الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات!
السلام عليكم أيها الطلاب الذين معنا في هذا الفصل الافتراضي! كما يسميه الإخوة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة التي تسعد معكم من يوم الجمعة إلى يوم الإثنين في ليال مباركات تشرح فيها مسائل من كتب أهل العلم الذي هو أصل من أصول أهل السنة والجماعة في الفقه والعقيدة والتوحيد وآداب طالب العلم، وغير ذلك مما هو مبثوث في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
أيها الإخوة والأخوات! كنا قد شرحنا بعض الأبواب التي مرت في الطهارة، والآن نصل إلى باب الغسل من الجنابة.
والغسل من الجنابة هو من أهم مهمات الراغب لأداء العبادة؛ لأن الإنسان إذا أراد العبادة فلا بد أن يتطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وهذا يدل على أن كل مكلف ذكراً كان أو أنثى يجب أن يتفقه في أحكام موجبات الغسل وفروض الغسل، ولهذا سوف نشرح إن شاء الله في هذه الليلة المباركة -ليلة الإثنين الواحد والعشرين من شهر صفر لعام ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف- باب الغسل.
أولاً: يذكر الفقهاء رحمهم الله في هذا الباب فروض الغسل، وسنن الغسل، وموجبات الغسل، والأحكام المتعلقة بمن به حدث أكبر.
والفقهاء رحمهم الله يقولون: الغُسل بالضم، في حين أنه يجوز فيه الضم، ويجوز فيه الفتح، وإن كان الفتح أشهر عند علماء اللغة، بل بالغ بعضهم فقال: إن ضم الغين غلط، وهذا الكلام ذكره بعض علماء اللغة، وقد رد الإمام النووي على هذا القول وقال: إن الغَسل والغُسل لغتان معروفتان، وإن كان الأشهر هو الفتح، فما يقوله الفقهاء له أصل -وهو قولهم: الغسل بضم الغين-، وهذا قد قال به بعض علماء اللغة، ومن خطأ الفقهاء في ذلك فقد أخطأ.
وإذا ثبت هذا فإن الغسل من الجنابة دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم: فمن الكتاب قول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وقف على باب رجل من الأنصار، فخرج ورأسه يقطر ماءً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أعجلنا الرجل، فقال: يا رسول الله! الرجل يعجل عن امرأته ولم ينزل؟ قال: إنما الماء من الماء )، والحديث سوف نتحدث عنه إن شاء الله في مسألة: (إنما الماء من الماء)، ومعناه: أن وجوب ماء الغسل إنما هو بسبب ماء المني إذا خرج، والله أعلم.
والجنابة: هي ما يوجب الطهارة الكبرى، وسميت الجنابة جنابة لأن الإنسان يبتعد عن أداء بعض العبادات التي لا يصح فعلها إلا بطهارة، فهو يبتعد عن قراءة القرآن على الراجح؛ لأنه لا بد فيه من طهارة كبرى، ويبتعد عن الطواف؛ لأنه لا بد فيه من طهارة كبرى، فالجنابة يعني الابتعاد.
وقال بعضهم: إنما سمي الجنب جنباً؛ لأن الماء الذي في الصلب ينتقل إلى مكان خروجه، فهذا الانتقال ابتعاد له عن موضعه، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومع هذا الاشتقاق نقول: إن الجنب أصبح يعرف أنه كل من أوجب حدثاً أكبر يمنع من أداء العبادة التي أوجب الله سبحانه وتعالى فيها الغسل، والله أعلم.
إذا ثبت هذا: فإن الجنب يجوز فيه التثنية، ويجوز فيه الجمع، ويجوز فيه الإفراد، إلا أن الأفضل أن تبقيه على حاله، فهو اسم لا يتغير حال الإفراد، ولا يتغير حال الجمع، ولا يتغير حال التثنية، فتقول: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، وهذا أفصح.
ويجوز أن تقول: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنبان، وامرأتان جنبان وغير ذلك.
ولكن الأشهر هو أن يبقى (الجنب) مفرداً، والله أعلم.
وسنتكلم أولاً عن موجبات الغسل.
ونعني بموجبات الغسل: الأشياء التي توجب على المرء أن يغتسل لأجلها.
وهذه الأشياء منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وسوف نذكرها إن شاء الله، فبعض العلماء قال: إنها ستة موجبات، وبعضهم يجعلها خمساً على الخلاف في هذا الأمر، وبعضهم يجعلها سبعاً.
فبعضهم يجعلها خمساً -وهذا هو الراجح- وبعضهم يجعلها ستاً لدخول غسل الذي أسلم، وبعضهم يجعلها سبعاً؛ لأنه يرى أن انتقال المني من الصلب ولو لم يخرج نوع من الجنابة يجب فيه الغسل، وسوف نتحدث عنه إن شاء الله عند حديثنا عن الموجبات.
والمني هو ماء أبيض غليظ يخرج عند اشتداد الشهوة، وهذا في حق الذكر.
وفي حق المرأة هو ماء أصفر رقيق، ولا تكاد المرأة في الغالب أن تعرف هذا الماء، بخلاف الرجل فإنه يعرف ذلك؛ لأن خروج منيه إنما يكون بدفق، أما المرأة فربما لا ترى شيئاً، فيشكل عليها هل هذا الخارج منها مذي أم مني؛ لأن غالب ما يخرج من المرأة يكون من داخل، ولهذا تظن بعض النساء أن أول ما يخرج منها حال وجود الشهوة مني، والصحيح أن هذا ليس بمني، وإنما هو مذي، تتوضأ منه وتغسل فرجها كما ذكرنا في باب إزالة النجاسة، ولا ينبغي للمرأة أن توسوس في مثل هذا، حتى إن كثيراً من الوساوس دخلت في النساء من هذا الباب، وهذا من قلة الفقه، وعدم الخوف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن طاعة الشيطان تكون في مثل هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء )، وهذا من الاعتداء في الطهور، والله المستعان.
الشرط الأول: أن يخرج بلذة وشهوة، وعلى هذا فلو خرج مني الرجل من غير شهوة ولا لذة فلا يجب فيه الغسل؛ لأنه يكون قد خرج بغير شرطه، والشرط هو اللذة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
الشرط الثاني: أن يخرج المني بدفق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي يعلى : ( إنما الغسل لمن دفق ).
وعلى هذا فلو أن إنساناً أصيب بصلبه -وهذا يحدث أحياناً عند الذين يقع لهم حادث فتنكسر أصلابهم- فإنه يخرج منه هذا الماء على هيئة ماء الرجل، ولكنه لا يجب فيه الغسل؛ لأنه يخرج من غير شهوة، وعلى هذا فلا يجب عليه أن يغتسل، ولكن يجب عليه الوضوء؛ لأننا قلنا: إن من نواقض الوضوء الخارج من السبيلين، وقد نقلنا إجماع أهل العلم على أن الخارج من السبيلين على وجه معتاد يجب فيه الوضوء، وأما إذا كان على غير وجه معتاد فإننا ذكرنا أنه قول عامة أهل العلم خلافاً لـمالك، كما لو خرج منه شعر أو حصى.
مداخلة: لو تكرمتم، قلتم: يشترط أن يخرج المني بلذة من الرجل، فهل المرأة لا تشعر بلذة عند خروج المني؟
الشيخ: المرأة والرجل سواء، لكن نحن حينما نقول: (من الرجل) فإنما نذكر ذلك على سبيل الغالب، وإلا فالمرأة والرجل سواء، لكن المرأة لا يخرج منيها بدفق، وإلا فإن اللذة حاصلة للرجل والمرأة، وأما الدفق فإنما هو خاص بالرجل.
إذاً هذان الشرطان لوجوب الغسل من خروج المني حال اليقظة، فلو خرج من غير شهوة، أو من غير تدفق في وقت اليقظة فإننا لا نعول عليه ولا يجب فيه الغسل، وعلى هذا فلو أنه اغتسل من الجنابة، ثم بعد اغتساله أو أثناء اغتساله خرج منه ماء الرجل، فهذا الخروج لا يوجب غسلاً؛ لأمرين:
أولاً: لأن الجنابة لا توجب غسلين.
الثاني: ولأن خروجه هنا لم يكن بدفق.
وعلى هذا فلا يجب فيه الاغتسال، ولكننا نقول: يجب فيه الوضوء والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
يعني: بعض الناس ربما يحس بانتقال المني ولكنه يمسكه فلا يخرج، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أنه يجب عليه أن يغتسل، قالوا: لأن الجنابة اسم لما يبتعد فيه الماء من صلبه إلى خارج الصلب، قالوا: وقد حصل انتقال، وانتقاله أشبه الخروج، وما قارب الشيء يأخذ حكمه، فهو قارب خروجه فأخذ حكمه، وهذا مذهب الحنابلة.
القول الثاني: ذهب جماهير أهل العلم إلى أن العبرة إنما هو بالخروج الظاهر، ولا عبرة بالانتقال، وتسمية اللغة العربية شيء، وتسمية الحقيقة اللغوية الشرعية شيء آخر، فإذا وافقت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية أخذنا بها، وأما إذا خالفت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية فالمعول على الحقيقة الشرعية، قالوا: والحقيقة الشرعية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم في صحيحه بلفظ-: ( إنما الماء من الماء )، وفي الصحيحين: ( إذا قحطت أو أعجلت فعليك الوضوء )، ورواية: (إنما الماء من الماء) تفرد بها مسلم في صحيحه.
وعلى هذا فنقول: إن من أحس بانتقال المني في صلبه دون خروج فإنه لا يجب عليه الغسل؛ لأن العبرة بخروج المني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) يعني: إنما ماء الغسل من ماء الجنابة، وهو مني الرجل، والله تبارك وتعالى أعلم.
لكن ومع ترجيحنا أن من أحس بانتقاله لا يجب عليه الغسل، لكنه لو خرج بعد ذلك ولو لم يكن بدفق، فإنه يجب عليه أن يغتسل؛ لأنه قد خرج ولكنه حبسه فصار باقياً في الذكر، ولهذا قال العلماء: فإن خرج بعد أن أحس بانتقاله مع وجود هذه اللذة فالغالب وجود الدفق لكنه حبسه، وهذا أظهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذا القسم الأول: خروج المني حال اليقظة.
فلو خرج ماء الرجل أو ماء المرأة حال النوم فإنه يجب فيه الاغتسال، وهذا أمر مجمع عليه عند أهل العلم، واستدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( إنما الماء من الماء )، فهو عام سواء حال اليقظة: أو حال النوم.
وقد ذهب ابن عباس إلى أن حديث: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، والصحيح أن الحديث يتكلم عن حال اليقظة من غير إتيان الرجل أهله، وعن حال النوم، وأما إذا أتى الرجل أهله ولم ينزل فإنه يجب عليه الاغتسال لحديث آخر.
وعلى هذا فإذا استيقظ الرجل من النوم فوجد بللاً يعرف أنه ماؤه، أو تعرف المرأة أن هذا هو ماؤها الذي يأتيها وقت اشتداد الشهوة فإننا نقول: يجب الغسل في هذه الحال، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( جاءت
الجواب: لا يجب عليه اغتسال قولاً واحداً، بل حكى بعضهم الإجماع، وإن كان في المسألة خلاف، كما هو قول لبعض فقهاء الشافعية والحنابلة، والصحيح أنه إذا رأى في المنام أنه يأتي أهله، ثم استيقظ فلم يجد بللاً فلا يجب عليه الغسل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( نعم، إذا هي رأت الماء )، ومفهومه: أنها إذا لم تر الماء فلا يجب عليها الغسل.
وفي الحديث أن عائشة قالت: ( فضحت النساء يا
وعلى هذا يجب أن تعلم النساء أن هذا أمر مختلف بحال النساء، ولهذا ( قالت
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إننا أجمعنا على أن الإنسان إذا استيقظ من النوم فوجد بللاً، وعرف أنه مني فيجب عليه أن يغتسل، سواء رأى في النوم أنه يأتي أهله أو لم ير، فهذه الحال الأولى.
الحال الثانية: إذا رأى أنه أتى أهله ثم استيقظ من النوم ولم يجد شيئاً، فالراجح وهو قول عامة أهل العلم، وقد حكي إجماعاً على أنه لا يجب عليه أن يغتسل.
الحال الثالثة: إذا قام من النوم فوجد بللاً ولا يعرف حاله، أي: لا يدري هل هو مذي أو هو مني، فنقول والله أعلم: إن كان قد تذكر في المنام أنه أتى أهله فالغالب أنه مني، وإن لم يتذكر شيئاً فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب عليه أن يغتسل إذا لم يتيقن أنه مني؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، قالوا: فلا يجب عليه الغسل؛ لأن الغسل لا يثبت إلا بيقين، ولا يقين هنا.
والقول الثاني في المسألة: مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عند الإمام أحمد قالوا: يجب عليه أن يغتسل؛ لأن الصلاة تجب بالطهارة، والطهارة لا تثبت إلا بيقين -انظر الفقه! هؤلاء أتوا بيقين وهؤلاء أتوا بيقين- ولا يقين هنا، فنبقى على أنه يجب عليه أن يغتسل.
ولو أردنا جمع الأقوال في هذا فنقول: إنه إذا وجد ماءً ولم يتذكر احتلاماً فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يذكر أنه قبل أن ينام كان يتفكر أنه يأتي أهله، أي: حصل منه شيء من رغبة في الجماع، فحينئذ نقول: إن هذا يعد مذياً، فيغسل ما أصاب الثوب ويتوضأ ولا يجب أن يغتسل.
الحال الثانية: إذا لم يتذكر أنه كان يتفكر قبل أن ينام ثم وجد بللاً فالأحوط والله أعلم أن يغتسل كما هو مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عن الإمام أحمد ، فإن لم يغتسل فالأصل أنه لا يجب عليه؛ لأن الإنسان لا يلزمه إلا ما أوجب الشارع عليه، وهذا لا يعرف ما هو، فالأصل أن ما خرج منه ليس بمني؛ لأن المني خروج عن الأصل، والأصل هو الطهارة، هذه هي القاعدة في هذا، ولكن الأحوط وهو قول ابن المنذر: أنه يغتسل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وتغييب الحشفة هو أنه إذا أتى الرجل أهله فإنه يغيب حشفة الذكر، فإذا غابت فإنه يجب عليه أن يغتسل.
ومما يدل على أن العبرة بتغييب الحشفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وفي سنده بعض الكلام، لكنه جاء على سبيل التفسير، والله أعلم.
وعلى هذا فالعبرة بتغييب الحشفة، والحشفة هي رأس ذكر الإنسان، أو قدرها لمن كان قد جب ذكره، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فلو أن ذكره مس قبل المرأة من غير إيلاج فإنه لا يجب عليه الغسل، وهذا -كما قلت- هو قول عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك، ويستدل العلماء على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل )، وهذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة، واللفظ لفظ مسلم، فزيادة (وإن لم ينزل)، رواها مسلم .
وحديث عائشة في الصحيحين: ( إذا التقى الختانان، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل )، وهذا معناه ليس على ظاهره، ولكن المقصود به أن يغيب الحشفة في قبل المرأة، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقولنا: (تغييب الحشفة) يعني: وإن لم ينزل، وأنا أقول هذا الكلام أيها الإخوة! كما قالت أم سليم : ( إن الله لا يستحيي من الحق )، فكثير من الإخوة والأخوات في رمضان يأتوني ويسألون -وقد يكون بعضهم قد تخرج من قسم الدراسات الإسلامية- يقول: ما كنت أظن أن الإنسان وقت رمضان إذا أتى أهله إذا لم ينزل أن عليه كفارة؟! فلابد من تبيين هذا الأمر.
فتغييب الحشفة يوجب الغسل، ويوجب الفطر لمن كان في نهار رمضان، وعلى هذا فيجب على الإخوة والأخوات أن يتفقهوا في دينهم، وألا يأخذهم الخجل لا أقول: الحياء، بل الخجل؛ لأن الحياء تغير وانكسار يعتري المسلم يحمله على ترك فعل القبيح، وأما بأن يترك المشروع فهذا يسمى خجلاً ولا يسمى حياءً، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إنه كان في أول الإسلام إذا غيب الإنسان الحشفة في قبل امرأته فإنه لا يجب عليه الغسل حتى ينزل، ولكن هذا نسخ، وبقي حديث: ( إنما الماء من الماء ) ومما يدل على ذلك هو ما جاء عند الإمام أحمد و أبي داود من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: ( إن الفتيا الذين كانوا يفتون بأن الماء من الماء فهي رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد ).
فهذا القول هو قول عامة أهل العلم، وقد وجد خلاف عند الصحابة، ولكن استقر الأمر بعد ذلك على أن الإنسان إذا أتى أهله فإنه يجب عليه أن يغتسل وإن لم ينزل، فإذا قرأ الإخوة والأخوات بعض الأحاديث التي تخالف هذا فليعلموا أنها في أول الإسلام، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على باب
وكذلك في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك أن تغسل ما أصابك من أذى وتتوضأ )، وهذا في أول الإسلام.
ومما يدل على هذا أنه قد جاء في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: ( اختلف في ذلك المهاجرون والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل ).
انظر الأدب! هؤلاء يتحدثون عن مسائل فيكنون، ونحن حينما نصرح ببعض هذا فإنما ذلك لأجل التعليم، لكن إذا كان أحدكم يعلم فإن الإنسان يكني، وهذا من الأدب النبوي، أما مع أهله فهذا شأن آخر، لكن مع الآخرين ينبغي أن يكني، ولهذا جاء أن (الله سبحانه وتعالى حيي كريم)، فإذا أراد أن يذكر إتيان المرأة قال: (أو لمستم النساء)، وفي قراءة: أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ [النساء:43]، وهذا كله من باب الأدب.
وانظر إلى الصحابة حينما قال المهاجرون: ( بل إذا خالط فقد وجب الغسل )، إنما هو من باب الأدب منهم رضي الله عنهم أجمعين.
ففي الحديث: ( فقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، فقال
فهذه إجابة من عائشة رضي الله عنها بدليل من نبينا صلى الله عليه وسلم، فشفاهم أبو موسى حينما ذهب، وعلم المهاجرون والأنصار أنه يجب الغسل من مخالطة الرجل أهله، يعني: بإتيان الرجل أهله، ولكن إذا لم يخالط فلا يجب إلا حال الإنزال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وقد أجمع أهل العلم على أن خروج الحيض وخروج النفاس موجب من موجبات الغسل، وذلك بعد انقطاعه، وقد قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، ومعنى (يطهرن) يعني: ينقطع منهن الدم، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] يعني: اغتسلن، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ [البقرة:222]. فدل ذلك على وجوب الاغتسال من الحيض.
ومما يدل على ذلك أنه جاء في الصحيحين من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض في وقت الحج: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وهذا الحديث متفق عليه، وفي رواية لـمسلم : ( حتى تغتسلي ).
وفي الصحيحين من حديث عائشة : ( أن
وهذا أمر من موجبات الغسل ولكن ليس في حق الميت، بل في حق الأحياء، فالموت موجب من موجبات الغسل، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته ناقته: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا وجهه؛ فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ).
فقوله: (اغسلوه بماء وسدر) يفيد أن هذا واجب.
ومما يدل على ذلك ما جاء أيضاً في الصحيحين من حديث أم عطية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما أراد أن تغسل بنته أم كلثوم : ( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك بماء وسدر )، وهذا يدل على وجوب غسل الميت، وهذا الميت سواء كان صغيراً أم كبيراً.
القسم الأول: إن كان قد تم له أربعة أشهر فإنه يكون إنساناً، وقد نفخ فيه الروح، والصلاة والغسل تجبان فيمن نفخ فيه الروح ثم نزع، وعلى هذا فإذا كان له أربعة أشهر فإنه يجب أن يغسل وأن يصلى عليه، وقد ذكر النووي إجماع أهل العلم على أن من كان له مائة وعشرون يوماً فقد نفخ فيه الروح؛ لحديث ابن مسعود كما في الصحيحين أنه قال: حدثنا الصادق المصدوق: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ثم يأمر الملك بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد.. ) الحديث، فهذا يدل على أنه ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً، وهي أربعة أشهر.
القسم الثاني: إذا كان عمر السقط أقل من ذلك فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل؛ لأنه لم ينفخ فيه الروح.
وعلى هذا فتشرع تسمية من تم له أربعة أشهر والعقيقة عنه، وأن يغسل، وأن يقبر في مقابر المسلمين، ويصلى عليه إذا كان له أربعة أشهر، وأما قبل ذلك فإنه لا يسمى، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولكنه يدفن في صحراء أو في مكان خال، هذا من حيث الأحكام الظاهرة علينا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا استهل المولود صارخاً ورث ) كما جاء ذلك عند الترمذي وإن كان بعضهم يضعفه، ولكن إجماع أهل العلم عليه.
وأما مسألة الإجهاض فهذه مسألة أخرى، لا علاقة لها ببحثنا؛ لأنه لا يجوز إسقاط الجنين من بطن أمه، ولو لم ينفخ فيه الروح، سواء كان عمره أربعين يوماً أو أكثر من ذلك، هذا هو مذهب جمهور أهل العلم خلافاً للحنابلة والحنفية الذين قالوا: إذا كان في الأربعين فلا بأس، والصحيح حرمة ذلك.
وقد صدر قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بحرمة الإجهاض ولو كان له أسبوع، إلا إذا كان في ذلك ضرر على المرأة، فإذا قدر الأطباء أن هذا الحمل يضر بالمرأة فحينئذ لا بأس؛ لأنه لا يجوز الإجهاض إلا لمصلحة شرعية، فإذا قدر الأطباء هذه المصلحة الشرعية فلا حرج إن شاء الله، وأما إذا كان بسبب أنها تقول: إني لا أستطيع أن أربي الأولاد وغير ذلك، فالأصل أنه لا يجوز، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: دليلهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصدر هذه الأحكام في حق الإنسان، والإنسان هو الذي مات ونفخ فيه الروح. وأما قبل نفخ الروح فيه فلا يسمى إنساناً، لكن يسمى حملاً، فيجب على المرأة إذا تبين فيه خلق إنسان أن تعتبر الدم الخارج بعده دم نفاس، لكن كونه إنساناً تترتب عليه أحكام فلا، أي: فلا يترتب عليه الأحكام من حيث أحكام الظاهر علينا، أما من حيث قتله بالإجهاض فإنه لا فرق بين أن يكون نفخ فيه الروح أو لم ينفخ.
فالسبب هو أن الصلاة إنما شرعت في حق الميت، والميت لا يكون إلا فيمن نفخ فيه الروح ثم زال، وأما قبل نفخ الروح فلا يسمى ميتاً؛ لأن أصله ميت ولم ينفخ فيه الروح بعد، وهذا معروف عند أهل العلم، والله أعلم.
والمسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الحنابلة والمالكية إلى أنه يجب على الإنسان أن يغتسل إذا دخل في الإسلام، واستدلوا بما جاء في حديث خليفة بن حصين ، عن جده قيس بن عاصم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل حينما أسلم )، وهذا الحديث يرويه الثلاثة: أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، وكذلك يرويه الإمام أحمد ، وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، وصححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، إلا أن الذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث كما يقول أبو حاتم: أصله خليفة بن حصين عن جده قيس بن عاصم ، وجاء في طريق آخر: عن خليفة بن حصين ، عن أبيه، عن جده، فيكون موصولاً، ولكن أبا حاتم -وهو من هو في علمه بالرجال- يقول: رواية أبيه خطأ، ولو صح فإن أباه مجهول، فعلى هذا فالذي يظهر لي والله أعلم أن الحديث إما أن يكون منقطعاً بين خليفة بن حصين وجده، وإما أن يكون فيه ضعف، وهو أن والد خليفة حديثه ضعيف؛ لأنه مجهول، ولهذا فالذي يظهر لي -والله أعلم- أن الحديث فيه ضعف.
وجاء في حديث آخر رواه عبد الرزاق : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
القول الثاني: مذهب أبي حنيفة و الشافعي ، واختيار بعض أهل العلم يقولون: إن كان قد أجنب حال الكفر فإنه إذا أسلم يجب عليه أن يغتسل، وإن لم يجنب حتى أسلم فلا يجب عليه الاغتسال، فجعلوا موجب الاغتسال هو الجنابة، وليس هو الكفر، وهذا القول قوي، وهو أقوى من القول الأول.
القول الثالث: قالوا: إنه لا يجب الغسل أصلاً لأجل الإسلام؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم في فتح مكة، ولم يأمر أصحابه حينما يذهبون إلى بلاد الشرق والغرب ليفتحوا الأمصار أن يأمروا من أسلم بالاغتسال، قالوا: ومثل هذا مما تتوفر الدواعي على نقله لو كان، فلما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، مع توفر الدواعي إلى نقله، ومع وجود موجبه، دل ذلك على أنه ليس بواجب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون مستحباً.
ولهذا فإني أقول: إن القول الثالث قوي، ولكن إذا كان قد وجد منه جنابة قبل فالأحوط أن يغتسل، علماً أن الأحوط شيء والوجوب شيء آخر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حينما أسلم والده عمرو بن العاص : ( أوما علمت يا
الجواب: هذه مسألة سوف نشرحها إن شاء الله في باب الحيض، ولكن مع ذلك نقول:
إذا انقطع الحيض، بحيث لو مسحت وجدت شيئاً من النجاسة، فإن الحيض لم ينقطع؛ لأنه كما يقول ابن قدامة: إن الحيض مرةً يسيل، ومرةً يقف، ولهذا نقول: إذا انقطع انقطاعاً تاماً ثم جاء فإنها تعتبره حيضاً، وهذا يسمى عند أهل العلم بالملفقة أي: إذا لم تنته مدة حيضها؛ بأن جاءها الحيض يوماً، والطهر يوماً، فتعتبر هذا كله حيضاً إلى خمسة عشر يوماً، والله أعلم.
الجواب: هذا يمكن أن يعرف، بعض الناس يميز بين المذي وبين المني، فالمذي سائل لزج، وأما المني فهو ماء غليظ أبيض، لكن أحياناً وقت الاحتلام لا يكون الخروج إلا يسيراً، كقطرة أو قطرتين، وهذا لا يكون إلا في وقت الاحتلام، فلأجل هذا يقع إشكال.
الجواب: هم يقولون: لو أنه أتى أهله حال الكفر ثم أسلم فإنه يجب عليه أن يغتسل، قالوا: وأما غسله في وقت الجنابة فلا ينفع؛ لأنه لم يكن منه نية شرعية، ومن فروض الغسل هو النية، ولا نية مع كفر، و ابن تيمية له رواية في اختياراته يقول: إن كان قد اغتسل حال كفره فإنه ينفعه، وإن لم يكن قد اغتسل -يعني: مثل من أجنب ثم جاء فأسلم- نقول: اغتسل، وهذا القول وإن كان قريباً، لكن الذي يظهر لي -والله أعلم- أن اغتساله حال الكفر ينفعه؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، والله أعلم.
الجواب: هذا السؤال جيد، ونستطيع أن نستدل لهم به نقول: إنهم يقولون: لو لم يأتنا من ثمامة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره فإن الظاهر من ثمامة أنه ما اغتسل إلا لعلمه بأنه من موجبات الغسل الإسلام، وما خرج إلا لأنه قد أخبره الصحابة وإن لم يخبره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا كان معروفاً مشتهراً، ولكن الذي يظهر لي والله أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً إلى اليمن قال: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وإن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات )، ولم يخبره صلى الله عليه وسلم بذلك.
الجواب: إما أن يكون بسبب أنه كان محبوساً ثلاثة أيام، وقد جيء به بعد المعركة، فاحتاج إلى أن يغتسل؛ لأنه يرى أن هيئته للخروج إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك غير لائقة، فالإنسان يحب النظافة بطبيعته فالكفار يغتسلون، وإن كان اغتسالهم ليس مثل اغتسال أهل الإسلام، فإن المسلم يغسل وجهه خمس مرات على أقل تقدير في اليوم الواحد، أما الكفار ربما يقل، وربما يزيد.
وقد جعل الشرع أجراً على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر