الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
فكنا قد انتهينا في الدرس الماضي من باب الحيض، وقد أنهيناه كاملاً ولله الحمد والمنة، وبذلك نكون قد ختمنا كتاب الطهارة، وأما اليوم فإننا نشرع بإذنه سبحانه وتعالى وتوفيقه وتيسيره وتسديده في كتاب الصلاة.
ومن المعلوم أن أهل العلم في تأليفهم لكتبهم يبدءون بالطهارة، ثم بعد ذلك بالصلاة؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بأداء شرط الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، ولقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي و أحمد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الصلاة الطهور )، والطهور: الطهارة، بأن يقوم الإنسان برفع الحدث، والحدث وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها، فهكذا كان الأئمة رحمهم الله في تأليفهم لكتبهم يبدءون بالطهارة، ثم يتحدثون عن الصلاة.
وسميت الصلاة دعاءً لاشتمالها على الدعاء؛ لأن الدعاء دعاءان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة:
فأما دعاء العبادة فمثل أن تسبح الله سبحانه وتعالى أو تحمده حال ركوعك أو حال سجودك، أو حال قيامك؛ بأن تقرأ القرآن، فإن قراءة القرآن من الذكر، وهو أحب العبادة، وأحب الذكر، وهو دعاء، وكيف يكون دعاء؟ يكون دعاء لأن دعاء العبادة هو أن تثني على الله بما هو أهله، وتسبحه وتحمده وتهلله وتكبره؛ لأن معنى ذلك أنك ما أثنيت عليه، ولا دعوته، ولا سبحته إلا طلباً للأجر، وطلباً لرفع الدرجات في الجنان، والابتعاد عن النيران، فصار دعاء المسألة متضمناً في دعاء العبادة.
وأما دعاء المسألة فهو أن يسأل العبد ربه مباشرة بأن يقول: ربي اغفر لي، ربي ارحمني، أو يقول: اللهم تب علي، أو يسأل ربه من خير الدنيا والآخرة في سجوده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ).
وأكثر أهل العلم على أن الصلاة إنما سميت صلاة لاشتمالها على الدعاء المتضمن دعاء العبادة ودعاء المسألة.
إذا ثبت هذا فإن الصلاة في الاصطلاح: هي التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
فدل ذلك على أنه ليس كل ذكر يسمى صلاة شرعية، بل لا بد فيها من ذكر مخصوص وقول مخصوص، مفتتح بالتكبير، مختتم بالتسليم.
فدل ذلك على أن فرضية الصلاة كانت ليلة الإسراء، وهذا أمر متفق عليه، إلا أن أهل العلم اختلفوا متى كانت ليلة الإسراء على أقوال كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في كتابه العظيم فتح الباري، ولا دليل صحيح يصار إليه.
فمن العلماء من قال: إن ليلة الإسراء هي ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول، كما هو رأي إبراهيم الحربي.
وقال بعضهم: إنما هي في رجب، في ليلة السابع والعشرين، وقد أنكر الحافظ ابن حزم هذا القول، وهذا أمر مشهور عند العامة، وعند بعض الطوائف، ولأجل هذا شرعوا عبادات في رجب لم يشرعها الله ولا رسوله، ظانين أن ليلة الإسراء في رجب.
والصحيح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن ليلة الإسراء ليس لها تحديد ثابت، وإن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين على المشهور، أما أي يوم، أو أي شهر فإن الراجح أنه لم يثبت فيه شيء صحيح يصار إليه.
والمكلف: هو المسلم، البالغ، العاقل.
وجه الدلالة: أن المجنون لا نية له، ومن شروط الصلاة النية، لأجل أن يميز العبد بين الفرض والفرض الآخر، وبين الفرض والنفل، وهذا لا يتأتى من المجنون.
وخروج بقولنا (العاقل) أيضاً الصبي غير المميز، فإن الصبي غير المميز -وهو من لا يفهم الخطاب ولا يرد الجواب- لا تصح منه الصلاة، أما المميز فتصح منه الصلاة كما سوف يأتي بيانه.
فعلى هذا فالصبي غير المميز لا تصح منه الصلاة، وذكر العلماء أنه أيضاً لا تصح مصافته، لأنه كالمجنون، فصار بمثابة الجماد، ولهذا كره أهل العلم في الصبي غير المميز أن يؤتى به إلى المسجد فيكون له مكان في الصف؛ لأن وجوده في الصف بمثابة الفرجة.
وهل ثواب صلاته ثواب له لوليه؟
الصواب: أن ثوابها له؛ لقوله سبحانه وتعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:89]، وإن كان وليه يؤجر من حيث الأمر بها.
أما الحج فإنه مستثنى، فإنه يؤجر عليه الصبي غير المميز؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء، فقال: من القوم؟ فقالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر )، ولا يقال: إنه كان مميزاً أو لم يكن؛ لأنه لم يستفصل، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ولو كانت لا تصح فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعلى هذا فنيته إنما هي نية وليه، فوليه هو الذي ينوي عنه؛ لأنه لا نية له.
إذاً (العاقل) يخرج به المجنون، والصبي غير المميز، وأما الصبي المميز فإنه يثاب عليها، ولكن لا تصح منه صحة فرض، وعلى هذا فرع أهل العلم مسألة في هذا، فقالوا: لو بلغ الصبي أثناء الصلاة، أو بلغ بعد أدائها وقبل خروج الوقت، فهل يؤمر بإعادتها؟
وقولهم: (لو بلغ أثناء الصلاة)، هذا على افتراض القول بأن بلوغه يكون بخمس عشرة سنة.
كما لو أنه ولد في ساعة معينة وضبطت، ثم صلى الظهر فكان هذا هو تمام خمس عشرة سنة.
وأما بعد أداء الصلاة وقبل خروج وقتها فمتصور، مثل ما لو نام فاحتلم، فعلمنا أنه قد بلغ.
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: هل يؤمر بالإعادة؛ لأنه افتتح الصلاة على اعتبار أنها نافلة، والأصل أن عبادة الصلاة لا تتجزأ نيتها، فافتتحها بالتكبير الذي هو نافلة في حقه، فلما بلغ في أثنائها أمر أن يعيدها على اعتبار أنها تحتاج إلى تكبير فرض، هذا هو مذهب الحنابلة.
وذهب بعض أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية إلى أن الصبي لا يؤمر بالإعادة، سواء بلغ أثناء العبادة، أو بلغ بعد أدائها وقبل خروج الوقت؛ لأنه أداها بنية الأجر، فليس هو مثل ما لو صلى على اعتبار التعليم، بل هو صلى على اعتبار نية الأجر والثواب، فهو قد نواها، ففعل كما أمره الله بنيته، ومن صلى صلاة فإن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين، وهذا القول قوي!
بعض الإخوة والأخوات يقول: ما معنى قوي؟
نقول: هذا له حظ من النظر، إلا أن الاحتياط والأولى أن يعيد الصلاة؛ لأننا نقول: إنه ما زال مأموراً بأدائها أداء وجوب، وهو قد افتتحها أو أنهاها على أنها سنة، وبين السنة والفرض مفاوز، كما قال الله تعالى: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ).
فهو قد نواها، ومن المعلوم أن النية لا يجوز أن تتجزأ أثناء الصلاة، فلو صلى شخص على اعتبار أنه يريد أن يتطوع للظهر، ثم قال: أريد أن أحولها إلى فرض، فإنها لا تصح بالإجماع، قالوا: فكذلك لا تصح من الصبي أثناء الصلاة، ولا تصح منه إذا بلغ بعد أدائها في الوقت؛ لأنه أداها على اعتبار أنها نافلة، وهذا القول أحوط، وهو أقعد، والله أعلم.
ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الحائض: ( أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم ).
ولما جاء في الصحيحين من حديث معاذة العدوية : ( أنها قالت لـ
فهذه مدرسة تدرسنا فيها عائشة ، وهو أنه ينبغي لنا إذا جاءنا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعلونا الهيبة، وأن نتعبد الله سبحانه وتعالى بالاقتداء به، ولو كانت عقولنا لم تدركه، ولهذا أرادت عائشة أن تعطي هذه المرأة درساً تربوياً يتمثل بالانقياد، ( كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، ونقول: سمعنا وأطعنا، هذا هو الواجب في حق كل مسلم عالمهم وجاهلهم، ذكرهم وإنثاهم، وإن كان أهل العلم يتفاضلون في معرفة الحكم والتشريعات السماوية وأسبابها وحكمها، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
فأما الكتاب فقول الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]، يعني: مفروضاً.
وأما السنة فلما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
ومن الأحاديث أيضاً ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج )، وفي رواية: ( والحج، وصيام رمضان )، وهذا يدل على وجوب الصلوات الخمس على كل مسلم مكلف بالغ، لا حائض، ولا نفساء.
وهذا محل إجماع من أهل العلم، لما جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وقرأ: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] ).
اختلف العلماء في ذلك على أقوال، أصحها وأرجحها هو مذهب مالك و الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، أن المغمى عليه لا يجب عليه شيء من الصلاة، إلا الصلاة التي أفاق في وقتها.
فلو افترض أن شاباً -لا قدر الله- وقع في حادث في الصباح فأغمي عليه، فلم يفق إلا بعد أذان الفجر في اليوم الثاني، فمن المعلوم أنه كان مغمى عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلم يفق إلا والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر، فهل نقول: يقضي تلك الصلوات أم لا؟
قلنا: الراجح أنه لا يقضي إلا الصلاة التي أفاق في وقتها، وهي صلاة الفجر.
وقد ذهب مالك رحمه الله، وهو قول عند الشافعي ورواية عند الإمام أحمد إلى أنه لا يجب عليه إلا أن يصلي الصلاة التي أفاق فيها؛ لأنه لم يصح فيه حديث، فقول مالك قول قوي، يعني لا يصلي إلا العصر، أو لا يصلي إلا العشاء، إلا أن الأحوط أن يصلي الظهر والعصر.
وكذلك يقال في حق الحائض والنفساء: إذا طهرتا في وقت الثانية، أي: في وقت العصر مثلاً، فإن المشروع في حقها أن تصلي الظهر والعصر، وإن أفاقت بعد العشاء وقبل الفجر فإن المشروع أن تصلي المغرب والعشاء، فإن صلت العشاء فقط، أو العصر فقط؛ فإن الراجح أنه يجوز لها ذلك؛ لأن التكليف لا يكون إلا بدليل، ولا دليل، وإن كان المشروع لها أن تصلي الأخرى معها.
فأما وقت الاختيار فإلى اصفرار الشمس، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس )، فهذا هو وقت الاختيار، والحديث رواه مسلم.
وأما وقت الضرورة: فمن اصفرار الشمس إلى غروبها، ومما يدل على أن وقتها إلى غروبها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد و أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك الصلاة )، فهذا يدل على أنه وقتها.
فهذا يدل على أن تأخير الصلاة عن وقتها له أحوال:
الحال الأولى: أن يؤخرها عن وقتها الاختياري إلى وقت الضرورة من غير عذر، فإنه يأثم.
فهذا يدل على أن المشروع في حق المسلم والمسلمة تأخير العشاء، فإن خشيت أن يصير تأخيرها مدعاة إلى نسيانها أو النوم عنها فلا يجوز؛ وذلك لأن الواجب أن يخرج الإنسان من عهدة الطلب بيقين، فإن كان متيقناً أو يغلب على ظنه فهو مأجور على هذا، ولا إثم.
فهذا لا يجوز، وهو آثم بإجماع أهل العلم، وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن مسعود في قول الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59]، قال: يصلونها خارج وقتها، فقال القاسم بن عبد الرحمن: والله يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى إلا أنهم يتركونها -يعني: لا يصلونها- فقال: ذاك الكفر.
وهذا قول عامة أهل العلم؛ على أن من ترك الصلاة حتى خرج وقتها ولو كان متعمداً فإنه مأمور بقضائها، وهو قول الأئمة الأربعة، وقد حكى بعضهم إجماع أهل العلم عليه.
وفي الواقع أنه ليس في المسألة إجماع، فقد خالف في ذلك الحسن البصري ، وذهب إليه أبو العباس بن تيمية رحمهما الله جميعاً، فقالا: إن من ترك الصلاة حتى خرج وقتها متعمداً فإنه لا ينفعه قضاؤها، بل الواجب عليه التوبة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن قول عامة السلف أظهر؛ وذلك لأن القضاء يحكي الأداء، ومما يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً، ولا نجاةً، ولا برهاناً يوم القيامة، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له )، ليس المقصود أنه يتركها؛ لأن الترك كفر على الراجح، فهو إنما لا يحافظ عليها، بمعنى: يؤخرها عن وقتها، فيكون آثماً ولو أداها.
وأما لو تركها بالكلية فهذا لا يعد محافظاً عليها، ولا يعد فاعلاً لها، أي: لا يقال: إنه محافظ؛ لأن المحافظ هو الذي يفعل الشيء في وقته، ولا يقال: غير محافظ؛ لأنه غير المحافظ هو الذي يفعل الشيء في غير وقته، وإنما يقال له: تارك، وهو الذي لا يفعل الشيء لا في وقته ولا خارج وقته فهذا لا يعد فاعلاً، بل يعد تاركاً والله أعلم.
فكل من جحد وجوب الصلاة فقد كفر، فإن هذا محل إجماع من أهل العلم في القديم والحديث، وهذا لا يحتاج إلى دليل؛ لأن الله أوجب على الأمة الصلاة، وقد ذكرنا فرضية ذلك بالكتاب والسنة.
وحينما نقول: ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، فمعناه أنه لا يصليها، وإن كان مؤمناً بوجوبها عليه، لكنه يتركها تهاوناً وكسلاً والعياذ بالله، فهذا يكفر، وقد كان ذلك محل إجماع عند المتقدمين من الصحابة ومن جاء بعدهم.
فقد روى محمد بن نصر المروزي في كتابه العظيم (تعظيم قدر الصلاة)، عن أيوب السختياني قال: ترك الصلاة كفر، لا يختلفون فيه.
وقد صح عن ابن مسعود وإن كان في سنده عبد الرحمن المسعودي لكن المسعودي تقبل روايته إذا لم يأت بما ينكر، فقد روى المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود في ترك الصلاة مطلقاً: ذاك الكفر.
ولا يقال: كفر دون كفر؛ لأنه جعل فيها (أل) التي تفيد الاستغراق.
وقد قال إسحاق بن راهويه: كان رأي أهل العلم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها أنه كافر.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما صح عند الترمذي من حديث عبد الله بن شقيق التابعي المعروف أنه قال: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ).
وهذا الحديث حاول بعضهم أن يطعن في إسناده، ولكن الراجح والله أعلم أن إسناده جيد، وقد روى الحاكم في المستدرك أنه من قول أبي هريرة ولكن الحديث فيه ضعف، وذكر ابن حزم أنه قد روي عن عمر و أنس و ابن مسعود ، وعد جملةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرون أن تارك الصلاة كافر، ولكن الراجح أنه لا يصح إلا عن ابن مسعود: ذاك الكفر.
ومما يدل على ذلك من السنة ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ).
وما جاء في حديث بريدة عند الإمام أحمد : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).
وهذا كما قلت هو قول جمهور السلف، وإن كان الشافعي رحمه الله لا يرى تركها كفراً، وهو قول عند المالكية.
وأما مالك فلم يحفظ له قول في هذا كما ذكر ذلك ابن خوير منداد من المالكية، وكذلك أبو عمر بن عبد البر قال: لا يحفظ لـمالك قول في هذه المسألة.
وإذا قلنا: إن تارك الصلاة كافر وهو الراجح فإننا نقصد بذلك أموراً:
وعلى هذا فلا يرد علينا أحد إيراداً فلسفياً فيقول: متى تعدونه كافراً؟ هل لو ترك صلاةً أو صلاتين أو ثلاثاً أو أربعاً تعدونه كافراً؟
نقول: الخلط هو عدم التفريق بين الكفر الذي بينه وبين الله، وبين الكفر الذي تتعلق به الأحكام الدنيوية:
فأما الذي بينه وبين الله فإنه لو تركها حتى خرج الوقت ونوى الترك المطلق فإنه يكفر، وأما لو صلاها أحياناً وفعلها أحياناً فإنه لا يعد كافراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً، ولا نجاة، ولا برهاناً يوم القيامة، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له )، وجه الدلالة: أن المشيئة لا تكون إلا لمن فعل الكبائر لا لمن فعل الكفر، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وأما الأحكام المتعلقة بالدنيا فإننا نقول: لا يكفر، ولا تجري عليه أحكام الكفر حتى يدعوه السلطان أو نائبه، فيبينوا له وجوبها، ويردوا على شبهاته، فإن أصر على الترك بحيث لو عرض عليه السيف قال: أنا لا أصلي؛ فإنه يكفر، يقول ابن تيمية : ولا يمكن أن يقال: إنه مسلم، ومن قال: إنه مسلم فقد دخلت عليه شبهة الإرجاء، ومعنى شبهة الإرجاء في العقيدة: الذين يرجئون العمل عن مسمى الإيمان.
على هذا فإننا نقول: إن تارك الصلاة كافر، ولكن لا يعد كافراً حتى يتركها الترك المطلق، فمن كان يصلي أحياناً، مثل من يصلي الجمعة أو يصلي إذا ذهب إلى الدوام، فإذا ذهب إلى بيته لا يصلي، فهذا على خطر عظيم، ولكنه لا يعد كافراً.
يقول ابن تيمية رحمه الله: وأما إذا كان يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً فهذا غالب حال المسلمين اليوم، والله المستعان!
هذا يقوله في القرن الثامن، فكيف بحال زماننا والعياذ بالله؟! مع أن الصلاة صلة بين العبد وربه، فالله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فقد كان بالأمس تمتلئ المساجد، ولا يفرقون بين فجر ولا ظهر ولا عصر ولا عشاء ولا مغرب، واليوم تجد أن الناس في صلاة الفجر في بعض مساجد المسلمين قليلة جداً جداً، فهجرت المساجد والعياذ بالله، وهذا مؤذن بسخط الله جل جلاله، كما قال عبد الله بن مسعود : ( ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي تقام فيه ).
الجواب: إذا كانوا لا يصلون إلا صلاة العيدين فإننا لا نحكم عليهم بعينهم، بل نقول: من ترك الصلاة وكان الغالب من حاله هو الترك فإنه كافر.
فنفرق بين التكفير المعين، والتكفير الوصفي، فنقول: تارك الصلاة كافر، لكن فلاناً لا يعد كافراً حتى تقام عليه الحجة، وتظهر عليه المحجة؛ لأن هذه المسألة اختلف العلماء فيها.
فـالشافعي نص في الأم على أنه ليس بكافر، فإذا كان الإمام الشافعي لا يعده كافراً فكيف نحكم على شخص ربما لا يفقه إلا بالتعلم والتعليم ممن هو أهله؟ لأن بعض الشباب أحياناً يكون والده لا يصلي والعياذ بالله، فيقول: يا والدي صل، الصلاة واجبة، وقد قال الشيخ فلان، فالوالد يستصغره ولا يأبه به، فهذا لا يدل على أنه أقيمت عليه الحجة حتى يأتي أهل العلم أو القضاة.
والواجب كما قال ابن تيمية رحمه الله: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لا لحصد، ولا لزرع، ولا لصيد، ولهذا بعض الإخوة الذين يقودون السيارات؛ التكاسي، أو يعملون عند الشركات، يقولون: نضطر أحياناً إلى أن نؤخر الصلاة عن وقتها، فنقول: إذا كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها بحيث تكون صلاة النهار في الليل فهم آثمون بذلك، فيجب عليهم أن يصلوا حتى ولو كانوا في السيارة؛ لأن وقت الصلاة محترم، لا يجوز أن يستهين به الإنسان، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في حق أهل الجهاد، والعدو بينهم، فهو إما أن يقاتلهم، وإما أن يقتل، مع ذلك قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] فغيره أولى.
فتقرر أن ذلك كله دليل على وجوب المحافظة على الصلاة، ( ولما أخر صلى الله عليه وسلم صلاة العصر حتى غربت الشمس نزل قول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة:238-239]، فتأثر صلى الله عليه وسلم، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى، حشا الله قبورهم وأجوافهم ناراً )، والله أعلم.
الجواب: النائم معذور بالإجماع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة )، ومعنى (معذور) أنه قد هيأ أسباب القيام، ثم لم يقم، وأما من لم يهيئ أسباب القيام فيعد مفرطاً، كأن يأتي إلى الفراش، وهو منهك فينام، ثم لم يأمر أحداً أن يوقظه، ولم يضع شيئاً من المنبهات توقظه، يقول: إن قمت صليت! فهذا لا يعد معذوراً، ونقول له: هب أن عندك موعداً في الطائرة، هل سوف تقول: إن قمت صليت، أم أنك ستتصل بالجار والقريب، وتضع جوالاً ومنبهاً، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قلة اهتمام بالصلاة، وقد كان سلف هذه الأمة يهتمون بالصلاة، ويرون أن الاهتمام بها دليل على صحة الإيمان، وصدق التقوى.
وأما من لم يحافظ عليها فإنهم يقولون كما يقول إبراهيم بن أدهم: فاغسل يدك منه. والله المستعان!
نستودعكم الله، على أمل اللقاء بكم! وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر