الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم. وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وحيا الله الإخوة الذين معنا في الأستوديو.
وكنا أيها الإخوة قد ذكرنا مسائل الإمامة والمأموم، وحكم صلاة المأموم عن يسار إمامه وتقدمه عليه، وأثر الخلاف؟
فكنت أتمنى أن لو سمعنا أجوبة بعض الإخوة عن هذا، والجواب: أنه إمام صلى داخل الكعبة، فكان يصلي في جهة والمأموم يصلي قبالة وجهه، فجهة الإمام غير جهة مأمومه، فصحت صلاة الإمام والمأموم، مع أن جهة كل منهما تختلف عن جهة الآخر.
فالمأموم صلاته من جهة الجنوب مثلاً، والإمام صلاته من جهة الشمال، وإنما تبطل صلاة المأموم؟ إذا تقدم على إمامه في جهة واحدة.
الجواب: تبطل صلاة المأموم إذا تقدم على إمامه كما هو مذهب الجمهور.
أي: إذا رأى الإمام ظهر مأمومه، فيكون حينئذٍ قد تقدم المأموم إمامه، وهذا إذا كان ذلك لغير حاجة، ومن المعلوم أن صلاة المأموم مع إمامه في الكعبة ليس لحاجة، فنذهب إلى اختيار ابن تيمية أن الراجح أن تقدم المأموم إمامه إن كان لحاجة فيصح، وإن كان لغير حاجة فلا يصح، وهنا تقدم المأموم إمامه في داخل الكعبة لغير حاجة، وعليه فلا تصح صلاته.
صورتها: يأتي المأموم فيجد الإمام ومعه مصلون، فيصلي خلف الصف وحده، فما حكم صلاته خلف الصف وحده.
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية والشافعية، أن الصلاة صحيحة مع الكراهة؛ لأنه لم يثبت حديث صحيح يمنع من ذلك.
قالوا: ومما يدل على ذلك دليل أشار إليه الإمام الشافعي في الأم فقال: ومما يدل على أن الصلاة خلف الصف صحيحة ما ثبت عن أنس بن مالك أنه قال: ( فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فصفى، فأمّنا رسول صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا ).
قال الشافعي: فدل ذلك على أن المرأة قد صفّت خلف الصف، والقاعدة أن النساء شقائق الرجال، وهي لما صلت خلف الصف، ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، دل على أن المرأة والرجل سواء في مسألة المصافّة، فهذا استدلال الشافعي رحمه الله، وقد ذكرت هذا الدليل في بعض برامج الإفتاء فتعجب بعض الإخوة، وقال: لماذا تذكر الأدلة البعيدة، وكأنك تخالف ظاهر النص؟!
فالجواب أيها الإخوة: يجب الاعتذار للأئمة الكبار الذين قد قضوا نحبهم في خدمة دينهم وخدمة عقيدتهم وخدمة الفقه الإسلامي، فأخرجوا لنا فقهاً غضاً طرياً إلى يومنا هذا، ننهل من معينه، فلا ينبغي للإنسان أن ينكر على الأئمة إذا كانوا قد استدلوا بأدلة هي محل اهتمامهم ومحل نظرهم ومحل عنايتهم في هذا الأمر، فكونك أنت أيها الطالب، أو كونك أنت أيتها الطالبة تستغربون من هذا الاستدلال، فهذا ربما يكون بسبب قصور وعدم اعتذار للأئمة، وإلا فإن إماماً كالإمام الشافعي رحمه الله، الذي يقول عنه الإمام أحمد : الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للأبدان. فهذا يدل على أن الشافعي له قيمته وله قدره في طريقة استدلاله.
فإذاً: أنا حينما أذكر هذا أريد أن نربي أنفسنا على طريقة الأئمة والاعتذار لهم، وأنهم ما تركوا الدليل الظاهر على أنه دليل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل لأنه لم يبلغهم، أو أنه قد بلغهم بطريق ضعيف، أو أنه بلغهم بطريق صحيح، لكن لهم تأويل في هذا، ولأجل هذا ذكرت هذه المسألة، وعلى هذا فإن جمهور الفقهاء يقولون: تصح الصلاة خلف الصف.
القول الثاني هو مذهب الحنابلة، قالوا: لا تصح الصلاة خلف الصف، سواءً كان عالماً أو جاهلاً أو ناسياً.
واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد و أبو داود من حديث هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة بن معبد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف )، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً صلى خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة، هذا الحديث يرويه هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة بن معبد ، و عمرو بن راشد هذا لم يوثقه غير ابن حبان فقالوا: إن هذا الحديث لا يصح.
والجواب على هذا أن نقول: إن رواية هلال بن يساف عن عمرو بن راشد رواها عمرو بن مرة ولم يتفرد بذلك عمرو بن مرة عن هلال وكذلك عن عمرو بن راشد ، فقد رواه حصين عن هلال بن يساف قال: لقيني زياد بن أبي الجعد ونحن في الرقة، فأخذ بيدي، فأقامني عند شيخ، فقال: لقد حدثني هذا الشيخ وهو يسمع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يعيد الصلاة حينما صلى خلف الصف ).
وهذا شاهد قوي، ولأجل هذا فإن الحديث إسناده جيد، ولم يتفرد وابصة بن معبد في هذا الحديث، فقد وجد شاهد آخر؛ لأننا نقول: إذا تابع الصحابي صحابي آخر سمي شاهداً، وإذا تابع الراوي لراو آخر سمي متابعاً، هذه طريقة أهل الحديث، فنقول: قد روى الإمام أحمد وأهل السنن و الترمذي و الدارقطني و البيهقي من طريق ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر السحيمي عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان السحيمي عن أبيه علي بن شيبان ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف ثم أمره أن يعيد، وقال: لا صلاة لمنفرد خلف الصف ).
وهذا الحديث حسنه الإمام أحمد رحمه الله، وصححه ابن خزيمة ، وقواه ابن القيم ، وهذا الحديث إسناده لا بأس به.
وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن صلاة المرء خلف الصف مع القدرة على الانضمام للصف لا تصح، أما إذا جاء والناس قد اكتملت صفوفهم، ولم يجد هذا المأموم بد من أن يصلي خلف الصف، فما حكم صلاته؟
فنقول: ذهب الحنابلة إلى بطلانها، واختار أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن المأموم إذا جاء فوجد الناس قد اكتملت صفوفهم فإنه لا ينبغي له أن يجذب أحداً؛ لأنه ربما يمنعه من الخشوع في صلاته، وربما اختل الصف كاملاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن تسوية الصف من تمام الصلاة ).
ولهذا يقول ابن تيمية: وغاية ذلك أن الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإدراك وعدم الإمكان، فإذا صلى هذا الرجل خلف الصف لأنه لم يجد مكاناً فإن الصلاة صحيحة، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وحينئذٍ لا نكون قد خالفنا الحديث، وأخذنا بقصة المرأة التي صلت خلف الصف لأنها لم تجد بداً من هذا المكان، فكذلك الذي جاء والإمام يصلي بالناس وقد اكتملت صفوفهم.
فنقول: لا يخلو من حالين:
إما ألا يصلي المأموم، فنقول: إن الصلاة جماعة مأمور بها، أو أن يصلي ويجذب شخصاً؛ فنقول: هذا يخل بصلاة الجماعة، أو يصلي وحده حينما لم يجد بداً، وهذا هو غاية ذلك، يقول ابن تيمية : فإذا كان المرء يجوز له ترك الواجبات في خاصة نفسه، إذا كان ذلك عن عجز وعدم إدراك، فله أن يترك ما كان واجباً في حق الجماعة؛ لأجل عجز وعدم إدراك من باب أولى.
إذاً: فعندنا واجبات الصلاة قسمان: واجبات في حق المصلي نفسه، وواجبات في حق الجماعة، فإذا كان الواجب في حق الشخص نفسه يسقط إذا عجز عنه، فالواجب في حق الجماعة إذا عجز عنه من باب أولى، وهذا القول قوي.
الأقرب والله أعلم صحة إمامة المرأة للنساء، ولعل هذا القول هو قول عامة السلف والخلف.
وأما إمامة المرأة للرجال فقد مرت معنا، وقلنا إن الراجح عدم الصحة، لكن إمامة المرأة للنساء جائزة، وهذا قول عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم أنه لا خلاف في ذلك، كما أشار إلى ذلك ابن حزم في كتاب المحلى بالآثار، لكن كيف تقف المرأة؟
المرأة إذا أمّت النساء فإنها تقف وسطهن، هذا هو قول أم سلمة ، وعائشة ، فقد صح ذلك عنهما، حيث روى ميسرة أبو حازم عن ريطة الحنفية عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت تؤم النساء في الفريضة، وتقوم وسطهن.
وكذلك جاء عند ابن حزم بسند صحيح من طريق أم الحسن بن أبي الحسن وكان اسمها خيرة ، يقول ابن حزم : وهي ثقة مشهورة، قالت: أمتنا أم المؤمنين في الفريضة في المغرب، فجهرت بالقراءة، وأمتنا فقامت وسطنا، وهذا يدل على أن عائشة صح عنها هذا من طريقين.
الأمر الآخر: صح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها صلت وأمّت النساء وسطهن، جاء هذا من طرق رواها البيهقي و ابن حزم وغيرهما، والإسناد عن أم سلمة جيد، جاء من طريقين، عن عطاء عن امرأة، ولكن هذا الإسناد وإن كان فيه بعض الكلام، لكن الأقرب والله أعلم أنه جاء من طريقين، فالذي يظهر والله أعلم أن إسناد أم سلمة وإن كان أقل حالاً من إسناد عائشة رضي الله عنها، لكن الذي يظهر أنه لا بأس به؛ ولهذا جاء من طريق حجيرة عن أم سلمة، وجاء من طريق آخر، وهذا يقوي ذاك؛ ولهذا نقول: إن الأصل جواز ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فنقول: ذهب الحنفية إلى أن صلاة الرجل الذي صافها عن يمينه أو شماله لا تصح، وصلاة الذي خلفها وهو ينظر إليها لا تصح.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصلاة صحيحة مع الكراهة، وهذا هو الراجح، لأن البطلان لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل.
وأما كونها قد خالفت مصافتها المشروعة، فهذا ليس بدليل ظاهر؛ لأن الأصل أن هذا ليس بمأمور ثابت، خاصة عند وجود العذر؛ ولهذا فالراجح هو مذهب جمهور الفقهاء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: لا يخلو اقتداء المأموم خلف إمامه من أن يكون داخل المسجد، أو خارجه.
تصح بإجماع الفقهاء، لأنهما صليا خلف الإمام من غير فذ، وفي المسجد.
إذاً مسألة اتصال الصفوف من عدمها لا علاقة لها بالمسجد.
هذا كما قلت محل إجماع عند أهل العلم؛ أن صلاتهما صحيحة، لكنه يكره؛ لأنهما لم يتقدما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري : ( تقدموا، وأتمّوا بي، وليأتم بكم من خلفكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر عند مسلم : ( مالي أراكم عزين، ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، قالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف ).
وقال صلى الله عليه وسلم، كما عند ابن ماجه و أحمد وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وملائكته يصلّون على الذين يصلون الصفوف)، هذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يتقدم، ولا ينبغي له أن يتأخر.
ومن المؤسف أيها الإخوة والأخوات أن بعض الإخوة حينما يأتي إلى المسجد تجده يكون في آخر المسجد، ولا يتقدم فيكون قريباً من الإمام؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال:( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى )، فينبغي للإنسان أن يتقدم، وأن يكون عن يمين إمامه، فإذا لم يفعل وقف عن يساره، والأصل في هذا أن يكون قريباً من الإمام.
فإن امتلأ المسجد واتصلت الصفوف، فصلى أناس خارج المسجد فصلاتهم صحيحة، وهو قول عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، والاقتداء حاصل هنا.
فالجواب على هذا: أن الأقرب والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أنه إذا كان المأموم يرى الإمام، أو يرى من خلفه، ولم يكن بينهما طرق، أو نهر، أو سكة سالكة، فإن الراجح صحة الصلاة، هذا قول جمهور الفقهاء.
ذهب الحنابلة إلى عدم صحة الصلاة، وهو قول لبعض فقهاء الشافعية.
وذهب المالكية في أحد قوليهم: إلى أن الصلاة صحيحة.
وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله: إلى أنه إذا كان هناك حاجة ماسّة، بحيث امتلأت المساجد، فلا حرج، وهذا يحصل في صلاة التراويح، إذا كان امتلأت المساجد وصار الناس يصلون في الطرقات أو في شارع، فإذا كان هناك حاجة، فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا بأس به، وهذا قول للمالكية وبعض فقهاء الشافعية، وبعض فقهاء الحنابلة، واختاره أبو العباس بن تيمية ، وهذا يحصل ليلة سبعٍ وعشرين في الحرم، فإننا نشاهد أن الجموع تصلي إلى مكان بعيد من الحرم بأكثر من خمسمائة متر، فإذا اتصلت الصفوف، وإن كان بينهما طرق ربما تمشي فيها السيارة، لكنهم بحاجة، ويرون من خلف الإمام، أو قريباً من ذلك.
فالذي يظهر لي والله أعلم أن ذلك إذا كان لحاجة صحت الصلاة، وإذا لم يكن لحاجة فلا داعي؛ لأنه لا حاجة لأن يصلوا بهذه الطريقة.
والآن أحياناً تنزل إلى مواقف الحرم، وأنت قريب من وقف الحرم، فتجد أن الناس يصلون مع أن هذا ليس المسجد، وليست الصفوف متصلة، فالصلاة لا تصح.
ولأجل هذا أيها الإخوة يجب أن ينبه الذين يصلون قريباً من مواقف السيارات، مع العلم أنهم لو صعدوا الدرج لوجدوا مكاناً يمكن أن يصلوا فيها، ولكنهم لأجل إدراك الركعة أحبوا أن يصلوا؛ لأنهم يسمعون الصوت، وهذا لا يكفي، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فنقول: ذهب الحنابلة إلى عدم الصحة، وهو قول لبعض فقهاء الشافعية.
والقول الثاني: الصحة، وهو مذهب مالك وبعض فقهاء الشافعية.
والقول الثالث: اختيار ابن تيمية ، أنه إذا دعت الحاجة إلى ذلك فإنه لا بأس، وإذا لم تدع الحاجة إلى ذلك فلا تصح، وهذا أقرب، والله أعلم.
هذا يحصل كثيراً فيما يفعله بعض الناس، حينما يضعون خياماً للنساء في الصلوات، فربما جاءت المرأة فصلت في هذه الخيمة، مع العلم أنه ربما لو ذهبت إلى مصليات النساء، وزاحمت لوجدت في ذلك مكاناً، فإذا كان في الغالب أن المسجد يمتلئ بالمصلين، خاصة في صلاة التراويح، فالذي يظهر والله أعلم أنه إذا كان هناك حاجة، وأمكن الاقتداء، فإن الصلاة صحيحة.
وأما ما يفعله بعض الناس حينما يصلي، فيجعل المسجد الحرام أمامه، وهو في الغرفة، لكنه لا يرى الإمام، ولا يرى من خلفه، لكن يسمع الصوت بسبب شدة المكرفونات، فأرى أن هذا لا تصح صلاته خلف الإمام.
أما الذين يرون الإمام في الأبراج، ويرون من خلفه، واتصلت في حقهم الصفوف، فأرى أن الصلاة صحيحة، وهذا قول جماهير الفقهاء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الصبي ينقسم إلى قسمين: صبي غير مميز، وصبي مميز.
نعم، يؤتى به إلى المسجد، ويقال له: صل، لكن يصلي آخر الصف، ولا يصلي مع الناس؛ لأجل أن لا يخل بالصلاة، أو يتقدم ولا يصف مع الناس لأجل أن لا يخل بالمصافة، والله أعلم.
الجواب هو: اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فذهب الحنابلة إلى أن مصافة الصبي المميز لا تصح؛ لأنه لا تصح إمامته في الفريضة، فلا تصح مصافته في الفريضة.
والقول الثاني في المسألة، وهو الراجح: أن مصافة الصبي المميز صحيحة؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ( فصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا )، فهذا دليل واضح.
ومن الأدلة أيضا ما ثبت في الصحيحين: ( أن
وما ثبت في النفل ثبت في الفرض، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا كما قلت هو الراجح.
ومما يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة أنه أمّ قومه؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً، وإذا كانت تصح صلاة الصبي المميز إماماً بالمفترض، فلأن تصح مصافته من باب أولى، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وفي المسألة أقوال عند الحنابلة، ففي رواية أنها تصح مصافته في النافلة، ولا تصح مصافته في الفريضة، والراجح هو مذهب الجمهور، أنها تصح مصافته مطلقاً، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
نقول: ذهب الحنابلة إلى أن الصبي المميز إذا كان خلف الإمام، وهناك من هو أكبر منه، فإنه يستحب إبعاده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى )، وأن هذا من باب الأمر.
واستدلوا بما رواه الإمام أحمد من فعل أبي بن كعب أنه أخّر قيس بن عباد وكان صبياً وقال: (لا يسوءك الله، ولكن عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلينا بذلك). وهذا الحديث ذكره ابن مفلح وقواه، وقال: إسناده حسن، والذي يظهر أن الحديث في إسناده ضعف، ولو صح فهو اجتهاد من أبي بن كعب، ومراده بعهد النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى )، فإذا تقدم الصبي قبل الكبير فلا ينبغي إقامته من مكانه، وهذا هو مذهب الشافعي رحمه الله.
وأما حديث: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى )، فهو من باب الحض، وليس من باب الأمر.
قالوا: ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال: ( من قام من مجلسه فهو أحق به، ومن سبق إلى مكان لم يسبق إليه أحد فهو أحق به )، وفي حديث ابن عمر : ( لا يقيم الرجل الرجل من مكانه فيجلس فيه )، وهذا يدل على أنه لا ينبغي إقامته.
ومن المعلوم أن عبد الله بن الزبير كما روى البيهقي في معرفة السنن والآثار، كان يأتي إلى المسجد مبكراً قبل الناس، فكان يسمى: حمامة المسجد؛ ولأجل تقدمه وإبكاره في الحضور كانت أم المؤمنين عائشة تحبه، فلهذا لقبها صلى الله عليه وسلم بأم عبد الله ، وكانت راوية في العلم والأحاديث والشعر كما قال عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: ما رأيت أفقه من عائشة ولا أعلم من عائشة ، إن كان أهل الحديث ليدخلون فتعطيهم حتى يكتبون، ثم يأتي أهل الشعر فتروي لهم حتى يكتبون. وهذا يدل على سعة فقهها وعلمها وإدراكها رضي الله عنها وأرضاها.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( وفضل
الراجح، وهو مذهب جماهير أهل العلم أن الصلاة صحيحة، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على المنبر، فصلى حتى نزل في أسفل المنبر ثم سجد، ثم قام، وتقدم، وقال: أيها الناس! إنما فعلت لتأتموا بي، وتعلّموا صلاتي )، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّ أصحابه وهو أعلى منهم.
فإذا ثبت أن الصلاة صحيحة، فهل هي مكروهة أم لا؟
الراجح والله أعلم أنها مكروهة إذا ارتفع الإمام على مأمومه ارتفاعاً كبيراً؛ لما روى أبو داود وغيره من حديث أبي مسعود أنه أم أصحابه على دكان، فجذبه حذيفة بن اليمان، فلما سلّم قال: ما منعك أن ترجع، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؟ قال: قد علمت حينما جذبتني، وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون أن صلاة الإمام عالياً على المأموم مكروهة، وهذا يدل على أن أبا مسعود البدري حينما جذبه حذيفة بن اليمان كان ذلك معلوماً معروفاً عنده، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ونحن نقول: إذا كان الإمام يصلي في المحراب، فإن كان المحراب لا يمنع رؤية المصلين له فلا حرج في ذلك ولا كراهة، وإذا كان يمنع ذلك فإن هذا كرهه بعض أهل العلم؛ خوفاً من عدم اقتداء المأموم بإمامه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وقال البراء بن عازب : ( فإذا سجد لم نزل قياماً ننتظره حتى نراه قد وضع جبهته على الأرض )، فهذا يدل على أن المأمومين كانوا يستطيعون أن يروا إمامهم في هذه الحالة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
تطوع الإمام في المكان الذي صلى فيه الفريضة خلاف السنة، وقد صح عن علي رضي الله عنه أنه قال- كما روى ذلك ابن أبي شيبة-: ( من السنة إذا صلى الإمام في مكانه أن يتحول )، وقول الصحابي: (من السنة) دليل على أن هذا هو السنة.
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفريضة قام، ولم يكن يتطوع في مكانه.
وأما المأموم فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يكره للمأموم أن يتطوع في المكان الذي صلى فيه الفريضة، واستدلوا على ذلك بما رواه عطاء الخراساني ، عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم الفريضة فليتحول من مكانه ذلك)، وهذا الحديث رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف؛ وذلك لأن عطاء الخراساني لم يسمع من المغيرة بن شعبة كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.
وعلى هذا فالراجح والله أعلم أنه لا بأس أن يتطوع المأموم في مكانه الذي صلى فيه، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصلي سبحة الضحى في المكان الذي صلى فيه الفريضة.
إذا ثبت هذا فإن حديث معاوية رضي الله عنه كما عند مسلم أنه قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نحرج )، المقصود منه عند أهل العلم: ألا نصل صلاة الفرض بالنافلة؛ إلا أن نتكلم أو نخرج، فهذا ليس فيه دلالة على استحباب التحول، ولكنه فيه دلالة على استحباب ألا توصل الفريضة بالنافلة؛ لأجل ألا تصير صلاة الظهر ست ركعات مثلاً، كما إذا صلى الظهر ثم سلم، ثم قام للنافلة، فربما يخشى أن تكون صلاة الظهر ستاً؛ ولهذا روى الإمام أحمد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بهم، فلما قام رجل بعدما سلم النبي صلى الله عليه وسلم ليتطوع جذبه
وعلى هذا فإذا صلى المأموم في المكان الذي صلى فيه فلا حرج في ذلك، شريطة أن يتكلم فيقول: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، أو غير ذلك، أو يسبح ويهلل بحيث يفرق بين الفريضة والنافلة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأما ما استدل به بعض الفقهاء؛ بأنه يستحب للمأموم أن يتحول من مكانه بقوله تعالى في سورة إذا زلزلت الأرض زلزالها، قال: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، قالوا: فإذا كانت الأرض تحدث أخبارها عن ما فعل بنو آدم فيها، فإنه يستحب للإنسان أن يتحول لتشهد له الأرض.
فالجواب على هذا، نقول: إن الآية بينت أن الأرض كلها تشهد لصاحبها، ولكن ليس كل بقعة تشهد، فدل ذلك على أن الإنسان لو صلى في مكانه كان مدركاً لهذا الفضل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإن الإمام ينبغي له ألا ينصرف عن القبلة إلا بعد أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وذكر بعض أهل العلم أيضاً أنه يستحب للمأموم ألا يخرج من المسجد إلا بعد أن يتحول الإمام عن القبلة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف ).
والجواب على هذا: أن المقصود بالانصراف هو التسليم، أي: لا تسبقوني بالتسليم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وإن كان الأولى ألا يقوم الإنسان حتى يتحول الإمام، وقد استدل بعض أهل العلم على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تحول قام قبل أن يقوم الصحابة، وهذا يدل على أن الأفضل أن ينتظر المأموم إمامه خاصة بالتسبيح والتهليل؛ لعله يدرك الفضيلة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه؛ ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه )، والله أعلم.
الجواب: لا حرج إذا كان من باب التعليم، والله أعلم، أما إذا لم يكن من باب التعليم، وكان ذلك دائماً فالأولى تركه، وعلى هذا المساجد التي يكون خلفها ما تسميه العوام عندنا: (الخلوة)، ينبغي أن يصلي الإمام في المكان الذي هو الأصل، فإن صلى المأموم بالخلوة فلا حرج، فإذا صلى الإمام بالسطح فإن ذلك يكره؛ لأن المأموم سوف يقف خلفه.
أما إذا صلى الإمام مع المأمومين جميعاً بالسطح، وصلى أناس تحته، فلا حرج في ذلك، ولا يعد ذلك عالياً عليهم، وإنما المقصود بالعلو هو أن يعلو الإمام وحده دون المأمومين.
أيها الإخوة والأخوات! إلى هنا نكون قد انتهينا من مسألة اتباع المـأموم إمامه، وما يتعلق بذلك من أحكام، ولعلنا نكمل في درس لاحق إن شاء الله بعض القضايا وبعض المسائل التي تتعلق بهذا الباب، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر