الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحبتي في الله, أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع ونقول، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بداية وبعد الترحيب بكم من خلف الشاشة أرحب بالإخوة الذي معنا في الأستوديو, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, وأن يجعلنا من الذين لا يشغلهم عن طاعته ولا عن طلب العلم شيء من صوارف الدنيا وملهياتها, إنه على ذلك قدير, فإن الإنسان أحياناً قد تصرفه صوارف عن تعلم العلم وتعليمه, وهذه الصوارف ربما تكون بسبب ذنوبه, وربما تكون بسبب أنه اتبع شيئاً من هواه, فالإنسان أحياناً ربما يترك هذا العلم إلى شيء آخر؛ لأن هواه قد مال به؛ ولأجل هذا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه دائماً، ويتجرد في ذلك، فيقول: اللهم اهدني وسددني, فإن الهداية من الله سبحانه وتعالى فيما يأتي الإنسان ويذر من القربات؛ ولهذا قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6], فكل من قرأ هذه الآية من سورة الفاتحة ينبغي له أن يستشعر طلب الهداية في صغير الأمر وجليله, فإن الإنسان لا غنى له عن رحمة الله وتوفيقه وتسديده.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح وإذا أمسى ثلاثاً: ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك ).
وقلنا أيضاً في درس سابق: أجمع أهل العلم على أن للإنسان أن يصلي من الليل ما شاء, وقد نقل الإجماع أبو عمر بن عبد البر ، وكذلك الإمام العراقي في كتابه: طرح التثريب.
وذكرنا مسألة: هل الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة، أو يصلي ثلاثاً وعشرين ركعة, أو يصلي ستاً وثلاثين ركعة؟
أولاً: نقول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الأفضل أن يصلي الإنسان عشرين ركعة من غير الشفع والوتر, فتكون حينئذ ثلاثاً وعشرين ركعة.
واستدلوا على ذلك بقصة عمر بن الخطاب أنه صلى عشرين ركعة, والراجح أن عمر لم يحفظ عنه أنه أمر بذلك, وإنما كانت تصلى عشرين ركعة في عهد عمر , أما أن عمر أمر بذلك فالراجح أن الحديث في ذلك فيه ضعف.
وقد ثبت أيضاً عن عمر أنه أمر أن تصلى من الليل إحدى عشرة ركعة, وقد صححه كثير من المتأخرين, فـعمر أمر بإحدى عشرة ركعة, وصليت التراويح في عهده ثلاثاً وعشرين ركعة، وسار الناس على ذلك, فكان أهل مكة يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة, ولكن صلاتهم كانت طويلة, فكان أهل التاريخ والسير يقولون: كان أهل مكة يصلون ركعتين ثم ركعتين, ثم يستروحون, فمنهم من كان يأخذ سبعاً في طوافه, ثم بعد ذلك يقومون ويصلون, فسميت تراويح لطولها؛ ولهذا قال السائب بن يزيد : وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام.
فلأجل هذا قالوا: فهذا أمر سار عليه سلف هذه الأمة, فيستحب للناس أن يصلوا ثلاثاً وعشرين ركعة, وهذا كما هو مذهب جماهير أهل العلم.
وذهب بعض أهل الحديث -وهو قول بعض المتأخرين- إلى أن الأفضل أن يصلي الإنسان إحدى عشرة ركعة, كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد سئلت عائشة كما في الصحيحين: ( كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل؟ فقالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة, يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ).
وروى مسلم من حديث عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة, يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرها ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة.
فقال بعضهم: الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.
وأما أبو العباس بن تيمية فقال: السنة أن يصلي كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم كماً وكيفاً, أما إذا لم يصل مثل صلاته صلى الله عليه وسلم كيفاً فإنه يزيد في العدد؛ لأجل أنه إذا زاد في العدد فقد أطال في عبادته, فأما إن كان قد صلى مثلها كيفاً فهذا أفضل ممن صلى كماً من غير كيف.
وعلى هذا فالعبرة بطول القنوت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر عندما سئل عن أفضل الصلاة قال: ( أفضل الصلاة طول القنوت ).
ومن المعلوم أن الذي يصلي ثلاثاً وعشرين ركعة ربما يجلس ساعة ونصف ساعة، أو ساعة وربع ساعة, وأما الذي يصلي إحدى عشرة ركعة، فإن كان يصلي نصف ساعة أو ساعة إلا ربعاً, فنقول: الذي صلى ساعة ونصفاً أفضل من الذي صلى ساعة إلا ربعاً.
وأما من صلى إحدى عشرة ركعة في ساعة ونصف فهو أفضل من الذي صلى ثلاثاً وعشرين ركعة بساعة ونصف, لأنه سوف يطيل الركوع ويطيل القيام ويطيل السجود, ولهذا كان أفضل, وهذا القول من حيث النظر أقوى، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فأما إذا لم يصنع ذلك فلو صلى ثلاثاً وعشرين ركعة فلا حرج في ذلك, والكل متفقون على أن الخلاف إنما هو في الأفضلية.
وعلى هذا فإنه لا ينبغي للإنسان أن يجلس في المسجد الحرام والناس يصلون, وربما تحدث مع غيره وآذوا عباد الله سبحانه وتعالى, ومن المعلوم أنه لا ينبغي للإنسان أن يؤذي عباد الله حتى في قراءة القرآن, وحتى في دعائه, كما جاء عند الإمام أحمد و ابن ماجه من حديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقال: أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة ).
فإذا كانت القراءة ربما آذت بعض المصلين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع الإنسان صوته بقراءة القرآن، فكيف بمن يرفع صوته بحديثه وبسمره وبكلامه؟! فإذا كان هذا النهي عن شيء من العلم فكيف إذا كان الحديث عن الدنيا وصخبها, نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لدينه، وأن يجعل ما نقول ونسمع على سنة خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وأما ما يفعله الإخوة في صلاة التراويح بحيث يجلبون للناس الكسل والخمول، فأحدهم يقرأ: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64], ثم يركع فهذه ليست صلاة، ولهذا أشار ابن تيمية إلى أن العبادات لا ينبغي أن تحور عن أصولها وعن مشروعيتها بحجة تأليف القلوب, فإن بقاء الناس على السنة خير من تحويرها لأجل تأليف القلوب, فإننا نقول: يصلي الناس كما جاء في السنة, فمن أحب أن يصلي ركعتين ويخرج فليفعل، أما أن نغير سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تأليف القلوب, فلقد رأيت مشهداً من صلاة بعض إخواننا في بلاد الترك ما يدعو إلى تعجب الإنسان! وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه وإن كان في سنده بعض الضعف من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاة كنقر الغراب ), فإنك تجد أن الإمام والمأموم يسرعون لأجل أن يدركوا ربع ساعة يصلون فيها إحدى عشرة ركعة، وهذا كله من قلة الطمأنينة!
وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً, ثم ارفع حتى تعتدل قائماً, ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ), والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الأقرب أنه يصلي في النهار ركعتين ركعتين, فإن صلى أربع ركعات بتشهد واحد جاز ذلك؛ لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصنع ذلك, ولم يصح مرفوعاً.
وأما ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر : ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ), فكلمة (والنهار) زيادة تفرد بها علي البارقي ، وهو ليس بالقوي, وقد رواه البخاري و مسلم من غير هذه الزيادة, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
السنن الرواتب إما أن تكون عشراً، وإما أن تكون اثنتي عشرة ركعة, وهي: أربع ركعات بتسليمتين قبل الظهر, وركعتان بعد الظهر, وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر, هذه هي السنة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها كما روى مسلم في صحيحه قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذن الظهر دخل بيتي فصلى أربع ركعات ثم خرج, ثم إنه إذا صلى بالناس دخل بيتي فصلى ركعتين, ثم إنه كان يصلي في بيتي إذا أذن المغرب ثم يخرج إلى الناس, وكان إذا صلى العشاء دخل بيتي فصلى ركعتين ).
وجاء من حديث ابن عمر كما في الصحيحين أنه قال: ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات, وذكر ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها ).
ذهب بعض أهل الحديث إلى أن السنة أن يصلي ركعتين كما اختاره أبو حاتم وغيره، وهو مذهب الحنابلة.
وقال بعضهم: يصلي أربعاً كما قال به بعض أهل الحديث.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن هذا من العبادات المتنوعة, فأحياناً يصلي قبل الظهر أربع ركعات؛ لحديث عائشة عند مسلم , وربما صلى ركعتين لحديث ابن عمر في الصحيحين.
وأما بعد الظهر فيصلي ركعتين, هذه السنة الراتبة.
فإن صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعدها فذلك جائز, لكن لا ينبغي له أن يداوم, فإن داوم فلا حرج.
وأما حديث أم حبيبة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله عليه النار ), فهذا الحديث قواه بعض المتأخرين, ولكن الترمذي ضعفه، وقد رواه أبو داود و الترمذي , وفي سنده رجل يقال له: محمد بن مسلم بن إبراهيم بن مهران ولم يوثقه غير ابن حبان , وقد ضعف الحديث أبو حاتم وأشار إلى ضعفه أبو العباس بن تيمية رحمه الله, وأشار إليه ابن القيم رحمه الله في الزاد, فهذا يدل على أن الحديث فيه نكارة.
والمقصود بالأذانين: الأذان والإقامة, فإن الإقامة تسمى أذاناً إذا جمعت مع الأذان, وأما إذا أفردت فإنها تسمى إقامة أو تثويباً، والله أعلم.
وأما ما جاء عند أبي داود من حديث ابن عمر : ( رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً ), فهذا الحديث في سنده ضعف, فقد ضعفه ابن تيمية و أبو حاتم و الجوزجاني و ابن القيم , وصححه الألباني وبعض المشايخ المتأخرين.
والذي يظهر لي أن الحديث فيه محمد بن إبراهيم بن مهران ولم يوثقه غير ابن حبان , فإن فعل ذلك أحياناً فلا حرج, خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بين كل أذانين صلاة ), وهذا يدل على أنه لو صلى فلا حرج في ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعليه؛ فإن أربع ركعات له أن يفعلها, وكذلك ركعتين؛ لأنه بين كل أذانين صلاة, وإن صلى أربعاً أحياناً فلا حرج, أما أبو العباس بن تيمية فيقول: إذا صلاها فلا ينبغي أن يداوم عليها؛ لأجل ألا يشابه بينها وبين السنن الرواتب.
ويجب التنبه إلى أن السنن الرواتب هذه شيء، وحديث أم حبيبة الذي رواه مسلم شيء آخر, فإن كثيراً من شراح الحديث يذكر في حديث: ( من صلى لله ثنتي عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة ), فقصروها على السنن الرواتب, وهذا ليس بصحيح.
وأما ما جاء في رواية الترمذي و النسائي في هذا الحديث قال: ( ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها, وركعتين قبل العصر ), فهل نقول: للعصر سنة راتبة؟ هذه رواية الترمذي ؛ ولهذا نقول: الراجح أن حديث أم حبيبة يشمل صلاة النهار وصلاة الليل, فلو صلى من الليل ثنتي عشرة ركعة فهو داخل في حديث: (بنى الله له بيتاً في الجنة), ولو صلاها من النهار فهو داخل في الحديث كذلك، ولو صلاها من السنن الرواتب فهو داخل في الحديث كذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة والحنفية والمالكية إلى أنها لا تقضى في أوقات النهي, وذهب الشافعية إلى أنها تقضى في أوقات النهي, ولعل هذا القول أظهر؛ لأن الراجح والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر مع أنه وقت نهي, فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ).
أما من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوص بذلك, فنقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوص بأنه إذا صلى صلاة داوم عليها, فهو صلى الله عليه وسلم لما فاتته الصلاة التي بعد الظهر فصلاها بعد العصر داوم عليها؛ لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين اللتين بعد العصر ثم أثبتها ), يقول إسماعيل بن جعفر : يعني داوم عليها.
فالمداومة بعد العصر إنما هي من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم, خلافاً لما فهمته عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن الزبير , وإلا فكما قال ابن عمر : كان عمر يضرب بالحصباء من صلى بعد العصر ركعتين, وهذا يدل على أن السنة ألا تصلى؛ لحديث أبي سعيد و أبي هريرة : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ), فهذا محفوظ.
وأما فعله صلى الله عليه وسلم فهو مخصوص به, وأما نحن فإننا يجوز لنا أن نقضي السنن الرواتب في أوقات النهي, ومما يدل على ذلك أمران:
الأول: فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى راتبة الظهر كما في الصحيحين بعد العصر.
الثاني: ما رواه أبو داود والإمام أحمد و البيهقي من حديث قيس بن عمرو : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر قام
الراجح أنها تصلى، وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله للأدلة في ذلك:
الدليل الأول: حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ), فدل ذلك على أنه يمكن أن يصلي في أوقات النهي.
الدليل الثاني: ما صح عند البخاري من حديث ابن عمر وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك ), وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحري, ولم ينه عمن صلى لوجود أسباب.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا
الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ), ولم يفصل صلى الله عليه وسلم بين أوقات النهي وغيرها مع أن ذلك موطن حاجة للبيان, فلما لم يبين صلى الله عليه وسلم دل على عموم هذا الأمر, ويقال: إن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
ولو كان محرماً لبينه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, هذه أدلة من قال بجواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
قال ابن تيمية : وإذا نظرنا إلى الأحاديث الثابتة في صلاة ركعتين عند الدخول للمسجد, وسنة الوضوء وغيرها، فإنها من العام المحفوظ, يعني: لم يقل صلى الله عليه وسلم: إلا في أوقات كذا, فدل ذلك على أن المحفوظ لم يخص بشيء, وإذا نظرنا إلى أحاديث النهي وجدناها من العام المخصوص, فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أداء الفرائض في أوقات النهي, وجوزوا في المشهور عندهم أن يصلي في أوقات النهي ركعتي الطواف, فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أم سلمة طافت وصلتها بذي طوى, والغالب أنه لم تطلع الشمس.
فالشاهد من هذا أنه إذا تعارض عام محفوظ وعام مخصوص فالمقدم العام المحفوظ كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية , والعام المحفوظ هو الصلاة في أوقات النهي لذوات الأسباب, والله أعلم.
وأما ما جاء في الحديث الذي رواه ذكوان مولى عائشة عن أم سلمة أنها قالت: ( يا رسول الله! أفنقضيهما- يعني الركعتين اللتين بعد الظهر في أوقات النهي- إذا فاتتا؟ قال: لا ), فهذا الحديث استدل به الحنابلة على أنه لا يشرع قضاء السنة الراتبة في أوقات النهي, وهذا الحديث لو صح لكان حجة, لكن الحديث ضعيف, فقد ضعفه البيهقي والإمام أحمد و أبو حاتم ؛ وذلك لأن الصحيح في رواية ذكوان مولى عائشة إنما هو عن عائشة عن أم سلمة , ولم يكن لـذكوان رواية عن أم سلمة في كتب التراجم.
وعلى هذا فهذا خطأ أخطأ فيه حماد بن سلمة كما أشار إلى ذلك الإمام أحمد و البيهقي وغيرهما.
وأما الحافظ ابن رجب فقد ذكر في فتح الباري قال: وضعفه البيهقي من غير وجه, وهذا الصواب.
وأنا أقول: لو علم الإمام ابن رجب أن الإمام أحمد ضعفه لم يقل هذا؛ لأنه كان معظماً لـأحمد ، وكان متبعاً له في كثير من علل الأحاديث، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فالحديث ضعيف, ومما يدل على ضعفه هو الاختلاف, وقد أشار الدارقطني إلى ذلك الاختلاف, فإن رواية البخاري و مسلم أنه قال: ( أن وفد بني عبد القيس شغلوني عن الركعتين ), وهي من رواية ذكوان مولى عائشة عن عائشة عن أم سلمة , وأما رواية: ( أفنقضيهما إذا فاتتا؟ ), فأسقط فيها رواية عائشة , فدل ذلك على أن الرواية منقطعة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
العلة الثالثة: أن البخاري و مسلماً روياها ولم يذكرا هذه الزيادة.
وبالمناسبة أيها الإخوة! نجد بعض الفقهاء أو بعض أهل الحديث إذا أراد أن يضعف حديثاً يقول: ولم يخرجه البخاري و مسلم .
فنريد أن نحرر هذه المسألة نقول: إن عدم ذكر البخاري و مسلم للرواية في هذا الحديث لا يلزم منه أن يكون ضعيفاً, فإن البخاري و مسلماً لم يقولا إن كتابيهما قد حويا جميع الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما أشار إلى أنهما لا يذكرن إلا الصحيح, والفرق بينهما مفاوز, فـالبخاري و مسلم يقولان: نحن اشترطنا ألا نذكر في كتابينا إلا الصحيح, ولم يشترطا أن يجمعا كل الصحيح, هذا واحد.
وعليه؛ فهناك أحاديث صحيحة لم يخرجها البخاري و مسلم , وقد أشار الدارقطني رحمه الله في كتابه الإلزام والتتبع إلى أن هناك أحاديث لم يذكرها البخاري و مسلم , وهذا لا يلزم؛ لأن البخاري و مسلماً لم يقولا: إنهما قد حويا كل الصحيح، هذه مسألة.
المسألة الأخرى: أن البخاري و مسلماً إذا رويا حديثاً، ثم جاء أحد الرواة أو أحد المسانيد أو السنن، فرووا نفس هذا الحديث وزادوا فيه لفظة, فالغالب -لا أقول: جزماً لكن الأعم الأغلب- أن كل زيادة في رواية قد روى البخاري و مسلم أصلها فإن فيها نكارة, هذا هو الغالب, ولكن ليس على إطلاقه.
فمن الأمثلة التي ليس على إطلاقها هو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أم عطية أنها قالت: ( كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً ), رواه أبو داود بزيادة: ( بعد الطهر شيئاً ), وهذه الزيادة صحيحة ولا إشكال فيها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة فإننا نقول: يستحب للإنسان قضاء السنن الرواتب حتى في أوقات النهي، شريطة ألا يتقصد أن يفعلها في أوقات النهي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها, فتصلوا عند ذلك ).
أولاً: ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربع ركعات، ويزيد ما شاء ).
وإنما لم يداوم صلى الله عليه وسلم على ذلك عندما قالت: ( لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى قط, وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل مخافة أن يفرض على الناس ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك وقال بمشروعية ذلك.
والراجح والله أعلم -وهو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين- أنه إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فالمقدم هو القول؛ ولهذا إنما ترك صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى خشية أن يفرض على الناس.
ومما يدل على استحباب صلاة الضحى: أنه أوصى صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك, فقد صح عن أبي هريرة و أبي الدرداء : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهما بركعتي الضحى ).
ومما يدل على استحبابها: ما ثبت في الصحيح: ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة, فكل تحميدة صدقة, وكل تكبيرة صدقة, وكل تسبيحة صدقة, وأمر بالمعروف صدقة, ونهي عن المنكر صدقة, ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من صلاة الضحى ), وهذا لفظ عام، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: صلى من الليل أو لم يصل.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن من صلى من الليل فإنه لا يستحب له مداومة السنة في الضحى, والراجح: هو أنه يستحب أن يصلي الإنسان سنة الضحى مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها، والقاعدة هي: إذا فعل صلى الله عليه وسلم شيئاً وأمر به فإننا نثبت ذلك الشيء, والله أعلم.
وأما أكثرها فإن الراجح أن للإنسان أن يصلي ما شاء.
وأما ما ذكره الحنابلة وغيرهم أن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات؛ لحديث أم هانئ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثماني ركعات بعد فتح مكة ), فهذا لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثماني ركعات ولم يزد على ذلك.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قد زاد، قول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربعاً ويزيد ما شاء ), فهذا يدل على أن له أن يزيد.
وقد حث على الصلاة في ذلك, فقد روى عمرو بن عبسة كما عند مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، حتى ترتفع ثم صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى ترتفع الشمس ), وجه الدلالة: قوله: (فإن الصلاة مشهودة محضورة), وهذا يدل على أن الملائكة تشهدها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا حد لأكثر من ذلك والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإذا طلعت الشمس فإن الإنسان يمسك عشر دقائق ثم له أن يصلي بعدها.
ومن الأخطاء التي يفعلها كثير من الناس أنهم يظنون أن هذه سنة الإشراق, ولم يقل أحد من الفقهاء: إن اسمها سنة الشروق, وإنما شيء قاله المتأخرون والعامة وغيرهم, ولهذا فإن ما يسميه الناس سنة الإشراق هي سنة الضحى، فهي تبدأ من هذا الوقت.
ولهذا نقول للإخوة: إذا استطاع الإنسان أن يصلي في الساعة الحادية عشرة فهذا أفضل, فإذا خشي ألا يصلي فإنا نقول: يصلي قبل أن يذهب إلى دوامه أربع ركعات, فيصليها ركعتين ركعتين، وهذا أفضل في حقه, وقد جاء في الحديث الذي حسنه السخاوي و السيوطي وإن كان في سنده بعض الكلام: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكاد يخرج من بيته إلا أن يصلي ركعتين ).
الجواب: نحن لم نذكر أوقات النهي, وإن شاء الله سوف نفصلها؛ لكن نقول على إجمال: أوقات النهي.
هي: الأول: من بعد صلاة الفجر حتى طلوع الشمس.
والثاني: ومن طلوع الشمس إلى أن ترتفع قيد رمح.
والثالث: قبل أذان الظهر بعشر دقائق، وهو معنى: حين ترتفع الشمس حتى تزول.
والرابع: بعد صلاة العصر حتى تصفر الشمس.
والخامس: بعد اصفرار الشمس إلى الغروب.
هذه خمسة أوقات، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم, وإن شاء الله سوف نذكرها, وأشدها هي من بعد طلوع الشمس إلى ارتفاعها, ومن بعد اصفرار الشمس إلى الغروب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإذا صلى الإنسان وبقي من الوقت قريب من عشر دقائق فأتمها خفيفة فلا حرج إن شاء الله؛ لأن التقويم الموجود الآن ربما يتقدم قليلاً من باب الاحتياط, فإذا كان الباقي من الوقت خمس دقائق فإن كان قد توضأ فله أن يصلي؛ لأنها من ذوات الأسباب, إذا كان من عادته أن يصليها, وإذا لم يكن من عادته فالأفضل ألا يصلي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فأمسك عن الصلاة فإنها تسجر جهنم حينئذٍ ), فلا يستحب للإنسان أن يصلي في هذا الوقت والله أعلم.
الجواب: الراجح والله أعلم أن صلاة الضحى لا تقضى؛ لأن لها وقتاً، وهذه يقول عنها الفقهاء رحمهم الله: سنة فات محلها, ولهذا لا تقضى سنة الضحى، والله أعلم.
الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بصلاة الضحى كما في حديث أبي الدرداء و أبي هريرة ، وأما فعله فإن الذي يظهر والله أعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعل أحياناً؛ لقول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربعاً ويزيد ما شاء ), وهذا يدل على أن عائشة إنما أخبرت بما سمعت أنه كان يصنع, وإلا فإنها قالت: ( لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها, وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الأمر مخافة أن يفرض على الناس ), وهذا يدل على أن عائشة عندما قالت: (كان يصلي) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ذلك على سبيل الدوام؛ من باب ألا يفرض على الناس, والله أعلم.
أما في حقنا فالسنة أن تفعل دائماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الصحابة بذلك بقوله, والقاعدة: إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فإن المقدم هو قوله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا علينا, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر