الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخوتي المشاهدين والمشاهدين! حيا الله الإخوة الحاضرين معنا في هذا الأستديو.
وكنا أيها الإخوة قد توقفنا عند بعض مسائل استقبال القبلة، وذكرنا غالبها وأكثرها، ولم يبق منها إلا بعض المسائل لعلنا نكملها إن شاء الله، ثم ندلف إلى الشرط الأخير وهو النية.
وعلى هذا يجب على القادر على معرفة منازل القمر، أو معرفة القطب، أو معرفة النجوم، أن يتعلمها لأجل أن يعرف القبلة.
وفي واقعنا المعاصر يجب عليه أن يتعلم من المحاريب، فإذا دخل إلى بلد إسلامي يسأل عن المحاريب، وكذلك إذا سكن في منزل جديد يجب عليه أن يسأل عن جهه القبلة في هذا الحي؛ لأن بعض الناس لا يهتمون بمثل ذلك، ويكتفون بالسؤال لصاحب الطريق، أو صاحب البيت المستأجر أو غير ذلك، دون علمهم هل هو عالم بالقبلة أو لا!
ولهذا قلنا: يجب على المسلم الاجتهاد لمعرفة القبلة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة، فدل ذلك على أن الإنسان يجب عليه أن يتعلم لمعرفة القبلة، فإن كان جاهلاً أو عامياً، أو لا يستطيع أن يتعلم لأنه لا يعرف منازل القمر، ولا النجوم، وربما لم يرها في ظل وجود الأضواء في الأحياء، فإن الإنسان حينئذٍ يجب عليه أن يقلد ثقةً عدلاً بيقين.
واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث البراء في قصة الصحابة الذين كانوا يصلون وهم في قباء إلى جهة بيت المقدس، فقال وهو في صلاة الفجر: ( أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، وصلاها إلى جهة الكعبة، قال: فاستدروا وهم في الصلاة فأكملوها )، فعملوا بخبر ثقة واحد، وعليه فإن الإنسان إذا أخبره ثقة بأن هذه القبلة، فإنه يجب عليه أن يطيعه، إلا إذا كان عنده شيء من اجتهاد كما سوف يأتي بيانه.
على هذا فإذا سألت المرأة زوجها: أين القبلة؟ فقال: لا أدري، لكن يمكن أن القبلة إلى جهة كذا، وهي لا تعرف مثله، فهنا لا تطعه؛ لأنه ليس بثقة، ومعنى الثقة أن يعرف أو يظن أن عنده اجتهاداً، أما أن يتوقع الإنسان أين القبلة، مثل الذين يدخلون الشقة وهم مسافرون، ولا يسألون صاحب الخدمة الذي يقوم بالإيجار، بل ينظر أحدهم ذات اليمين أو ذات الشمال ثم يصلي، فهذا تفريط، والصلاة ليست صحيحة؛ لأنه لم يكن الاجتهاد عن علم؛ لأن من فعل ذلك لم ينظر إلى الشمس، ولم ينظر إلى القمر، ولم ينظر إلى المنازل، ولم يستعن بأحد، إنما استعان بنفسه التي لم يكن لها خلفية ولا معرفة، وإذا كان كذلك فإنه يأثم الإنسان أن يصلي في الشقة من غير سؤال، ولو أنه بحث فوجد أنه قد ألصق لاصق في جدار الشقة على أن القبلة من هذه الجهة، فهذا بمثابة خبر الثقة.
فإذا ثبت خطأ ذلك فإنه لا يلزمه أن يعيد؛ لأنه كان عن تقليد، أما لو نظر إلى المكان وصلى من غير اجتهاد فإن الحنابلة يقولون: لا تصح صلاته ولو أصاب؛ لأن الواجب في حقه أن يجتهد، أو يقلد خبر ثقة أو عدل، فإذا لم يصنع هذا ولا هذا فقد صلى عن جهل، والراجح والله أعلم أنه إن صلى فيجب عليه أن يعيد إلا أن يكون قد أصاب القبلة؛ لأنه حين إصابته فقد قام بالواجب، والله أعلم.
فما كانت هذه الوسائل إلا لإدراك القبلة، فإذا حصلت القبلة من فعل ولو لم يكن عن اجتهاد فإن الراجح أن الصلاة صحيحة.
المرتبة الأولى: إذا كان قادراً على الاجتهاد فيجب عليه أن يجتهد.
المرتبة الثانية: إذا كان غير قادرعلى الاجتهاد فيجب عليه أن يسأل ويقلد.
فإذا لم يصنع هذا ولا ذاك فلم يجتهد ولم يبحث، بل صلى وهو في الغرفة فإننا نقول: إنه مفرط، والواجب عليه أن يعيد.
ولهذا أنا أنصح الإخوة والأخوات الذين يذهبون في سفرهم ويسكنون في شقق ولا يكلفون أنفسهم السؤال وأقول لهم: إنهم مفرطون، وإنهم واقعون في الإثم، بل إن العلماء رحمهم الله كالحنابلة قالوا: لو صلى بهذه الطريقة لم يكن عن علم واجتهاد، وجب عليه أن يعيد ولو أصاب، والراجح أنه إن أصاب فلا يلزمه.
وعلى هذا ينبغي للإخوة والأخوات خاصةً كبار السن إذا نزلوا إلى منزل جديد أن يكون أول ما يفعلونه أن يعرفوا القبلة، وكثيرة هي الأسئلة التي ترد إلي بقولهم: إنني جلست ثلاثة أيام، وبعضهم يقول: أسبوعاً، وبعضهم يقول: شهراً، فتبين أننا صلينا إلى غير القبلة!
المرتبة الثالثة: أن يكون أخبر فأخطأ في فهمه، مثل أن يذهب إلى صاحب العمارة ويقول: أين القبلة؟ يقول: القبلة جهة كذا، فيصعد إلى غرفته فتختلط عليه الأمور فيظن أن الجهة التي أشار إليها صاحب العمارة هي جهة المشرق، وإذا هي جهة المغرب، فالواقع -والله أعلم- أن هذا لا يلزمه الإعادة؛ لأن هذا اجتهد بخبر ثقة، فلما جاز له أن يعتمد خبر ذلك الثقة، ويجتهد في طريقة فهمه، فلا فرق بين أن يكون الذي اجتهد فيه خبر ثقة، أو اجتهد في معرفة منازل القمر، أو مواقع الشمس وغير ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الحال الأولى: أن يختلفا في الجهة، فيقول أحدهما: القبلة جهة الشرق، ويقول الآخر: القبلة جهة الغرب، أو يقول الآخر: جهة الشمال أو الجنوب وفي هذه المسألة اختلف العلماء فذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يصح أن يقتدي أحدهما بالآخر؛ لأن الاقتداء إنما يصح إذا كانت صلاة المقتدى به في نفسه صحيحة، مثلما لو صلى خلف من يأكل لحم جزور، فإن المقتدى به يراها صحيحة، ولكن المأموم يراها باطلة، ومن صلى خلف من يعتقد صحة صلاته صحت صلاته عند عامة أهل العلم، بل حكى المرداوي أنها صحيحة بلا نزاع.
أما لو صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته لأنه سوف يتجه إلى غير قبلته، فإنها لا تصح، أي: لا يصح أن يأتم بمن يخالفه في القبلة، هذا قول عامة أهل العلم، خلافاً لـأبي ثور ، فإن أبا ثور صحح الصلاة، والراجح والله أعلم أنها لا تصح.
إذا اجتهد شخصان، فقال أحدهما: القبلة جهة الشمال، وقال الآخر: القبلة جهة الجنوب، فلما قال الآخر: القبلة جهة الجنوب شك أحدهما بخبر نفسه أو باجتهاده، فهل يجوز له أن يتابع صاحبه أم لا؟
ذهب بعض أهل العلم وهم الحنابلة إلى أنه لا يصح لمن اجتهد بأن يقلد غيره، ولو غلب على ظنه صدق صاحبه، إلا أن يتيقن خطأ نفسه.
والقول الثاني في المسألة: أن المجتهد إذا غلب على ظنه اجتهاد غيره فلا بأس أن يقلده؛ لأن الأحكام تبنى على غلبة الظن، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود : ( فليتحر الصواب وليبن عليه )، فهو الآن يغلب على ظنه اجتهاد صاحبه، ولهذا أيها الإخوة ما أحلى وما ألذ وما أعذب أن يعلم الفقيه وطالب العلم حال الخلاف كيف يطبق في المسائل الفقهية، فبعض طلاب العلم حينما يسافرون يشكل عليهم مثل هذه المسائل، فإذا أرادوا تنزيلها على واقع كتب الفقهاء لم يستطيعوا، فإذا فصلنا هذه المسألة بهذا الأسلوب السهل، فإننا بإذن الله سوف ندرك كثيراً من المسائل، ويكون عندنا نوع من الملكة الفقهية التي نطبق فيها هذا، ولهذا نفرض أننا أحياناً في سفر مع طلبة علم خارج المملكة، فيختلفون في القبلة، فنقول لهم: على مذهب الحنابلة إذا قال أحدهما: القبلة يميناً، والآخر: شمالاً، وغلب على ظنه صدق صاحبه لا يجوز له التقليد، ولا متابعته، ولا الصلاة معه.
وأما على القول الثاني: فإذا قال: والله أظن أن الصلاة هكذا ولكن لا مانع أن أصلي معك؛ لأنه يمكن صحة صلاتك، نقول: الصحيح أن الصلاة صحيحة، هذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الحال الثانية: إذا اختلف المجتهدان، وكانت الجهة لا تختلف، ولكن الخلاف إنما هو في الانحراف ذات اليمين أو ذات الشمال، كأن يرى كلاهما أن القبلة إلى جهة الشمال، لكن أحدهم يقول: جهة الشمال الشرقي، والآخر يقول: جهة الشمال الغربي، أو يقولان: هي جهة الجنوب، ولكن أحدهما يقول: تميل قليلاً إلى الغرب، والآخر يقول: تميل قليلاً إلى الشرق، فالصلاة صحيحة، هذا قول عامة أهل العلم.
وقولنا: قول عامة أهل العلم؛ لأنه وجد خلاف في المسألة، عند الحنابلة لا يعول عليه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، وهذا خطاب لأهل المدينة من الصحابة، فلما قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) دل على أن كل الجنوب قبلة؛ لأن أهل المدينة يتجهون جهة الجنوب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: يقلد أوثقهما، فإن تساويا عنده أخذ بما شاء؛ لأنه تساوى عنده صدق كل واحد منهما، فأصبح اختلافهما في نظر المقلد مع يقينه لصدقهما بمثابة الاختلاف في الجهة الواحدة في الانحراف ذات اليمين، أو المنحى ذات الشمال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإن قال: كيف أقلد وأنا في بلد كافر؟ قلنا له: يلزمك أن تبحث تقول: أنا الآن في جهة الغرب، إذاً القبلة في جهة الشرق أي أنك إذا اتجهت إلى جهة الغرب فالقبلة سوف تكون جهة الشرق، أو إن شئت تقول: أو الشمال الشرقي أو الجنوبي وغير ذلك، فإنك تستطيع أن تسأل، وهم سوف يجيبونك، فلو قلت: أين السعودية؟ فإنهم سوف يجيبونك في هذا، ولو اكتفوا بالجهة، لكن الواجب عليك أن تجتهد، فإذا لم تجتهد فعليك أن تقلد.
العلماء يقولون: هذا الذي لم يجتهد ولم يقلد لا يخلو من ثلاث أحوال:
الأول: أن يخطئ في القبلة، فيجب عليه أن يعيد؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهو لم يتق الله ما استطاع.
الثاني: ألا يعلم هل أصاب أم لم يصب، وهذا يلزمه أن يعيد؛ لأن الواجب في حقه أن يجتهد أو يقلد ولم يفعل.
الثالث: أن يصيب، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أصاب من غير اجتهاد ولا تقليد فإنه يلزمه أن يعيد.
والراجح والله أعلم أنه لا يلزمه ذلك؛ لأن الاجتهاد إنما هو وسيلة لغاية إصابة القبلة، فإن وقع فالحمد لله، والله أعلم.
وأما في الاصطلاح: فهي عزم القلب على فعل الشيء.
وأنت ترى حينما نقول: (عزم) فإنه يخالف الشك، فهو عزم فيه نوع من قصد حقيقي.
وأما في الاصطلاح الشرعي فإنما هو العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى، فلو عزم على فعل عبادة لم يقصد بها التقرب إلى الله لم تقبل، كما لو عزم على فعل عبادة الوضوء لكن لم يقصد بها التقرب، إنما قصد بها التعليم، أو النظافة، فإن الوضوء حينئذ لا يصح، أو أراد أن يعلم الناس، فإن الصلاة لا تصح، أما لو أراد أن يعلم الناس وينوي الصلاة فالراجح أنها تصح، والدليل ما ثبت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر وقال: أيها الناس! إنما صليت لتعلموا صلاتي )، فالرسول صلى الله عليه وسلم صلى في المنبر لأجل أن يعلم الناس، وهو يريد التقرب إلى الله تعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي، خذوا عني مناسككم )، وهو أراد أن يعلمهم ويفعل العبادة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
أما التلفظ بالنية من غير جهر، وهو الذي يسميه العلماء الإسرار، مثل شخص يريد أن يصلي سواء أكان إماماً أو منفرداً أو مأموماً، فيقول فيما بينه وبين نفسه: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات، الله أكبر، فقد ذهب متأخرو الحنابلة والشافعية إلى استحباب ذلك، والراجح -والله أعلم- أن الاستحباب حكم شرعي، فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مع توفر دواعي نقله، فلما لم ينقل، ولم يفعله أحد من الصحابة، دل على أن ذلك عبادة يتقرب بها إلى الله من غير أصل يعتمد عليه، وهذا يدل على أن ذلك غير مشروع، ونقصد بذلك في الصلاة.
وأما في الحج فهو جائز؛ لأنه قد فعله الصحابة، كما روى الشافعي في مسنده: ( أن
وعلى هذا فإن الراجح أن التلفظ بالنية ولو كان بين الإنسان وبين نفسه غير مشروع، وإن كان نقل عن الشافعي رحمه الله كما روى ذلك الربيع بن سليمان أن الشافعي كان يقول: اللهم إني نويت أن أصلي أربعاً ثم يكبر، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن العبادات مبناها على التوقيف كما يقول الشاطبي في الموافقات، وكما يقول القرافي في الفروق، وكما يقول أبو العباس بن تيمية و ابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.
وعلى هذا نقول: التلفظ إن كان جهراً فبدعة، وإن كان غير جهر فإن المتأخرين من الحنابلة، وكذلك الشافعي يستحبون ذلك، والراجح أن ذلك غير مشروع، والله أعلم.
وقولنا أيضاً: من فوائد النية: التمييز بين العبادات بعضها عن بعض، فإذا أراد أن يصلي فلا بد أن ينويها فرضاً، أو نفلاً، فإن نواها نفلاً ثم قلبها فرضاً فلا يصح إجماعاً، ولو نواها فرضاً ثم قلبها إلى نفل مقيد فلا يصح عند عامة أهل العلم، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله، وعلى هذا فلا بد من التفريق.
نقول: بعض أهل العلم يقول: يجب عليه أن ينوي الفرض، وأن يعين الفرض بالنية.
والصحيح أنه يكفي التعيين بالوقت، فلو دخل الوقت فإنه لا بأس بذلك.
واعلم أن بعض الفقهاء المتأخرين بدأ يبالغ في التفصيل في النية، حتى جعل بعض الناس الذين يقرءون تلك المسائل يقعون في الوسوسة، ولهذا فالأقرب -والله أعلم- ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وهو عدم المبالغة في هذا الأمر، فإن الإنسان من حين نهوضه إلى أداء العبادة، فإنه إنما نهض لأجل أن يفعل العبادة التي حان وقتها.
وحينما دخل دورات المياه والحمام ليتوضأ ويرفع حدثه إنما أراد رفع الحدث، وإنما خرج إلى المسجد لأجل أداء عبادة الظهر أو العصر أو المغرب، وبالتالي ليس هو بحاجة إلى أن يتئد وينظر ويتأخر، كما نراه عند بعض الناس حينما يريد أن يكبر فيتأخر قليلاً يقول: أريد أن أنوي، وهذا فيه مشقة عظيمة، والأقرب أن يكبر ولا حاجة لذلك.
ومما يدل على ذلك ( أن
كذلك إعادة الفريضة، فلو أن شخصاً صلى الفرض ثم أراد أن يعيدها، بحيث رأى رجلاً وحده يصلي فأراد أن يصلي معه، ويحصل على أجر الجماعة، فإنه لا يلزم أن ينوي أنها للظهر أو أنها للعصر؛ لأنها في حكم النفل المطلق في حقه.
الحالة الأولى: أن ينتقل من فرض إلى فرض، مثاله: كبر للظهر، فتذكر أنه صلى الظهر، فأراد أن يقلب إلى العصر.
أو صلى العشاء وهو مسافر، فتذكر أنه لم يصل الفجر، فقال: أصلي الفجر، فقال العلماء: لا تصح صلاة الجميع بالإجماع، فلا تصح الأولى التي كبر لها لأنه قطعها، ولا تصح الثانية لأنه لم يبتدئها بنية جديدة، فتكون الصلاتين الصلاتان أو غير صحيحتين.
الحالة الثانية: أن ينتقل من نفل مطلق إلى فرض، كأن دخل المسجد فتطوع بنفل مطلق، فقال: أنا لم أصل صلاة الظهر، فجعلها صلاة الظهر من غير قطع؛ فلا تصح بالإجماع.
الحالة الثالثة: أن ينتقل من نفل مطلق إلى نفل مقيد كالسنن الرواتب والوتر هذا يسميه العلماء نفلاً مقيداً، فلو أنه دخل توضأ فأراد أن يصلي، ولما كبر قال: أريد أن أجعلها سنة راتبة، نقول: لا يصح، لكنه لو توضأ وجعلها بنية سنة راتبة فإن سنة الوضوء تدخل فيها، كما سوف يأتي إن شاء الله.
الحالة الرابعة: أن ينتقل من نفل مقيد إلى فرض.
الحالة الخامسة: أن ينتقل من فرض إلى نفل مقيد، يعني كبر بسنة الفجر، ثم خشي أن يخرج الوقت، فقال: أجعلها فجراً، فهذا من نفل مقيد إلى فرض، أو صلى بنية صلاة الفجر فتذكر أن الوقت بعيد على إنهائه فقال: أجعلها سنة الفجر؛ فلا يصح من نفل مقيد إلى فرض، ولا من فرض إلى نفل مقيد، وهذا قول عامة أهل العلم.
ودليل هذه الصور كلها قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، فلا تصح فرضاً لأنه قطعها، ولا تصح الأخرى لأنه لم يبتدئها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، والله أعلم.
الحال السادسة: أن ينتقل من نفل مقيد إلى نفل مطلق، أو من فرض إلى نفل مطلق، فهاتان الصورتان تصحان عند عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك.
مثاله: صلى الفرض فتذكر أن الوقت قريب فجعلها من النفل المطلق، فنقول: الصلاة صحيحة.
أو صلى الفرض ثم أراد أن يقلبها نفلاً لأجل أن يدرك الجماعة، نقول: لا حرج؛ لأنه من أعلى إلى أدنى من غير تقييد، هذا هو الصحيح، والله أعلم.
الحالة الأولى: أن يقطع نيته، كأن صلى الظهر ثم قال: أنا صليت وحدي، أريد أن أصلي مع الجماعة، فقطع النية، فصلاته تبطل بالإجماع.
الحالة الثانية: أن يعزم على القطع، أي أنه ما قطع، لكن عزم على القطع وهو يصلي، نقول: أيضاً لا تصح الصلاة؛ لأن النية قد فقدت، وكلاهما تبطل بالإجماع.
الحالة الثالثة: أن يتردد في قطعها، مثل: شخص جاء المسجد ووجد الجماعة قد صلوا، فصلى في ناحية من المسجد، فسمع إماماً يقيم، فقال: أقطعها أو لا أقطعها؟ أقطعها أو لا أقطعها؟ هذا التردد في النية هل تصح معه الصلاة؟ نقول: اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: لا تصح الصلاة مع التردد؛ لأن النية مع التردد تكون كعدمها؛ لأنه مع التردد يخرج عن العزم.
القول الثاني: أن الصلاة مع التردد تصح، قالوا: لأن التردد بالنية هل يقطعها أو لا يقطعها ليس فيه يقين، فنرجع إلى الأصل وهو وجود النية، والقاعدة: إذا تعارضت نية من عدمها فنرجع إلى الأصل، فإذا كان هناك نية قائمة وهي ابتداء الصلاة فإن الصحيح أن الصلاة لا تبطل، ومما يدل على عدم بطلان الصلاة: ( قصة
الحالة الرابعة: إذا علق النية على شيء، يقول: أنا سأصلي، فإذا دق علي زيد في جوالي وقال: أنا عند الباب قطعت الصلاة، وإذا لم يضرب علي في الجوال فإنني أستمر في الصلاة.
أو شخص يريد أن يسافر، فأحب أن يصلي في منزله، فقال: إن اتصل علي زيد قطعت الصلاة؛ لأنه عند الباب، وإذا لم يتصل علي فإنني أستمر، هذا التعليق هل يقطع النية أم لا يقطعها؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين، والراجح والله أعلم أن التعليق لا يبطل النية، ومن ذلك المرأة تقول مثلاً: إن جاءني زوجي أفطرت، هذه النية إذا كان الصوم ليس فرضاً فلا بأس، وإن قالت وهي تصلي: إن جاءني زوجي وطرق الباب قطعت صلاتي، وإن لم يطرق الباب لم أقطع صلاتي، فهذه نية معلقة، والصحيح أنها لا تبطل الصلاة، وهذه تحصل كثيراً عند النساء، والله أعلم.
الحالة الخامسة: أن يعزم على فعل محظور، كأن يعزم على كلام زيد، مثل: زوج ينادي زوجته وهي تصلي، فبدأ يناديها يا فلانة يا فلانة، فعزمت على أن تحدثه، لكنها رأته قد سكت فسكتت، لكنها عازمة على فعل محظور من غير ضرر، فهل تصح النية؟
الراجح وهو مذهب الجمهور: أن العزم على فعل محظور لا يبطل النية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فذهب الحنابلة والجمهور إلى أنه يجب نية الإمامة على الإمام في الفرض؛ فلو أن شخصاً صلى وحده، فجاء شخص فصار معه، يريد أن يأتم به، قالوا: هو حينئذٍ ابتدأ صلاته بنية الانفراد؛ فلا تصح الصلاة إلا إذا كان نفلاً؛ استدلالاً بفعل ابن عباس حينما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم صلاته في الليل بنية الانفراد، فجاء ابن عباس عن يساره فأخذه حتى أقامه عن يمينه. فقالوا: في النفل جائزة.
والراجح والله أعلم هو مذهب الشافعية: أنه لا يشترط ابتداء نية الإمامة في ابتداء الصلاة، وأنه تصح النية للإمامة أثناء الصلاة، وقالوا: إن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل، وما ثبت في النفل جاز في الفرض، وهذه قاعدة أحب أن أشرحها في هذا المقام.
قاعدة: ما ثبت في الفرض ثبت في النفل، هذا هو الأصل: أن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل، وأن ما ثبت في النفل جاز، لماذا نقول: ثبت؟ لأننا لا نقول: مستحب، نقول: يجوز، ما ثبت في النفل يجوز في الفرض إلا بدليل.
ومن الأدلة أن صلاة النفل تجوز للمصلى قاعداً، ولا تجوز صلاة المصلي الفرض قاعداً إلا بعذر وهو العجز، وأما من غير عجز فإن الدليل ثابت أن الصلاة لا تصح، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان يتعوذ بالله إذا سمع آية عذاب، أو يسأل من خيرها إذا سمع آية رحمة في النفل )، نقول: ما ثبت في النفل جاز في الفرض إلا بدليل، وهذا لم نقل: يستحب، بل نقول: جائز، فلو أن شخصاً سمع الإمام في صلاة الفرض يقرأ آية عذاب فقال: أعوذ بالله من النار، نقول: جائز؛ لأنه ثبت في النفل، ولم نقل: مستحب؛ لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في الفرض، فدل ذلك على جوازه.
مثلاً: صلى وحده بنية الفرض وهو منفرد، ثم وجد جماعة فذهب معهم من غير قطع صلاة فصلى معهم، فهل تصح؟
نقول: ذهب الجمهور إلى عدم الصحة؛ لأنه يشترط فيها النية.
وذهب الشافعية وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : أن الصلاة صحيحة؛ لأنه لا فرق بين أن تكون النية أثناء الصلاة، أو في ابتداء الصلاة.
وقد روى البخاري و مسلم من حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلةً في البيت، وكان الجدار قصيراً، فرأى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يصلون بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ فهذا يدل على أنه لا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة، فلو صلى شخص خلف رجل ولم يعلم هذا الرجل الإمام أنه صار إماماً، فإن الراجح والله أعلم أن الصلاة صحيحة، وتكون جماعة بإذن الله سبحانه وتعالى.
صلى إمام بالناس، ثم أراد أن يقطع صلاته، فأراد شخص أن يقوم من المأمومين مقام الإمام فهل يصح؟
للعلماء في هذا تفصيلات، ففرقوا بين شخص ابتدأ الصلاة، فأراد أن يقطعها لا لشيء، كما لو أحس أن أهله ينادونه، وزوجته مثلاً في مكان خطر، فسمع الجوال، أو رأى رسالتها، فهو الآن يريد أن يخرج من الصلاة من غير أن يبطلها قالوا: هنا يصح الاستخلاف، وأما إذا ابتدره الحدث أو تبين أنه لم يكن طاهراً، فإن الحنابلة يقولون: لا يصح الاستخلاف.
وما معنى الاستخلاف؟
الجواب: أن يأتي مأموم فيكون إماماً، قالوا: لأنه يشترط نية الإمامة من ابتداء الصلاة، وهذا المؤتم نوى الائتمام، قالوا: فلا يصح، فيصلون كل واحد وحده وهذا القول الأول.
والقول الثاني في المسألة: وهو أنه لا يشترط نية الإمامة أثناء الصلاة بل يجوز، واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين: (أن
وعلى هذا فإن الإمام إذا أحدث في الصلاة، أو تبين حدثه قبل الصلاة، مثل أن يكون أكل لحم جزور، فإن الراجح -والله أعلم- أنه إذا ذهب فإنه يجوز لأحد المأمومين أن يأتي فيكمل صلاته، واستدل العلماء على جواز ذلك بما فعله عمر بن الخطاب حينما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ، قال: فجعل الناس يسبحون: سبحان الله! سبحان الله! فجاء عبد الرحمن بن عوف فأمهم، فهذا يدل على جواز أصل الاستخلاف، وأن عبد الرحمن بن عوف إنما ابتدأ الصلاة على أنه مؤتم، فدل ذلك على أنه يجوز للمؤتم أن ينوي الإمامة، هذا هو الراجح والله أعلم خلافاً لجمهور أهل العلم.
ولعل في هذا كفاية أيها الإخوة والأخوات، ونكمل إن شاء الله في درس لاحق في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله، على أمل اللقاء بكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر