الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات! أسعد الله ممساكم، وحيا الله إخوتي الكرام الحاضرين معنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً.
كنا قد توقفنا في كتاب الصلاة عند باب الأذان، حيث إننا لم نشرع في بيانه، وأما اليوم فإننا بإذن الله سوف نبدأ في هذا الباب.
ومن هذا شرع الأذان، وسوف نتحدث إن شاء الله عن مشروعية الأذان، وكيف حصلت، وبأي طريقة حصلت، لكن المهم هو أن الأذان يذكر في أول كتاب الصلاة؛ وذلك لأن الصلاة لا تتم في الغالب إلا بالأذان، واختلف أهل العلم: هل الأذان هو إعلام بدخول وقت الصلاة، أم هو النداء والدعاء إلى الصلاة؟ قولان للعلماء، والراجح والله تبارك وتعالى أعلم أن الأذان يشمل الأمرين، فهو الدعاء والنداء إلى الصلاة، وكذلك هو إعلام بدخول وقت الصلاة.
وإنما حدا بنا إلى هذا الأمر إرادة الجمع بين الأقوال، فإن جماهير أهل العلم لم يروا مشروعية أن يؤذن الإنسان للصلاة قبل دخول وقتها إلا في صلاة الفجر، وأن المؤذن إنما يؤذن حينما يدخل وقت الصلاة، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي موسى : ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الصلاة؟ قال: فلم يجب، فأمر
فهذا يفيد أن الأذان يكون للإعلام بدخول وقت الصلاة.
الثاني: أن الأذان هو الدعاء والنداء إلى الصلاة؛ وذلك لأن ما الأذان من يكون لأجل صلاة فائتة، ومن المعلوم أن الأذان لصلاة فائتة ليس هو إخباراً بدخول الوقت، وإنما هو دعاء ونداء إلى الصلاة.
ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في إحدى غزواته، فقال: من يكلأ لنا الليل؟ فقال
والذي يظهر والله أعلم أنه ليس هناك شيء ثابت، وإنما الثابت أن الأذان لم يكن في مكة، وإنما كان في المدينة، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الأذان شرع في أول الإسلام، ولم يكن في آخره، ولهذا اختلف العلماء في أي سنة فرض، والأشهر والأكثر أن الأذان إنما فرض في السنة الأولى، وقيل: في السنة الثانية، والذي يظهر أن الأذان إنما فرض في السنة الأولى، وكانوا قبل الأذان يتحينون للصلاة، ومعنى التحين هو أن يقولوا: بعد الصلاة بكذا وقت كذا، فيقيسون الوقت إما بقراءة، يعني بعدد الآيات، وإما بغير ذلك مما يتحينون به، ومعنى (يتحينون): يترقبون ويتربصون.
وجاء في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: ( كان الناس يجتمعون للصلاة، ويتحينون لها، وليس ينادى لها، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، وقال بعضهم: اتخذوا بوقاً مثل بوق اليهود، فقال
والذي يظهر والله أعلم أن عبد الله بن عمر إنما قال ذلك على حسب علمه، وإلا فإن أبا داود وأحمد وغيرهما رويا عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه أنه رأى رؤيا، فقال: (بينما أنا نائم إذ جاءني ملك عليه ثوبان أخضران، قال: فدخل المسجد ثم صعد، قال: فأذن مثل أذان
قال عبد الله بن زيد : ( ثم استأخر عني ثم قعد، ثم قام فأقام فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال
قال: ( فلما جعل
وقوله: (فقد رأيت الذي رأى)، يدل على أن الرؤى إذا تواطأت وفيها من الوحدانية لله، وإثبات ربوبيته وجبروته وقيومته ووحدانيته، فإن فيها من صدق الرؤيا ما لا يخفى، ولهذا فمن تأمل ألفاظ الأذان أو ألفاظ الإقامة يجد فيها من الوحدانية، وإفراد العبودية، وكمال القيومية، وكمال القوة والقهر لله سبحانه وتعالى ما لا يخفى.
فالأذان إنما شرع برؤيا، ولكننا نقول: حينما أمر بها صلى الله عليه وسلم أصبح التشريع ليس من الرؤيا، ولكن التشريع من محمد صلى الله عليه وسلم وتقريره وموافقته عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فليس بمستساغ أن يستدل الراءون على الأحكام الشرعية بحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه بدعوى أنها رؤيا حق، فنقول: من أخبركم أنها رؤيا حق؟ أما رسول الله فإنه أعلم الناس، وإنما يصدر قوله من الوحي، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، ويقول: لا ندري، بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، والحديث رواه أبو داود والإمام أحمد بإسناد صحيح.
إذا ثبت هذا فإننا نقول: إن الرؤيا الحق لا يلزم منها التشريع، فلربما تكون رؤيا حق يستأنس بها، ولكنها لا تكون تشريعاً إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59].
جدل قائم في كتب الفقهاء والحديث، فقال بعضهم: إن الأذان أفضل، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عندهم.
واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، قالوا: وهذه مزية شرف وفضل لم تتأت للإمام.
وقالوا أيضاً: ولأن المؤذن يشهد له كل من سمعه من حجر ومدر، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنت في غنمك وباديتك فحضرت الصلاة فأذن، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة).
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب الحنفية والمالكية، قالوا: إن الإمامة أفضل من الأذان، قالوا: فإن الإمام هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا الخلفاء الراشدون، كـأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولا يختار ربنا لرسوله إلا ما هو أفضل.
وأما ما جاء في بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن) فإن الحديث ضعيف، ولو صح فإنما معناه: أن النبي أمر بالأذان، كما تقول: بنى الخليفة قصراً، فالخليفة لا يبني، إنما يبنى بأمره، والله أعلم.
وقال بعض المحققين: إن الأفضلية في الإمامة أو الأذان على حسب حال الشخص، فلربما كان الأذان في حال بعض الناس أفضل له من الإمامة، وبعض الناس الإمامة له أفضل، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية، وهذا ليس فيه دلالة على أن الإمامة أفضل من الأذان أو أن الأذان أفضل من الإمامة من حيث هي، وإنما من حيث متعلقها، والمتعلق شيء، والذات والماهية شيء آخر.
يعني: أنا أقول: هناك فرق بين أن نقول: أيهما أفضل الصلاة أم الصوم؟ لا تقل لي: يختلف، فبعض الناس أفضل في حقه الصلاة من حيث التطوع، وبعض الناس أفضل في حقه الصوم! فنحن نقول: هذا خارج محل النزاع، هذا من حيث المتعلق، لكن من حيث هو فإن الصلاة أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع)، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فالذي يظهر والله أعلم أن الإمامة في الجملة أفضل، وذلك لأمور:
الأمر الأول: أن الإمامة فيها من تحمل المصلين، وتعليمهم أمر دينهم، والاقتداء بهم، فكان لا يتقدمها إلا من هو أفضلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، فدل ذلك على أن هذه الميزة لا تتأتى لكل أحد، يدلك على هذا ما جاء في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، وهذا يدل على الأفضلية من هذا الوجه.
وأقول: إن بعض المعاني الشرعية ربما يرد فيها فضائل، فليس معنى ذلك أن غيرها مما لم يرد فيه أقل منزلة، فإن ذلك ليس بظاهر، فإن بعض الصحابة عنده من فضائل المقامات، وإن كان ليس بأفضل من العشرة المبشرين بالجنة، وليس بأفضل من غيرهم، وهذا يدل على أن ورود فضيلة شيء لا يدل على أن غيرها مما لم يذكر أقل فضلاً، إلا باعتبار آخر، والله أعلم.
ويطلق الأذان على الاستماع كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن )، يعني: ما استمع الله.
وأما في الاصطلاح: فإن الذي يظهر والله أعلم أن الأذان في الجملة هو الدعاء والنداء إلى الصلاة بألفاظ مخصوصة.
وذلك لأن الإنسان يؤذن إما بدخول الوقت، وإما بعد دخول الوقت، وأذانه إنما هو لينادي به الآخرين.
وأما الإقامة فإنما هي من باب (أقام) إذا استنهض من قعود.
وأما في الاصطلاح فهي: الإعلام بالقيام إلى الصلاة.
وهذه قيود، فيخرج بذلك فرض العين، فإن الصلاة بلا أذان صحيحة.
روي عن بعض السلف كـابن عمر أنه يشرع لهن، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه مباح، وهذا رواية عند الحنابلة، وقال بعضهم: إن ذلك لا يشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح أنه أمر نساءه ولا الصحابيات بالأذان، وذلك لأن الأذان إنما شرع للمناداة إلى الصلاة، والمرأة ليس مشروعاً في حقها الجماعة، إنما تصلي وحدها، فلا معنى أن تؤذن وهي تصلي وحدها.
وهذا هو الظاهر؛ أن الأذان في حق المرأة جائز غير مشروع، يعني ليس من السنة، وأما قولنا: جائز فلفعل بعض الصحابة، فإن المعروف أن الصحابة إذا فعلوا أمراً لا يقال: بأنه بدعة، ولم نقل باستحبابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يفعل في عهده صلى الله عليه وسلم.
وأما لو ناموا في الحضر، وقد أذن للصلاة، ثم قاموا فلا يجب عليهم؛ لأنه قد حصلت الكفاية بأذان غيرهم، والله أعلم.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رواية: ( إذا سافرتما -يعني بذلك:
وأما قولنا: (ولا يجب)؛ فلأن الأذان في حقه مشروع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يعجب ربك من راعي غنم على شظية جبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم للصلاة؛ يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة )، وهذا الحديث رواه أهل السنن، وهو صحيح، فهذا يدل على استحباب الأذان في حق الفرد، ولم نقل بوجوبه كفرض كفائي؛ لأن الأذان إنما هو الدعاء والنداء إلى الصلاة، وهذا وحده.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود : ( أنه دخل عليه
وقال بعضهم: إن الإقامة فرض في كل صلاة على الرجال المجتمعين للصلاة، وذلك لأنه لم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاةً إلا بإقامة، سواء كانت مقضية أم مؤداة، مجتمعة مع غيرها أم بوقتها، فقد صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بأذن وإقامتين، وصلى الظهر وحدها بأذان وإقامة، وصلى العصر وحدها بأذان وإقامة، وصلى الفجر في وقتها بأذان وإقامة، وصلى الفجر في غير وقتها بأذان وإقامة، مما يدل على أن الإقامة فرض على الرجال المجتمعين، وهذه رواية عند الإمام أحمد اختارها بعض المحققين، وأظنه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا القول ظاهر، والله أعلم.
أما النساء فقال بعضهم: إنه يجوز للمرأة أن تقيم، ويستحب لها ذلك؛ لأن أم المؤمنين عائشة كانت تقيم للصلاة.
وقال بعضهم: إنما هو مباح.
والظاهر أن أبا العباس بن تيمية يرى أن الإقامة فرض كفاية، على كل حال القول بأنها فرض على الرجال المجتمعين قول قوي، وهو الأظهر؛ لأنه لم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها، وأما فعل الصحابة كـعبد الله بن مسعود حينما كان هو و علقمة و الأسود فصلى بغير أذان ولا إقامة، فهذا اجتهاد من عبد الله بن مسعود ، خالفه غيره من الصحابة، والله أعلم.
وعلى كل فإذا لم يوجد إلا قول عبد الله بن مسعود دل ذلك على أن الإقامة فرض كفاية، والله أعلم.
فالسنة عند المالكية لا يأثم إذا تركها مرة واحدة، لكن إذا تركها مطلقاً فإنه يأثم، كما ذكر ذلك غير واحد من المالكية، وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن السنة عند المالكية إذا تركها فإنه يأثم، وإنما جعلوها سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها، ولكن الأمر بها بدليل ظني، وعلى هذا فيخطئ بعض الباحثين حينما يجد المالكية ينصون على السنية، فيظنون أنها السنة؛ المصطلح المعروف عند غيرهم من أصحاب المذاهب، وهي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا ليس بصحيح، أرأيتم في الحج! فإن الحنابلة والشافعية ينصون على بعض الأعمال بأنها واجبة، وعلى بعض الأعمال بأنها سنة، ويقولون في السنة: إنه لا يجب على من تركها دم، أما المالكية فيجعلون الواجب ما ثبت بدليل قطعي، ويجبر بدم، والسنة تجبر بدم، أما المستحب عندهم فإنه لا يجبر بدم كما في طواف الوداع في حق الحاج عند مالك رحمه الله.
أيضاً: صلاة الجماعة عند المالكية سنة، ولا يقصدون بذلك أنها يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولهذا قال أبو العباس بن تيمية : إنه من ترك صلاة الجماعة مطلقاً فإنه يأثم باتفاقهم، أو كلمةً نحوها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أنتم تعلمون أن راتب الأذان إما أن يكون رزقاً من بيت المال، وإما أن يكون تعاقداً بين الإنسان وبين جهة معينة، أي: عقد إجارة.
أما إذا كان رزقاً من بيت المال فإن الأمر حينئذ يكون جائزاً باتفاقهم، نقل الاتفاق غير واحد من أهل العلم، كـالبهوتي في كشاف القناع، وغيره من كتب الحنابلة، قالوا: لأن الرزق إنما هو فيء من مصالح المسلمين العامة، وقد كان أبو بكر يأخذ رزقاً حين ولايته.
وينبغي أن تعلم يا رعاك ربي، وينبغي أن يعلم المشاهدون والمشاهدات أن الرزق المقصود به أنه يعطى من بيت المال على أنه نوع من النفقة، لا علاقة له بشخصيته، ولا علاقة له بشهادته، ولا علاقة له بجاهه ومركزه، إنما يعطى على أنه لأجل أنه تفرغ، فيعطى مقدار معيشته، ولهذا اجتمع عمر رضي الله عنه مع علي حينما رأيا أبا بكر وهو خليفة المسلمين يذهب إلى السوق، فرأيا أن يعطى نصف شاة، إما كل أسبوع، أو كل شهر؛ لأنهم رأوا أن ذلك نفقته، هذا من غير ماله الذي يكتسبه ويتاجر فيه، وهذا يدل على أن هذا هو الرزق.
الثاني: أن لها مخصصات، فلو تقاعد إنسان وتركها فيستطيع أن يطالب بالبقية التي اختزنت له، ولو كانت رزقاً لما جاز له أن يطالب.
وفي بعض الدول يكون المؤذن موظفاً مثل الموظف في وزارة الخدمة المدنية، فهذا عقد إجارة، لكن مع من؟ لأن الدولة أصبحت في مجتمع مدني، تعاقد مثلما يتعاقد الأفراد والشركات، باعتبار الشخصية الاعتبارية، وعلى هذا فالمدرس للدروس الدينية الآن تعاقده مع الجامعات إنما هو عقد إجارة، ولا يقال: إنه رزق؛ لأن الأحوال اختلفت، ولهذا أقول: إن عقد الإجارة على الأذان الراجح جوازه، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله، وأكثر الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد.
خلافاً للمشهور عند الحنابلة و أبي حنيفة، فإنهم منعوا الإجارة في كل ما هو قربة، واستدلوا على ذلك بما رواه أهل السنن كـأبي داود، و ابن ماجه ، و الترمذي، عن عثمان بن أبي العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ).
وجه الدلالة: أن النبي حث عثمان على ألا يأخذ الإنسان على أذانه أجراً.
والجواب على هذا أن يقال: المقصود بالأجر المباح هو المال، من حيث هو مال وليس المقصود الأجر الذي في مقابلة عوض، وهذا هو المنهي عنه.
ثانياً: أن هذا ليس فيه ما يدل على أن من أخذ فإنه يأثم، ولكن فيه أن المؤذن الذي يحتسب الأجر على الله أفضل من المؤذن الذي يأخذ على ذلك أجراً.
ومما يدل على جواز ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس و أبي سعيد: في قصة اللديغ الذي لدغ، فجاء أحد الصحابة فتعاقد معهم على أنه إن رقاه فشفي له قطيع من الغنم، فرقاه أحدهم بالفاتحة فقال: ( يا رسول الله، والله ما علمت أنها رقية، قال: وما يدريك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي منها بسهم )، يعني خذوا القطيع؛ لأنه شفي بإذن الله بسبب رقية هذا الصحابي.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بجواز الأخذ بسبب القربة، وهي الطاعة والقراءة، فدل ذلك على جواز أخذ المال على القرب.
وأما من قال من الفقهاء إن ثمة فرقاً بين الجعالة والإجارة فالجواب: نعم، هي جعالة، ولكن الجامع هو أنه أخذ شيئاً من المال لأجل القربة، سواء أخذها عن طريق الإجارة، أو عن طريق الجعالة؛ لأنهما كلتيهما من باب عقود المعاوضات، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: الناس مراتب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من غازية أو سرية تغزو فتصاب إلا قد تم لهم أجورهم، وما من غازية تغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجورهم )، فدل ذلك على أن من يأخذ مغانمه بسبب طاعته، فإن ذلك ينقص أجره، ولكن لا يدل على ضعف إخلاصه، وإن كان الإنسان ينبغي له أن يراقب في هذا الأمر، وألا يكون همه هو المال دون الطاعة، بل يكون المال وسيلة لإعانته على الطاعة، ولهذا ما أجمل ما قاله أبو العباس بن تيمية : من حج ليأخذ غير من أخذ ليحج، أي: من أخذ ليحج يكون قصده الطاعة، ولكن المال معونة على ذلك، أما من حج ليأخذ فهو لو تيسر له الحج من غير عوض لما حج، فقد جعل الحج للعوض الصريح، يقول أبو العباس : فهذا لا خلاق له في الآخرة، والله أعلم.
أولاً: ألا يأخذ أجراً على أذانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعثمان بن أبي العاص : ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )، وهذا على سبيل الاستحباب والأفضلية.
الثاني: أن يكون أميناً عدلاً؛ لأن الناس ائتمنوه على دخول وقت الصلوات، وإذا لم يكن أميناً فإنه ربما يؤذن قبل الوقت، فيفطر الناس بأذانه.
والأمر الثالث: أن يكون عالماً بالوقت، فأما من لا يحسن الوقت وفيه عجلة وطيش فهذا لا يصلح أن يؤذن.
والرابع: أن يكون رفيع الصوت، لحديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: ( إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع صوتك بالأذان ) الحديث رواه البخاري .
والأمر الآخر: أن يكون صوته ندياً، يعني فيه نوع من الجمال، والطراوة، والحزن.
والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( قم فألقه على
فإن تشاح شخصان، كل يقول: أنا أريد أن أؤذن، قدم أحسنهما صوتاً، ومواظبةً، وغيرها من الصفات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء عبد الله بن زيد بن عبد ربه بالأذان، لم يقل: قم فألقه علىأبي بكر، ولم يقل: قم فألقه على عمر، ولا على عثمان، ولا على علي، ولم يذكر كبار الصحابة، ولا العشرة المبشرين بالجنة، بل اختار منهم الأنفع للناس، فقال: ( فإنه أندى صوتاً منك ).
فإن تساويا؛ كأن كان كل واحد حسن الصوت، فقال بعضهم: على ما يختاره الجيران؛ قالوا: لأنهم هم الذين يناديهم للصلاة، فإذا كانوا يحبونه ويرتاحون لصوته فإن ذلك مدعاة إلى أن يتعجلوا الخروج إلى الصلاة، وهذا مذهب الحنابلة وبعض الشافعية والمالكية، وهذا القول قوي.
وقال بعضهم: بل يقرع بينهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولو يعلمون ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه -يعني يقترعوا بينهم- لاستهموا عليه ).
والذي يظهر والله أعلم أن القرعة إنما تشرع حال عدم الترجيح، وإذا كان ثمة مرجح لتقديم أحدهما على الآخر فإن القرعة تؤخر، والله أعلم.
الجواب: أما الأذان فالمعروف أن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: بلال، وأبو محذورة، وسعد القرظ، والمشهور هما اثنان: الأول: بلال، فهو الذي كان يؤذن بين يدي نبينا صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، والثاني: أبو محذورة حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسن الصوت علمه الأذان في فتح مكة، فأذان بلال خمس عشرة جملة، وأما أذان أبي محذورة فهو تسع عشرة جملة، كما روى أهل السنن بسند صحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة جملة، والإقامة سبع عشرة جملة ).
وسوف نتحدث عن صفة أذان بلال ، وصفة أذان أبي محذورة في الدرس القادم بإذن الله؛ لكننا نقول: أما الزيادة على الأذان بألفاظ غير معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل: حي على خير العمل، فهذا اللفظ روي عن ابن عمر ، والذي يظهر والله أعلم أن ابن عمر والله أعلم لم يزده على أنه من الأذان نفسه، وإنما ذكره بعد أذانه.
وأيضاً نقول: إن الرسول لم يؤذن بـ: حي على خير العمل، وإن كان بعض الصحابة قد اجتهد كما روي عن ابن عمر ، والآن أحتاج إلى أن أرجع إلى إسناده أكثر وأكثر، وفي الدرس القادم سوف أبحث عن صحة رواية ابن عمر ، هل هذه الرواية صحيحة أم لا؟ لكن عامة أهل العلم لا يستحبون الزيادة على هذا الأذان، والله أعلم.
فنستودعكم الله على أمل اللقاء بكم!
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر