الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم. وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات! الطلاب والطالبات، المشاهدون والمشاهدات! في هذا الصرح العلمي العريق الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، والتي تشع على أكثر من اثنتين وثمانين دولة من دول العالم كله، نرحب بكم أجمل ترحيب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا المجلس مجلس خير وبركة، وعلم ومنفعة، ومعرفة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن مجالس العلم مجالس تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتتنزل عليها السكينة؛ ولهذا فإن فقهاء الإسلام من علماء العصر يرون أن المجلس إنما هو ما تعارف عليه الناس في المجلس، فمجلس البيع هو ما يتبايع فيه المتبايعان، أو ما يحصل فيه البيع في وسائل الاتصال الحديث، ولا شك أن هذا المجلس الذي تحفه الملائكة بإذن الله، فإنه لا يقتصر على الإخوة الذين معنا في هذا الأستديو، بل يشمل من يستمعون خلف الشاشات ويأخذون أقلامهم يقيدون فوائد هذا الدرس، فهم بإذن الله سوف يكونون ممن تحفهم الملائكة.
ولهذا فإننا حينما نشرح الفقه فإنما نتعبد الله سبحانه وتعالى في أن نعلم حكم الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر، نجتهد ونتثبت ونتوسع في هذا الأمر، هل لنا أن نجد مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد وقد بلغنا جهدنا ووسعنا وطاقتنا في بحث هذا، فإن الله سبحانه وتعالى يعذر كل مجتهد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ).
وكذلك لو كان على مذهب مالك ، وأخذ مذهب مالك ، وترك مذهب الشافعي أو أحمد أو ترك مذهب أبي حنيفة فإنه بإذن الله على خير؛ كما قال العبد الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا؛ لأنهم لو اتفقوا رأيت أن مخالفهم على ضلال، أما إن اختلفوا فإن أن الناس في سعة!
وجاء رجل إلى الإمام أحمد وقد ألف كتاب اختلاف الفقهاء، فقال له: يا أبا عبد الله ! انظر هذه أقوال أهل العلم في الأمصار، فنظر إليه الإمام أحمد ورأى أنه قد كتب كتاب الاختلاف، فقال أحمد : سمه كتاب السعة.
لأننا والحمد لله نبحث ونجتهد، وما دام كل واحد ينشد كتاب الله وسنة رسوله، وعنده دليل خفي أو ظاهر؛ فلا ينبغي أن يكون الخلاف سبباً في تناحر المسلمين وتضليل بعضهم لبعض؛ لأن ذلك من التصرفات التي كان أهل الإشراك عليها, مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].
هذه القاعدة من الأهمية بمكان؛ لأننا سوف يستمع لنا أناس من أقطار الأرض، منهم من تربى على مذهب أبي حنيفة ، ومنهم من تربى على مذهب مالك ، ومنهم من تربى على مذهب الشافعي ، ومنهم من تربى على مذهب أحمد ، ومنهم من تربى على مذاهب أهل العلم الأخرى، ومن المعلوم أن هؤلاء الأئمة لم يأت علمهم من فراغ، ولم يكن الواحد منهم قد اجتهد من عند نفسه، بل إنما تربى بناءً على مدارس سبقه إليها علماء كبار، فـأبو حنيفة رحمه الله قد تربى على مذهب عبد الله بن مسعود الذي أخذ عنه تلامذته، ثم أخذ عن بعضهم النخعي ، ثم أخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عنه أبو حنيفة النعمان .
و مالك بن أنس لم يأت من فراغ، بل كان بناءً على مدرسة ومجالس تربى عليها، فقد كان رحمه الله أخذ علمه من تلامذمة عبد الله بن عمر الذي كان فقيه أهل المدينة، وكان من تلامذة ابن عمر كـنافع و سالم ، و سالم و نافع تربى عليهما فقهاء أهل المدينة كـالزهري وغيره، وأخذ ذلك مالك من الزهري ، ومن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومن الأئمة بعدهم.
وكذلك الإمام الشافعي أخذ علمه من سفيان بن عيينة في مكة، ومن مسلم بن خالد الزنجي في مكة، ثم انتقل بعد ذلك ليتعلم على يدي مالك وهو ابن ست عشرة سنة، ثم بعد أن أخذ علم مالك ذهب إلى محمد بن الحسن ، فأخذ علم محمد بن الحسن ، فجمع بين فقه الرأي وفقه الحديث، وألف كتابه العظيم كتاب الرسالة.
ثم جاء أحمد بن حنبل -رحمهم الله جميعاً- فأخذ بعلم من كان قبله، فأخذ بعلم أهل الحديث، وفقه الأئمة التابعين، الفقهاء السبعة، وكذلك عطاء بن أبي رباح ، و سعيد بن المسيب ، وغير هؤلاء، فكلهم على الحق، وقد وردوا واغترفوا من حوض محمد صلى الله عليه وسلم.
0وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل فقيل له: يا أبا عبد الله ! ما ترى في لحم الجزور، هل ينقض الوضوء؟ قال: نعم، ينقض الوضوء، فقال له: يا أبا عبد الله ! هل نصلي خلف مالك بن أنس ، وخلف سعيد بن المسيب ؟ يعني: كيف نصلي وهم يرون أنه لا ينقض؟ قال أحمد : رحمك الله، أتراني أقول: لا تصل خلف مالك بن أنس ، أو لا تصل خلف سعيد بن المسيب ؟!
يعني أن هؤلاء لهم اجتهادهم، وأنت ولو صليت خلفهم فلك اجتهادك، وهذا هو دين أهل العلم.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما نسي الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوار
وعلى هذا فإننا سوف نسير بإذن الله على هذا المنهج، منهج الفقه المنبني على الدليل، نستنبط أقوال أهل العلم في المسائل، ونأخذ ما وافق الحق, فمرة مذهب أبي حنيفة، ومرةً مذهب الشافعي ، ومرةً مذهب مالك، ننطلق من حيث انطلقوا، ويعذر بعضنا بعضاً، نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد.
فنحن نقتدي بهؤلاء الأئمة، ولا يسوغ لنا أن نضلل عالماً قد اجتهد في دين الله سبحانه وتعالى، فإنهم وإن أخطأ بعضهم فإنه لم يخطئ لأجل هوىً في نفسه، ولم يخطئ لأجل ترك الحق، ولكنه كان ينشد الحق، فـأبو حنيفة الذي يعتب عليه من يعتب لتركه الدليل كان السبب في ذلك أنه عاش رحمه الله في الكوفة؛ وكان أهل الحديث فيها في ذلك الوقت قلة، فكان يعتمد على النصوص العامة فيستدل، قال أبو العباس بن تيمية : أبو حنيفة ربما يترك القياس والقاعدة لأجل أثر رواه عبد الله بن مسعود ! أي: فيترك القياس لقول صحابي! يقول ابن تيمية : فما بالك لو كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فهؤلاء هم الأئمة، وهؤلاء هم الذين حفظوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد ذكر الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه قصة الأعمش سليمان بن مهران ؛ الإمام المحدث القارئ، فكان عنده أبو حنيفة النعمان رحمه الله، فسأله سائل الأعمش فقال: ما تقول يا سليمان في هذه المسألة؟ فطأطأ الأعمش رأسه ثم رفعه فقال: ما تقول يا نعمان في هذه المسألة؟ خفيت عليه، فقال أبو حنيفة رحمه الله: أقول فيها كيت وكيت، فسكت الأعمش ، ثم رفع رأسه وقال: من أين لك هذا؟ أي: سموا لنا رجالكم، أليس كذلك؟ فليست المسألة أن معرفة الناس بأنك عالم أو تحمل شهادات عالية؛ فيقبل قولك على الإطلاق، لا؛ لأنك توقع عن رب العالمين، فالعالم يوقع عن رب العالمين، فلا بد أن يأتي بدليل, ولذا قال له: من أين لك هذا؟
قال النعمان رحمه الله: أولم تحدثنا قلت: حدثنا فلان، عن فلان، عن فلان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، فهذا منه، فضحك الأعمش فقال: يا معشر الفقهاء! أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.
فهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يبحث عن الدليل، وألا يعتمد فقط على حفظ الحديث، ولا شك أن حفظه نعمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه )، ولهذا فإذا جمع الله لعبده أمرين: حفظ الحديث والفقه فيه، وبنى أصوله على أصول الأئمة, ولم يأت بأقوال شاذة تخالف الأئمة الأربعة وغيرهم؛ فإنه بإذن الله على هدى، وعلى صراط مستقيم.
هذه المقدمة أراها من الأهمية بمكان أيها الإخوة، حتى نعلم حينما يسمع أحدنا وهو خلف الشاشة قولاً قد تربى عليه في مذهب معين، فإذا قلنا: الراجح كذا ودليله كذا، يعلم أننا نأخذ من حيث أخذ الأئمة، وننهل من حيث نهل الأئمة، وكلهم من معين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتشف.
السبب: لأن الطهارة هي مفتاح الصلاة، والصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولا تتأتى الصلاة إلا بمفتاحها، وهي الطهارة، وقد جاء حديث رواه الإمام أحمد و الترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).
وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري قال: ( الطهور شطر الإيمان ).
إذاً: الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فهذا هو القول والعمل القلبي، وكذلك عمل الجوارح، وهو الطهارة والصلاة.
وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يعلم أنه بحاجة إلى أن يفقه أحكام الطهارة حتى يعلم أنه لا تقبل صلاته إلا بطهور، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ).
وقال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( لا يقبل الله صلاةً من غير طهور، ولا صدقةً من غلول ).
وأما في الاصطلاح: فهناك اصطلاح شرعي، وهناك اصطلاح فقهي؛ الاصطلاح الفقهي: هي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث، هذه هي الطهارة في الاصطلاح الفقهي، إذاً الطهارة هي ارتفاع الحدث وما في معنى الحدث، وزوال الخبث.
الحدث كما سوف نشرحه إن شاء الله: وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة وغيرها من العبادات؛ فالحدث ليس شيئاً يشار إليه بالبنان، بل هو وصف معنوي قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها، هذا هو معنى ارتفاع الحدث.
أما ما في معنى ارتفاع الحدث: فلو أن شخصاً توضأ وضوءاً واحداً، ثم توضأ مرة ثانية وهو طاهر، فهذا الوضوء الثاني لا يرفع حدثه لأنه طاهر, ويسميه العلماء: تجديد الوضوء، فهذا الوضوء الثاني في معنى ارتفاع الحدث, إذاً: (وما في معناه)، الغسلة الثانية والوضوء الثاني، وكذلك غسل الميت؛ فإن غسل الميت أمر به الناس, ومع أن الناس أمروا به، إلا أنه لا يرفع الحدث, لكنه في معنى ارتفاع الحدث.
فالنجاسة إما أن تكون نجاسة عينية، وإما أن تكون نجاسة حكمية، فما معنى النجاسة العينية؟
النجاسة العينية هي كروث الحمار، وعذرة بني آدم وبوله، فهذه نجاسة عينية لا يمكن أن تطهر بنفسها. وأما النجساة الحكمية فهي وقوع تلك النجاسة في شيء كثوب، كأرض، ككتاب، كغترة، ويسمونه متنجِّساً، فلا بد من إزالته لكي يطهر.
إذاً النجاسة نجاسة عينية ونجاسة حكمية؛ والحكمية هي الشيء الطاهر الذي وقعت فيه النجاسة، وهذا سوف يتحدث عنه المؤلف في كتاب الطهارة، وسوف نشرحه إن شاء الله بأقسامه الثلاثة.
إذاً الطهارة الشرعية لا بد أن يكون فيها تعبد, فلو أني جئت بماء فأردت أن أعلمكم طريقة الوضوء، فهذا الوضوء بهذا الماء صورته صورة طهارة فقهية، لكنني حينما لم أنو ارتفاع الحدث صارت طهارة شرعية أم ليست طهارة شرعية؟
الجواب: ليست طهارة شرعية، وعلى هذا فلو أن شخصاً سقط في بركة، وهو محدث حدثاً أصغر، فلما انتهى من سباحته قال: أنا سوف أنوي الطهارة، هل ينفعه ذلك؟ الجواب: لا ينفعه؛ لأنه لم ينو الطهارة. وأمر آخر: إذا كان حدثه حدثاً أصغر فلا بد فيه من ترتيب الوضوء كما سوف يأتي, وهو مذهب جماهير أهل العلم، والله أعلم.
وعلى هذا لا بد أن يكون هناك نية للطهارة، فلو أن شخصاً دخل دورات المياه، وفي نيته أن يغسل وجهه، فبدأ يتحدث مع زميله وهو يتوضأ حتى انتهى، فتذكر وقال: أنا ما نويت أن أتوضأ، فهل يرتفع حدثي؟ نقول: لا يرتفع حدثك؛ لأنك لم تنو الطهارة، وهذه مهمة جداً أن نعرفها.
وأيضاً: لا نبالغ في الوسوسة، فإذا كان شخص قد قام من النوم لأجل أن يصلي، فهو بمجرد قيامه من فراشه إلى دورات المياه ناو رفع الحدث؛ إذاً: هذه عبادة، وأما التكلف في النية حين الوضوء بأن نوينا أم لم ننو فهذا من التكلف الذي نهينا عنه، إن استحضرها ابتداءً فالحمد لله، أما أن يتكلف ويقول: أنا نويت أم لم أنو؟ ويجلس أحياناً في دورات المياه دقائق بل ساعات، فهذا ليس من دين الإسلام، ومن أطاع الشيطان فقد ظفر به الشيطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( سوف يكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء )، فهذا من الاعتداء في الطهور.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة فإننا نقول: إن الطهارة الشرعية لا بد فيها من نية، وهذه النية لا بد فيها من أمرين: استعمال الماء؛ وهذا الماء له صفة، فليس كل مائع يجوز الوضوء به؛ بل لا بد أن يكون ماءً، ويوصف بأنه ماء مطلق؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43].
إذاً: الله سبحانه وتعالى وصف هذا المائع بأنه ماء، فإذا خرج هذا الوصف وهو المائية إلى وصف آخر فهل يصح الوضوء أم لا؟ الجواب: لا يصح الوضوء به؛ لأنه ليس ماءً، فلو جئت بهذا الكأس فقلت لكم: ما هذا؟ قولون: ماء، ولو جئت بكأس آخر وهو عصير برتقال وقلنا لكم: هذا ماء، فستقولون: لا، هذا ليس ماء، هذا عصير، فلو قال قائل: هذا العصير فيه ماء، نقول: نعم، ولكن الماء مغمور في هذا العصير حتى سلبه خاصية الماء، هذا لا بد من معرفته.
إذاً: لابد أن نعلم أن الماء الطهور هو الذي يرفع الحدث، أو بدله وهو التيمم، قال تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة:6].
وليس كل تيمم يصح، فلو رأيت هذه السبورة وضربت يدي بها وتمسحت فلا يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً [المائدة:6]، إذاً الصعيد هو الذي يُتيمم به، والصعيد سوف نشرحه إن شاء الله في كتاب التيمم.
على هذا إذاً هي: استعمال الماء أو بدله، على وجه مخصوص، وما معنى: على وجه مخصوص؟ اليهود يتوضئون، لكن وضوءهم غسل الكفين وهو في اللغة العربية وضوء، لكن ليس هو الوضوء الشرعي، ولهذا جاء من حديث سلمان موقوفاً، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي ، وفي سنده ضعف: ( من سنة الأكل الوضوء قبله والوضوء بعده )، يعني: غسل اليدين، فسمي وضوءاً لكن من حيث اللغة وليس من حيث الشرع.
إذاً لا بد أن يكون على وجه مخصوص، بحيث تبتدئ بالوجه مع المضمضة والاستنشاق، ثم باليدين إلى المرفقين، ثم بعد ذلك مسح الرأس، ثم بعد ذلك غسل الرجلين، هذا معنى على وجه مخصوص بصفة مخصوصة، فاليد هذه صفتها: أن تغسل إلى المرافق، وأن تعمم الرأس، وغير ذلك، هذه هي الطهارة الشرعية.
الأول: الماء, والثاني: التيمم.
الأول: طهور، وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره.
الثاني: الطاهر، وهو الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره، يعني أنه لو سكب في ثياب فإنه لا ينجسها، لكنك لو أردت أن تتوضأ به فإنه لا يرفع الحدث، فقالوا: إن هناك ماء طاهراً في نفسه، ولكنه غير مطهر لغيره.
الثالث: النجس، وهو كل ماء وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه: من لون، أو طعم, أو ريح.
القسم الأول: الطهور، والقسم الثاني: النجس؛ وذلك لأن الله ورسوله لم يذكرا لنا إلا قسمين: طهور ونجس، ولم يذكرا لنا شيئاً آخر؛ لأن هذا الطاهر لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يتغير وصف الماء فيه.
الحالة الثانية: ألا يتغير وصف الماء فيه، فلو أن هذا الماء وقعت فيه تمرة فإن مسمى الماء ووصف الماء موجوداً فيه؛ لأنه لا يضر وجود طاهر فيه؛ ولأن مسمى الماء ما زال موجوداً، فنقول: إنه يطهر، ولهذا روى الخمسة: أحمد ، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و ابن ماجه ، و مالك بن أنس ، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث أبي هريرة : ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ), يعني بذلك ماء البحر، ومن المعلوم أن ماء البحر لو ذقته ستجد فيه طعم الملوحة, ومع ذلك وجود هذا الملح لم يخرجه من مسمى الماء والطهورية.
ولا فرق أن يكون هذا الماء خلقةً أو يكون بوضع طاهر فيه، فإن من الفقهاء من قال: إنه إن كان خلقة فيجوز، وإن كان قد وضع فيه البشر ملحاً فإنه لا يجوز، والصحيح أنه لا فرق؛ لأن هذا تفريق قياسي لكن ليس له مستند شرعي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ).
وقال كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه أهل السنن: ( إن الماء لا ينجس )، يعني: الماء الكثير مجرد وقوع النجاسة فيه لا تنجسه إلا إذا تغير.
وقال صلى الله عليه وسلم في النجس: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء, إلا ما غلب على لونه، أو طعمه، أو ريحه )، وهذا الحديث رواه ابن ماجه وغيره، وفي سنده ضعف؛ بل حكى الشافعي رحمه الله اتفاق أهل المعرفة بالحديث أن هذا الحديث ضعيف، ولكنه إجماع من أهل العلم على أن النجس إذا وقعت فيه نجاسة وتغير لونه، أو تغير طعمه، أو تغيرت رائحته، فإنه يكون حينئذ نجساً.
إذا ثبت هذا -أيها الإخوة- فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً [الأنفال:11] , فمتى ما سمينا هذا السائل ماء فيجوز الوضوء به، ولو وقعت فيه بعض المباحات، أو بعض الطاهرات ولم تخرجه عن مسماه إلى مسمى الطاهر فإننا نقول: لا بأس بذلك، أما إذا كان معي عصير، فسكبته على هذا الكوب من الماء فغير لونه، فإنني أقول: هذا عصير وليس بماء, وبالتالي لا يجوز الوضوء به، لأن الله يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6]، وهذا ليس ماء.
وبالمناسبة الإمام أبو حامد الغزالي عندما شرح كتابه الوسيط وهو مذهب الشافعي ، وعلم أن مذهب الشافعي يقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، قال: وددت أن مذهب الشافعي كمذهب مالك في تقسيم المياه إلى قسمين، و مالك له قولان في هذه المسألة.
والراجح أن الماء قسمان: طهور ونجس، وليس هناك قسم آخر كما يسميه الفقهاء بالطاهر؛ لأن الراجح والله أعلم أن هذا الطاهر إما أن يكون بوجود هذا الطاهر قد غير وصف المائية فيه، أو لا يكون قد غير، فإن كان قد غير فإننا لا نسميه ماءً، ولكن نسميه باسمه فقد يكون ماء الورد، أو نبيذ, أو عصير, أو مرقة, أو غير ذلك، فإن لم يسلبه مسمى الماء فإننا نقول: ما دام أنه طاهر لم تغيره النجاسة فالأصل فيه أنه طهور.
الجواب: يجوز؛ لأنه لا يزال وصف المائية فيه، ومما يدل على هذا ما جاء عند الإمام أحمد من حديث أم هانئ أنها قالت: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وقد ستر بثوب، فاغتسل من جفنة فيها أثر العجين )، والعجين طاهر, فوجود هذا العجين بهذا القدح قد يغيره، لكن هل يغيره إلى وصف جديد, أم ما زالت المائية فيه؟
الجواب: يحتمل، فلما توضأ صلى الله عليه وسلم بهذا القدح أو بهذا الإناء الذي فيه أثر عجين علمنا أن أثر العجين وإن غير بعض رائحته أو بعض لونه لكنه لم يسلبه مسمى المائية، فعلى هذا توضأ صلى الله عليه وسلم من هذا الطاهر، أو من هذا الطهور.
ومما يدل على هذا كما عند عبد الرزاق ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
أنت أحياناً تجد ماءً آسناً يعني باقياً في البركة، وقد جاء الطحلب عليه، وقد يكون أحياناً قد غير اللون والطعم، فإذا لم تخرج وصفية الماء عنه فإننا نقول حينئذٍ: يجوز الوضوء به، فإن خرجت قلنا: لا يصح الوضوء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فالجواب على هذا أن نقول: أما هذا الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه، وحسبك بـمسلم إذا روى الحديث، أما قولكم: إنه إذا سقط المجنب في هذا الماء فإنه يخرجه عن الطهورية فنقول: هذا من عندكم، والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك لأجل استقذار الناس له، فلو جاء رجل وعلم أن هذا الماء المستجمع الصغير قد سقط فيه شخص مجنب، واغتسل منه، فلن يستطيع أن يغتسل منه مرة ثانية؛ لأن النفوس تتقزز منه، وهكذا التقزز يمنع من استعمال الماء فيكون فيه إسراف؛ لأنه بقي ماء لا يستعمل، فكان الشارع الحكيم يكره الإسراف؛ لأنه من عمل الشيطان، ولأجل ألا يستقذر هذا الماء نهى المجنب أن يقع فيه؛ بدليل أنكم تقولون للجميع: إنه لا ينجس، فكذلك لا يسلبه الطهورية؛ لأن مسمى الماء لا زال فيه.
قالوا: فما تقولون في الحديث الذي جاء في البخاري و مسلم: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )، وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن غمس اليد في الإناء على أن هذا الإناء لا ينجس؛ لأنه لم تقع فيه نجاسة، وقد تكلمنا على أن الماء لا ينجس إلا بتغير اللون، أو الطعم، أو الريح، فلما لم يتغير بنجاسة دل على أنه قد تغير من الطهورية إلى الطاهر!
والجواب: أنه قد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الإمام أحمد : أن هذا الماء تصح الطهارة به، وأن النهي إما أن يكون تعبدياً، وإما أن يكون لأن الإنسان حال نومه لا يدري أين باتت يده فلربما وقعت في أماكن قذرة، وهذا بعيد، يعني ربما إنسان يربط نفسه ومع ذلك لا يغمس، والصحيح والأظهر أنه ربما يكون الشيطان قد بات في يديه كما يبيت الشيطان في خياشيمه، فلأجل هذا ولأجل مباعدة الإنسان عن مواطن الشيطان، فإنه لا ينبغي له أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وهذا ليس دلالة على النجاسة؛ لأنه لو كانت العلة هي النجاسة لم يقل: ثلاثاً؛ لأن النجاسة متى ما زالت زال حكمها، فدل ذلك على أن المقصود به هو نوع من التعبد الذي يبيت الشيطان فيه، والله أعلم.
السؤال الأول: كم أقسام المياه؟
السؤال الثاني: إذا أدخل القائم من نوم الليل يده في الإناء، فهل ينجس أم لا؟
الجواب: إذا اجتهد الإنسان وأخطأ في المسائل العملية فإنه يعذر بإذن الله تعالى، ودليل هذا ما جاء عند أهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صليا بتيمم، فلما جاء الماء أعاد أحدهما الوضوء والصلاة، والآخر لم يعد الصلاة وأعاد الوضوء، فلما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للذي أعاد الوضوء والصلاة: لك أجرك مرتين، وقال للذي أعاد الوضوء ولم يعد الصلاة: أصبت السنة ).
وهذا فيه دلالة على أن الإنسان معذور باجتهاده؛ لأنه خفيت عليه السنة.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فمنهم من صلى، ومنهم من لم يصل ) ومع ذلك لم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين اجتهدوا.
الجواب: أنا قلت إنه ليس هناك كتاب مقرر؛ وذلك لأننا سوف نذكر المسائل ونستتبع شرحها؛ لأن كوننا نشرح كتاباً فربما يكون الإخوان في بعض البلاد لم يكن يسعفهم وجود هذا الكتاب، أو ربما يكونون قد تتلمذوا على مذهب معين، فلأجل جمع الكلمة نقول: نأخذ المسائل، ونذكر أحكامها الشرعية، إن شاء الله.
الجواب: الفقه في اللغة: الفهم، ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني: يفهمه الدين.
وأما في الاصطلاح: فهو معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها العملية المستنبطة من الأحكام الشرعية. أما المصطلح فهو من حيث المصطلح المعروف بمصطلح الحديث: هو العلم الذي يعرف به تصحيح الحديث من تضعيفه من وجود علة فيه أم لا، وهذا معروف.
الجواب: المقلد الذي لا يعرف الأدلة، أو لا يعرف البحث عن الأدلة لا بأس أن يأخذ قول إمام، أما طالب العلم أو الذي يريد أن يتعلم بحيث يبحث أقوال أهل العلم فإنه حينئذٍ يبحث عن الدليل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وإلى لقاء يتجدد، فموعدنا معكم إن شاء الله يوم الجمعة، فإلى اللقاء!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر