الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا اللقاء وهذا المجلس مجلس خير وبركة، تحفنا فيه الملائكة، وتغشانا فيه الرحمة، ويذكرنا ربنا فيمن ذكره في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة والأخوات! كنا وما زلنا في صدد شرح مسائل كتاب الحيض، وكنا قد ابتدأنا في الأسبوع الماضي في أول مسائله، ولا شك أن صعوبة باب الحيض -كما قلنا- ليست في معرفة الحكم الشرعي أو معرفة الدليل، ولكن صعوبته في تطبيقه، لأن الدماء في الفقه والواقع أربعة:
الأول: الدم الأسود.
والثاني: الدم الأحمر.
والثالث: الصفرة.
والرابع: الكدرة.
وقد قلنا أيضاً: إنه ليس ثمة دليل مرفوع ولا موقوف في أقل الحيض ولا في أكثره، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، وكل إمام يلتمس ما كان من عادة النساء، فإن وجد بعد الاستقراء أن المرأة تحيض أقل من ذلك أو تحيض أكثر من ذلك علق به حكماً، فإذا لم يعلم بنى الأمر على عادة النساء.
وقد قلنا: إن باب الحيض يحتاج إلى تأمل؛ وذلك لأن باب الحيض إنما علقت أحكامه على عادة النساء، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
إذاً: الراجح أن أقل الحيض يوم وليلة ما لم يأتها أقل من ذلك ويتكرر، فإن جاء أقل من ذلك وعاود هذا الأمر في أشهر أخرى فإنها تكون عادتها، وعلى هذا فقس، ولهذا قال الإمام الأوزاعي : كانت امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية، وكانوا يرون أن ذلك حيض، وهذا يدل على أن الأوزاعي رأى وأدرك امرأةً تحيض في كل شهر نصف يوم، أو يوماً دون ليلته، ليس أربعاً وعشرين ساعة، بل اثنتي عشرة ساعة تقريباً، وكل شهر على هذا المنوال، فهذه المرأة علق الشارع حكمها على عادتها، فنقول: إن عادتها أولى من عادة قريباتها، وأولى من عادة النساء؛ لأن الأصل والمعول على ما هو عادتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( تحيضي في علم الله ستاً ).
إذاً: الراجح هو أن أقل الحيض الأصل فيه يوم وليلة، فإن رأت المرأة الدم على الطريقة المعتادة أقل من ذلك، واستمر كذلك كل شهر علمنا أن عادتها أقل من يوم وليلة.
وعلى هذا فنقول في أكثر مدة الحيض: الأصل هو مذهب الشافعية والحنابلة، وهو أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، فإن زاد على ذلك وتكرر كل شهر علمنا أن حيضها يزيد عن خمسة عشر يوماً إلى سبعة عشر يوماً أو ستة عشر يوماً، وعلى هذا فقس.
اختلف العلماء في ذلك:
فذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة إلى أن أقل الحيض يوم وليلة، وعلى هذا فلو وجد امرأة تحيض اثنتي عشرة ساعة فإنه لا يعد حيضاً، بل يكون دم فساد، فتتوضأ إذا جاءها ذلك الدم؛ لأنه في حكم الحدث.
دليلهم في هذا أنهم قالوا: إننا لم نجد امرأة تحيض أقل من ذلك، والمرجع في باب الحيض إلى عادة النساء، كما جاء في حديث حمنة بنت جحش : ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً ).
واستدلوا على ذلك بما رواه الدارمي من حديث عامر الشعبي ، عن علي بن أبي طالب : أن امرأةً جاءت علي بن أبي طالب رضي الله عنه تخاصم زوجها وقد طلقها، فادعت أنها انتهت من عدتها في شهر، ومعلوم أن العدة ثلاثة قروء، فقال علي لـشريح: ما تقضي فيها؟ فقال: إن جاءت بامرأة من بطانة أهلها يرضى دينها وأمانتها تشهد أنها تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر وتغتسل وتصلي وإلا فلا، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قالون) أي: جيد!!
وجه الدلالة؛ قالوا: إنها ادعت أنها تطهر في يوم وليلة؛ لأن أقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يوماً، وهذا مذهب الحنابلة، فهي تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، فهذه ثمان وعشرون، ثم تحيض يوماً وليلة، فصارت تسعاً وعشرين، ثم بعد حيضها الثالث تطهر، فتكون قد انتهت من عدتها في شهر، هذا دليل من قال: إن أقل الحيض يوم وليلة.
ولا شك أن هذا الدليل وهذا الاستدلال محل نظر من وجهين:
أولاً: من حيث إسناده؛ وذلك أن الحديث ضعيف؛ لأن عامراً الشعبي رواه عن علي بن أبي طالب ، ولم يصح سماع الشعبي من علي ، فدل ذلك على أن الحديث منقطع، والله أعلم.
الثاني: أن تأويل الحديث على أن حيضها كان يوماً وليلة محل نظر، فعلى مذهب الحنفية يقولون: إن أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام، وأقل الحيض ثلاثة أيام، فقالوا: إنها تحيض ثلاثة أيام، ثم تطهر عشرة أيام، فهذه ثلاثة عشر، ثم تحيض ثلاثة أيام، ثم تطهر عشرة، فصار الجميع ستاً وعشرين، ثم تحيض ثلاثة أيام فهذه تسع وعشرون، ثم تطهر بعد ذلك فيكون حيضها وعدتها ثلاثة قروء في شهر، فليس فيه دلالة على أن أقل الحيض يوم وليلة، فجائز أن يكون ثلاثة أيام؛ ولهذا ذهب الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام، فإن جاء الدم يوماً وليلة أو يومين فإنها لا تعتد به على مذهب الحنفية.
وقد روي عن الأوزاعي أنه قال: كانت امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية، فهذا يدل على أن أقل الحيض يمكن أن يكون أقل من يوم وليلة، وهذا القول هو مذهب مالك، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله في الجملة، من حيث إنه لا حد لأقله، ونحن نقول: إن الأقرب أن أقل الحيض يوم وليلة؛ لأن هذا هو غالب عادة النساء، فإن جاء المرأة أقل من ذلك واستمر، كأن يأتيها اثنتي عشرة ساعة تقريباً ثم ينقطع، فإننا نقول: إن استمر كل شهر على هذا فإنها تعتبره حيضاً، وأما إن كان أقل الحيض في العادة يأتيها يوماً وليلة أو ثلاثة أيام، وفجأةً جاءها أقل من يوم، مثل بعض النساء، تطهر، وتأتيها القصة البيضاء، ثم بعد طهرها وقد اغتسلت تذهب إلى دورة المياه فتمسح فتجد خيوطاً حمراء، فتقول: هذا ليس بحيض، لأن الحيض لا يكون بهذه الطريقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تحيضي في علم الله كما تحيض النساء )، والنساء إنما حيضهن على الوجه المعتاد، وهو أن يكون ثجاً، ثم بعد ذلك يتراخى، بحيث لو مسحت وجدت دماً، ولكن متى ما حصل الجفاف ونزلت القصة البيضاء بعدها فهذا هو الطهر الذي لا طهر بعده.
أما هذه الخيوط، أو نزل الدم ثجة، ثم بعد ساعة ارتفع فهذا لا تعتبره حيضاً؛ لأن الأصل أن عادتها ستة أيام، أو خمسة أيام، أو أربعة أيام، فلا تعول عليه؛ لأن هذا إنما ينزل بسبب نفسيتها، أو بسبب جهدها وجهد بدنها، وعلى هذا فإننا لا نعول على المرأة التي لها عادة: خمسة أيام، أو ثمانية أيام، فإن طهرت بعد ذلك، ثم مسحت فوجدت خيوطاً حمراء، فإننا لا نعول عليها، بل نقول: هذا دم فساد، والله أعلم، وعلى هذا فقس.
وهنا نقول: كل ما يأتي في الشرع يتطلب التحديد فلا يخرج عن ثلاثة أشياء:
الأول: ما جاء تحديده في الشرع، وذلك مثل أنصبة الزكاة، ومقدار نصاب المواريث، وعدد الركعات في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر والجمعة والاستسقاء، فهذا تحديده لم يجعل للبشر، إنما هو للشارع، فيجب المصير إليه.
الثاني: ما لم يأت تحديده بالشرع، وإنما جاء تحديده في اللغة، فيجب المصير إلى اللغة، مثل تحديد الشهر، فالشهر تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً، والأسبوع سبعة أيام، واليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، فهذا تحديده في اللغة.
القسم الثالث: ما لم يأت تحديده في الشرع ولا في اللغة، فالمعول على العادة والعرف، والمصير إليهما، وهذا مثل القبض، ومثل الحرز، فكل من سرق مالاً من حرز فإنه يجب أن تقطع يده، وتحديد الحرز إنما مصيره إلى العرف، ولهذا قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد
أي: فإنك تحيله إلى العرف، وهذا مثل له بعض أهل العلم بالسفر،كما ذكر ذلك ابن تيمية ، ونحن نقول: مثل الحيض والنفاس، فإن أكثر مسائل الحيض مردها إلى عرف النساء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: لم يصح عن الأئمة في هذا الباب -يعني تحديد أقل الحيض، وأكثر الحيض- حديث مرفوع ولا موقوف، وإنما المرجع إلى العادة.
وقد ذكر ذلك أيضاً أبو العباس بن تيمية رحمه الله، فالقاعدة إذاً أنه كل ما لم يرد تحديده في الشرع ولا في اللغة فإن المصير فيه إلى عرف الناس، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أقل الطهر بين حيضتين المقصود به أن المرأة إذا جاءها الحيض في عادتها ثم طهرت، فأقل الطهر حتى يأتي الحيض الآخر كم مدته؟ بحيث لو جاءها الدم بعد الطهر بأسبوع فهل تعول على هذا وتعتبره دم حيض أم لا؟
مثاله: لو أن امرأةً عادتها ثمانية أيام، فجاءها الحيض ثمانية أيام، ثم طهرت أسبوعاً، ثم جاءها دم آخر، فهل تعول على هذا الدم أو لا تعول عليه؟
فإن قلنا: لا تعول عليه؛ فلأن أقل الطهر هو خمسة عشر يوماً، أو ثلاثة عشر يوماً، على الخلاف.
وإن قلنا: تعول عليه، فإنها تعتبره حيضاً، هذه المسألة.
إذاً أقل الطهر بين الحيضتين اختلف العلماء فيه:
فذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والشافعية والمالكية ورواية عند الإمام أحمد إلى أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً؛ قالوا: لأن أكثر الحيض هو خمسة عشر يوماً، فيكون أكثر الطهر بين الحيضتين هو خمسة عشر يوماً، والله أعلم.
وذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى أن أقل الحيض ثلاثة عشر يوماً استدلالاً بقصة علي التي مضت، وفيها: إن جاءت ببطانة من أهلها لها أمانة وعدل، تشهد أنها تحيض يوماً وليلة ثم تطهر ثم تحيض ... ، فهذا دليل على أن أقل الطهر ثلاثة عشر، بحيث إنها تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر، فتكون قد انتهت من عدتها، ولكننا نقول: إن هذا الحديث ضعيف، والله أعلم.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أنه لا أقل لمدة الحيض.
والذي يظهر والله أعلم أنه لا بد من تحديد أقل الحيض؛ لأنه لا يمكن ضبطه بذلك، وأما أن نقول: هو حيض ما لم تعبر أكثره، فكيف تعبر أكثره وهي لا تعرف؟ فإذا علقنا على عادتها فإنها تقول: أنا لا أدري ما عادتي! فلا بد أن نحدد ذلك بمدة، ولا يسع الناس إلا هذا، ولهذا قال الحنفية: لا بد أن يضبط وإلا وقع الناس في حرج وتكليف بما لا يستطيعونه، فلا بد من تحديد!
فالذي يظهر لي والله أعلم أن أقل الطهر هو إما ثلاثة عشر يوماً لأنه أقل ما وجد، وإن كان الغالب هو خمسة عشر يوماً، وعلى هذا فإنه لا يعول على ثلاثة عشر يوماً إلا إذا تكرر منها كل شهر، والله أعلم.
وعلى هذا فإذا كانت عادة المرأة ثمانية أيام، ثم اغتسلت، وبعد أسبوع أو أسبوع ونصف جاءها دم، وهذا يحصل دائماً في وقت الحج أو العمرة؛ حيث تطهر المرأة من عادتها، وليس عندها إشكال، لكن بسبب اضطراب نفسيتها ربما ينزل بعض الدم، فهذا الدم الذي بعد الطهر لا تعول المرأة عليه؛ لأن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، فإذا كان الطهر ثلاثة عشر يوماً ثم جاء دم فإنها تعتبره حيضاً، وإن كان أقل من ذلك فلا تعتبره شيئاً، وهذه هي القاعدة، إلا إذا كان لها تمييز أو عادة، مثل ما إذا جاءها الدم على ما هو معتاد: دم أسود، ثخين، له رائحة كريهة، فإنها تعتبره حيضاً، أما إذا كانت لا تعرفه، وترى دماً في القطنة أو في القطعة التي تضعها في مكان الدم فإننا لا نعول عليه، فإذا ضبطت المرأة هذه المسألة فإنها بإذن الله لا يقع عندها إشكال.
أعيد فأقول: إن الدم الذي يأتي بعد الطهر، فإن كان الدم جاء بعد الطهر في أقل من ثلاثة عشر يوماً فإنها لا تعتبره حيضاً ما لم يكن هذا الدم فيه أوجاع الحيض، وهو دم أسود ثخين وله رائحة، أو كان ذلك هو عادتها.
مثالها: امرأة لها عادة ثمانية أيام، أو سبعة أيام، لكن هذه المرة جاءها الدم يوماً وليلة، أو يومين، ثم جاءها طهر يومين أو يوماً وليلة، ثم جاءها حيض يومين أو يوماً وليلة، ثم جاءها طهر يومين أو يوماً وليلة، وعلى هذا استمر بها الدم، فما حكم ذلك؟
قد سبق أن قلنا: أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
نقول: هذه امرأة خرجت عن عادتها؛ لأن الأصل أن عادتها ثمانية أيام أو سبعة أيام ثم تطهر؛ لكن هذه نقصت عن عادتها، فجاءها الدم على غير المعتاد، فجاءها يوماً وليلة، والأصل أن عادتها سبعة أيام أو ثمانية، أو جاءها يومين والأصل أن عادتها سبعة، ثم جاءها يومين دم، ثم طهرت يوماً أو يومين، ثم بعد ذلك جاءها حيض يومين، ثم بعد ذلك جاءها الطهر يومين أو يوماً وليلة.
فهذه المسألة تسمى بالملفقة، ولأهل العلم كلام طويل فيها، فللحنفية قول، وللمالكية قول، وللشافعية قولان، وللحنابلة قولان، والراجح والله تبارك وتعالى أعلم، وهو ظاهر اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله على اختلاف في التفصيل: أن ما رأته من الدم فإنه يعد حيضاً، وما رأته من الطهر فإنه يكون طهراً ما لم يعبر مجموعهما أكثر الحيض، هذا هو مذهب الحنابلة، وهو قول عند المالكية في الجملة على اختلاف في المبتدئة والمعتادة.
إذاً: إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً، فنقول: ما رأته من الدم فإنه يكون حيضاً؛ لقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فعلق الحكم على وجود الأذى وهو الدم، وما رأته من الطهر فإنه يكون طهراً؛ لقول الله تعالى: قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فإذا زال الأذى فقد زال حكمه، فتعتبر الدم حيضاً والنقاء طهراً، ما لم يعبر مجموعهما أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، فإذا عبر فإنها تغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة، ويكون حكمها كحكم المستحاضة، ثم ما رأته بعد ذلك من دم فإنها لا تعتبره شيئاً؛ لأن مجموعهما صار أكثر من خمسة عشر يوماً.
وما معنى (مجموعهما)؟ الحنابلة يقولون: مجموع الدم ومجموع النقاء، فيكون على هذا خمسة عشر يوماً من مجموع الدم والنقاء.
وذهب مالك وقول عند الشافعية: أنها تلفق أيام حيضها، أي: تجمع الدم، ثم الدم، ثم الدم، حتى يكون خمسة عشر يوماً خلال الشهر، هذا قول عند المالكية في المبتدأة، وهو قول عند الشافعية، وأما الحنابلة فجعلوا المجموع للحيض والطهر، وهو قول السحب، وما هو السحب؟
قالوا: تسحب يوم النقاء ويوم الحيض جميعاً وتحسبهما، وهذا هو الأصل، ولا يسع الناس إلا هذا، والأصل أن الشريعة جاءت سمحة، ولا تعذب المرأة، فلو بقيت المرأة على هذا المنوال لتعذبت واضطربت نفسيتها، فرفع الحرج منها مطلب، خاصةً وأن هذا ليس هو الأمر المعتاد في حق النساء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فعلى هذا إذا قلنا: أقل الحيض يوم وليلة فإنما هو فيمن لها عادة معتادة، وأما هذه فهي حالة عرضت لها فخرجت عن عادتها.
نحن ذكرنا أقل الطهر بين الحيضتين، فقلنا: أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً؛ لأن هذا أقل ما وجد، ولا يمكن أن يكون أقل من ذلك؛ لأنه لو قيل بأقل من ذلك لصار أكثر الشهر حيض، وهذا لا يكون، فنقول إذاً: أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً.
إذا ثبت ذلك فما أكثر مدة الطهر؟
اتفق الفقهاء على أنه لا حد لأكثر الطهر، أي: يمكن أن تطهر المرأة سنتين أو ثلاث سنين ولا يأتيها الدم، خاصةً فيمن تعاني من مرض الغدد، حيث يرتفع عنها الحيض، فلا تحيض إلا في السنة مرة أحياناً، أو مرتين ثم يرتفع.
فالبنت عندما يأتيها الدم لأول مرة في حياتها، لا يخلو مجيء هذا الدم من أحوال!
بنت عمرها إحدى عشرة سنة، أو اثنتا عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة، أو تسع سنوات، وجاءها الدم، فإن الراجح وهو مذهب جماهير أهل العلم خلافاً للحنابلة: أن الدم إذا جاء البنت ويصلح أن يكون حيضاً فإنها تعتبره حيضاً.
ومعنى يصلح أن يكون حيضاً، أي أن له صفات الحيض ووقته، بمعنى أنها حاضت في وقت يصلح أن يكون وقت حيض؛ بأن كانت بنت تسع سنين مثلاً، كما تقول عائشة: إن المرأة إذا بلغت تسعاً فهي جارية، وقد ذكرنا هذه المسألة والخلاف فيها، فقلنا: الأصل أنه لا يأتي الحيض المرأة إلا بعد تسع، فإن جاء في بلد لنساء أقل من ذلك، وكان عادة نسائها وخالاتها على هذا علق عليه الحكم، وإلا فالأصل أن الحيض لا يأتي في أقل من تسع كما ذكرنا، والله تبارك وتعالى أعلم.
فإذا كانت البنت ابنة تسع، أو عشر، أو إحدى عشرة سنة فجاءها الدم، فجماهير أهل العلم يقولون: هذا الدم الذي جاءها لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتجاوز أكثر الحيض.
والحال الثانية: ألا يتجاوز أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً.
الحال الأولى: إن لم يتجاوز أكثر الحيض، يعني جاءها عشرة أيام، أو ثلاثة أيام، أو جاءها خمسة عشر يوماً، فإنها تعتبره حيضاً؛ لأنه لم يتجاوز أكثر الحيض، هذا مذهب جمهور أهل العلم، خلافاً للحنابلة.
الشيخ: الحال الثانية: أن يتجاوز أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، فلا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن تكون قد حاضت الشهر الذي قبله ثمانية أيام أو سبعة أيام، ثم الشهر الثاني تجاوز الدم أكثر الحيض، فحينئذ نعلم أن هذا الدم الذي جاءها أكثر من عادتها يكون استحاضة، فحينئذ تغتسل في نهاية اليوم الخامس عشر وتقضي الصلاة والصوم من اليوم التاسع وما بعده إلى تمام اليوم الخامس عشر؛ لأننا علمنا أن هذه الزيادة ليست حيضاً.
الحالة الثانية: إن جاءها الدم لأول مرة فنقول: تعتبره حيضاً حتى يكون خمسة عشر يوماً، ثم بعد ذلك تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة، فإن استمر الدم في الشهر الثاني كذلك، فتعتد بحال قريباتها، والله أعلم.
فإن كانت تميز الدم فإنها تعتبر التمييز، لكن هذا لا يتأتى في الغالب في البنات الصغار، فلا تعرف التمييز، لكن إن كانت تدرك التمييز وتميز الدم فتعتبر بالتمييز، وإلا فإنها تعتد بعادة نسائها.
هذه المسائل يسمونها (الطوارئ على الحيض)، وإلا فالغالب أن البنت أول ما تحيض نعتبره حيضاً، فإذا ارتفع الحيض فإنها تغتسل وتكون طاهرة، وتصوم بعد ذلك وتصلي.
ومن المؤسف أن بعض الأمهات أو الأخوات الكبار لا يعلمن أخواتهن الصغار بحجة الخجل، ولا شك أن هذا من أحكام الدين، فلا بد أن تتعلم البنت مهما صغرت أحكام هذه المسائل، حتى تعبد ربها على يقين، وكم هي الأسئلة التي يسأل عنها المشايخ وطلبة العلم في بنت اعتمرت أو حجت مع أهلها، وحاضت فطافت واعتمرت مع أنها حائض، ولم تسأل ولم تخبر أهلها خجلاً من ذلك، فلو أن الأم أخبرت ابنتها بهدوء وطمأنينة لأفصحت البنت للأم، لكن مشكلة الأمهات أحياناً تعلم ابنتها مع نوع من التوبيخ، وهذا أمر ليس بإرادتها ولا بمقدورها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فانقضي عنك رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج ).
فيجب على أولياء أمور البنات -خاصةً الصغار- أن يعلموهن أمور دينهن، حتى تعبد ربها على يقين، والله أعلم.
ولا تقضي تلك الأيام التي حاضتها بالإجماع، وأما الصوم فإنها تقضيه أيضاً بالإجماع، كما جاء في الصحيحين من حديث معاذة العدوية أنها قالت لـعائشة : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت
فالحائض لا يجوز لها الصوم، وبعض البنات في رمضان تمسك فتتسحر مع أهلها ولا تأكل شيئاً وتقول: أنا صائمة، فأقول: لا ينبغي ولا يسوغ أن تصومي؛ لأن هذا مخالف للشرع، ولو كنت بعد ذلك سوف تقضين هذا اليوم؛ لأن المشروع في حقك هو الأكل، فاشربي ماءً، أو كلي شيئاً من المأكولات ولو قل، ولو كنت لا تشتهين ذلك؛ حتى تبيني أحكام الشرع، وتعبدي ربك على بصيرة.
ذهب بعض عباد البصرة كعاداتهم واجتهاداتهم إلى أن المرأة الحائض إذا جاء وقت الصلاة فإنها تلبس لباس مصلاها، وتجلس في مصلاها تسبح وتهلل؛ لأنها تؤجر على ذلك.
والراجح أن ذلك لا يشرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحائض بذلك، ولم يكن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابيات يفعلن ذلك، وهن أطهر وأعلم وأتقى وأنقى ممن جاء بعهدهن، وكل أمر لم يفعله الصحابة، ولم يأمر به صلى الله عليه وسلم فالتعبد به بدعة، والله أعلم.
فبعض أهل العلم ذهب إلى أن المرأة الحائض تؤجر؛ لأنها في حكم المريض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ).
والصحيح أن المرأة الحائض لا تثاب على تركها الصلاة؛ لأنها غير مأمورة، كما أن الرجل لا يثاب على ترك الصلاة أوقات النهي؛ لأنه غير مأمور بذلك، وإن كانت تؤجر على تركها المحرم، مثل أن تترك بعض المحرمات مما هو معتاد على المرأة، فهي مأجورة على هذا، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
لعل في هذا كفاية، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
الجواب: سلس البول بعد تأمل وسؤال المرضى ينقسم إلى قسمين: سلس دائم، وسلس متقطع، يعني غير دائم.
فالسلس الدائم يتوضأ لكل صلاة كما هو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة.
وأما السلس المتقطع، وهو أن يأتي الرجل أو المرأة بعد قضاء البول، فنقول: إن كان يمكن أن يتوضأ قبل الوقت أو بعد الوقت بمسافة فإنه إذا قضى حاجته يتأخر ولا يتوضأ، إلا إذا خشي فوات صلاة الجماعة فإنه يتوضأ، ثم ما خرج منه بعد ذلك فلا يعول عليه، ويستمر في صلاته، فإذا جاء وقت الصلاة الثانية فإنه يتوضأ، فإن استمر وضوءه من غير حدث حتى جاءت الصلاة الأخرى فإنه لا يتوضأ؛ لأنه لم يخرج منه شيء.
وعلى هذا فنقول للسائل: هذا سلس متقطع، فإن كان بعض الناس يأتيه التقطع فإن نزل فإنك مأمور أن تتوضأ، فلا تصلي صلاة الفجر بصلاة التهجد لأنك قد أحدثت، والله أعلم.
الجواب: إذا تبلل الخفان وقد لبسهما على طهارة فنقول: امسح بيدك، ولو كان فيهما ماء؛ لأن ذلك عذر، وهذا يحصل في الذي يلبس الكنادر، أو يلبس الجوارب مع الجزمة ويخوض في الماء، فنقول: لا حرج أن تبقيها، ولكن إذا جاء وقت المسح فامسح عليهما.
لعل في هذا كفاية! والله أعلم، إلى أن ألقاكم في حلقة قادمة أستودعكم الله على أمل اللقاء بكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر