. وأنا أقول: إن المنخول سهل العبارة وأسهل من المستصفى؛ لأن المؤلف ألفه في أول طلبه، والعبارة سمحة سهلة جيدة، يفصل لك المسألة.
ثم جاء المستصفى بعد ذلك في آخر سني حياته، وأراد أن يبتعد عن علم المنطق؛ لأنه أشبع به، ولكنه لم يستطع أن ينفك عنه رحمه الله.
والمذهب العاشر: أنه مشترك بين خمسة، وهي الثلاثة التي ذكرناها والإرشاد والتهذيب، حكاه الغزالي في المستصفى].
الشيخ: هذه الأقوال أربعة فقط: حقيقة في الوجوب، حقيقة في الندب، حقيقة في مطلق الأمر يعني: المشترك، الرابع: التوقف، غير الأربعة هذه كلها مكررة.
والمذهب الثاني عشر: أنه موضوع لواحد من هذه الخمسة ولا نعلمه، نقله في البرهان أيضاً ونسب إلى الأشعري ، فإن قيل: كيف يستعمل لفظ الأمر في التحريم أو الكراهة؟ قيل: لأنه يستعمل في التهديد، والمهدد عليه إما حرام أو مكروه].
الشيخ: مطلق الطلب يفيد طلب الوجوب وطلب الاستحباب. وطلب النهي الذي هو الترك الملزم والترك غير الملزم ما لها دخل هنا، لكن نحن نتحدث عن طلب بصيغة (افعل)؛ لأنه أمر، وأما الطلب بصيغة: (لا تفعل) فهو نهي، ونحن نتحدث عن حقيقة الأمر وليس عن حقيقة الطلب حتى يدخل فيه التحريم.
الشيخ: يعني لم يساعد قوة قول الشافعي في الوجوب إلا الأستاذ وإذا قيل في كتب الشافعية الأستاذ وفي كتب الأصول الأستاذ ، فالمقصود به أبو إسحاق الإسفراييني ، المعروف بـإبراهيم الإسفراييني .
والمذهب الخامس عشر: أن أمر الشارع للوجوب دون غيره، اختاره أبو المعالي بن منجا، وبنى عليه من أخر دفع مال أمر بدفعه بلا عذر، قال: لا يضمن بناءً على اتصاف الوجوب بأمر الشرع. قلت: والمذهب يضمن بناءً على القاعدة، والله أعلم.
إذا تقرر هذا، فيتعلق بالقاعدة على المذهب الصحيح مسائل كثيرة جداً ليس هذا هو موضع ذكرها، ولكن العالم ذو الدربة والنظر يستخرجها ويبينها على القاعدة].
الشيخ: لو تقرأ القرآن تجد الأوامر كثيرة، فهي للوجوب.
والإشكال فقط في بعض المسائل التي أجمع العلماء أحياناً على أنها للاستحباب مع عدم الصارف، مثل قول: آمين، ( فإذا قال غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين )، نقل أبو عمر بن عبد البر أن هذا محل إجماع على الاستحباب، وابن حزم يرى الوجوب، ولكن الصحيح أنه للاستحباب؛ لأن قول: (آمين) ليست من القرآن، وليست من الفاتحة، وإذا كانت ليست من الفاتحة، فكأن قوله: ( قولوا: آمين )، نوع من القراءة، والقراءة بغير الفاتحة واجبة أو غير واجبة؟ غير واجبة، هذه نوع من القرائن، لكن لم نقل نصاً من الكتاب والسنة، هذا القصد.
الملقي: [وفي المذهب فروع كثيرة ادعى الأصحاب أنها خرجت عن الوجوب بقرائن صرفتها عنه، وفي كون تلك القرائن صارفة للأمر عن الوجوب نظر ظاهر، والله أعلم].
الشيخ: لكن أهم شيء الذي أراه أنه يجب على طالب العلم أن يحرر عنده المسألة: أن الراجح أن الأصل في الأوامر الوجوب، ولكن هذا الصارف عن الوجوب لا يلزم منه أن يكون نصاً شرعياً، ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة )، من الصارف هنا عن الوجوب؟ أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة أو يفيد رجوع الأمر إلى ما قبل النهي، وقد كان قبل النهي مباحاً ولكن نقول: هنا مستحب لقوله: ( فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة )، فصار هذا من باب الاستحباب.
الشيخ: لا، هو ليس حقيقة، الكتابة ليست حقيقة، لكنها تقوم مقام الحقيقة وتفيده، ولهذا لو أن المصلي كتب وهو يصلي هل تبطل صلاته؟ على الخلاف في المسألة؛ من قال أنه كلام تبطل صلاته، ومن قال ليس بكلام -وهذا الصحيح- لم تبطل صلاته.
الشيخ: كون العالم أو طالب العلم تشكل عليه بعض الأوامر الموجودة في الكتاب والسنة، لا يلزم منه أن تكون الأصل في الأوامر مطلق الأمر، ولكن الذي يظهر أن الأصل في الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف.
قال القاضي: لا يكون نصاً في الوجوب، بل يقبل التأويل، ذكره في الثلاثة، والذي رأيت ابن عقيل ذكره أنه لا يكون نصاً في الوجوب هو إطلاق التواعد خاصة، ولم أر له كلاماً في إطلاق الوجوب أو إطلاق الفرض. واختار أبو البركات إطلاق التواعد وإطلاق الفرض أو الوجوب نص في الوجوب لا يقبل التأويل وهو أظهر؛ إذ يمتنع وجود خاصة الشيء بدون ثبوته، والله أعلم.
ومنها ما قاله في المسودة: إذا صرف الأمر عن الوجوب، جاز أن يحتج به على الندب أو الإباحة، وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية ومنهم الرازي . وبعضهم قال: لا يحتج به، كذا حكاه القاضي أبو يعلى ].
الشيخ: الذي يظهر أن القرينة إذا صرفت عن الوجوب فإنها تكون صارفةً إلى الاستحباب، إلا أن تدل قرينة أخرى أنها ترجع إلى الإباحة مثل الأمر بعد الحظر.
الملقي: [وكذلك اختاره ابن برهان ولفظه: الأمر إذا دل على وجوب فعل ثم نسخ وجوبه، لا يبقى دليلاً على الجواز، بل يرجع إلى ما كان عليه].
الشيخ: النسخ غير صارف، الأمر المفيد للوجوب إذا صرف عن الوجوب فإنه يبقى للاستحباب، أما الأمر الواجب إذا نسخ فإنه إما أن ينسخ حكمه مطلقاً فيكون للإباحة، وإما أن ينسخ وجوبه، فيكون الإنسان إذا أراد أن يتصدق لا حرج، ومن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، فكل واحد كان يريد أن يناجي الرسول صلى الله عليه وسلم ويتحدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لازم أن يقدم صدقة ثم نسخ، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:13]، ثم نسخ، فهذا النسخ هل يبقى للاستحباب أم هو للإباحة؟ الذي يظهر أنه للاستحباب. وهناك أوامر أخرى نسخ وجوبها واستحبابها، فبقيت على الإباحة مثل: القراءة الشاذة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، قلنا: إنها للاستحباب مع أنها نسخت، فهذا على حسب مدلول اللفظ المنسوخ، أما إذا صرف من الوجوب؛ فإنما يفيد الاستحباب، إلا بقرينة تفيد غير ذلك.
الملقي: [وكذلك اختاره أبو الطيب الطبري ولفظه: إذا صرف الأمر عن الوجوب لم يجز أن يحتج به على الجواز، قال: لأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تبع للوجوب، إذ لا يجوز أن يكون واجباً ولا يجوز فعله، فإذا سقط الوجوب سقط التابع له، فهو الذي ذكره أبو محمد التميمي من أصحابنا، وذكر أبو الخطاب أن هذه المسألة من فوائد الأمر هل هو حقيقة في الندب؟ فيجيء فيها الوجهان لنا، وكذلك ذكره القاضي في مسألة الأمر بعد الحظر.
ومنها إذا كان المأمور به بعضه واجباً وبعضه مستحباً، كقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ].
الشيخ: بعض علماء الأصول يقول: يبعد أن يخلو أمر عن قرينة، ولو لم يكن من القرينة إلا مراد المتكلم بكلامه لكفى، هذا ليس ببعيد، وهذا كلام ابن تيمية على كل حال، ابن تيمية يقول: ما في كلام يبعد عن قرينة، أنا أقول لك: هذا صحيح، إنه يبعد أن يكون هناك أمر لم يحتف به شيء من القرائن، لكن القرينة في الوجوب هي أن مراد الشارع بأمره الانقياد، فمراد الشارع بالأمر مطلق الانقياد، فيفيد هذا الانقياد الوجوب، فمجرد أن يأمر الشارع عباده فالمقصود به الوجوب والطاعة، وكونه ليس بواجب لا بد أن تأتي قرينة أخرى تدل عليه وترد هذه القاعدة، هذا الذي يجعلنا نقول: الأصل في الأوامر الوجوب.
لكن ليس كل أمر يفيد الوجوب مثل غيره، يعني: هناك وجوب لشيء ربما تأمر به وتقول: الأصل فيه الوجوب، لكن الفقيه يرى أن وجوبه هنا ليس مثل وجوبه هنا؛ لأن هذا احتفت به قرائن تجعل وجوبه ليس كوجوب هذا الأمر.
مثال: صلاة الجماعة والصلاة في المسجد كلاهما واجبان، لكن وجوبها جماعة أظهر من وجوبها في المسجد؛ لأن صلاة الجماعة من حيث هي جماعة، والقرائن الصارفة عن الوجوب قليلة جداً، لكن الصلاة في المسجد هناك قرائن أكثر.
الشيخ: مع أنه تحكم، وجاء في بعض الطبعات يحكم بالياء.
الملقي: [وإن حمل عليهما لزم حمل اللفظ على حقيقته ومجازه أو على حقيقته].
الشيخ: أو على حقيقتيه، يعني لفظين أو معنيين.
الملقي: [قال ابن عبد السلام في قواعده: والحمل على الوجوب مع التزام التخصيص أولى؛ لأن الغالب على صيغة الأمر الإيجاب، والغالب على العموم التخصيص، فحمله على الغالب أولى].
الشيخ: يعني قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، أو وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وغير ذلك من الآيات التي دلت على مكارم الأخلاق، أو على العفو، أو على التسامح والصفح، فهل هذه على مرتبة واحدة؟ فمن المعلوم أن الصفح مع المؤمنين ليس مثل الصفح مع الكفار، والصفح مع أكابر أهل الإيمان ليس كمن معه أصل الإيمان، مع أن الآية دلت على لفظ واحد، فهذه المسألة جعلت بعض علماء الأصول ينظر في حقيقة الأمر، ولهذا قال بعض الأصوليين: إن حمل الأمر المجرد عن الوجوب إذا قلنا به في قوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، إن قلنا: إنه للوجوب، فالمقصود الخير الذي هو الواجب خرجت المستحبات.
وإن قلنا: إن الأمر المجرد يفيد الاستحباب، فإذا جاء قوله وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، المقصود الخير المستحب، وأما الواجب فله دليل آخر.
وقول المؤلف: (وهذا تحكم، وإن حمل عليهما)، معنى (عليهما) على المستحب والواجب.
قال: (لزم حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، أو على حقيقتيه)، وكأن هذا نوع من الاعتذار لعدم صحة الحمل عليهما.
قوله: (وقال ابن عبد السلام في قواعده: والحمل على الوجوب مع التزام التخصيص أولى)، يعني: إذا قال: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77] يفيد الوجوب، وإن كان اللفظ العام يمكن تخصيصه، إذا قال: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، الخير لفظ عام؛ لأن أل تفيد استغراق الجنس، فهي تفيد الوجوب، ولا مانع من أن يكون هذا الاستغراق قد خصص بعض أفراده للمستحب والمباح وغير ذلك.
قوله: (لأن الغالب على صيغة الأمر الإيجاب، والغالب على العموم التخصيص).
فحمله على الغالب أولى، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات بعد أن ذكر صورة هذه المسألة، فقال: كل خصلة أمر بها أو نهي عنها من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر أو النهي فيها على وزن واحد في كل فرد من أفراد هذا العموم المأمور به أو هذا العموم المأمور بتركه، ثم ذكر أمثلة كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو من الأخلاق والإعراض ونحو ذلك، ولهذا تجدون أننا نجد في القرآن أن الله إذا أمر بالمعروف أو أمر بأمر أشاد بأكمله لم يذكر مطلق الخير، بل يذكر الخير المطلق كي يتحرى المكلف أن يقتدي بكامل المأمور، وإن كان ربما يعجز عنه لأجل التسارع والتنافس في الخيرات، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وعلى هذا فلا بأس أن يحمل على الواجب والمستحب.
ولو قيل: إن الخير فيها من الاشتراك المعنوي؛ لأنه من الخير ما هو واجب ومن الخير ما هو مستحب، فاشترك هذا اللفظ بجميع المأمور، والقاعدة عند علماء الأصول: أن الاشتراك إن كان يمكن حمله على جميع معانيه؛ فإننا نحمله، ولعل هذا حسن، والله أعلم.
الشيخ: المقتضي أنه أمر بالخير على سبيل الاستغراق، فقيام المقتضي للعموم يجعلنا نبقي الأمر على عمومه، ولهذا قال: (الصواب أن يقال: الأمر عام في كل ما يتناوله)، لا فرق في أمر دون أمر، لقيام المقتضي للعموم.
الملقي: [ثم لك مسلكان أحدهما أن تقول: هو دال على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، وما امتاز به بعضها من الإذن في الترك والمنع مستفاد من دليل منفصل].
الشيخ: نعم، هذا هو الأقرب أنه لفظ مشترك، يدل على القدر المشترك في ذلك، وما امتاز به بعضها من الإذن أو الترك أو المنع؛ فهذا مستفاد من دليل منفصل.
الملقي: [والمسلك الثاني -وهو أظهر- أن نقول: هذا الأمر أريد به الواجب في الواجبات، والمستحب في المستحبات، والله أعلم].
الشيخ: وهذا جيد، يعني كأنه يقول: إن قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، إنما أريد به مطلق الأمر، فيفيد الوجوب في الواجبات والاستحباب في المستحبات، وكأن اللفظ العام الذي يدخل في جميع أفراد المستحب والواجب هو قرينة صارفة عن الأمر المجرد الذي يفيد الوجوب.
إذاً اللفظ العام الذي يشمل المستحب والواجب بأمر ظاهر هو بحد ذاته قرينة صارفة عن الأمر المجرد الذي يفيد الوجوب أو يفيد الاستحباب؛ لأنه حينما كان لفظاً عاماً يتناول جميع المأمور من مستحب وواجب، ولأنك يصعب أن توجب كل خير، ويصعب أن تستحب كل خير.
فهذه قرينة تصرف مطلق الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، ومن الاستحباب إلى الوجوب، فصارت القاعدة: أن الأمر المجرد يفيد الوجوب ليست داخلة في هذا؛ لأن المقصود أن الأمر المجرد الذي يفيد مسألة معينة لا يفيد مطلق المأمور به على سبيل الإطلاق، فيقول: إن هذا الأمر أريد به مطلق الأمر، وهذا أفضل، وهو أظهر أن تقول: الأمر العام في كل ما يتناوله يفيد مطلق الأمر، فإن أريد به الوجوب فهذا في الواجبات أو الاستحباب في المستحبات.
الشيخ: الآن يريد المؤلف أن يقول: لفظ الأمر إذا قلنا بأنه يفيد الوجوب، فأريد بالأمر الندب فهل هو حقيقة بالندب أم لا؟ لأن المؤلف عندما ذكر القاعدة الأولى، عندما قال: الأمر المجرد عن قرينة هل يقتضي الوجوب أم لا؟ يقول: القول الأول: يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة تصرفه، نص عليه الإمام أحمد وهو الحق، وبه قال المالكية، ثم ذكر الأقوال.
يقول: إذا قلنا: إن نص الأمر يفيد الوجوب، فأريد بالأمر هنا الندب، فهل وقوع الأمر هنا بالندب مع القول بأن الأمر يفيد الوجوب؟ هل صار الأمر هنا مع وجود القرينة حقيقة أم هو مجاز؟
الآن إذا قلنا: إن الأمر يفيد الوجوب، فجاءت قرينة تفيد أن هذا الأمر لا يدل على الوجوب، عند بقاء هذا الأمر مع وجود القرينة التي صرفته إلى الاستحباب، هل صار هذا الأمر حقيقة أم مجازاً؟
بعد القرينة، يقول المؤلف: (فأريد بالأمر الذي صرف الندب؛ فهي حقيقة فيه)، يعني: حقيقة في الندب، يقول: (على ظاهر كلام أحمد، واختاره أصحابنا وهو نص الشافعي وقال: وهو الصحيح في مذهبه)، يعني باختصار: هذه قاعدة معروفة عند علماء الأصول، وهي: أن النص العام إذا خص بعض أفراده هل يبقى على حقيقته أم لا يبقى على حقيقته؟ وقد ذكرنا المسألة هذه، وقلنا: إن الصحيح أنه يبقى على حقيقته.
ثم ذكر الكرخي و الرازي أنه مجاز، وعن الشافعية كالمذهبين، يعني حقيقة أو مجاز.
قوله: (وإن أريد به الإباحة)، مثل قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، أمر وقلنا: إن الأمر يفيد الوجوب، هل هنا يفيد الوجوب؟ يعني نقول: على قول من قال يفيد الإباحة، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، هذا الأمر يفيد الإباحة.
فإذا أفاد الإباحة، هل الأمر هنا صار حقيقةً أم مجازاً؟ لأن الأمر يفيد الإيجاب على سبيل الاستعلاء، فصار بعد الإباحة أو بعد الندب حقيقة أم لا؟
يقول: (فعند أبي البركات) جد أبي العباس مجاز، (وحكاه عن الحنفية. وقاله المقدسي ، واختاره ابن عقيل وقال: هو قول أكثر الأصوليين. وقال القاضي: يكون حقيقة)، يعني: أن ابن عقيل نسبه إلى أكثر الأصوليين، وكأن ظاهر التعليق عندي أن ابن قدامة في الروضة أشار إليه وقواه، وقال القاضي أبو يعلى : إنه حقيقة ، أبو العباس بن تيمية رحمه الله قال: (والتحقيق في مسألة أمر الندب مع قولنا الأمر المطلق يفيد الوجوب أن يقال: الأمر المطلق لا يكون إلا إيجاباً، وأما المندوب إليه فهو مأمور به أمراً مقيداً لا مطلقاً، فيدخل في مطلق الأمر لا في الأمر المطلق).
هنا لم يشر إشارة صريحة إلى بقاء هذا الأمر بعد صارفه هل هو حقيقة أو مجاز؟
السؤال: ماذا نستفيد من هذا؟ إنه بحث لغوي ولا أثر له؛ لأننا نقول: لو كان الأمر حقيقةً أو مجازاً فأفاد بالمجاز الأمر، فإنه يحمل عليه، ولهذا قال تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، فمن المعلوم أن الغائط هو المكان المنخفض، وليس المراد به على الحقيقة إنما أريد به المجاز، فأفيد الوجوب، فكون الأمر بعد القرينة يفيد الحقيقة أو المجاز لا أثر له من حيث الأمر الشرعي، والله أعلم.
نقف على هذا، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر