الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله ممساكم بكل خير ومسرة.
وأحيي الإخوة الذين معنا في الأستديو، وكذلك أرحب بالإخوة والأخوات الذين هم من طلاب الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وكذلك أرحب بالذين يستمعوننا خلف هذه الشاشة.
وكنا أيها الإخوة والأخوات تحدثنا عن شرط من شروط الصلاة، وهو اجتناب الخبث، وذكرنا المواضع التي ينهى عن الصلاة فيها، فذكرنا منها المقبرة والحمام والحشوش ومعاطن الإبل، وقلنا: لا تصح الصلاة في المقبرة على الراجح حتى ولو قلنا إن الدماء طاهرة، خلافاً للشافعية، وكذلك لا تصح الصلاة في الحمام؛ لأنه مأوى الشياطين، فلا تصح ولو افترض أن الماء الذي يكون في الحمام طاهراً؛ وكذلك لا تصح في معاطن الإبل؛ لأنها خلقت من جن، خلافاً للحنابلة الذين منعوا من ذلك لأجل التعبد. وفي هذه الحلقة سوف نكمل هذه المواضع، وبعد ذلك ندلف إلى شرط آخر من شروط الصلاة.
ومن ذلك إذا كان ذلك في الحجر، فإن الحجر ليس كله خارج الكعبة، وليس كله داخل الكعبة، فإن الذي داخل الكعبة هو ستة أذرع وشيء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة ، فقد ذكرت أن فيه خمسة أذرع، وفي حديث ابن عباس عند مسلم : أن عبد الله بن الزبير أدخل فيه مسافة ستة أذرع وشيئاً، كما حكى ذلك أهل العلم، وعلى هذا فالقوس المحيط بالحجر الذي تسميه العامة حجر إسماعيل، ولم يصح تسميته حجر إسماعيل عند الصحابة ولا عند القرون المفضلة، وإنما تداوله الناس والفقهاء من المتأخرين، فهذا ليس هو من البيت، وإنما الذي في البيت هو من مسامتة الكعبة إلى ستة أذرع وشيء من جهة الحجر، وأما الباقي فليس هو من الحجر.
وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الفريضة داخل الكعبة، أو في سطح بيت الله تعالى على قولين:
القول الأول: هو المنع، فقالوا: لا تصح صلاة الفريضة في الكعبة، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمزبلة، والحمام، وفوق ظهر بيت الله تعالى.. ) الحديث.
قالوا: فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى، قالوا: والنهي يقتضي الفساد.
والجواب على هذا: أن هذا الحديث ضعيف، فإن مداره على زيد بن جبيرة يرويه عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، و زيد بن جبيرة ليس من أهل العلم الأقوياء، فإن البخاري حكم عليه بأنه منكر الحديث، وإذا قال البخاري في رجل: إنه منكر الحديث فهذا شديد الضعف، والترمذي رحمه الله أشار إلى أن مدار الحديث على زيد بن جبيرة ، و زيد بن جبيرة ليس بالذي يقبل تفرده، فكيف إذا كان ضعيفاً، وعلى هذا فالحديث لا يصح، وقد حكم أكثر أهل العلم عليه بأنه ضعيف.
وقد جاء من طريق آخر عند ابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه، وفي سنده رجل يقال له: عبد الله بن صالح المصري ، كاتب الليث بن سعد ، ورواه عن الليث بن سعد ، عن عبد الله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهذا الحديث باطل ولا يصح؛ وذلك لأن عبد الله بن صالح المصري ليس بذاك الذي يحفظ قوله، وقد سئل عبد الله بن نافع مولى عبد الله بن عمر ، فقال: إن هذا باطل عن أبي، يعني عن نافع ، فدل ذلك على أنه لا يصح حديث في الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى.
إذا ثبت هذا فإن ما استدل به القائلون بالمنع حديث ضعيف.
واستدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فركع ركعتين قبل الكعبة، ثم قال: هذه القبلة ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل القبلة داخل الكعبة، وإنما قال: هذه القبلة حينما توجه إليها، والمصلي داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إليها، بل متوجهاً فيها، فقالوا: إن هذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (هذه القبلة)، وقد توجه إليها؛ ولهذا قال الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، قالوا: فإن توجه الإنسان إلى الشيء لا يكون مثل توجهه فيه، فدل ذلك على أن هذا مخالف للمأمور؛ لأن الشارع أمر أن نتوجه إلى الكعبة، فإذا كنا في الكعبة فلا نكون قد توجهنا إليها، هذا هو دليل القول الأول.
القول الثاني: هو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد قواها أبو محمد بن قدامة رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: إن الصلاة داخل الكعبة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: ما ثبت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة )، وقد رواه أهل السنن من حديث ابن عمر : ( أنه سأل
وكذلك ما روي في الصحيحين أن ابن عباس حينما سئل عن ذلك قال: ( إنما حدثني
الدليل الثاني: قالوا: ( إن
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت، وأمر عائشة أن تصلي في البيت، ولم يفصل عليه الصلاة والسلام بين أن تصلي فرضاً أو تصلي نفلاً، وإذا أجمعوا على جواز الصلاة نفلاً في الكعبة فكذلك الفريضة، فإنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصلي في الحجر إن أرادت الصلاة في الكعبة، فدل ذلك على أنه لا فرق بين الفرض والنفل؛ لأنه لو كان ثمة فرق لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة ؛ لأن هذا مقام يستدعي التفصيل، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فلما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلي في الحجر إن أردت الصلاة في الكعبة )، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: هذا في الفرض وهذا في النفل، مع قيام هذا الاحتمال، فلما لم يفصل دل على أن المقصود هو كلتا الصلاتين: الفرض والنفل.
وهذا الدليل قوي، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن صلاة الفريضة تصح داخل الكعبة، إلا أننا حينما نقول: تصح، لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً؛ لأن غالب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل الفرض، وفرق كبير بين أن نقول: هذا جائز، أو نقول: هذا مستحب، فنقول: تجوز صلاة الفريضة في الكعبة لكن لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً، فهو جائز، ولكن الأفضل أن يستقبل القبلة كلها؛ لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].
الجواب على ذلك: إذا قلنا: إن الصلاة في البيت صحيحة، فكذلك فوق ظهر بيت الله تعالى، شريطة أن يبقى شاخص من الكعبة يتوجه إليه المصلي، مثل أن يكون بعض الجدر قدر سترة يصلي إليها، فإن لم يوجد شيء فإن أهل العلم قالوا: لا يصح أن يصلي فوق ظهر بيت الله تعالى، كما ذكر ذلك الحنابلة و أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وسواء كان هذا الشاخص منها أو من غيرها، فالصلاة صحيحة.
ومعنى قولنا: (منها) أي جزء من بناء الكعبة، مثل الجدار الصغير الموجود اليوم فوق السطح، فهذا منها، فلو صلى إليه فلا حرج.
أو يكون الشاخص داخلاً فيها ولو لم يكن منها، مثل أن يضع سترة داخل الكعبة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى؛ وذلك لأن الأزرقي روى أن ابن عباس أخبر عبد الله بن الزبير حينما جاء الحجاج فرمى الكعبة بالمنجنيق فهدمت فقال: مر بالكعبة أن توضع لها الخشب والستور، كيف يطوف الناس على ذلك أو يصلون إليه، ومن المعلوم أن الستور والخشب ليست من الكعبة، ومع ذلك فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
وعلى هذا فلو أن إنساناً صلى في الحجر، في الجهة التي هي منحنية، لكنه داخل الحجر، فجعل الكعبة خلفه ثم صلى، لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتجه إلى شيء شاخص؛ نعم سوف يتجه إلى شيء شاخص خارج الكعبة؛ لأننا نقول: إن الشيء المنحني هذا آخره ليس من الكعبة.
ولو وضع سترة فقد اختلف العلماء، فالحنابلة يقولون: حتى في النفل لا يصح؛ لأنه لا بد أن تكون السترة من الكعبة نفسها، وذهب ابن قدامة رحمه الله إلى جواز الصلاة إلى سترة، ولو لم تكن من الكعبة، بل جوز رحمه الله الصلاة ولو لم تكن إلى سترة، استدلالاً بقصة صحة الصلاة لـأبي قبيس ، وأنكر أبو العباس عليه هذا الاستدلال، وقال: لأن ثمة فرقاً بين أن يصلي إلى جهتها ولو كان غير مسامت لها، وبين أن يصلي فوق ظهرها، وقول أبي العباس أقوى، ولهذا نقول: الأولى أن يصلي إلى شاخص، والأفضل أن يكون الشاخص منها، فإن لم يكن فليضع سترة، فإن لم يكن فلا يصح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة في المجزرة لا تصح، وهذا مذهب الحنابلة، سواء كان فيها دم مسفوح، أو لم يكن فيها دم مسفوح فإن الصلاة فيها منهي عنها، والنهي يقتضي الفساد، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر الذي مر معنا، وهو: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبع مواطن، وذكر منها: المجزرة )، وقلنا: إن الحديث في سنده ضعف.
وعلى هذا فإن الحنابلة يمنعون من الصلاة في المجزرة سواء كان فيها دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح نجس، أو لم يكن فيها دم مسفوح؛ لأن هذا فيه نوع من الاستقذار.
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: إن الصلاة في المجزرة على نوعين: إن كان فيها دم مسفوح فلا تصح؛ لأنه صلى في مكان نجس؛ لأن الدم المسفوح نجس؛ لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام:145]، فإنه رجس.
وإن لم يكن فيها دم مسفوح فإن الصلاة تصح، إلا أنها مكروهة، أما دليل الصحة فقالوا: لأنها بقعة طاهرة، ولم يأت ما يدل على المنع، والحديث الوارد فيها ضعيف.
قالوا: وأما قولنا: إنها مكروهة فلأمور:
أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر )، ومن المعلوم أن المجازر لا بد أن يحصل فيها شيء من القذر، ولو لم يكن فيها إلا وسوسة الإنسان حال صلاته وعدم خشوعه، لكفى في ذلك كراهة، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( اذهبوا بهذه الخميصة وائتوني بأنبجانية
والمزبلة مكان القمامة، فإن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إن الصلاة في المزبلة لا تصح، سواء كان فيها نجاسة، أو لم يكن فيها نجاسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر )، قالوا: فدل ذلك على أن هذه ليست من المساجد؛ لأن المساجد محمية من القذر والبول. هذا هو القول الأول.
والقول الثاني: هو مذهب جماهير أهل العلم، فقالوا: إن الصلاة في المزبلة على حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان فيها نجاسة فإن الصلاة فيها لا تصح؛ لأنه يجب أن تكون البقعة حال الصلاة طاهرة، وهذا لا إشكال فيه كما مر معنا، وقلنا: إن عامة أهل العلم على عدم الصحة مع العمد، وأما مع الجهل فبعض أهل العلم -وهو مذهب مالك - يرى أنها واجبة، تسقط مع العجز أو الجهل أو النسيان.
الحال الثانية: إذا كانت المزبلة ليس فيها نجاسة، إنما فيها شيء من الأطعمة العفنة أو الروائح، قالوا: فإن الصلاة تصح مع الكراهة.
قالوا: أما قولنا بأن الصلاة تصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنما هو مسجد )،كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كل بقعة مسجداً، قالوا: ولم يستثن صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا شيئين كما عند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام )، فإذا لم تكن هناك مقبرة أو حمام فالصلاة صحيحة.
قالوا: وأما قولنا إنها مكروهة فلأن الصلاة في مثل هذه الأماكن لا يخلو من انشغال، والدليل على ذلك أن الإنسان إذا صلى في المزبلة فإنه يتأذى بالرائحة أو عدم الانشراح في السجود، ولا شك أن مثل هذه الأشياء مدعاة إلى أن ينشغل الإنسان في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في حضرة طعام، أو وهو يدافعه الأخبثان، وعن الصلاة فيما يشغله من الألبسة، فقال: ( إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي )، فدل ذلك على أن أقل الأحوال أنها مكروهة.
قالوا: ومما يدل على الصحة: أن المزبلة هي ما يستقذره الإنسان في الغالب، وقد سئل صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: صل في مرابض الغنم )، ومن المعلوم أن مرابض الغنم فيها بعرها، ومع ذلك جاز الصلاة فيها، فدل ذلك على أن ما يستقذر لا يمنع من الصحة إذا كانت البقعة طاهرة، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإن كانت لا تسلك فالأقرب وهو قول عامة أهل العلم: أن ذلك لا بأس به.
وإن كانت تسلك فإن الحنابلة منعوا من الصلاة في قارعة الطريق؛ قالوا: لأن الإنسان لا يسلم من مار بين يديه، ومن أذية له أو عليه.
قالوا: ولورود ذلك في حديث ابن عمر .
وكل هذه التعاليل لا تقوى بجانب حديث أبي سعيد الخدري : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، فدل ذلك على أن قارعة الطريق مسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنما هو مسجد )، لكننا مع قولنا بجواز الصلاة نقول: إن ذلك مكروه؛ لأن الإنسان لا يسلم فيها من انشغال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى شيء، فإذا أراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، ومن المعلوم أن الذي يصلي في قارعة الطريق خاصةً إذا كانت مسلوكة سابلة فإن الناس يشغلونه أو هو يشغلهم، وهذا بلا شك مدعاة إلى أن الإنسان يَذهب عنه الخشوع، ويكون مقاتلاً للمصلين الذين يمرون بين يديه.
فقد ذكرنا الشرط الأول وهو: دخول الوقت. والثاني: الطهارة من الحدث. والثالث: الطهارة من الخبث. والرابع: ستر العورة. فالخامس هو استقبال القبلة.
ومما يدل على أمر الشارع باستقبال القبلة قوله سبحانه وتعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فأمر الله سبحانه وتعالى بأن يستقبل البيت والمسجد الحرام حال الصلاة، وإذا أطلق المسجد الحرام فقد يقصد به الحرم، لكن المقصود هنا الكعبة، كما قال تعالى: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، ومن إطلاق المسجد الحرام على الحرم قول الله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فليس المقصود أن يدخلوا الكعبة، بل المقصود هو الحرم، وقد ذكر بعض المالكية الإجماع على أن التضعيف في الحرم كالتضعيف في المسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة، وهذا قول عامة أهل العلم كما سوف يأتي إن شاء الله بيانه وترجيحه.
إذا ثبت هذا فإن استقبال القبلة مأمور به للآية، ولما جاء في الصحيحين في قصة المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر )، فأمره باستقبال القبلة.
الحال الأولى: العاجز، كالمربوط إلى غير القبلة، أو الذي عجز عن معرفة القبلة إلا بالاجتهاد فأخطأ فيه، أو عند اشتداد الحرب، فإن الله سبحانه وتعالى قال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة:239]، فهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يصلي حال الحرب إلى غير القبلة.
وقد استدل بعض أهل العلم على حال العجز وعدم المعرفة بما رواه الترمذي من حديث عامر بن ربيعة أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ظلمة، قال: فاختلفنا، فصلى كل واحد منا إلى جهة، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة، فأنزل الله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] )، وهذا الحديث رواه الترمذي ، وفي سنده ضعف؛ وذلك لأنه يرويه أشعث بن سعيد السمان ، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر ، وقد ضعف أهل العلم الحديث لأجل هذين الرجلين، فقالوا: إن عاصم بن عبيد الله الذي رواه عن عامر بن ربيعة عن أبيه ضعيف، وكذلك أشعث السمان .
ولهذا فالحديث ضعيف؛ لأن فيه علتين:
أشعث السمان ، وكذلك عاصم بن عبيد الله ، وقد حاول الألباني رحمه الله أن يحسن الحديث، وكذلك أحمد شاكر بدعوى أن أشعث بن السمان لم يتفرد بهذا الحديث، فقد تابعه رجل يقال له: عمرو بن قيس الملائي ، والصحيح أن هذا ليس هو عمرو بن قيس الملائي ، وإنما هو عمر بن قيس المكي ، و عمر بن قيس المكي ضعيف الحديث، بل هو شديد الضعف، فعلى هذا فالحديث لا يصح، ولأجل هذا قال الطبراني : لا يصح هذا الحديث؛ لأنا لا نعرفه إلا من حديث أشعث بن سعيد ، أو قال: أبي الربيع السمان ، وهؤلاء الأئمة إذا أخبرونا بأن مدار الحديث على فلان فإن الأصل هو قولهم، وأن الأحاديث الواردة خلاف ذلك باطلة، أو أنها لا تصح، وعلى هذا فالحديث ضعيف، ولكننا نقول: القاعدة الشرعية: أن الواجب يسقط حال العجز وعدم الإمكان، وهذا هو غاية الواجبات؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فهذا الذي هو عاجز اتقى ربه ما استطاع فصلى.
ومثل ذلك لو كان سرير المريض إلى غير القبلة، ويصعب عليه أن يحوله إلى القبلة، أو يكون مربوطاً وهو يدرك ذلك، فهو يشق عليه أن يتحول، فهذا يكون في حكم العاجز، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).
فهذه ثلاثة قيود، فيجوز للمتنفل إذا كان راكباً ومسافراً أن يصلي إلى غير القبلة، على خلاف سوف يأتي إن شاء الله بيانه: هل يجب أن يستقبل القبلة في تكبيرة الإحرام ثم يسير حيثما توجهت به راحلته أم لا؟
لكنهم قالوا: (المتنفل) فيخرج بذلك المفترض، أي الذي يصلي صلاة الفرض، فإن المتنفل هو الذي يجوز له حال ركوبه وهو مسافر، أي: متوجه حال سفره، وأما الذي يريد صلاة الفرض فإنها لا تصح، وهذا نقصد به حال القدرة، وأما المفترض في الطائرة إذا كان يخشى خروج الوقت فيصلي كيفما اتفق كما سوف يأتي بيانه؛ لأنه عاجز وقولنا: (الراكب) فإن جماهير أهل العلم قالوا: إن المسافر الذي يمشي لا يجوز له أن يصلي إلى غير القبلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما صلى حال ركوبه، ومن المعلوم أن الصحابة كانوا يسافرون ويكون معهم الجمل فيتعقبون عليه، هذا يركب وهذا يمشي، والرسول صلى الله عليه وسلم حصل له ذلك، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي وهو ماش، وهذا هو قول جماهير أهل العلم، خلافاً للحنابلة في رواية، حيث قالوا: إنه يجوز للإنسان أن يتنفل؛ لأن الحكمة من حال الركوب كالحكمة حال المشي؛ لأن الإنسان إنما شرع له أن يتنفل لأجل أن ينشغل حال سفره عن انقطاع مسافته، ولأجل أن يتقرب إلى الله بألوان الطاعات، فهذا يحصل حال السفر في الركوب، وحال السفر في المشي.
والجواب على هذا أن نقول: إن الأصل أن الإنسان يجب عليه حال الصلاة أن يكون واقفاً خاشعاً؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل، فإذا لم يثبت دليل إلا حال الركوب دل ذلك على أن المشي لا يدخل فيه، وهو الأظهر، وهذا اختيار أبي العباس بن تيمية .
وقولنا: (المسافر)، يعني أنه لا يصح ذلك إلا إذا جد به السير، فلو أن مسافراً جالس في البلد، كأن سافر من الرياض إلى مكة، وقال: أريد أن أحضر لأهلي غداءً، وهو الآن سوف يجلس في مكة يومين أو ثلاثة أو أربعة أو غير ذلك، فهل له أن يصلي النفل لغير القبلة؟
الجواب: جمهور أهل العلم قالوا: إن ذلك مخصوص فيما إذا جد به السير، وهذا قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم.
والقول الثاني في المسألة وهو وجه عند الحنابلة قالوا: لا بأس أن يصلي الإنسان إذا كان مسافراً ولو حضر إلى البلد الذي قصدها وكان مقيماً، قالوا: وقد روي ذلك عن أنس .
والراجح -والله أعلم- أن العبادات خاصةً الصلاة مبناها على التوقيف، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما كان في مكة مسافراً أو تبوك أو غير ذلك، كان يتنفل وهو على دابته حينما كان مقيماً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أقرب إلى الطاعات، وأقرب إلى ذكر الله سبحانه وتعالى والتعبد له بالباقيات الصالحات من غيره، فلما لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة الكبار أنهم فعلوا ذلك، دل على أنه لعدم مشروعية ذلك، هذا هو الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الدليل جاء من ثلاثة شواهد:
الأول: حديث عامر بن ربيعة ، كما رواه البخاري و مسلم ، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته، ويومئ إيماءً )، وفي رواية ابن عمر : ( ويوتر عليها، غير أنه لا يصنع ذلك في المكتوبة ).
فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر حال ركوبه وهو مسافر، ويومئ عليها، ولا يصنع ذلك إلا في النافلة.
ولما جاء عند أبي داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كان صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث كان وجه ركابه )، وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم كـالنووي والحافظ ابن حجر كما في البلوغ، و ابن الملقن ، ونقل ذلك عن ابن السكن ، وكذلك المنذري ، قالوا: إن الحديث إسناده جيد.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأنه وإن كان رجاله رجال الحديث الحسن إلا أنه خالف أحاديث الثقات، فإن الحديث الوارد في البخاري ومسلم من حديث ابن عمر ، ومن حديث عامر بن ربيعة ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة حال ركوبه لدابته، قالوا: فدل ذلك على أن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة، والقاعدة: أن الشذوذ في الحديث هو: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، فإذا اعتبرنا أن حديث أنس رجاله ثقات، لكنهم خالفوا من هو أوثق منهم، والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أن أهل العلم مع هذين الحديثين صار لهم قولان:
القول الأول: تصح الصلاة في حق المتنفل الراكب المسافر إذا جد به السير، وأن يصلي سواء كبر إلى القبلة أو لم يكبر إلى القبلة، كل ذلك سواء؛ لحديث عامر بن ربيعة وابن عمر ، فإنهما لم ينقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقبل القبلة حال تكبيرة الإحرام، وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة، فقالوا: إن كان قادراً على أن يكبر جهة القبلة فيجب عليه أن يكبر إلى جهة القبلة، ثم يتجه حيثما كان وجه ركابه، استدلالاً بحديث أنس .
والذي يظهر أن هذين الحديثين إذا قلنا بصحة حديث أنس ، فيدل حديث أنس على الاستحباب، وحديث عامر بن ربيعة و ابن عمر على الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل مرةً هذا، وفعل مرةً هذا، والجمع بين الأحاديث أولى من العمل ببعضها دون بعض، ولهذا نقول: الأقرب أن حديث أنس فعل يدل على الاستحباب، وهذا قال به بعض أهل العلم القائلين بصحة الصلاة من غير توجه إلى القبلة حال تكبيرة الإحرام، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا لعله أرجح.
قالوا: صلاته باطلة سواء كان انحرافه لحاجة أو لغير حاجة، فقالوا: إن جهة سفره هي قبلته.
والقول الثاني في المسألة: قالوا: إن كان يريد أن يتجه إلى جهة الغرب وقبلته إلى جهة الشرق، أو يريد أن يتجه إلى جهة الجنوب وقبلته جهة الشمال فذهب إلى غيرها، فإن كان من غير عذر فصلاته باطلة، وإن كان لعذر فإن الصلاة صحيحة.
وهذا يحصل كثيراً حينما يركب الإنسان الباص متجهاً إلى مكة مثلاً، وهو من أهل الرياض، فأحياناً ينحني صاحب الباص أو قائد السيارة إلى جهة غير جهة الكعبة، فلو قلنا بهذا فإنه لا تصح الصلاة عند الحنابلة، ولا عند الجمهور أيضاً؛ لأن انحناءه لم يكن لعذر، إنما كان لحاجته هو؛ وذلك لقول أنس : ( ثم توجه حيثما كان وجه ركابه ).
إذا ثبت هذا فإن المسلم إذا صلى وهو في الطائرة، أو وهو على الدابة، يجب عليه أن يجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ لحديث جابر : ( يومئ إيماءً، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه )، والله تبارك وتعالى أعلم.
وحديث جابر في سنده بعض الكلام كما ذكر ذلك أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
الحال الأولى: إن كان قريباً من الكعبة بحيث يستطيع أن يراها، فيجب عليه أن يصلي إليها ويصيب عينها، وبالتالي فإن الذين في صحن الكعبة مثلاً إذا اتجهوا إلى جهتها، ولكن لم يصيبوا عينها فصلاتهم غير صحيحة، لأنه واجب عليهم أن يستقبلوا عينها.
وقد أجمعوا على أن كل من كان قادراً على إصابة عينها وهو يراها فيجب عليه أن يصيب عينها، ولهذا تجدون الخطوط التي في الحرم كلها لأجل إصابة عين الكعبة.
الحال الثانية: إذا كان بعيداً عن القبلة، فقد نقل بعضهم الإجماع على أن من كان بعيداً عن الكعبة، فإنه لا يجب عليه إصابة العين، وإنما يكفي استقبال الجهة، حكى الإجماع أبو العباس بن تيمية و ابن مفلح في الفروع، وغير واحد من أهل العلم.
واستدلوا على ذلك بما جاء عند الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، وهذا خطاب لأهل المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة، وخاطب أصحابه، فأهل المدينة يتجهون جهة الجنوب، فجهة الجنوب كلها في حق أهل المدينة قبلة، فدل ذلك على أنه لا يلزم إصابة العين.
وقد أجمع المسلمون على أن جميع المساجد الموجودة في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر وعمر أنهم كانوا يصلون إلى جهتها، ولو افترض وجود خط فإنه قد لا يصيب العين، فدل ذلك على أن صلاتهم صحيحة.
ومما يدل على ذلك أنهم أجمعوا على أنهم لو صلوا صلاةً بصف طويل، ولو كان هذا الصف طوله يزيد عن مسامتة الكعبة بزيادة وأضعاف مضاعفة، فإن صلاتهم صحيحة.
يقول ابن تيمية و ابن مفلح : أجمع أهل العلم على أن صلاة الصف الطويل الذي هو أطول من مسامتة الكعبة صحيحة، فدل ذلك على أن العبرة حال البعد بالجهة.
أبو العباس بن تيمية رد على هذا القول، وقال: إن الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لو افترضنا صلاة صف طوله أطول من مسامتة الكعبة فإن العلماء أجمعوا على أن صلاة الصف الطويل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة، قال: فلو كانت غير صحيحة لأمروا أن يصلوا في صفوف لا يزيد طولها عن عرض الكعبة.
مثلاً: لنفترض الكعبة عرضها ستة أمتار، فلا بد أن يكون الصف أقل من ذلك، أو ينحنون لأجل إصابة العين، وهذا مخالف للإجماع، ومن ذلك نعلم أن ما يوجد عند الناس اليوم من الأجهزة عن طريق (الأيفون)، أو عن طريق (الجي بي إس)، أو غيرها مما يستعمل لإدراك عين القبلة، هل يجب عليهم أن يصلوا إلى عين القبلة؟ نقول: الأفضل أن يصلوا إليها، ولو انحنوا ذات اليمين أو ذات الشمال فإن الصلاة صحيحة؛ لأنه لا يلزم أن يصيبوا عينها، ولو قلنا: بوجوب ذلك لوجب على الصف الطويل أن ينحني لأجل أن يصيب عين الكعبة، وهذا مخالف للإجماع.
وإلى ذلكم الحين وإلى كل حين نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر