اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع مرحوماً، وأن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربي فيمن ذكرهم في الملأ الأعلى، إنه على ذلك قدير.
أيها الإخوة! كنا قد وصلنا في شرحنا لباب الوضوء عند آخر مسألة وهي النية، وذكرنا بعض مسائلها، ولعلنا تبدأ شرحنا من حيث وقفنا.
إذاً النية -أيها الإخوة- ليست بحاجة إلى أن نستحضرها أو نتكلف في استحضارها؛ لأنها حاصلة من حين القيام، وبعض الناس يقول: أنا لا أدري نويت الوضوء أم لم أنو الوضوء؟ فنسأله: أنت حينما دخلت دورات المياه ماذا تريد؟ سيقول: أريد أن أتوضأ لصلاة الظهر، أريد أن أتوضأ لصلاة الفجر، أريد أن أتوضأ لصلاة العصر، فنقول له: أنت من حين قيامك من فراشك أو من مجلسك إنما نويت الوضوء، فهذه نية كافية، وإن كان الأفضل أن الإنسان يستحضر ذلك حال وضوئه، لكن ليس معنى ذلك أنه إن ترك استحضارها حال الوضوء بطل وضوء، ولهذا قال العلماء: إن النية تكون مستحضرة حال الوضوء، أو تكون حكمية، وهو من حين قيامه من فراشه ونحو ذلك مما هو معلوم.
وعلى هذا فإنني أقول لبعض الإخوة والأخوات الذين ابتلوا بالوسوسة بأنهم ربما يجدون من كلام بعض الفقهاء المتأخرين مبالغةً في بيان ما هو المستحب في استحضار النية، فلربما وقعوا في الوسوسة، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا قولاً حكيماً بأبي هو وأمي، فقال كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، والنية في لغة العرب هي العزم والقصد، وهو إرادة الشيء، فمتى أراد الإنسان فعل شيء فقد نواه، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى أن نذكر ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في كتبهم من المبالغة في بيان مثل هذه النية ما هي؛ لأن ذلك ربما يوقع الناس في الوسوسة، ويوقعهم في الحرج، فالأصل أن الإنسان حينما خرج ليتوضأ فقد نوى، والأصل أن الإنسان حينما فتح الماء ليرفع حدثه فقد نوى، والأصل بالإنسان حينما يقوم للصلاة أنه نوى.
فكل هذه الأشياء نوع من أنواع النية، والإنسان حينما يأكل بطبيعة الحال فإنما أراد بذلك رفع الجوع، فهذا نوى رفع الجوع، فكذلك هنا في الوضوء والصلاة والعبادة، فبمجرد أن الإنسان يخرج من بيته يريد الصلاة فينتظر الإمام ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر، فلسنا بحاجة إلى أن نقول له: أنويت صلاة الظهر؛ لأنه من حين خرج لصلاة الظهر قد نوى هذا الأمر، والعلماء يسمون هذه القضية: النية الحكمية، وهي أن تكون مستحضرةً إلى حين ابتداء فعل العبادة، فمتى وجد ما يقطعها خرجت النية، مثل: لو أن الإنسان قام من فراشه يريد أن يتوضأ، فلما رأى الساعة وجد أن وقت الصلاة بعيد، فقال: أنا لن أتوضأ، بل سأغسل وجهي فقط، فهو الآن قطع النية، فحينما غسل وجهه وجد نفسه أنه قد أنهى كامل أعضاء الوضوء، فهذه النية لا تنفعه؛ لأنه قطعها.
والتلفظ بالنية على حالين: إما أن يتلفظ بها سراً، وإما أن يتلفظ بها جهراً.
أما التلفظ بها سراً فإن من الفقهاء من قال باستحبابها، كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، والظاهر -والله أعلم- والأقرب من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غير مشروع، فإن أكثر من خمسة عشر صحابياً ذكروا لنا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني نويت أن أرفع حدثي، اللهم إني نويت أن أصلي بها ظهراً، أو غير ذلك من الألفاظ، ولو كان هذا التلفظ بينه وبين نفسه، فلما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دل على أن مثل هذا التلفظ ليس من السنة، بل هو غير مشروع؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا باتباع السنة أحرى، وبموافقة الحق أقرب، حيث إنهم أبعد عن التكلف، وأقوى تعمقاً في العلم، فهم على الطريق المستقيم، فبهم فلنقتد، وعلى هذا فإن قول: (اللهم إني نويت كذا) ولو كان بين الإنسان ونفسه فإننا نقول: هذا لا يشرع، وليس من السنة.
أما الجهر بها: فهو أن يجهر بحيث يسمع الآخرين فيقول: (اللهم إني نويت كذا)، وهذا معنى الجهر.
إذاً: الجهر هو ضد الإسرار، ومعنى السر هو أن يحدث بها نفسه، مثل قراءته في السر، بحيث لا يسمه من بجانبه، وأما الجهر فهو يُسمع الآخرين، والجهر بها لا يشرع باتفاق الأئمة، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن الجهر بالنية لا يشرع، ولم يفعله واحد من السلف، وليس من السنة، وهي بدعة إذا داوم عليها الإنسان، أما إذا خطرت بنفسه فنقول: هذا لا يشرع، فقد فعلت أمراً غير مشروع، وقد ذكر ابن تيمية أن ذلك بدعة.
وأما ما نقل عن الشافعي رحمه الله كما نقل ذلك ابن الأعرابي في معجمه من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، أن الشافعي رحمه الله كان إذا أراد أن يصلي يقول: اللهم إني نويت بينه وبين نفسه، فهذا قول اختاره الشافعي رحمه الله.
وقد أنكر ابن تيمية أن ينقل عن الشافعي مثل ذلك، وقد خفي عليه، فقد روى ذلك ابن الأعرابي من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، عن الشافعي رحمه الله، ولكن هذا اجتهاد من عنده رضي الله عنه ورحمه، والعالم يجتهد بما يوافق السنة، وأحياناً بما يخالف السنة، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال مالك : كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
ثم إن هذا الذي ثبت إنما هو بالإسرار، وأما الجهر فلم ينقل عن واحد من السلف أنه جهر بها، وعلى هذا فالإسرار غير مشروع، والجهر غير مشروع، وهو آكد في معنى غير المشروعية، بل قال أبو العباس بن تيمية : إن ذلك بدعة.
وأقول أيها الإخوة: هذا في غالب العبادات، وأما في الحج فإن قال: (اللهم إني نويت) فلا حرج في ذلك، كما نص الإمام أحمد على أن ذلك مباح في الحج، وأما غير الحج فلا.
وأما في الحج فلأنه جاء عن الصحابة أنهم كانوا يقولون ذلك، ومن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده من طريق عروة بن الزبير : ( أن
أما النية فإن الأصل فيها أنها توجد خارج الوضوء، وإن كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء، فلما كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء جعلها بعض العلماء من واجبات الوضوء، ولما كانت لا بد من وجودها قبل الوضوء جعلها بعض العلماء من الشروط، هذا الفرق الأ,ل بين الشرط والواجب.
الفرق الثاني: أن الشرط ثبت وجوبه وثبت عدم صحة العبادة إلا به، وأما الواجب فقد ثبت وجوبه ولم يدل دليل على فساد العبادة عند عدمه، مثال على ذلك: الطهارة ثبت وجوبها بقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، وثبت أيضاً أن العبادة لا تصح إلا بالطهارة، كما في قوله: ( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاةً من غير طهور، ولا صدقةً من غلول )، فدل ذلك على أن الشرط يختلف عن الواجب من وجهين.
إذا ثبت هذا فإن الشرط عند العلماء يقولون: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
ولعلنا نشرح معنى هذا التعريف:
فقولهم: (ما يلزم من عدمه العدم)، فمثلاً: عدم الطهارة يلزم منها عدم الصلاة، وعدم دخول الوقت يلزم منها عدم صحة صلاة الفريضة، يعني: عدم دخول وقت الظهر يلزم منه عدم وجود صلاة الظهر، وعلى هذا فإن من صلى ظاناً دخول الوقت قبل الظهر لم تصح عبادته بالإجماع، فالمأسور مثلاً لو ظن أن صلاة الظهر قد حضرت فصلى، فكان يصلي الساعة الحادية عشرة، فإننا نلزمه بالإعادة لعدم صحة صلاته، ولأنه مأمور أن يصليها في الوقت، فإذا لم يصلها في الوقت نقول: معذور بجهلك، ويجب عليك أن تقضيها.
وقولهم: (ولا يلزم من وجوده وجود)، فإذا وجدت الطهارة لم يلزم وجود الصلاة، فجائز أن أتوضأ ولكن لا يلزم أن أصلي بهذا الوضوء، وجائز أن يدخل الوقت ولا أصلي بدخوله، فربما أصلي في الوقت الثاني لأجل الجمع، أو لأجل أن الإنسان قد يكون معذوراً كالمرأة الحائض، فنقول: لا يلزم من وجوده وجود.
قولهم: (ولا عدم لذاته)، هذه العبارة لا بد من توضيحها، فنقول: الآن قد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة، مثل: شخص توضأ ولم يصل، لكن عدم صلاته ليس لوجود الطهارة، ولكن لأجل مانع آخر وهو عدم دخول الوقت مثلاً، فعدم الصلاة ليس لأجل ذات الشرط، إنما هو لأجل مانع آخر، فهذا معنى (لا يلزم من وجوده عدم لذاته)، والله أعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: لا يصح غسل ولا طهارة إلا بالنية، فلو أن شخصاً دخل البركة، فلما انتهى من السباحة قال: أنا نويت رفع الحدث، فلا يجزئه ذلك؛ لأنه لم ينو ذلك، ولو كان حدثاً أكبر؛ يعني: لأن الحدث الأكبر يجزئ عنه تعميم سائر البدن مع المضمضة والاستنشاق، أما الحدث الأصغر فعلى القول الراجح لا بد من وجود الترتيب، فلا يجزئه إلا أن يخرج -كما قلنا- مرتباً، أو أنه يمر يديه على أعضاء الوضوء ولو كان في البركة، فيتمضمض، ثم يغسل وجهه داخل الماء إن شاء أو إن خرج، ثم يغسل يديه لأجل أنه لا بد فيه من الترتيب، وهو مذهب الحنابلة والشافعية خلافاً لـأبي حنيفة و مالك كما هو الراجح من مذهب أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.
أولاً: للتمييز بين العبادات بعضها عن بعض، فأنا حينما أصلي للظهر فإنني ميزت صلاة الظهر عن صلاة العصر بالنية، فلو أن إنساناً يريد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر إما لأجل المطر أو لأنه كان مسافراً، فلا يستطيع أن يميز بينهما إلا بالنية؛ لأن الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، فلا يستطيع أن يميز بينهما، ولا يقال: هذه الأولى وهذه الثانية، حتى الأولى إنما قدمتها نية المصلي، فهذا يدل على أن النية إنما شرعت لأجل التمييز بين العبادات.
ودخول يوم الجمعة غير دخول وقت الصلاة، فدخول وقت الصلاة الراجح أنه يبدأ من بعد زوال الشمس، كما هو مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة كما سوف يأتي بيانه.
إذاً: التمييز بين الفروض بعضها عن بعض، والتمييز بين المستحبات بعضها عن بعض، هذا القسم الأول. الثاني: التمييز بين الواجبات والمستحبات، والقسم الثالث: التمييز بين العبادات والعادات، فلو أن إنساناً يريد أن يتوضأ ليعلم الآخرين، فوضوءه لأجل التعليم لا يرفع حدثه؛ لأنه لم ينو رفع الحدث، فأما إن قال: أنا أريد أن أرفع حدثي وأعلم الآخرين، فإنه يرفع حدثه؛ لأنه نوى رفع الحدث، والله أعلم.
سبق أن ذكرناه في أول درس، وقلنا: الحدث وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.
إذاً هو يريد أن يرفع هذا الوصف القائم بالبدن، ومن المعلوم أن مجرد وجود الحدث الأصغر يعني أنه لا بد أن ينوي رفع هذا الوصف القائم بالبدن الذي يمنع من الصلاة ونحوها، فإذا نواه فقد ارتفع حدثه لسائر ما يجب له الطهارة، أو أنه نوى الطهارة لما لا يجوز إلا بالطهارة، أو قصد الطهارة لما لا يباح فعله إلا بالطهارة.
مثاله: لو أن شخصاً يريد أن يقرأ القرآن ويمس المصحف، فإن الراجح وهو مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يجوز أن يمس المصحف إلا وهو طاهر، فلو أنه توضأ لأجل أنه يريد أن يمس المصحف، فمس المصحف لا يصح إلا بطهارة، فهو نوى لما لا يصح فعله إلا بالطهارة، فإنه إذا نوى ذلك جاز أن يصلي بهذا الوضوء جميع الصلوات.
فلو جاءنا شخص يقول: أنا توضأت لأجل أن أقرأ القرآن، فدخل وقت الظهر، فهل يجوز أن أصلي الظهر؟ نقول: نعم، فإن قال: أنا لم أنو صلاة الظهر، نقول: وإن لم تنو لكنك نويت رفع حدث لا تصح العبادة إلا برفعه، وهذا كاف، وهذا مذهب عامة أهل العلم، وقد حكي فيه الإجماع، والله أعلم.
لكن لو قصد التنظف لم يجزئ.
وبعبارة أخرى: لو نوى الطهارة لفعل عبادة مستحبة، فهل ترفع حدثه حتى في فعل عبادة واجبة؟
الجواب: نعم ترفع، مثلما قلنا في مس القرآن، فإن مس المصحف وقراءة القرآن فيه عبادة مستحبة، فلو أنه أراد أن يصلي بهذه الطهارة فإن ذلك يجزئ.
الجواب: نعم تجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما توضأ لصلاة الفجر ولم يحدث حتى صلى بها الظهر، فقال عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم من حديث بريدة : ( لقد صنعت يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لم تكن تصنعه قبل ذلك! فقال: عمداً صنعته يا
الجواب: نعم يجزئ لأمرين: أولاً: لأنه حينما يصلي فإنما يصلي بنية الوضوء الأول، والثاني تأكيد لذلك، هذا واحد.
ثانياً: أنه وإن لم ينو رفع الحدث الذي هو قائم بالبدن ولكنه نوى بهذه الطهارة فعل عبادة لا تصح إلا بطهارة، فهو نوع من رفع الحدث.
فأنا مثلاً طاهر أريد أن أصلي ركعتين، فأحببت أن أتوضأ وضوءاً أرفع به الحدث لأجل فعل العبادة، فنقول: هذا كاف، فأنت إنما توضأت لأجل فعل عبادة لا تصح إلا بطهارة، وقد فعلت، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأنا ذكرت هذه المسألة لأن من الفقهاء -كالحنابلة وبعض الشافعية وغيرهم- قالوا: إنه لو نوى من حدثه دائم كالمستحاضة رفع الحدث لا يجزئه، قالوا: لأن رفع الحدث لا ينفع، إنما ينوي به استباحة الصلاة.
يقولون: وفرق بين استباحة الصلاة ورفع الحدث، فهو لو نوى رفع حدثه لا يرتفع حدثه؛ لأنه قائم، هذا قول، والراجح والله أعلم أنه لا بأس بذلك، والشارع لم يفرق، ومثل هذا الأمر لو كان من الواجب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، فلما لم يبينه دل على أن الأصل الجواز؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فمن حدثه دائم سواء نوى رفع الحدث أو نوى استباحة العبادة كل ذلك جائز، خلافاً لما ينقل عن الحنابلة والشافعية.
فالراجح والله أعلم أنه يصح ولو نوى رفع الحدث؛ لأن هذا هو معنى إرادة الوضوء، فهو إنما أراد أن يتوضأ لأجل فعل العبادة، وسواء نوى رفع الحدث أو استباحة العبادة فإن هذا مبني على أن ثمة فرقاً بين استباحة العبادة ورفع الحدث كما يقول الحنابلة والشافعية في التيمم، فإنهم يقولون: التيمم مبيح وليس برافع، وهذا لو تيمم بنية رفع الحدث لم يجزئه؛ لأنه إنما يتيمم لاستباحة فعل العبادة، والصحيح جواز أن يتيمم لرفع الحدث، أو أن يتيمم لاستباحة العبادة، كل ذلك جائز كما هو ظاهر اختيار أبي العباس بن تيمية في مسألة التيمم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
سبق أن ذكرنا فروض الوضوء، والآن نتحدث عن شروط الوضوء، وشروط الوضوء سبق منها شرط واحد وهو النية.
ومن شروط الوضوء أيضاً: الإسلام، فلا يصح لكافر لو توضأ أن يرتفع حدثه؛ لأنه لا تصح منه عبادة، والنية لا بد فيها من إرادة وجه الله قبل كل شيء، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]؛ لأنهم ليس لهم نية، أي: نية عبادة يقصد بها هذا الواجب، والله أعلم، إذاً لا بد فيه من إسلام.
الشرط الثالث: العقل: وعلى هذا فلا يصح وضوء المجنون؛ لأن المجنون لا عقل له، وهو غير مكلف أصلاً، والعبادة إنما تنفع في حق من هو مكلف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق ).
كذلك من شروط العبادة: التمييز، ومعنى التمييز: أن يكون الإنسان مميزاً في عبادته، بحيث يعرف الخطاب ويرد الجواب، وقد حدده بعض العلماء بسبع سنين، والذي يظهر والله أعلم أن سبع سنين هو حد أغلبي، وإلا فإنه يجوز لمن كان عمره ست سنوات أن يفهم، فلو قيل له: ارفع حدثك وتوضأ فإنه يفهم ذلك، والله أعلم، أو خمس سنوات ونصف، فإنه متى ما فهم الخطاب ورد الجواب يكون مميزاً، وإن كان لا يدرك ما يدركه البالغ، فإننا نعلم أن البالغ يدرك من المسائل ما لا يدركه الصبي المميز، فكذلك العالم يدرك ما لا يدركه العاقل الجاهل، أو العاقل الذي ليس عنده علم.
فعلى هذا نقول: من شروط الوضوء وجود التمييز، وعلى هذا فإننا نوجه للمدرسين والمدرسات إذا أرادوا بأبنائنا وبناتنا أن يقرءوا القرآن: أن يأمروهم أو يأمروهن بالطهارة، ويعلموهن ذلك، فإن ذلك ينفعهم وينفعهن؛ لأن التمييز من شروط الوضوء.
فلو توضأ إنسان بماء نجس لم يرتفع حدثه، ولو توضأ بماء طاهر فهل يرفع حدثه؟
الجواب: إن كان يطلق عليه اسم ماء فيصح، وإن كان غير ماء فلا يصح؛ لأن المرق طاهر، والعصير طاهر، ولا يجزئ الوضوء به، لأنه ليس بماء، فالمعتبر هو وجود وصف المائية فيه، فمتى وجد وصف المائية فيه ولو وقع فيه بعض المباحات أو بعض الطاهرات فإن ذلك لا يغيره إلى عدم رفع الحدث، ما دام اسم الماء فيه، والله أعلم.
فلو كان في بدنه عجين، أو دم قد يبس، أو بعض الصمغ الذي يمنع وصول الماء، فإننا نقول: تجب إزالته، حتى يصيب الماء سائر الأعضاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام أحمد الذي رواه بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد ترك موضع ظفر لم يصبه الماء، فقال: ارجع فأعد وضوءك )، وهذا الحديث يقول عنه الإمام أحمد : إسناده جيد، وليس هذا في صحيح مسلم ، فإن الذي في صحيح مسلم من حديث جابر عن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ترك موضع قدر الدرهم لم يصبه الماء قال: ارجع فأحسن وضوءك )، فإحسان الوضوء لا يلزم منه الإعادة، فلما جاء حديث ( ارجع فأعد وضوءك ) دل على أن الإحسان المقصود به هو إعادة الوضوء، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومن ذلك أيضاً: وجوب إزالة المناكير، أعاذنا الله وإياكم من منكر ونكير! فهذه الصبغ التي توجد عند النساء في أظفارهن، فإن المرأة مأمورة أن تغسل سائر يدها بما في ذلك الأظفار، فإن الأظفار لها حكم الإصبع، وعلى هذا فلا بد من إزالة ذلك، ولو صلت وقد بقي مثل ذلك فإننا نقول: هذا لا يجزئ، لكن إن منع مانع من وصول الماء إلى سائر هذا الجسد بشيء يسير يشق التحرز منه، مثل: بعض أصحاب الحرف والمزارع حينما يشتغلون بأيديهم، فإن طبقةً من التراب قد تقع تحت الأظفار، وهذا يمنع وصول الماء، كذلك من يعمل بالخبز كالعجين، فإنه لو أراد أن يغسل فلا بد أن يبقى شيء من العجين الذي يمنع وصول الماء، فهذا منع يسير من وصول الماء إلى سائر الأعضاء؛ فإن هذا مما يعفى عنه، كما ذكر ذلك الحنفية ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
فإن منع يسير مثل وسخ في ظفر، وكذلك يسير شيء يمنع وصول الماء كالمناكير، فإذا أزالت المرأة هذا الصبغ، ووجد شيء يسير تحت الأظفار، أو بجانب الأظفار وشق التحرز منه فإننا نقول: إن ذلك يعفى عنه، والله أعلم.
وعليه فلو قالت امرأة: أنا أحياناً أذهب إلى الأعراس، وليس عندي مزيل لهذه الصبغ، فهل يصح وضوئي؟ نقول: حكيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن عجزت حينئذ مع عدم القدرة فصار حكمه حكم الجبيرة، وأما مع القدرة فلا بد فيه من الإزالة، ولا ينبغي التهاون في مثل هذا، فإن بعض الناس يتهاون تهاوناً شديداً، فإنا نقول: يجب ألا تضعي هذا الأمر إلا وقد علمت أن شيئاً يزيله، وأما أن تعلمي أن شيئاً لا يزيله فإنك ربما تكونين قد قصرت في هذا الحكم، ولربما وقعت في الإثم، نسأل الله العافية والسلامة.
فلا يجوز أن يتوضأ الإنسان بماء مغصوب؛ لأن المغصوب منهي عنه؛ لأنه حق لبني آدم، وهل يرتفع حدثه؟
نقول: الراجح والله أعلم أنه يرتفع حدثه، وهذا مذهب جمهور أهل العلم خلافاً للحنابلة، فإن الحنابلة قالوا: لا يرتفع حدثه؛ لأنه نهي يقتضي الفساد، والراجح أن العبادة هنا ليست متعلقة بالماء، إنما هي متعلقة بحكم آخر، والله أعلم، ولهذا ذهب الشافعية والحنفية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد إلى أن من توضأ بماء مغصوب ارتفع حدثه، ولكنه يعد آثماً، والله أعلم.
ومن شروط الوضوء أيضاً: انقطاع ما يوجب الوضوء، فالذي يوجب الوضوء هو الحدث فلا بد أن ينقطع إلا من به حدث دائم.
فلا يسوغ لإنسان أن يتبول وهو يتوضأ؛ لأن من شروط الوضوء: انقطاع موجب للوضوء، والموجب للوضوء هو الحدث، فلا بد من انقطاعه، وعلى هذا فالذي يجلس في الكرسي ويتوضأ قبل انقطاع الحدث فإن ذلك لا يجزئ؛ لأن الحدث قائم به من حين خروجه، فلا بد من انقطاعه.
فلو أن إنساناً بال أو قضى حاجته ولم يستجمر أو يستنجي، ثم توضأ ثم استنجى، فنقول: ما دام هو في الوقت فلا بد أن يعيد الوضوء خروجاً من خلاف أهل العلم، وأما إذا صلى ونسي ثم غسل ذلك بالماء عن طريق دفاع الماء فإن ذلك يجزئه إذا تيقن أو غلب على ظنه أنه لم يخرج منه شيء من حين شروعه في الوضوء، وإن كان الأولى ألا يصنع ذلك؛ لأن مثل هذه المسائل مسائل لا ينبغي فيها الاجتهاد خاصةً أنها طهارة، فربما صلى الإنسان على غير طهارة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإننا نعلم أن جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة خلافاً لـمالك قالوا: من حدثه دائم يتوضأ لدخول وقت كل صلاة، فقال بعضهم: إنه لا بد لمن حدثه دائم أن يدخل وقت صلاة الظهر ليتوضأ، أو يدخل وقت صلاة العصر ليتوضأ، وهذا مذهب الجمهور، والراجح والله أعلم أن له أن يتوضأ لدخول الوقت، وله أن يتوضأ قبل دخول الوقت لإرادة صلاة فريضة، فلو أننا قلنا: إنه لا يصح إلا بدخول الوقت لشق ذلك على من حدثه دائم في صلاة الجمعة، فإنه أحياناً يأتي إلى الجمعة الساعة العاشرة أو التاسعة أو الثامنة، أو الحادية عشرة، فإذا قلنا: إنه يجب عليه أن يتوضأ بعد دخول وقت، وقلنا: إن الراجح هو مذهب الجمهور -خلافاً للحنابلة- أن وقت صلاة الجمعة يبدأ من بعد زوال الشمس فسوف يضطر إذا دخل الإمام أن يذهب للوضوء، ولكن الراجح أنه متى ما توضأ لإرادة صلاة الجمعة فإن ذلك يجزئ، والله أعلم.
وعلى هذا فهذا شرط عند من قال بوجوب الوضوء بعد دخول الوقت لكل صلاة، والراجح أن له أن يتوضأ لدخول الوقت لكل صلاة، وله أن يتوضأ لإرادة فعل عبادة فرضية ولو لم يدخل الوقت، كمن توضأ قبل الظهر لصلاة الظهر فإن ذلك ينفع، والله تبارك وتعالى أعلم، فهذه تسعة أشياء ذكرناها من شروط الطهارة.
الجواب: نعم، لكن لا يجوز له أن يغتسل في بركة ماء ثابت لحدث أكبر؛ لحديث: ( لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري )، فلا ينبغي للإنسان أن يفعل، بل يكره، لكن الراجح أنه يرتفع حدثه، خلافاً للرواية الأخرى عند الحنابلة.
أما لو دخل في البحر أو النهر فلا حرج، وإن كان عليه حدث أكبر؛ لأننا نقول: إن الراجح أن الحدث الأكبر لا يشترط فيه ترتيب؛ لما جاء في قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، والطهارة تقتضي جواز التعميم، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين : ( أن رجلاً أجنب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فأفرغه عليك )، ولم يأمره بترتيب، فدل ذلك على أن من حدثه دائم يجوز أن يفرغ الماء على سائر بدنه مع المضمضة والاستنشاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأت فمضمض )، فإذا أوجب الشارع المضمضة في الوضوء فالغسل من باب أحرى وأولى كما ذكر ذلك ابن رجب في كتابه العظيم فتح الباري، والله أعلم.
ولو أن واحدة بعد الغسل أزالت المناكير -أي: بعدما انتهت من الغسل- فما حكم غسلها؟
الجواب: سؤال جيد! أولاً: نحن ذكرنا -أيها الإخوة والأخوات- أن من أزالت الصبغ التي تكون على الأظافر، فإن بقي شيء بجانب الأظفار فإن استطاعت أن تزيله فالأولى أن تزيله، فإن بقي شيء يسير يشق التحرز عنه فإن هذا يسميه العلماء من عموم البلوى، فلا حرج في ذلك، وقد ذكرنا هذا في هذه المسألة، لكن إذا بقي شيء في الظفر فلا بد من إزالته، وعلى هذا فالباقي اليسير الذي يشق التحرز منه لا حرج فيه، فإن كان يكلف المرأة ولو أرادت إزالته بالكلية لخرج الوقت فنقول: لا حرج في ذلك إن شاء الله، هذه مسألة.
والمسألة الثانية: من عندها حدث أكبر، ثم اغتسلت، فلما اغتسلت وجدت المناكير فأزالت المناكير، فهل يلزمها أن تعيد الغسل مرة ثانية؟
الراجح والله أعلم أنه لا يلزمها ذلك، وهذا هو قول عامة أهل العلم، بل قد حكى بعضهم الإجماع على ذلك، وإن كان في نقل الإجماع نظر كما ذكر ذلك ابن رشد في بداية المجتهد؛ لأن الموالاة في غسل الجنابة لا يشترط، فالمرأة التي اغتسلت ولم يبق إلا أظافرها فإذا أزالت ما على الأظفار بعد الاغتسال فلا بأس بذلك، وقد روى ابن المنذر أن رجلاً قال لـابن عباس : (إني اغتسلت ولم أتمضمض؟ قال: تمضمض الآن)، فدل ذلك على أنه لا بأس للإنسان أن يغسل رأسه في الليل، ثم في الفجر يعمم سائر بدنه، فلا حرج إن شاء الله في ذلك، والله أعلم.
الجواب: لا، ليس بقياس، قلت: من كانت لم تجد شيئاً فإنها تحكه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فإن بقي شيء من ذلك فإنه معفو عنه، وقد يقاس على الجبيرة التي يشق التحرز منها، لكن أن يبقى دائماً لا يجوز، هذا الذي ذكرت؟
مداخلة: لكن يا شيخ يبقى السبب دائماً! وهو عدم وصول الماء، وهي ليست من مواضع الحاجة؟
الشيخ: أنت قلت: ليس بحاجة، نحن نقول: إنه يجب أن تزيله، فإن خشيت خروج الوقت، فإننا نقول لها: يجب عليك أن تحكيه، فإذا حككته ولم يبق إلا الشيء اليسير فإن هذا مما يعفى عنه إن شاء الله؛ لأنه يكون في حكم الجبيرة، وليس المقصود أنه في حكم الجبيرة على الإطلاق، وأنت تعلم أن كلام الفقهاء إذا قالوا: في حكم كذا، لا يأخذ حكمه بالكلية، فالذي يأخذ مال غيره من غير إذنه ولو كان متأولاً فهو في حكم الغصب، يقول: أنا لم أغصب مال الغير، لكن يجرى عليه أحكام الغصب وإن لم يكن غصباً من حيث الكلية، أو من حيث العموم، والله أعلم.
مداخلة: لكن الله يحسن إليك! لو علمت أنها لا تستطيع إزالته، فهل يجوز لها وضعه أم لا؟
الشيخ: أنا قلت هذا، قلت: وعلى هذا فإذا كانت ليس عندها ما يزيل ذلك فلا يجوز لها، وتعد مقصرة في هذا الأمر، وهي بتقصيرها آثمة، لكن إذا جاء وقت الصلاة فإنها تزيله، فإن لم يزل وجب عليها أن تصلي، وتبقى آثمة، وأنا ذكرت هذا في الشرح، جزاك الله خيراً.
والله أعلم، وإلى لقاء قادم بإذن الله، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلى اله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر