الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من حضر هذا الاجتماع وهذه الحلقة من حلق العلم ممن تحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربنا سبحانه وتعالى عنده في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة! ما زلنا نتحدث في كتاب الطهارة وفي باب الاستنجاء والاستجمار، وقد تحدثنا عن آداب قضاء الحاجة، وذكرنا بعض المسائل، ولم يسعفنا الوقت حتى ننتهي من باب آداب قضاء الحاجة، ونحن بإذن الله سوف نسير في هذا الترتيب بناءً على كتب الفقهاء، ونحن وإن لم نختر كتاباً محدداً فإننا بإذن الله لن نترك بعض المسائل المهمة.
نعم بعض الآداب ربما نتركها، وبعضها مما يحتاجها الناس نذكرها، وإلا فإنه يصعب في مثل هذه الدورة أن نذكر كل ما قيل؛ لكن الأصل أن الإنسان يعرف المسائل العامة المشهورة، ثم يعرف كيف يتعامل مع النصوص من حيث الأخذ بالدليل، ومن حيث ترك العمل بالحديث لأجل أنه ضعيف، فبذلك يكتسب طالب العلم وطالبة العلم الملكة الفقهية التي ينشدها كل من سار على هذا الأمر.
أيها الإخوة! ما زلنا نتحدث عن آداب قضاء الحاجة، ومن الآداب التي بقيت هي حكم الاستنجاء أو الاستجمار باليمين.
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته لا بد أن يتعامل بيديه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم للعبد والأمة كيف يتعامل بيده مع قضاء الحاجة، فبين أن هذه اليمين مكرمة عند الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا فلا ينبغي للإنسان أن يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا أن يبول ويمسك ذكره بيمينه؛ لأن ذلك من باب إهانة اليمين، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: ( كان يعجبه التيمن في تنعله إذا تنعل، وفي ترجله إذا ترجل، وفي طهوره إذا تطهر ).
وكان إذا أراد أن يتطهر من باب إزالة ما علق في جسده صلى الله عليه وسلم من أوساخ بدأ باليمين، وإذا أراد أن يزيل وصف الحدث القائم بنفسه بدأ بشقه اليمين، وأما ما دون ذلك فإنه يستخدم يده اليسرى، ولأجل هذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء )، والحديث متفق عليه.
اختلف العلماء في ذلك، فذهب الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ، و مالك و الشافعي و أحمد إلى أن النهي إنما هو للكراهة، وليس للتحريم، إذاً النهي عند الجمهور للكراهة.
ولماذا حملوا النهي على الكراهة مع أن الأصل أن النهي يقتضي التحريم؟
فنقول: نحن نعلم أن القاعدة الأصولية تقول: إن النهي يقتضي التحريم، ولا يصرف عن التحريم إلا بقرينة، والقرينة أيها الإخوة! لا يلزم أن تكون نصاً شرعياً من كتاب أو سنة، فيمكن أن تكون ظاهر الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون قرائن تعرف بالأدلة والقرائن، فذكر جمهور العلماء أن من الصوارف في هذه المسألة كما أشار إلى ذلك النووي: أن هذا من باب الإرشاد والآداب، وليس من باب العبادات التي هي متوقفة على التوقيف، يعني: لا تعرف حكمتها.
قالوا أيضاً: ولأن في الحديث: ( ولا يتنفس في الإناء )، فإذا كان التنفس في الإناء ليس من باب التحريم، فكذلك التمسح من الخلاء ليس من باب التحريم.
وقالوا أيضاً: ولأن اليمين أو اليسار إنما هي بضعة من جسد الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو بضعة منك)، فإذا كان كذلك فإنه يدل على الكراهة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي يكون للتحريم، وهذا مذهب داود الظاهري و ابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، فدل ذلك على أن المقصود هو حال قضاء الحاجة، فلربما وقع في يده اليمنى بعض النجاسة، واليمنى ينبغي أن تكرم، فلا ينبغي للإنسان أن يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فإننا نقول: إنه لا يدل على التحريم، لكن نقول مع ذلك: إنه وإن كان القول بالكراهة قولاً قوياً، لكن لا ينبغي للناس أن يخالفوا هذا الأمر؛ لأن القول بالتحريم قول قوي أيضاً، فنقول: الراجح أنه للكراهة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتهاون في هذا الأمر، ولهذا ينبغي أن يعلم الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته ألا يمسك ذكره بيمينه، ولكنه يمسكه بيساره.
طيب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، وقال: ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، فإذا أراد الإنسان قضاء حاجته فكيف يستطيع أن يتمسح بيمينه؟ انظر فقه العلماء، قالوا: إذا اضطر إلى استعمال اليمين فإنه يمسك ذكره بيمينه، ويأخذ الحجر ويحركها بشماله، لتكون المتحركة هي اليسار وليست اليمين، كل ذلك لأجل ألا يخالف ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يا إخوان! شيء يربينا أي: هذا الذي يظن بعض الناس أنه تكلف هو لأجل ألا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتبقى قلوبنا معظمةً أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حتى في قضاء الحاجة، ولهذا عندما قال اليهود لـسلمان الفارسي : ( قد علمكم رسولكم كل شيء حتى الخراءة ) يعني: حتى أداء قضاء الحاجة، فما استشكل سلمان هذا الأمر ورأى أن الضغط الإعلامي سوف يؤثر عليه، بل قال: ( أجل! نهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو بعظم، وأن نستقبل القبلة ببول أو غائط ).
وهذا يدل على أننا حينما نقول هذا الأمر أننا ونحن نقضي الحاجة نعلم أن الله قد أمرنا بشيء ينبغي لنا أن نؤديه.
قالوا: لما جاء عند أهل السنن من حديث معاوية بن حيدة قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: يا رسول الله! أرأيت إذا كان أحدنا وحده؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، يعني: إذا كنت أنت تستحي من أن تكشف عورتك أمام شخص أجنبي فالله أحق أن تستحيا منه، فإذا كان محرماً أن يكشف الإنسان عورته أمام صاحبه، فكذلك يحرم أن يكشف عورته بلا حاجة وحده؛ لأن الله أحق أن يستحيا منه.
قد يقول قائل: ما الدليل على أن الإنسان يحرم عليه أن يكشف عورته أمام صاحبه؟
نقول: الدليل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ليس على عورتهما شيء )، فهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يكشف عورته، ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على موسى، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69]، فقد كان اليهود إذا أرادوا أن يغتسلوا كشفوا ثيابهم وعوراتهم رجالاً ونساءً، ( فكان موسى عليه السلام استحياءً من الله لا يغتسل إلا وعليه شيء، فكان اليهود يقولون: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر -يعني مجبوب الذكر- فكان الله سبحانه وتعالى يريد أن يظهر عور كلامهم، فوضع موسى ثوبه على حجر، ثم اغتسل، فجعل الحجر يهرب -بأمر الله سبحانه وتعالى- فلما رأى موسى أن الحجر قد هرب بثيابه، فجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! فجعلت اليهود تنظر إلى موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس )، والحديث في صحيح مسلم.
إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا ينبغي للإنسان أن يكشف عورته إلا إذا أراد أن يقضي الحاجة، ومن المؤسف أيها الإخوة! أنك تجد بعض الناس بمجرد دخوله دورات المياه يكشف ثيابه وربما من غير حاجة، فإذا أراد أن يقص شاربه، أو أن يصنع شيئاً برأسه، أو أن المرأة تصنع شيئاً برأسها تجد أنهم يكشفون ثيابهم، ولا شيء على عوراتهم، وهم في دورات المياه، وهذا الأمر لا ينبغي، ولو كانوا وحدهم؛ لأن هذا الكشف ليس له حاجة، فلأجل هذا فإن كشف العورة من غير حاجة الراجح أنه محرم؛ لأنه إذا استحيا المرء من الأجنبي فالله أحق أن يستحي منه، ولأجل هذا ينبغي أن نتفطن لمثل هذا.
أما حال إرادة قضاء الحاجة فإننا نقول: يستحب له، ولكن مع ذلك فإن بعض الناس يقضي حاجته وينتهي ويمكث كاشفاً عورته وهذا مكروه.
إذاً عندنا ثلاث مراتب: الأول: كشف العورة من غير حاجة وحكمه حرام، والدليل ( فالله أحق أن يستحيا منه ).
الثاني: كشف العورة إذا أراد أن يقضي حاجته، فيستحب له ألا يكشف ثيابه إلا إذا كان يريد قضاء الحاجة أو يدنو منها.
الثالث: يقضي حاجته وينتهي من ذلك كاشفاً عورته، قلنا: إن ذلك مكروه، بل بالغ بعضهم فقالوا: إن ذلك محرم، والراجح أن ذلك مكروه؛ لأنه ربما يبقى أكثر من هذا، ولهذا ينبغي أن نعلم أن الموسوس والموسوسة -هداهم الله ونسأل الله أن يشفيهم- حينما يبقون في دورات المياه كاشفي عوراتهم ويقولون: إنه من باب الطهارة فإنهم قد أطاعوا إبليس من وجهين: أطاعوا إبليس من الوجه الأول أنهم بالغوا في التطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( سيكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء ).
الثاني: أنهم كشفوا عوراتهم، وقد نهى الله ونهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نكشف عوراتنا من غير حاجة.
الوجه الأول: من استقذار المرور على هذا الطريق.
الثاني: لربما وطأت أرجل بعضهم بعض هذه النجاسة، أو أصابت بعض ثيابهم، فتقذروا من هذا الوضع، ولربما كان السبب هو من فعل ذلك، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: يا رسول الله! وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم ).
إذاً الأمر الأول: طريق الناس، أما الطريق التي تكون غير مسلوكة أو مهجورة، أو مثل الطرق التي تكون في البراري، فتجدون في البر أحياناً يكون هنا طريق، وهنا طريق، فهذه لم تكن من عادة الناس السلوك فيها؛ لأنها مهجورة، فحينئذ نقول: لا حرج، لكن إذا كان الطريق مسلوكاً وهو معتاد أن يسير الناس عليه، فإنه يحرم على الإنسان أن يقضي حاجته فيه.
أما الظل الذي لا يحتاجه الخلق، ولا يستفاد منه، فهذا لا حرج، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر أنه قال: ( كان أحب ما استتر به صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل )، ومن المعلوم أن الهدف فيه ظل، لكن هذا الظل لا ينتفع بالجلوس فيه، وكذلك حائش النخل فليس مكاناً للظل، أما الطلح التي يستظل الناس فيها فلا يجوز كما سوف يأتي.
إذاً الدليل على النهي عن قضاء الحاجة في الظل هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللعانين) محتملة معنيين:
المعنى الأول: الذي سبب لنفسه اللعن.
المعنى الثاني: الملعون، يعني اتقوا الملعونين، والله تبارك أعلى وأعلم.
فإننا نعلم -أيها الإخوة- أن موارد المياه التي يرد الناس إليها لسقياهم، أو لسقي مواشيهم كالآبار والوديان لا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته فيها، سواء كان ببول أو غائط، ولا يقول متعذراً: لم أجد مكاناً، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى لك فسحة في جميع البراري، أما أن تجلس في موارد المياه بدعوى أنك لا تجد ماءً إلا في هذا الموطن، فإنك تستطيع أن تحمل الماء وتذهب، أما أن تقضي حاجتك في موارد المياه فإن هذا أذىً للناس، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
والمشكلة أن الناس حينما يقال لهم: حرام عليكم قضاء حاجتكم في موارد المياه، ربما بعض الناس لا يبالي، لكن إذا قيل له: سوف نأخذ عليك غرامة ربما يمتنع.
فالفرق بين القوانين الوضعية والقوانين الربانية التي أمر الله بها هي العلاقة بين العبد وربه، ولهذا قالت المرأة عندما قالت أمها: يا بنية! شوبي اللبن بالماء، قالت: إن عمر قد نهى عن ذلك، قالت: عمر اليوم لا يرانا، قالت: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر قد رآنا.
هذه هي المراقبة التي تكون بين العبد وربه، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فليعلم أن الله مطلع عليه.
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
فيستحي من الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا نهي العبد عن أن يتكلم حال قضاء الحاجة؛ لأنه نوع من الحياء، فأنت إذا خلعت ثيابك أمام الناس لا تستطيع أن تتحدث، وتجد أنك تنزوي ولا تتكلم، فكذلك كن أمام نفسك، والله أحق أن يستحيا منه، فلا تقض حاجتك في أماكن يتأذى الناس فيها.
وقد جاء عند أبي داود من حديث معاذ بن جبل رواه أبو سعيد الحميري عن معاذ أنه قال: ( اتقوا الملاعن الثلاث: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم، أو في الموارد )، ولكن هذا الحديث ضعيف؛ فإن أبا سعيد الحميري مع أنه مجهول لم يسمع من معاذ بن جبل ، فهو حديث ضعيف، لكن أهل العلم قالوا: إن موارد المياه هي ما ينتفع به مثل طريق الناس أو ظلهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( اتقوا اللعانين )، إنما ذكر بعض أفراد المنهي، ويدخل فيه كل ما ينتفع الناس به سواء كان في ظل، أو في طريق، فإنه يمنع منه، ومن ذلك الموارد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتبول الإنسان في الماء الدائم، فقال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه )، وفي رواية: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )، لأجل ألا يستقذر الناس استعمال هذا الماء، فيفسد الماء من غير استعمال، فلأجل المصلحة العامة نهي العبد أن يتبول في الماء الدائم، أو أن يتبول قريباً منه.
وقد روى الطبراني بإسناد حسنه المنذري : ( من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم )، ومعنى لعنة الناس، أي: سبابهم.
ونقع الماء أي: مجتمع الماء، فأحياناً يكون في وقت الشتاء تهطل الأمطار، فيقصد الناس بمواشيهم هذا المكان فيسقونها، فإذا استقذر الناس هذا المكان فإنهم لم ينتفعوا من الماء لتأذيهم بسبب قضاء الحاجة هناك، وربما نرى في وقت الشتاء أماكن يتمنى الناس أن يحضروها، وأن يجلسوا أمامها لأن ينتفعوا، فيجدون أنها ملأى بأذية الناس من قضاء حوائجهم، فيتركونها، وربما سبوا من فعل ذلك، ومن المعلوم أن من آذى المسلمين وجبت عليه لعنتهم كما جاء عند الطبراني بسند جيد.
فإنه يمنع للإنسان أن يقضي حاجته تحت الشجر؛ لأن الشجر إما أن تكون ظلاً للناس، وإما أن تكون مثمرة، فربما وقعت تلك الأثمار على الأوساخ، فيترك الناس الأكل من هذه الأطعمة، فلأجل هذا لا ينبغي ولا يجوز للمسلم أن يقضي حاجته تحت الأشجار المثمرة.
فإنك تأسف أشد الأسف حينما تجد من يقضي حاجته في الشواطئ التي يرتادها الناس.
ومن المعلوم أيها الإخوة! أنه ينبغي للإنسان إذا انتهى من أعماله -حتى ولو قلنا: إنه لم يقض حاجته- أن ينظف مكانه لأن مجرد وجود الأوساخ مؤذن بأذية، وإن لم نقل بحرمة ذلك؛ لكنه لا ينبغي فهو مكروه؛ لأن الناس سوف تتقذر من هذا المكان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( كان فيمن كان قبلكم رجل أزال شوكةً عن الطريق فغفر الله له )، أي: لأجل أنه أزال شوكة لأجل ألا يؤذي الناس، فما بالك ببعض الأماكن التي تؤذي الناس، ولربما كان وطء الشوك أهون عليهم من النظر إلى مثل هذه المواطن، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين الأدنى فالأعلى من باب أولى، وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم: أن ذكر الأدنى دليل على أن ما فوقه من باب أولى، والله أعلم.
فيحرم على الإنسان أن يمشي بين القبور أو يطأ القبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لأن يعمد أحدكم إلى جمرة فتخرق ثيابه أهون على الله من أن يجلس على قبر ) كما ثبت ذلك في الصحيح؛ لأن هذا أذية للمسلم الميت، وحرمة المسلم حياً كحرمته ميتاً.
وقال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد لـبشير بن الخصاصية عندما رآه يمشي بين القبور وهو على نعاله فقال: ( يا صاحب السبتيتين اخلع سبتيتيك )، والحديث حسنه الإمام أحمد ، فإذا نهي العبد أن يمشي بين القبور بنعلين خوفاً من أذية أهل القبور المسلمين، فقضاء الحاجة من باب أولى.
وقد جاء حديث رواه ابن ماجه و أبو يعلى بسند صحيح، صححه الحافظ ابن حجر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي، أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق )، وهذا يدل على أنه قضاء الحاجة وسط السوق ممنوع محرم؛ لأن هذا أذية للناس في هذا المكان فإذا كان قضاء الحاجة وسط السوق ممنوع فإن قضاء حاجته بين القبور مثله، ولأجل هذا فإن قضاء الحاجة بين القبور محرم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: هذا سؤال جيد، بعض الناس يكون الصرف الصحي -أو ما يسمى المجاري- ربما تطفح من بيته وتمشي في السوق، فلا ينبغي للإنسان أن يؤذي إخوانه المسلمين بذلك، وينبغي له أن يخبرهم لأجل ألا يتأثروا بذلك، فإذا كان قادراً على إزالة هذا الأمر فلا ينبغي له أن يتوانى؛ لأن ذلك أذية في طريق الناس أو في ظلهم، ومن المؤسف أنك ربما تجد بعض الناس لا يبالي بهذا الأمر، ولهذا ينبغي لنا أن نحتاط من هذا الأمر.
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يتوضأ فإنه يستحب له أشياء يفعلها قبل الوضوء، ومن ذلك السواك، فناسب ذلك أن يتحدث الفقهاء رحمهم الله قبل الوضوء عن باب السواك وسنن الوضوء.
فالسواك أيها الإخوة! سنة من سنن المرسلين، وقيل: إن أول من تسوك هو إبراهيم عليه السلام، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عشر من الفطرة، وذكر منها: السواك ).
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثرت عليكم في السواك )، وهذا حديث عظيم أيها الإخوة.
إذاً السواك لا ينبغي أن تتركه؛ لأنه سنة، ولهذا ذكر العلماء أن السواك سنة في جميع الأوقات، لكنه يتأكد في مواضع، منها: عند الصلاة، والقيام من النوم، وتغير رائحة الفم وغيرها.
الجواب: سؤال جيد، هل أذية المسلم في قبره معنوية أم حسية؟
الذي يظهر والله أعلم أن الأذية هنا أذية حسية، لكن هذا الحس لا نعلمه؛ لأنه سوف يتأذى، لكن كيف يتأذى؟ الله أعلم.
وهذا معنى الأذية الحسية، فإنه يتألم ويسمع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه )، ومعنى (يعذب) يعني: يتألم، هذا الألم الله أعلم بطريقته، والألم الذي يقع على الميت يقع على الروح وعلى الجسد، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية : وإن كان النعيم والألم على الروح أكثر، وفي الدنيا يقع الألم والفرح على الروح وعلى الجسد، إلا أن وقوعه على الجسد أكثر، فالمسألة مسألة مغايرة، والله أعلم.
ومن المعلوم أن السواك هو عود أو نحوه، فإذا لم يوجد عود الأراك، فإنه يجزئ أي عود بشرط ألا يؤثر على اللثة، فإن بعض الناس ربما يأخذ السواك وقد جلس معه سنين، وربما أثر في لثته، ولا ينبغي لإنسان أن يضر نفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار ).
وعلى هذا ينبغي لمن استخدم السواك كل يومين أن يقضمه لأجل أن ينتفع به، وقد ذكر الأطباء أن السواك بحاجة إلى أن يقضم، وقد روت عائشة كما في الصحيحين ( حينما دخل
الجواب: إذا دخل الإنسان دورات المياه وقضى حاجته ولم يجد شيئاً فلا حرج أن يستجمر بأي شيء شريطة أن يستجمر ثلاث مرات، فإذا كان عنده حجر فلا بد أن يستجمر به من وجه، ومن وجه، ومن وجه، ولا يستجمر من مكان واحد، فلا بد أن يستجمر من ثلاث شعب أقل شيء حتى يطهر، فإن تطهر فالحمد لله، وإن لم يتطهر وجب أن يزيد حتى يزيل النجاسة، ويستحب أن يقطعها على وتر، والله أعلم.
الجواب: نعم معجون الأسنان يؤدي دور السواك من وجه، ولا يؤديه من وجه، يؤدي من حيث إن الإنسان مأمور أن يتنظف ويتطيب؛ لأن السواك نوع من إزالة الأوساخ، ففرشاة الأسنان تؤدي هذا الغرض، لكنه لا يكون من كل وجه؛ لأن السواك مقصود؛ لأنه مرضاة للرب، وأما الفرشاة فإننا لا نستطيع أن نقول ذلك إلا بنص شرعي، ولكنه يؤجر الإنسان إذا أراد إزالة الرائحة الكريهة.
قبل أن ندخل فيما يتأكد فيه السواك، يجب أن نعلم أن السواك سنة عند عامة أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا إسحاق بن راهويه ، و داود الظاهري ، فأوجبوا ذلك في الوضوء والصلاة، وسوف نتحدث عن المواضع التي تتأكد فيها استعمال السواك بإذن الله.
الجواب: مسألة لبس الخاتم إذا كان من الذهب فإننا نقول: محرم، وهذا قول عامة أهل العلم، بل قد حكى بعضهم الإجماع، وقالوا: إنما ورد في حديث ابن عمر عند البخاري أنه كان يتخذ ذهباً، فإن الحديث منكر، أي زيادة (ذهب)، أو أنه منسوخ، وعلى هذا فلبس الخاتم من الذهب للرجال محرم، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين حرمة ذلك.
أما من الفضة فقد قال بعض أهل العلم: إن لبس الخاتم من الفضة مستحب؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه فاتخذه الناس ).
وقال بعضهم -وهذا مذهب الجمهور- إن لبس الخاتم إنما يستحب إذا كان لأجل أن ينتفع به في الختم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ إلا حينما أراد أن يكتب إلى الناس، فقالوا: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فاتخذ صلى الله عليه وسلم الخاتم بعد ذلك، فدل ذلك على أن الاستحباب هو أن يكون على هيئة وحالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما لبس حينما احتاج إلى الخاتم.
ويدل على الجواز حينما لبس الناس الخاتم، ففعل الناس دليل على الجواز، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة دليل على الاستحباب، ولعل القول الثاني أظهر وأقوى، والله أعلم.
وأما لبس الخاتم من الحديد فإن بعض أهل العلم حرم ذلك؛ لأجل أنها حلية أهل النار، والراجح والله أعلم أن كل حديث يدل على أن الحديد حلية أهل النار فهو حديث ضعيف، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب.
ولكن الراجح جوازه لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي : ( أعطها ولو خاتماً من حديد. قال: يا رسول الله! والله ما وجدت ولا خاتماً من حديد )، فهذا يدل على أن الخاتم من حديد كانوا يلبسونه، وهذا نوع من التقرير الفعلي.
الجواب: بارك الله فيك! هذا الحديث رواه أبو داود ، وقد علقه البخاري بصيغة الجزم، وقد اختلف الصحابة في هذا الأمر، فذهب أبو أيوب رضي الله عنه إلى حرمة أن يستقبل الإنسان القبلة أو يستدبرها، وقيل: إنه قول لـعائشة.
وذهب ابن عمر إلى جواز ذلك إذا كان بينه وبين البنيان شيء.
وقد اختلف الصحابة في ذلك، فإذا اختلف الصحابة فإننا نختار ما هو أقرب إلى السنة، فإذا كان هذا فعل ابن عمر فهذا هو رأيه رضي الله عنه، وأما القول الثاني فإنه يمنع وهو قول أبي أيوب ، وقد قال العلماء: إذا اختلف الصحابة فإننا نختار من أقوالهم ما هو أقرب إلى السنة، والله أعلم.
السؤال الأول: ما حكم الاستنجاء باليمين، هل هو للكراهة أم للتحريم؟
السؤال الثاني: كشف العورة من غير حاجة، هل هي للتحريم أم للكراهة؟
الجواب: هذا سؤال جيد، وسوف نذكره إن شاء الله في الدرس القادم إن شاء الله، ومع ذلك لا نعدمك من الفائدة، فنقول: اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: يكون باليسار؛ قالوا: وهذا لأجل إزالة القاذورات فيكون باليسار، وهذا اختيار ابن تيمية .
وقال بعضهم: إنه يكون باليمين؛ لما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أريت في المنام أني أتسوك، فأعطيت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر)، قالوا: فهذا يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستاك ثم أعطى هذا الرجل، ولا يعطي الرسول إلا باليمين .
وقال بعضهم وهو قول مالك بن أنس : إن الأمر على السعة؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أمر، وهذا هو الأقرب، والقاعدة في هذا: أن كل ما جاء مشروعيته في الكتاب والسنة ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لنا صفة ذلك، دل على أن أي صفة جائزة، فإن فعل هذا باليمين أو اليسار فكله جائز، والله أعلم.
ولعل في هذا كفاية، وسوف نكمل إن شاء الله باب السواك في حلقة أخرى، وهو يوم الجمعة إن شاء الله، فإلى ذلكم الحين نستودعكم الله على أمل اللقاء بكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر