الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وحيهلا إلى درس جديد من دروس مسائل في الفقه، نتدارس هذا الباب من أبواب الصلاة، نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما نسمع ونقول.
وكنا أيها الإخوة قد توقفنا عند بعض مسائل الوقت، وقلنا: إن أكثر أهل العلم على أن الوقت في بدايته أفضل من التأخير، على خلاف ما هو الوقت، هل هو وقت اختيار أم وقت ضرورة؟ أما إلى وقت الضرورة فإن أكثر أهل العلم على تحريم ذلك؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً ).
واليوم أيها الإخوة سوف نتحدث عن مسائل تتعلق بالوقت، وهي قضاء الفوائت.
القسم الأول: قضاء الفائتة التي تركت لعذر.
القسم الثاني: قضاء الفائتة التي تركت من غير عذر.
أما الفائتة إذا تركت من غير عذر فإن عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على وجوب قضائها، نقل الإجماع ابن المنذر ، ونقله الخطابي في بعض مسائل الصيام على أن الفرض ولو كان تركه عمداً يجب أن يقضى؛ لأن القضاء يحكي الأداء، هذا قول عامة أهل العلم.
وخالف في ذلك الحسن البصري ، وهو قول ابن حزم واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، وهو أن الإنسان إذا ترك الفائتة متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا ينفعه القضاء، وقد سبقت هذه المسألة في درس من دروسنا، وقلنا: إن الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم هو أنه يجب عليه أن يقضي؛ وذلك لأن القضاء يحكي الأداء، ولما جاء عند أهل السنن من حديث أبي هريرة ، وروي موقوفاً ومرفوعاً، وبعضهم يضعفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض )، فهذا الذي استقاء عمداً وجب عليه القضاء، وتقييد ذلك بالعذر محل نظر؛ لأن الشارع لم يذكر ذلك، فدل ذلك على أن القضاء يحكي الأداء.
أما القسم الثاني: وهو قضاء الفوائت لعذر، فقد أجمع أهل العلم على أن من نام عن صلاة أو تركها لعذر فإنه يجب عليه أن يقضيها.
واستدل العلماء على ذلك بالإجماع.
والدليل الآخر ما رواه البخاري من حديث أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ).
اختلف العلماء في هذه المسألة، والراجح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- هو قول عامة أهل العلم؛ أنه يجب عليه الترتيب، هذا هو مذهب أبي حنيفة و مالك و أحمد في المشهور عنهم، خلافاً للشافعي الذي قال: لا يجب الترتيب.
والراجح هو وجوب الترتيب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، ومعنى (حافظوا) هو المحافظة على أدائها كما أمر الله وكما أوجب، وهذا يدل على وجوب الترتيب.
ومن الأدلة على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ترك صلاة العصر حتى خرج وقتها في غزوة الأحزاب، فقال صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، ثم صلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب، فأنزل الله قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ) يعني: أن تؤدوها في وقتها.
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن
قال أهل العلم: فذلك يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالفائتة ولم يبدأ بالحاضرة، ولا شيء يدل عليه هذا إلا وجوب الترتيب.
وأما الحديث الذي رواه النسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب، ثم صلى بعدها العصر )، فهذا حديث ضعيف؛ وذلك لأن القصة لا يمكن أن تتكرر، فغزوة الأحزاب واحدة، وترك صلاة العصر إلى وقت صلاة المغرب وقع مرة واحدة، فلا بد أن تكون رواية البخاري و مسلم أصح من رواية النسائي ، وقد أجمع أهل العلم على أن ما في البخاري و مسلم هو حديث صحيح، إلا أحرفاً يسيرة تكلم فيها أهل العلم ليست داخلة في محل الإجماع، فدل ذلك على أن الترتيب بين الفوائت واجب.
ثم اختلف أهل العلم: ما هي الأعذار التي يجوز فيها ترك الترتيب؟
ومما يدل على سقوط الترتيب بالعذر قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، والحديث رواه ابن حبان ، و الحاكم ، و البيهقي ، وصححه ابن حبان ، وأشار الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم إلى أن إسناده جيد، وهذا عام في الصلوات وفي غيرها، فدل ذلك على أن المعذور معفو عنه، على خلاف بين أهل العلم.
إذا ثبت هذا فإن الذي يظهر لنا -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن الأعذار ستة تقريباً.
ثم إن النسيان يشمل ما إذا أدى الحاضرة، ثم تذكر وهو ما زال في وقت الحاضرة وهذا لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: صلى العصر وهو ما زال في وقت العصر، ثم تذكر بعد ذلك أنه لم يصل الظهر، فإن أكثر أهل العلم يقولون: إن ذلك يجزئه خلافاً لـمالك و أحمد في رواية.
قالوا: لأن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين، فقد أدى صلاة العصر في وقتها، ولم يعلم بأن عليه صلاة الظهر، فإذا تذكر صلى الظهر ويسقط في حقه الترتيب.
فأما مالك فقال: إن كان وقت الحاضرة ما زال قائماً فإنه يلزمه أن يعيد الحاضرة بعدما يقضي الفائتة، فيصلي الظهر، ثم يصلي العصر، والراجح أن ذلك لا يجب، فإن فعل فحسن.
الحالة الثانية: أن يتذكر وهو في الصلاة، مثل أن يكبر لصلاة العصر وهو لم يعلم أن عليه فائتة ثم تذكر أثناء الصلاة، فما الذي يجب عليه؟
الراجح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أنه معذور في هذه الحال؛ لأنه دخل في هذه الصلاة بيقين، والقاعدة: أن استصحاب الإجماع قائم حتى يؤدي تلك الصلاة، ولا يلزمه الإعادة، فجاز له أن يصلي حينما كان جاهلاً أو ناسياً، وهذا هو مذهب ابن حزم ، ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهو مذهب الشافعي الذي لا يرى وجوب الترتيب، لكن الأحوط هو أن يصلي الحاضرة على أنها نافلة، وهذا هو قول أحمد في رواية، وهو مذهب مالك ، قال: يقلبها نفلاً، ثم يصلي الفائتة، ثم بعد ذلك يصلي الحاضرة، فهذا على سبيل الاحتياط.
وأما على سبيل الوجوب فإنه لا يجب عليه، وقد ذكره أبو العباس بن تيمية ونسبه لأكثر أهل العلم، والواقع أن هذه النسخة وهي المجلد الثالث والعشرون أو الثاني والعشرون من الفتاوى فيه سقط، وإلا فإن أبا العباس ذكر الخلاف قبل ذلك، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم، أنه إذا صلى وتذكر أن عليه الفائتة وهو في الصلاة أن الأرجح من حيث الدليل والقوة أنه يتم هذه الصلاة التي بدأها، ثم يقضي الفائتة، ولا يلزمه إعادة ذلك؛ لأنه بدأ الصلاة وهو ناس للفائتة، فيجب أن يستصحب ذلك الإجماع وهو بداية الصلاة، والله أعلم.
ومما يدل على ذلك أن في آخر سورة البقرة كما في صحيح مسلم : ( أن الله سبحانه وتعالى قال عندما قرأ صلى الله عليه وسلم: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت )، والنسيان معلوم، والخطأ معلوم، وفرق بين الخاطئ والمخطئ، فالخاطئ هو المتعمد، وأما المخطئ فهو الذي فعل ذلك عن جهل، وهذا هو المراد.
ومما يدل على ذلك أيضاً من السنة قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان )، والخطأ هو الوقوع في الجهل، فجعلهما قرينين في الحكم، وهذا هو الراجح -والله أعلم- خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة.
هذا هو قول أكثر أهل العلم، فقد حكى ابن رجب أن خشية فوت الحاضرة عذر يبيح له ترك الترتيب، مثال ذلك: أن يقوم لصلاة العصر في آخر وقتها، وهو لم يصل الظهر ولم يصل العصر، فهذا الآن أدرك آخر وقت الحاضرة، فإن جماهير أهل العلم يقولون: يصلي الحاضرة، ثم يصلي بعدها الفائتة، قالوا: لأن الوقت إذا ضاق فإنه يؤدي ما حضر، ولو كان ما فات قائماً في ذمته، قالوا: فمن ترك رمضان حتى جاء رمضان الثاني، فإن الواجب في حقه أن يؤدي صوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: قالوا ولأننا لو أوجبنا عليه أن يقضي الفائتة، ثم يقضي بعدها الحاضرة لأدى ذلك إلى أن تكون الصلاتان فائتتين، فالقاعدة أنه إذا تعارض مفسدتان قدم أدناهما، والأدنى هنا هي ترك الترتيب، لئلا يؤدي إلى فوت الصلاتين، وهذا كما قلت هو قول أكثر أهل العلم.
فإنه من المعلوم أن الجمعة فرض الوقت، بمعنى: أنها لا يجوز قضاؤها في غير وقتها، فلا يجوز أن تفعل إلا في وقت معروف، وإذا سلم الإمام فإنها لا تقضى، بل تصلى ظهراً كما هو معلوم.
فإذا جاء الإنسان إلى صلاة الجمعة والإمام يصلي وهو لم يصل صلاة الفجر، فإن كان يستطيع أن يصلي الفجر وحده ثم يدرك الإمام ولو في الركعة الثانية فإنه يصليها، وأما إذا خشي أن تفوت صلاة الجمعة، مثل أن يأتي والإمام رافع رأسه من الركوع الأول، أو قائم إلى الركعة الثانية، وهو لو صلى وحده لما استطاع أن يدرك الجمعة، فإن الترتيب حينئذ يسقط؛ لأن الجمعة فرض الوقت.
وعلى هذا فإذا جاء والإمام يصلي الجمعة وهو لم يصل الفجر، فإننا نقول له: صل الجمعة، ثم صل بعدها الفجر؛ لأن الجمعة فرض الوقت، ويخشى أن تترك صلاة الجمعة من غير عذر، بخلاف الصلاة العادية، فإذا جئت فيمكن أن تدرك؛ لأن الوقت متسع.
ذكره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قال: إذا جاء المصلي والإمام في الجماعة الحاضرة، وهو لم يصل التي قبلها، مثل ما لو جاء والإمام يصلي العشاء وهو لم يصل المغرب، فهل يسقط الترتيب لأجل الجماعة أم لا؟
أعيد: لو أنه لم يصل المغرب، ثم جاء المسجد والإمام يصلي العشاء، فهل يجب أن يدخل معه بنية المغرب، أم يجوز له ترك الترتيب، ويدخل لأجل الحظوة بالجماعة؟
أقول: في المسألة خلاف، فذهب عامة أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الترتيب لا يسقط لأجل فوت الجماعة، وهذا القول أرجح، قالوا: الدليل على ذلك أنه ليست الحاضرة أولى بالجماعة من الفائتة؛ لأننا إذا جوزنا اختلاف نية المأموم عن الإمام، بأن يصلي بنية الظهر والإمام يصلي بنية العصر، أو يصلي بنية المغرب، والإمام يصلي بنية العشاء، فإذا كان يجوز اختلاف النيتين وهو اختيار ابن تيمية ، فيدخل مع الإمام بنية المغرب، ويدرك بذلك صلاة الجماعة في المغرب، فنقول: ليست الصلاة الثانية بأولى بالجماعة من الأولى.
وهذا هو الراجح.
وإن جاء والإمام يصلي العشاء فصلى المغرب وحده، ثم دخل مع الإمام كيفما أدرك فهذا أيضاً جائز، وهو مذهب الحنابلة والمالكية، ولكن الأفضل أن يدخل مع الإمام؛ لأن اختلاف نية الإمام عن المأموم جائزة، وهو مذهب الشافعي ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
إذا ثبت هذا فإن الجماعة للفائتة تسن، هذا مذهب عامة أهل العلم، خلافاً للحنابلة في رواية حيث قالوا بوجوب الجماعة، و الليث بن سعد الذي قال باستحباب الانفراد.
والراجح أن الجماعة تسن، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس وارتفعت، قال أبو قتادة : ( فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصنع كل يوم )، والذي يصنع كل يوم في الصلاة هو الجماعة، فدل ذلك على استحباب الجماعة، والله أعلم.
والقول بالوجوب قوي؛ لأن القضاء يحكي الأداء، لكن ذلك لا يجب؛ لأن الوجوب في الجماعة إنما وردت أدلتها في الحاضرة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فنقول: الأصل أن الإنسان يخرج من عهدة الطلب بيقين، وهذه قاعدة: من شك هل وجبت عليه أم لا؟ فنقول: الواجب هو أن يخرج من عهدة الطلب بيقين؛ لأن اليقين أنه يجب عليه أن يصليها، فإذا شك هل صلاها أم لا فالأصل أنه لم يصلها، فلا بد أن يخرج من عهدة الطلب بيقين، وهذا هو الراجح، وهو مذهب جماهير أهل العلم.
ستر العورة مر معنا حينما ذكرنا شروط الصلاة على عجل، وقلنا: إن من شروطها ستر العورة، وقد قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: وأجمعوا على فساد من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً.
يعني: أن الرجل الذي ترك لبس الثياب، وصلى وهو عريان من غير عذر ولا حاجة فصلاته لا تصح.
وأما إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإن في المسألة خلافاً، فذهب مالك في أحد قوليه: إلى أن صلاة الجاهل والناسي صحيحة، وأن ستر العورة إنما جاء الأمر به، ولم يأت دليل على بطلان الصلاة بتركه، ويقول مالك في هذا: إن هذا يدل على أنه ليس بشرط؛ لأن الشرط فيه دليلان: دليل على الأمر به، ودليل على عدم صحة الصلاة في تركه، قال: ولم يأت دليل على الثاني بخلاف الأول، فالطهارة جاء الأمر بها، وجاء الأمر بعدم صحة الصلاة عند تركها: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، قال: والشرط هو الذي لا يسقط بجهل ولا نسيان، فإن الشرط هذا حاله، فإذا صلى وقد بدا شيء من عورته، فإنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإنه قد ثبت الدليل على أن صلاته صحيحة؛ خاصة إذا كان يسيراً، كما ثبت ذلك عند البخاري من حديث عمرو بن سلمة عندما كان صغيراً، فأم القوم وكان أكثرهم قرآناً، قال: ( فأممتهم وأنا ابن ست أو ابن سبع سنين، وكنت إذا سجدت خرجت إستي -يعني: شيئاً من دبره- فكانت بعض النساء تقول: غطوا عنا عورة قارئكم، قال: فاشتروا لي بردةً عمانيةً، فما فرحت بعد الإسلام فرحي بمثل هذه البردة ).
فدل ذلك على علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يأمرهم بالإعادة، ولا أمر هذا الصبي بالإعادة، فدل ذلك على أن ستر العورة واجب، إذا تركها عن عمد فإن صلاته لا تصح، وأما إذا كان عن جهل وخاصةً إذا لم يفحش كما سوف يأتي بيانه، فإن المسألة يخف فيها الحكم.
ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه الخمسة إلا النسائي من حديث عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، وهذا يدل على وجوب ستر عورة المرأة وهو رأسها، وأنه لا تصح الصلاة بدونه.
وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم، وقالوا: رواه حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن صفية وهي بنت الحارث ، عن عائشة مرفوعاً، وأكثر الرواة رووه عن محمد بن سيرين مرسلاً، وعن عائشة موقوفاً، يقول الدارقطني : وهذا أشبه بالصواب، فرواه السختياني وغيره عن محمد بن سيرين : أن عائشة دخلت على صفية بنت الحارث فحدثتها بهذا الحديث، وهذا يدل على علتين: الإرسال وأنه موقوف من قول عائشة .
فلو أن رجلاً في مكان مظلم، وعليه سروال قصير، مثل الذي يسمونه العامة (شورت)، وهو لا يرى عورته، فهل تصح الصلاة مع قدرته على ستر العورة؟
نقول: لا تصح بإجماع أهل العلم، وكذلك المرأة إذا كانت في ظلمة فيجب عليها أن تستر عورتها في الصلاة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فمثلاً: الآن أنتم لا تعلمون ما خلف ثوب هذا الشخص من سواد أو بياض، وإن كان بعضهم يقول: ليس بسواد خالص، نحن نقول: نعم، لكن لا تدرك ولا تميز بين أن تكون البشرة بيضاء أم سمراء أم غير ذلك، فهذا يدل على جواز لبسه، وعلى هذا فإذا كان يظهر ظهوراً واضحاً فإن الصلاة لا تصح.
وعلى هذا فينبغي للإخوة الذين يصلون في ثوب شفاف، وقد لبسوا السراويل القصيرة أن يحتاطوا، وربما بدا بياض الفخذ ظاهراً ومميزاً، فهذا لا تصح الصلاة فيه، أما إذا كان لا يميز وإن كان يبدو حجم العضو، فإن الصلاة صحيحة، وإن كان مالك رحمه الله يرى عدم ذلك كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.
إذا ثبت هذا فهل يجوز أن يصلي بثوب يظهر منه تقاطيع الجسد؟
بمعنى أن المرأة تلبس البنطال، ويظهر تقاطيعها؟
جمهور أهل العلم قالوا: إن الصلاة صحيحة، أهم شيء أن تغطي ما وجب أن تغطيه من الرأس، والجسد، والرقبة، وغير ذلك، وإن لبست بنطالاً فإن الصلاة صحيحة.
وذهب مالك إلى أن المرأة لا تلبس ما يظهر تقاطيع جسدها ولو كانت وحدها في الصلاة، وهذا القول جيد؛ لكن ليس معناه أنه لا تصح الصلاة، وقد قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: الثياب التي تبدي تقاطيع خلقها والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة، فإن المرأة تنهى عنه، وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهياها عن ذلك، وهذا في غير الصلاة وأما في الصلاة فهو أولى وأحوط.
وهذا يدل على أن لبس البنطال إذا كان يظهر منه الفخذ، وتقاطيع الفخذ، فإن المرأة تنهى عن ذلك، إلا لزوج، أو طفل صغير لا يدرك ولا يميز، أما المحارم أو النساء فإن ذلك ينهى عنه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم؛ وذلك لأن المرأة مأمورة ألا تكشف أمام نسائها إلا ما تكشفه أمام محارمها؛ لأن الله لم يفرق في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ [النور:31]، فجعل المرأة مع المرأة كالمرأة مع محارمها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والراجح أنها ليست من العورة، والدليل أن الرجل عورته في الصلاة وخارج الصلاة واحدة، ما ثبت في صحيح البخاري : ( أن
وأما ما فوق ذلك فهذا هو العورة، كما ثبت عند البخاري معلقاً بصيغة التمريض، ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس ، ومن حديث جرهد ، ومن حديث محمد بن مسلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غط فخذك فإن الفخذَ عورة )، فهذا يدل على أن الفخذ عورة في الصلاة خاصة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا هو قول الأئمة الأربعة.
فإن كان لعذر فإن الصلاة صحيحة، وهذا قول عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الثوب ضيقاً فاشدده على حقوك، وإن كان واسعاً فالتحف به ).
وجه الدلالة: أن الإنسان المعذور يجوز له أن يصلي وقد غطى من السرة إلى الركبة، ولم يغط منكبيه، فدل ذلك على أن ذلك معذور.
وأما غير المعذور فذهب عامة الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد : أن الصلاة صحيحة، على خلاف بينهم: هل يكره أم لا يكره؟
واستدلوا على ذلك بأن حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري و مسلم : ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه -أو وفي رواية: على عاتقيه- منه شيء )، فقالوا: إن هذا يدل على النهي، والنهي يقتضي الكراهة.
والقول الثاني في المسألة هو مذهب الحنابلة: أن الصلاة بذلك من غير عذر حرام، وهل تبطل الصلاة؟ قال بعض الحنابلة تبطل، والراجح أن الصلاة صحيحة ولو كان متعمداً، ولكنه يأثم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ومما يدل على ذلك أن جابراً رضي الله عنه صلى في ثوب واحد، وليس على عاتقيه منه شيء في النفل، والقاعدة: أن ما ثبت في النفل جاز في الفرض، إلا بدليل، ولا دليل يمنع.
وقولنا: (إلا بدليل)، فكل ما ثبت في النفل جاز في الفرض، فإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في النفل جاز أن نفعله في الفرض، ولم نقل: يستحب؛ لأن الفرض أعلى، إلا بدليل يدل على النهي، فإذا صلى صلى الله عليه وسلم قاعداً أثناء صلاة النافلة، فإننا نقول: لا يجوز له أن يصلي قاعداً في الفرض؛ لأنه جاء الدليل بالمنع وهو قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
إذا ثبت هذا فإن الراجح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن كشف المنكبين لعذر لا تبطل معه الصلاة، ولا يكره، وأما إذا كان لغير عذر فإن الصلاة تصح مع الإثم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا يجب علينا أن نعرف قواعد الأئمة، وندرك ما يكتبون، وماذا يريدون، فمما كتبوا رحمهم الله: أن عورة المرأة في الصلاة يختلف عن عورتها خارج الصلاة، وعندما قالوا: (إلا وجهها وكفيها)، فهل نقول: يحرم على المرأة أن تكشف رأسها وشعرها أمام محارمها؟
الجواب: لا. فإذا قالوا لنا: إن هذا هو النص، فلماذا أولته؟ قلنا: يلزمك على هذا أن تقول: إن كشف الرأس محرم؛ لأنهم يقولون: إلا وجهها وكفيها، ولا قائل بذلك إلا قول عند بعض السلف كما نقل عن الحسن ، وهو قول مندثر، فدل ذلك على أن المقصود هو الصلاة، وليس المقصود خارج الصلاة.
إذا ثبت هذا، فإن المرأة يجب عليها أن تغطي سائر بدنها: رأسها، ورقبتها، وذراعيها، وجسدها، وساقها، وكل شيء منها ما عدا ثلاثة أعضاء فيها خلاف:
الأول: كشف الوجه، وهذا جائز بالإجماع، ويكره لها أن تغطيه من غير حاجة، كما لو كانت وحدها وغطت وجهها نقول: يكره ذلك؛ لأن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، والسنة في السجود ألا يسجد وعليه شيء من الثياب التي تسجد عليها إلا لحاجة.
الثاني: اليدان، وهذا أيضاً محل إجماع عندهم على أن اليدين تكشفان في الصلاة، وعلى هذا فيكره تغطيتهما في الصلاة إلا لحاجة، ومعنى (لحاجة) إذا كانت أمام الأجانب، وأما إذا كانت في مصلى وحدها فإن السنة أن تخلع القفازين، وتسجد بيديها؛ لقول ابن عمر : (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه)، وهذا يدل على أن المرأة مأمورة أن تخلع القفازين أثناء الصلاة إذا لم يكن عندها أجانب، وهذه مسألة مهمة، فإن صلت وعليها القفازان فصلاتها صحيحة، لكن ذلك مكروه؛ لأنه السنة أن تسجد على أعضائها من غير حائل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الثالث: الرجلان، فهل يجوز كشفهما؟
قلنا: الوجه يجوز كشفه، ويكره تغطيته في الصلاة من غير حاجة، واليدان يجوز كشفهما، ويكره تغطيتهما من غير حاجة، جاءت مسألة الرجلين، فاختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب مالك و الشافعي و أحمد في المشهور عندهم إلى وجوب تغطية القدمين.
واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من حديث محمد بن زيد ، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حينما سألته
وأما رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن محمد بن زيد ، عن أم سلمة ، فإن عبد الرحمن ليس بالقوي، ولا يقبل حديثه إذا خالف الثقات كـمالك بن أنس ، فهو جبل الحفظ رحمه الله ورضي عن أئمة سلفنا رحمهم الله تعالى.
إذا ثبت هذا فإن الجمهور قالوا: هذا يدل على أن المرأة مأمورة بتغطية القدمين.
والقول الثاني في المسألة هو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قالوا: إن ذلك لا يجب.
وما تقولون في حديث أم سلمة ؟ قالوا: لنا عليه أجوبة:
الجواب الأول: أن الصحيح أنه لا يصح مرفوعاً، كما حكم بذلك أبو داود و الدارقطني و عبد الحق الإشبيلي ، وغيرهم.
الثاني: أن الحديث موقوف.
الثالث: أننا لو افترضنا أنه مرفوع، وأنه صحيح، فلا يدل على ما ذهبتم إليه، كيف نعرف هذا؟ قالوا: هب أن الحديث صحيح، قالوا: فليس فيه دلالة على أن ما ذهبتم إليه يجب تغطيته، وبيان ذلك فيما يأتي:
يقول أبو العباس بن تيمية : إن هذا الحديث ليس فيه دلالة على وجوب تغطية القدمين؛ لأن تغطية القدمين على قولكم: واجبة في ظهورهما وفي بطونهما، والمرأة إذا لبست ثوباً يغطي ظهور قدميها فلو سجدت فقد يظهر باطن الرجل، فلو كان واجباً عليها لأمرت بالتحري لمثل ذلك، وهذا كما يقول ابن تيمية : فيه حرج عظيم، هذا ناهيك عن أن الحديث موقوف، وهو مع وقفه فيه جهالة.
مما يدل على قوة هذا القول ما قاله ابن تيمية : ومن المعلوم أن الصحابيات كن في وقت حاجة وفقر، ولم يكن عندهن ثياب يصلين فيها إلا الثوب الذي تصلي فيه المرأة في درع وخمار، ومن المعلوم أن الدرع في العادة هو إلى العقبين، و أم سلمة عندما قالت: ( إذاً تنكشف أقدامهن )، إنما كان ذلك أمام الرجال، وأما في الصلاة فإن المرأة تصلي في درع وخمار، كما سوف يأتي إن شاء الله بيانه هذا، فهذا يدل على أن تغطية القدمين مستحبة وليست بواجبة.
وعلى هذا فنقول للأخوات اللاتي يصلين: إن المرأة إذا أخرجت كفيها، وأخرجت وجهها، وأخرجت رجليها؛ فإن صلاتها صحيحة، ولا بأس بذلك، خلافاً لجمهور أهل العلم الذين قالوا بوجوب تغطية القدمين فالراجح عدم الوجوب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وإن السنة في حق المرأة أن تلبس درعاً وخماراً، ومعنى الدرع هو الثوب مثل القميص، والخمار تغطي به رأسها، فإذا غطت رأسها فإنه يجب عليها أن تغطي رأسها ورقبتها، وقد نقل الإجماع على وجوب تغطية الرأس في الصلاة الترمذي و ابن المنذر ، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس جلالة أو كما يسميها النساء ثوباً تحنك فيه حنكة بحيث يظهر مقدم شعرها، فهذا محرم، بل يجب عليها أن تحنك نفسها بحيث لا يظهر شيء من شعرها، أو أنها تحنك ويخرج شيء من شعرها من الطرف، فيجب عليها أن تجمعه لأجل ألا يخرج؛ لأن تغطية الشعر واجبة ومحل إجماع عند أهل العلم، فإذا غطت فلا حرج عليها؛ ولكن الأفضل أن تلبس شيئاً فضفاضاً ولا تلبس ثياباً ضيقة كالبنطال وغيره؛ لأن ذلك قد نهى عنه مالك ، وهو ظاهر كلام أبي العباس بن تيمية ، وقلنا: إن الصلاة صحيحة، ولكن الأفضل أن تلبس ثياباً سابغةً.
لعل في هذا كفاية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر