الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحبتي في الله, أيها المشاهدون والمشاهدات! سلام الله عليكم أيها الإخوة الطلاب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
وكنا أيها الإخوة قد تحدثنا في أول درس من دروس هذه الأكاديمية في باب الفقه عن الماء، وقلنا: إن الماء الصحيح أنه على قسمين: طهور، ونجس، وذكرنا أدلة هذا التفريق، وفرعنا فيه وقسمنا، إلا أن ثمة بعض المسائل التي ينبغي أن يحتوي عليها هذا الفن، وكذلك أن يفقهها الطالب في هذا الباب.
قد علمنا أن الطهور هو الذي يجوز الوضوء به، وأن النجس لا يصح الوضوء به، وأن وقوع شيء من الطاهرات في الماء الذي لم يغيره عن مسمى الماء، الصحيح أنه يجوز الوضوء به، وعلى هذا فلا أثر لهذا التغير بالطاهرات، سواء كان يشق التحرز منه أو لا يشق التحرز منه، فمن أمثلة ما يشق التحرز منه: البئر الذي فيه بعض المباحات كالأشجار، فهذا يشق التحرز منه ومع ذلك فهو طهور.
ومن أمثلة ما لا يشق التحرز منه: أن يأتي طفل ببعض الأغصان وبعض الشجر فيضعها في الإناء الذي يتوضأ منه، فتغيره وهذا أيضاً لا يسلبه الطهورية، لكن الماء النجس لا يجوز الوضوء به بإجماع أهل العلم.
واليقين هو حال الماء قبل وجود الشك، فمثلاً وقوع شيء من الأشياء لا أعلم منها مثل روثة، الروثة إما أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وإما أن تكون روثة ما لا يؤكل لحمه كالحمار، فوجود هذه الروثة في الماء إن كانت مما يؤكل لحمه فلا يسلبه الطهورية، وإن كانت الروثة مما لا يؤكل لحمه كالحمار فإنها تسلبه الطهورية؛ لأن هذه الروثة نجسة؛ فإذا شك الإنسان في هذا الماء هل هو نجس أم طهور، فإنه ينظر إلى الماء قبل وجود هذا الشيء، بسبب روثة فيه فإن كان الأصل أنه طهور فإنه يجوز الوضوء به؛ لأن الأصل الطهورية، واليقين لا يزول بالشك، واليقين هو أن عندي ماء طهوراً، فوقوع شيء شككت فيه لم يتبين حاله فالأصل فيه الطهورية.
أما إذا كان الأصل فيه أنه نجس، فجئت فوجدت أن شخصاً قد سكب عليه بعض الماء فربما أن هذا الماء يؤثر فيغير الطهورية, وربما لا يغير الطهورية، يعني ربما يزيل النجاسة، وربما لا يزيل النجاسة.
وقد يكون الشك في وجود شيء من المباحات، وهنا نقول: إن إذا شككت فيه هل غيّر الماء أم لا؛ فانظر إلى الأصل في هذا الماء قبل ورود هذا الشيء عليه؛ فإن كان نجساً فيبقى على النجاسة وإن كان طاهراً يبقى على الطهارة، وهذا هو مذهب الجمهور، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يتبين له شيء فإنه يبني على الأصل، أما إذا غلب على ظنه أن هذه الروثة هي روثة حمار، وعنده دراية في هذا, فإنه لا يبني على الأصل وهو الطهورية ولكنه يبني على غلبة الظن.
فإذا كان عند شخص إناء الأصل فيه أنه طهور فوقعت فيه روثة، فلم يعلم هذه الروثة أهي من روثة ما يؤكل لحمه فتكون طاهرة، أم روثة حمار فتكون نجسة، أو روثة ما لا يؤكل لحمه فتكون نجسة؛ فجاء شخص فقال: أنا أعرف هذه الروثة، ويغلب على ظني أنها روثة ما يؤكل لحمه، فنقول: ابق على غلبة الظن، وجاءنا آخر فقال: أنا يغلب على ظني أن هذه الروثة هي روثة حمار، هل نقول: بناءً على غلبة ظنه علم أن هذه الروثة روثة حمار، فلو أخذنا بالأصل يكون الماء طهوراً، وإذا أخذنا على غلبة ظنه بأن هذه روثة حمار يكون الماء نجساً.
وعلى هذا فالراجح أنه إن كان عنده غلبة ظن بنى على غلبة ظنه، فإن لم يكن عنده غلبة ظن بنى على الأصل وهو اليقين، واليقين لا يزول بالشك، فإذا كان اليقين هو الطهورية فلا يزيله شك النجاسة، أو كان اليقين هو النجاسة فلا يزيله شك الطهورية.
أما إذا كان عنده غلبة ظن فيعمل بغلبة ظنه، وقد أخذ أهل العلم بهذا بناءً على ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا شك أحدكم فليتحر الصواب، وليبن عليه )، يعني: فليعمل بغلبة الظن وهو تحري الصواب، ولم يقل: ابن على اليقين, مما يدل على أنه إن كان عنده غلبة ظن فإنه يبني على غلبة ظنه، وإن لم يكن معه غلبة ظن فإنه يبني على اليقين.
انتهينا من هذه الصورة.
وذهب بعض أهل العلم -بناءً على القاعدة التي ذكرناها وهي البناء على غلبة الظن- إلى أنه إن كان يغلب على ظنه في أن أحد الإناءين أنه الطهور استعمل الطهور، أو غلب على ظنه في أحد الإناءين أنه هو النجس عمل بخلافه وهو الطهور. إذاً: إن كان يغلب على ظنه عمل بغلبة الظن ولا يجوز له أن يتيمم؛ لأنه لم يعدم الماء، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
وصورة هذه المسألة أن يكون إناءان، فجاء الكلب فولغ في أحدهما، ومن المعلوم أن الكلب إذا ولغ في الإناء ينجسه -فقال الراعي: إن الكلب قد ولغ في أحدهما، فقلت أنت: سوف أسكب أحدهما، فذهب الراعي ولم يخبرك أي الإناءين ولغ فيه الكلب، فأنت حينئذٍ تريد أن تتوضأ فيصعب عليك أن تحدد أحدهما بيقين، فإما أن تبني على اليقين وليس هناك يقين، وإما أن تبني على غلبة ظن! وهنا ذهب بعض أهل العلم إلى أنك لا تبني على غلبة ظن, بل اليقين هو أن تتركهما جميعاً وتتيمم، قالوا: لأنه لما عسر أن يعلم أحد الطهورين فإنه يكون وجوده كعدمه، فيتيمم.
وقال بعض أهل العلم: بل يبني على غلبة الظن، فإن كان يغلب على ظنه أن الكلب قد ولغ في هذا، وأحس فيه نوع تغير فإنه حينئذٍ يعمل بالماء الآخر، وتكون صلاته صحيحة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
إذا قلنا: إن الراجح أن يعمل بغلبة ظنه، وأنه يتوضأ ولا يتيمم، فإن لم يكن عنده غلبة ظن, فإنه يتيمم، ولا يلزم بإراقة أحدهما؛ لأن بعض الفقهاء قال: لا بد من إراقة الماء إذا أراد أن يتيمم حتى يصدق عليه أنه عادم للماء، والصحيح أنه لا يلزم؛ لأن العدم إما أن يكون حسياً، وإما أن يكون شرعياً؛ فالشرعي حتى ولو كان الماء موجوداً فإن الشرع أباح التيمم؛ لأن هذا في حكم المعدوم، والله أعلم.
وقولنا: كل إناء طاهر يبين أن الأصل في الأواني الطهورية.
قد يقال: من أخبرك بهذا؟
فنقول: استدلال أهل العلم بالأدلة الظاهرة المتواترة بالمعنى على أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]. إذاً فالله خلق لنا كل ما في الأرض لأجل أن نتنعم بها في طاعة الله سبحانه وتعالى وفيما يعين على ذلك.
ومن الأدلة على ذلك ما جاء في البخاري من حديث عبد الله بن زيد قال: ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور، فتوضأ به ).
والتور: إناء من نحاس، فدل ذلك على أن كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله، إذاً الأصل أن كل شيء يباح اتخاذه واستعماله ولو كان غالي الثمن، ولو كان هذا الإناء من الماس، ولو كان هذا الإناء من الزمرد أو الجواهر؛ فكون الشيء غالباً أم ليس بغال لا يمنع من جواز استعماله.
إذاً: نهانا الشارع أن نتخذ أو نستعمل الذهب والفضة نصاً.
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أم سلمة : ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، والعياذ بالله! قال أهل العلم: فإذا منع الإنسان من الشرب في الإناء من الفضة دل ذلك على أن الذهب من باب أولى وأحرى، هذا هو سبب المنع في آنية الذهب والفضة، فأما الذهب والفضة فلا يجوز استعمالهما.
قولنا: يباح اتخاذه واستعماله، إلا آنية الذهب والفضة، يعني: أن آنية الذهب والفضة يحرم اتخاذها واستعمالها، والفرق بين الاتخاذ والاستعمال أن الاتخاذ أن الإناء يقتنى للزينة، فتأتي أنت بتحفة فتضعها في زاوية من زوايا البيت، أو أن تأتي بتحفة فتضعها في المطبخ، هذا يسمى اقتناء، أو أن تستعملها أحياناً للحاجة، مثل أن تضع قارورة صغيرة فيها بعض الأشياء، فهذا استعمال للحاجة.
أما الاستعمال: فهو التلبس بالشيء، كاللباس، والاغتسال به، والوضوء به، وغير ذلك، فالاستعمال هو التلبس بالانتفاع، مثل أن يلبس ساعةً من ذهب، أو أن يضع شيئاً من ثياب أو قرط أو غير ذلك.
فآنية الذهب والفضة لا يجوز على مذهب جمهور أهل العلم اتخاذها ولا استعمالها ولا غيره، وهذا هو الراجح والله أعلم؛ وذلك لأنه قد جاءت أحاديث منها حديث علي بن أبي طالب ، وحديث أبي موسى الأشعري ، وإن كانت الأحاديث فيها بعض الانقطاع إلا أنها تدل على أن لها أصلاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع حريراً وذهباً وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حل لإناثهم ).
القسم الأول: استعمالهما في الأكل والشرب فيهما، إذا أكل الإنسان أو شرب في آنية الذهب والفضة فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، وكل عقوبة توعد الشارع فيها بلعنة أو غضب أو نار فإنها تكون كبيرة، فإذا كان هذا في الشرب بالفضة فالذهب من باب أولى.
ولحديث حذيفة : ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما )، هذا في الأكل والشرب.
القسم الثاني: استعمالهما في اللباس، أما بالنسبة للنساء حلال؛ فيجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من قرط، أو من ساعة، أو من قلم، أو غير ذلك؛ لأنه لما جاز للمرأة أن تلبس الذهب أو الفضة جاز لها أن تستخدمها كقلم، أو أن تستخدمه كساعة وغير ذلك، فيجوز للنساء لقول الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن ) فدل ذلك على أن النساء تصنع الحلي وتلبسه، فدل ذلك على أن الحلي للنساء جائز ذهباً أو فضة.
أما الرجال فيحرم عليهم الذهب، ولا يجوز استعماله للرجال إلا في حالين:
الحال الأولى: الضرورة لما جاء عند أبي داود وعند البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
الحالة الثانية: أن يكون مغموراً لا أثر له، ومعنى المغمور: أنه لو عرض على النار لم يبق منه شيء، مثل المشالح فيها (زَرِيْ), يقولون: فيها عشرة غرامات، لكنك لو عرضت هذه (الزَّرِي) على النار لذاب، ولم يكن فيه شيء، فدل ذلك على أنه إنما قصد به إبقاء اللمعة واللون، فإذا بقي شيء منه وهو كثير فإنه يحرم.
واليوم نجد بعض النساء أو بعض الرجال يضعون سناً من ذهب، وهذا إن كان لضرورة فيجوز، مثل أن يكون في بلد لا يوجد فيها أنواع أخرى، مثل الآن (برسلان) وأنواع أخرى، فإذا كان هناك غير الذهب ويؤدي الغرض فلا يجوز استخدامه للرجال، وأما النساء فتركه أولى خوفاً من أن يكون وهذا استعمال في أكل أو شرب، وإن كان بعضهم يرى أنه نوع من اللباس.
الحكم باختصار أن نقول: أما الرجال فلا يجوز؛ لأنه يوجد بديل وقد يكون أفضل أحياناً، وأما النساء فالأصل فيها الجواز، وتركه أولى، والله أعلم.
هذا في اللباس، وعلى هذا فما حكم الخاتم للرجال من الذهب لا يجوز، وحكم القلم من الذهب لا يجوز، وحكم الساعة للرجال من الذهب لا يجوز؛ لأنها ظاهرة.
أما الفضة للرجال فيجوز استدامها كخاتم؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره.
وأما حكم استخدام شيء من الفضة غير الخاتم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا المستعمل إن كان بمقدار حجم الخاتم فلا حرج؛ لأن الشارع حينما أباح لبس الخاتم من الفضة للرجال دل ذلك على أنه يباح من باب التخفيف، فهذا الخاتم وزنه بالجرام تقريباً مائتا جرام، أو مائة وخمسون جراماً يعني أنه لا يزيد عن مائتين وخمسين جراماً تقريباً -فدل ذلك على أن مائة وخمسين جراماً تقريباً يجوز أن يوضع في الكبك للرجال، وكذلك يجوز وضع الأزرة بمقدار لا يزيد عن مائة وخمسين جراماً، وهذا رأي أبي العباس بن تيمية ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول للحنفية.
وأما ما زاد على ذلك فلا ينبغي؛ لأنه في حكم عموم النهي عن الذهب والفضة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن الأكل والشرب إنما خرج مخرج الغالب، والغالب في استخدام الذهب والفضة إنما هو في الأكل والشرب، فليس معنى ذلك أنه في غير الأكل والشرب يجوز الاستعمال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب كما قال الله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، يقول بعضهم: إن هذا مخرج الغالب، وبعضهم يقول: وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فقوله: (من حجوركم) قالوا: خرج مخرج الغالب.
فالأولى ألا يزاد لبس الفضة على مقدار ما يلبس من الخاتم، يعني مائة وخمسين جراماً، ويجوز أن يوضع في ساعة، أو يوضع في الكبك، هذا اختيار أبي العباس بن تيمية ، ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول لبعض الحنفية، واستدلوا بما عند أبي داود : ( وأما الفضة فالعبوا فيهما )، ولكن الحديث فيه ضعف.
القسم الثالث: اتخاذه للرجال والنساء، الأصل والله أعلم أنه يمنع؛ لأنه لا حاجة في ذلك.
وبعضهم يقول: إذا جاز للمرأة أن تلبس الذهب، وجاز للمرأة أن تلبس الفضة، فما الفرق بين اللباس وبين الاتخاذ؟
ونحن نقول: الجواب: أن الاتخاذ ليس فيه حاجة أصلاً، وأما المرأة في لباسها فإنها تحتاج.
والأولى ألا يتخذ الذهب والفضة من حيث الاتخاذ، قد يشتهر في بعض البلدان كبلاد المغرب الإسلامي أنهم يضعون إبريقاً من فضة, أو بعض بلاد الشرق والغرب، أو بعض الذين يأكلون بملاعق فيها فضة، وهذا لا يجوز، إلا أن يكون لونها لوناً فضياً، وليس فيها مادة الفضة فهذه لا حرج من استعمالها، فإذا كان فيه مادة الفضة فلا يجوز إذا كانت كثيرة، وأما إذا كانت نوع من إبقاء اللون بحيث لو عرض على النار لم يبق شيء فهذا لا بأس به، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذاً: قلنا: إن الذهب والفضة لا يجوز استعمالهما في الأكل والشرب، ولكن هل يجوز أن يوجد إناء من ذهب أو فضة فيتوضأ فيه الإنسان ويتطهر؟
الطهارة بإناء من ذهب أو فضة تصح مع الإثم، فلو توضأ إنسان بإناء من ذهب أو بإناء فضة فإن طهارته صحيحة، هذا قول عامة أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن النهي عن استعمال الذهب والفضة لا علاقة له بفساد عبادة الطهارة؛ لأن الماء طهور وما هذه إلا نوع من الآلات، فهذا الإناء المستعمل هو خارج عن ماهية العبادة التي هي الطهارة، فلا بأس بذلك، وهذا هو الراجح.
إذا: الطهارة تصح لكنها مع المنع والإثم.
أولاً: يتطهر فيهما.
ثانياً: يتطهر بهما.
ثالثاً: يتطهر منهما.
رابعاً: يتطهر إليهما.
فالأول: يتطهر فيهما، يكون الإناء كبيراً، فيدخل في الإناء فيغتسل أو يتوضأ وهو داخل الإناء المليء، هذا هو معنى (يتطهر فيهما)، أي أنه يكون الإناء ظرفاً للإنسان.
الثاني: يتطهر بهما، معناه: أن يجعل الإناء آلةً لأن يتوضأ الإنسان منه؛ مثل أن يوضع الماء في إبريق من ذهب أو من فضة، فيصب عليه وهو يتوضأ منه، وهذا معناه: يتطهر بهما.
والثالث: يتطهر منهما، ومعناه أن يكون هناك إناء فيغترف به من إناء ذهب إلى شيء، فيقول: آخذ هذا بيدي، ثم يصبه على شخص آخر، فيكون الآلة ليست ذهباً أو فضة، ولكن آخذ الماء من آنية الذهب والفضة.
الرابع: (يتطهر إليهما) يعني: وأنت تتوضأ ما سقط من أعضائك وقع في آنية ذهب أو فضة، وهذا جائز؛ لأنك لم تستعمله، حتى إناء يتطهر منهما جائز؛ لأنه لم يستخدمه وإن كان الأفضل ألا يستخدمه ألبتة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أما ما جاء في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ( أنه قال: يا رسول الله! إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها )، فيس المقصود به المنع من استعمالها ابتداءً ولا أن الأصل في آنية الكفار هو المنع؛ بل نقول: يا لابد أن يعلم أن ظاهر الحديث لا يؤخذ به على الإطلاق، فأحياناً يكون الراوي أو المصنف قد كتب هذا الحديث مختصراً ولم يجمع جميع طرق الحديث؛ لأن تتبع الطرق وجمع الروايات يظهر فيها معنىً غير المعنى الذي اختصر في هذا الحديث، فيكون المعنى أنه جاء في بعض الروايات أن أبا ثعلبة الخشني يقول: ( يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب، فيؤتى بأوانيهم قد أكلوا فيها الخنزير، وشربوا فيها الخمر، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا )، خوفاً من أن يكون قد بقي وعلق في هذا الإناء شيء من لحم الخنزير، ولحم الخنزير رجس بالإجماع، أو أن يكون قد علق شيء من الخمر, فلربما يكون الإنسان حديث عهد بإسلام، وكان يشرب الخمر، فيشرب من هذا الإناء ولا يعلم فيسكر وهو لا يدري؛ لأن الإنسان الذي ما فطم -يعني ما ترك هذا الأمر- لأنه حديث عهد بإسلام لربما وقع في المحظور، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ).
فدل ذلك على أن هذا الحديث لم يكن منعاً على الإطلاق، ولكنه إنما قصد به حالة خاصة قد أتى بها صلى الله عليه وسلم جواباً لسؤال، فيقال قاعدة أصولية: السؤال معاد فيه الجواب، يعني: أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل معنىً من المعاني سئل عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون إن كانت فيها خمر أو خنزير؛ فلا يجوز الأكل بها إلا أن تغسل، ومعنى النهي (لا تأكلوا فيها من باب التوقي والورع، وإلا فإذا كانت طاهرة فلا حرج أن يستعملها أهل الإسلام؛ لأنها ما دامت طاهرة فلا بأس بذلك، فيكون منع النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً إنما هو من باب الورع، ومن باب التوقي، ومن باب الابتعاد عن سائر النجاسات، والله أعلم.
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، أرجح هذه الأقوال: أن هذا الحيوان الميت لا يخلو من أن يكون طاهراً في الحياة أو مما يؤكل لحمه، أو ليس طاهراً ولا يؤكل لحمه، فإن كان طاهراً ولا يؤكل لحمه كالهر فإنه لا ينفع الدبغ، وإن كان نجساً ولا يؤكل لحمه فلا ينفع فيه الدبغ، وإن كان طاهراً في الحياة وهو مما يؤكل لحمه فينفع فيه الدبغ، فيكون الدبغ بمنزلة الذكاة، الدليل هو ما جاء في الصحيحين من حديث ميمونة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم يجرون شاةً ميتة، فقال: هلا انتفعتم بإهابها؟ -يعني: بجلدها- قالوا: إنها ميتة )؛ لأنه معلوم عندهم أن الميتة محرمة، فإن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، ( فقال صلى الله عليه وسلم: إنما حرم أكلها )، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنكر عليهم لأنها شاة؛ والشاة ينفع فيها التذكية، فكان الدبغ بمنزلة الذكاة.
وهذا يخالف حديث ابن عباس : ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )، وقد رواه مسلم ، ولم يكن هناك فرق بين إهاب وإهاب.
لكن نقول: إن هذا حديث عام، خصص فيما يؤكل لحمه، ودليله ما جاء عند الإمام أحمد و الدارقطني وغيره، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دباغها ذكاتها )، وفي رواية: ( دباغها طهورها )، وفي حديث سلمة بن المحبق : ( دباغ جلود الميتة ذكاتها )، والحديث بمجموع طرقه يدل على أن له أصلاً، وأحسن شيء في الباب حديث عائشة : ( دباغها طهورها ).
ووجه الدلالة أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دباغها ذكاتها) فإننا ننظر، فإن الأسد لو ذكي لا يطهر, فلم تكن هذه الذكاة تنفع النجس، فدل ذلك على أن الدبغ بمنزلة التذكية، والتذكية لا تطهر إلا ما يؤكل لحمه، ولا تنفع إلا فيما يؤكل لحمه، وهذا القول أظهر وأحوط، وعلى هذا فلو أن إنساناً لبس فراء من نمر فهل يجوز؟
نقول: إن كان قد دبغ فلا يجوز الصلاة فيه؛ لأن جلود السباع قد جاء فيها نهي خاص: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع )؛ لأنها من فعل المجوس، فعل الفرس، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كما في حديث المقداد بن معد يكرب ، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان .
أما في غير السباع مما لا يؤكل لحمه فإنهم قالوا: يجوز استعماله في اليابسات، ولكن لا يصلى فيه، ولا يوضع فيه شيء رطب؛ لأنه سوف ينجسه، هذه هي الأحوال.
والذي يظهر لي أن الغالب أن يكون ذلك في الحية؛ لأن الحية ليست من السباع ومع ذلك فهي نجسة، فإذا دبغت فإنها تستخدم في اليابسات، مثل أن تعلق في السيارة، أما أن تستخدم في الرطب، فهذا ينجسها، والله أعلم.
الجواب على هذا هو أن ما أبين من حي فهو كميتته، فإذا قطعت يد حيوان وهو حي فهذه اليد ميتة، ( ما أبين من حي فهو كميتته )، وقد جاء في ذلك حديث أبي واقد ، وإسناده يدل على أن له أصلاً، لكن هذا الجز من الصوف استخدمه الصحابة، فلو كان هذا من سائر أعضائه لما جاز استعماله؛ لأنه سوف يكون نجساً، وقد أبين من حي، فلما جاز استعمال هذا الصوف صار هذا مستثنى من أعضاء الحيوان؛ فدل ذلك على أن الصوف والشعر لا بأس به، وهذا قول عامة أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
والقول الثاني هو مذهب أبي حنيفة أن السن والقرن والظلف طاهر؛ لأن حياته حياة نباتية، وليست حياة حيوانية، ومعنى الكلام أن نموه هو مثل الحياة النباتية، لكن ليس فيه دم، فدل ذلك على أنه طاهر، وهذا هو ظاهر كلام البخاري ، فإن البخاري ذكر حديثاً معلقاً بصيغة الجزم أن محمد بن سيرين سئل عن العاج وهو سن الفيل فقال: لا بأس بالتمشط فيه؛ لأنه في حكم الطاهر، والله أعلم.
أما العظم فالذي يظهر والله أعلم أن العظم لو فتح فإنه فيه دماً، فدل ذلك على أن عظم الميتة نجس ولو كان مما يؤكل لحمه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
السؤال الأول: ما حكم اشتباه الطهور بالنجس، هل يستعملهما أو يستعمل أحدهما؟
السؤال الثاني: ما حكم جلد الميتة، هل إذا دبغ يطهر مطلقاً، أم يطهر كل حيوان طاهر، أم يطهر كل ما يؤكل لحمه؟
الجواب: نعم، نحن نقول: طاهر لأجل أن الطاهر هو الذي سُلب معنى المائية، وإلا فإن الماء إن كان وصف المائية لا زال فيه فإنه سواء سميته طهوراً أو سميته طاهراً فلا فرق.
مداخلة: أقصد يا شيخ رجحت في الدرس الماضي أنه قسمان فقط؟
الشيخ: هما قسمان، لكن حينما نقول: طاهر، فنقصد به الطهور، ونقصد به الطاهر الذي قد خرج عن مسمى الماء مثل العصير فإنه يسمى طاهراً، لكننا حينما نقول: طهور، فإننا نقصد الماء الذي يتوضأ به ولو وقعت فيه شيء من المباحات التي لم تغير من مسمى الماء.
الجواب: المقصود من ذلك هو الفضة التي هي مادة الفضة، أو فيها مادة الذهب، أما اللون الفضي، أو اللون الذهبي فلا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون فيه ذهب أو فضة، بحيث لو عرض على النار يكون باقياً فهذا ممنوع؛ لأنه في حكم الأكل والشرب.
الحالة الثانية: أن يكون لوناً فقط وهذا اللون لو عرض على النار لم يكن له أثر وهذا لا بأس.
وبالمناسبة أيها الإخوة نستطيع أن نعرف ذلك خاصةً في الثريا وغيره، فإذا كانت قيمة الثريا ألفين أو خمسمائة أو ثلاثة آلاف، وقيل: إن فيها ذهباً، فهذا ليس معناه أن فيها ذهباً، ولكن المعنى أنها مصبوغة بمادة تقوي لون الذهبية فيها، وإلا لكانت بخمسين ألفاً، أو بأربعين ألفاً، وهذا يعرف، ولهذا ينبغي أن يسأل هؤلاء هل فيها ذهب حقيقي وكم عيارة أو ليس فيها من الذهب إلا بقاء اللون القوي.
الجواب: هذا سؤال جيد، السبب في منع الذهب والفضة هو كما جاء في الحديث: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة )، وليس السبب هو غلاء الثمن، فإن الإنسان أحياناً يستخدم الذهب والفضة ولا يكسر قلوب الفقراء، فدل ذلك على أنها آنية أهل الجنة في الجنة، فلا ينبغي لأهل الإيمان أن يستعملوها، فتكون لهم خالصةً يوم القيامة، ولا تكون للكفار.
وعلى هذا فالنهي ليس لأجل الغلاء، ولكن لأجل خصوصية الذهب والفضة، لأهل الجنة يوم القيامة والعلة قاصرة فيه.
وإلى لقاء يتجدد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر