الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وحيا الله الإخوة الذين معنا في الأستديو.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع ونقول، وأن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
أيها الإخوة! كنا قد أنهينا باب الإمامة والائتمام، وأحكام المأموم، واليوم بإذنه سبحانه وتعالى ندلف إلى باب الأعذار المسقطة لترك الجمعة والجماعة.
هذه الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة قبل الخوض فيها يجب أن نعلم أن ذكر العلماء رحمهم الله لهذا الأمر دليل على أن الأصل عندهم أنه لا ينبغي للإنسان أن يترك الجماعة في المساجد.
ومن المؤسف أن ترى بعض الذين يريدون الخوض في صلاة الجماعة لا يتناولونها التناول الذي يقصد منه إظهار الحق الشرعي، وإظهار الدليل النبوي، وما كان عليه سلف هذه الأمة، وإنما يراد لها بطريقة أو بأخرى التخفيف على الناس، وأن ما كنا نسمعه قبل ذلك من التشديد في هذا الأمر تبين -على حد قولهم- أن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة خلافية، مثلها مثل سائر المسائل التي بولغ فيها أكثر من الواقع المتداول عند الفقهاء، هكذا كانوا يقولون.
والواقع أيها الإخوة أنه عند تناول كلام الأئمة رحمهم الله يجب أن نفهم مصطلحاتهم، فمصطلحات الأئمة رحمهم الله لها مدلولها، فمن غير المستساغ أن تأتي بمصطلح عند الفقهاء، أو عند أصحاب مذهب معين ثم تفهمه أنت بالمصطلح الدارج عندك أو عند أصحابك، أو عند الطرح الأكاديمي، أو الطرح الفقهي في عصر من العصور.
إذا ثبت هذا فإن صلاة الجماعة من تلك المسائل التي انتابها ما ينتاب كثيراً من المسائل المظلومة، حيث إن بعض الناس حينما يتحدث عن صلاة الجماعة وأنها سنة أو سنة مؤكدة كما هو مذهب أبي حنيفة ، أو فرض كفاية كما هو مذهب الشافعي ، وقولان عند مالك على أنها سنة، ويقصدون بها الواجب الذي ثبت بدليل ظني، أو السنة التي هي على مذهب أبي حنيفة ، أو على أنها واجبة وجوباً عينياً كما هو المذهب عند الحنابلة، أو أنها شرط من شروط صحة الصلاة كما هو قول لبعض أهل الظاهر، وقول لبعض الحنابلة كـابن عقيل وغيره، هذه الأقوال يجب أن نتناولها بالتناول الذي كان الأئمة رحمهم الله يفهمونها.
ولهذا اتفق الفقهاء على أن من ترك الصلاة جماعةً من غير عذر وداوم على ذلك أنه واقع في العتب، وأنه واقع في الإثم، كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، بل قد نص الحنفية والمالكية والشافعية على أنه إذا تمالأ أو اجتمع أهل بلد على ترك الجماعة في المساجد فإنهم يجب أن يقاتلوا، وهذا كله دلالة على أن ما يفهمه بعض الناس من أنها سنة مؤكدة، فيظنون أنها مثل السواك، أو مثل السنن الرواتب خطأ؛ لأن الأئمة رحمهم الله لهم مصطلحاتهم، ولهم طرقهم، ولهذا قال الموصلي صاحب الاختيار في المذهب الحنفي: ولا يسع أحداً تركها إلا لعذر، ثم قال: ويقاتل أهل بلد تركوها بالكلية.
فهذا يدل على أن صلاة الجماعة ليست بالمعنى الذي يفهمه بعض الذين يطرحون في أطروحاتهم؛ لأن الذين يطرحون أحياناً يريدون أن يَفهموا أو يُفهموا الآخرين أن صلاة الجماعة مثلها مثل سائر المسائل الخلافية، وليس الأمر كذلك، ولهذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أهل السنن يقول إذا صلى الفجر: ( أشاهد فلان؟ أشاهد فلان؟ )، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بحضور الصحابة رضي الله عنهم.
ولا أدل على ذلك من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، وإن كان أحدنا ليهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وإن رسول الله علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي تقام فيه الصلاة )، فهذا يدل على أن سنن الهدى ليست السنة بالمفهوم المصطلحي المذهبي؛ لأن السنة تطلق على الطريقة، فمثلاً نقول: سنة النبي صلى الله عليه وسلم إثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى في كتابه، وإن من سنة السلف رضوان الله تعالى عليهم أنهم يصفون الله بما وصفه به نفسه، وبما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه ليس معناها أنه مستحب أن يصف الإنسان ربه بما وصف به نفسه، بل يجب عليه أن يثبت أسماء الله كما أثبتها سبحانه لنفسه، وأن يصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذا ثبت هذا فإنهم رحمهم الله قالوا: هناك أعذار يجوز للإنسان أن يترك الجماعة لأجلها، وهم مختلفون في هذه الأعذار هل هي محصورة أم موصوفة؟ لعلنا نذكر أهم هذه الأعذار.
وبالمناسبة فإن الأصل أنه لا يجوز للإنسان أن يصلي الصلاة في غير وقتها إلا لعذر، كما إذا كان يجمع الصلاة لمثلها، وأما إذا كان لا يجمع الصلاة لمثلها، مثل ما إذا صلى الظهر ثم أخر العصر، فلا يجوز له أن يؤخرها إلى الليل، أو صلى المغرب وترك صلاة العشاء، فلا يجوز أن يؤخرها إلى الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ( أي الصلاة أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها، أو قال: على وقتها )، وقد قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وهذا أمر.
وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، يعني: مفروضاً، فهذا يدل على أنه يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة في وقتها، ولما ترك صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بسبب محاربته ومقاتلته للمشركين في غزوة الخندق حتى خرج وقت العصر إلى المغرب قال: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً )، فهذا يدل على خطورة هذا الأمر.
ومن المعلوم أن المشقة لا تنفك عن غالب الأحكام التكليفية؛ لأن المشقة نوعان: مشقة معتادة، وهذا غالباً توجد في الأحكام التكليفية؛ وليس معناه أن الله شق على عباده، ولكن لأن العبد حينما يفعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به فإن ذلك أمر، وهو مكلف بفعله، فصار هذا من باب التكليف، وإلا فإنه ليس في عبادة الله كلفة، وليس في طاعة الله سبحانه وتعالى كلفة إلا ما كان ذلك في حق المريض، أو في حق الذي يؤمر بأن يفعل الطاعة، فتكون الكلفة ليس في ذات العبادة، ولكنها في وسائلها، إما طريق، وإما غير ذلك، ومع ذلك فإذا كانت هذه المشقة معتادة فإن الشارع يأمر العبد أن يفعلها، وإذا كانت مشقةً غير معتادة -وهذا القسم الثاني- فإن الشارع يخفف فيها في حق العبد، فخفف للمسافر أن يصلي الأربع ركعتين، وخفف في الخوف أن يخل ببعض الأركان، كل ذلك لأنها مشقة غير معتادة.
إذاً: الأعذار التي يباح بها ترك الجمعة والجماعة هي الأعذار التي تصحب المكلف فيها مشقة، غير أن هذه المشقة غير معتادة.
أما المشقة المعتادة التي لا ينفك عنها أصل التكليف فلا يمكن أن يقال فيها: أنا معذور، أو أني مريض؛ لأن هذ لا يسلم منه الإنسان، فمثلاً القيام لصلاة الظهر فيه مشقة يسيرة، والقيام لصلاة الفجر فيه مشقة؛ لكن هذه المشقة ليست مشقة غير معتادة، بل هي مشقة معتادة، والقاعدة كما أشار الإمام الشاطبي : أن المشقة المعتادة يقع فيها التكليف، فلا يقل شخص: أنا والله تعبان، أنا جئت من السفر ولم أنم يوماً كاملاً، وأنا معذور في أن أترك صلاة الفجر إلى أن يخرج الوقت، فنقول: لا يجوز؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه لـعمر : واعلم أن لله عبادة في النهار لا يقبلها في الليل، وعبادة في الليل لا يقبلها في النهار.
إذا ثبت هذا فإن الأعذار عدها بعض العلماء، وأوسع المذاهب في هذه الأعذار هم الحنابلة؛ لأنهم يبيحون فيها ترك الجمعة والجماعة، ويبيحون فيها الجمع.
إذاً: الأعذار التي سوف نذكرها هي الأعذار التي يباح لها ترك الجماعة على مذهب الحنابلة؛ لأنهم يرونها واجبة، وعلى مذهب الشافعي أنها فرض كفاية إذا قام بها ما يكفي سقط الوجوب عن الباقين، وعلى مذهب المالكية الذين يقولون: سنة مؤكدة من تركها من غير عذر فإنه يأثم، كما أشار إلى ذلك صاحب مراقي السعود في أصول الفقه وغيره.
وأعني (في الجملة) على اختلاف عندهم في ضابط المرض، لكن الأصل أن المريض يجوز له ترك الجماعة.
وقد استدل العلماء على ذلك بقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
والمريض الذي يشق عليه الذهاب والقيام معذور؛ لأنه اتقى الله ما استطاع، فلا يكلف نفسه إلا ما آتاها، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ولما سقط صلى الله عليه وسلم عن فرس كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أنس فجحش شقه الأيمن، قال أنس : ( فذهبنا نعوده، فحضرت الصلاة، فأمنا، فصففنا خلفه، فذهبنا لنقوم فأشار بيده أن اجلسوا )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الصلاة في المسجد لأجل مرضه.
ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه قال: ( مروا
فالإنسان الذي يصاب يتعصر في بوله، أو تغوط، فيخشى أن يمنعه ذلك من الخشوع، ومن مراقبة ما يقرأ، ومن تأمل ما يسبح به ويدعو، فإن الشارع الحكيم أمره أن يترك الجماعة حتى يقضي حاجته، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان )، ومعنى (الأخبثان) أي: البول والغائط.
وقد اختلف أهل العلم: لو صلى على هذه الحالة فهل تصح صلاته؟
فأقول: ذهب عامة الفقهاء من السلف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة، إلى أن من صلى وهو يدافعه الأخبثان فصلاته صحيحة مع الكراهة.
وذهب ابن حزم وهو القول الثاني: إلى أن صلاته لا تصح، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة) على أن معناه: لا صلاة صحيحة، ولكن الجمهور قالوا: هذا من باب نفي الكمال المستحب، قالوا: ومما يدل على ذلك أنه لم يقع منه حدث، ولا حمل نجاسة، فدل ذلك على أن هذا نهي خارج عن ماهية العبادة، فدل على الأصل؛ وهو أن الصلاة صحيحة.
إذا ثبت هذا فإننا نعلم أن الشارع حينما نهى عن هذا الأمر فإننا نقول: لأن الشارع يغلب جانب العبادة المتعلق بذاتها على العبادة المتعلقة بخارج العبادة، فلما كانت الصلاة جماعة عبادة يقصد بها معنى آخر، ليس هو من ذات الصلاة، بخلاف الذي يدافعه الأخبثان، فإنه يصلي وفي ذات صلاته ربما يحدث له تشويش وعدم خشوع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره أن يصلي في خميصة ذات أعلام، وقال: ( اذهبوا بهذه الخميصة إلى
إذا ثبت هذا فإن الإنسان إنما يترك الجماعة إذا كان ذلك بحضرة طعام، وقد ذهب أهل العلم إلى أنه لو صلى ونفسه تشتهي فإن صلاته صحيحة؛ خلافاً لما قاله ابن حزم : ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان )، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة ، فقال: إن هذه الصلاة باطلة، فيجب عليه أن يبدأ بعشائه، وهذا على ظاهريته غفر الله لنا وله.
إذا ثبت هذا فما هو الذي يبيح له ترك الجمعة والجماعة، هل هو كل أكل، أم أن ذلك مخصوص بشروط؟
أقول: إن العلماء رحمهم الله استنبطوا شروطاً في هذا الأمر، فقالوا:
أولاً: أن يكون طعاماً يشتهيه، فإذا قدم طعام لا يشتهيه فإنه يبدأ بالصلاة؛ لأن المقصود هو أن يقطع دابر الوسواس الذي يخالطه ويخالجه حال الصلاة، فربما تذكر نوع الأكل، وتذكر طريقة الجلسة، فأتاه ما يأتي الجوعان من النهم ومن التفكير، فلأجل الانشغال بهذا منع الشارع من أن يحضر الصلاة جماعة لأجل ألا ينشغل، ونقول: لأن الشارع ينظر إلى الفضيلة المتعلقة بذات العبادة ويجعلها أولى من الفضيلة المتعلقة بشيء خارج عنها.
فهذا يدل على أن الشارع اشترط أن يكون طعاماً يشتهيه، فإذا كانت نفسه لا تتوق إلى ذلك، أو أنه قادر على أن يؤخر الأكل، ويحضر الصلاة من غير تشويش، فالأصل هو الصلاة، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عمرو بن أمية الضمري ، قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتز من كتف شاة بالسكين، فحضرت الصلاة، فطرح السكين وقام فصلى ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكمل الأكل، بل قام فصلى، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يخالف ما أمر أصحابه به، فدل ذلك على أنه لا تتوق نفسه إلى هذا الأكل توقان الجائع. إذاً: هذا الشرط الأول، وهو أن يكون الطعام يشتهيه.
الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأكل حساً أو شرعاً، وعليه فإذا حضرت الصلاة ورأى طعاماً ليس له، إنما هو لغيره، فلا يجوز له أن يأكل؛ لأن الشارع اشترط أن يتمكن من أكله حساً أو شرعاً، وهو هنا ليس قادراً عليه حساً؛ لأن هذا ملك الغير.
أما كونه لا يتمكن منه شرعاً فمثل أن يكون صائماً، وقدم الأكل بعد أذان العصر، ينتظرون به الأذان، فهل يجوز له أن يقول: أنا صائم وجوعان، ولا أستطيع أن أصلي لأنه حضر الطعام؟ نقول: لا؛ لأن شرط الحضور أن يكون مع التمكن من أكله، أما إذا كان لا يتمكن شرعاً مثل أن يكون صائماً وقد قدم الطعام وقت صلاة العصر فإنه لا يصح له أن يتعذر عن حضور الجماعة بدعوى وجود الأكل.
الشرط الثالث: ألا يتخذ عادة، فإن الأصل أن يصلي الإنسان الصلوات في أوقاتها، لكن إذا جاء عذر طارئ فحينئذ يجوز له ترك الجماعة، أما أن يكون هذا ديدنه ألا يؤتى بالأكل إلا وقت صلاة العصر، مثل الموظفين الذين لا يرجعون من دوامهم إلا قريباً من وقت الإقامة، فتقدم له زوجته الأكل فيقول: ( إذا حضرت الصلاة وقدم الغداء، فابدءوا به ولا تعجلوا عن عشائكم )، نقول: لا، إنما ذلك إذا جاء عارض، أما أن يكون هذا هو الأصل فلا.
ومثل ذلك الذين يقدمون الفطور في رمضان، فإنهم يمدون موائد طويلة، وتقام الصلاة في المسجد وهو مستمر في الأكل وحده ولا يصلي جماعة، ثم يقول بعد ذلك: (إذا حضرت الصلاة وقدم العشاء..)، فنقول: لا يجوز أن تترك الصلاة جماعة على الدوام بدعوى أنه قد حضر الأكل، ولهذا قال العلماء: يشترط ألا يكون ذلك عادة؛ لأن العادة هنا تسلب المعنى الشرعي الذي شرع التوقيت لأجله، والحكمة الشرعية التي جعلت في الوقت، وإلا لكان كل شخص يقول: أنا سوف أفطر بعد أذان الفجر وقت الإقامة، حتى لا أصلي في المسجد، وأقول دائماً: إذا حضرت الصلاة وقدم الفطور فلا تعجلوا عن فطوركم!
ومن الشروط أيضاً: أنه إذا بدأ بالأكل فهل يلزم أن يأكل لقيمات تدفع نهمته، أم يجوز أن يستمر في الأكل حتى يشبع؟ شخص يقول: أقيمت الصلاة، وأنا الآن آكل، لكني قادر على أن آكل شيئاً يسيراً أقطع به نهمتي، ثم أكمل بعد الصلاة، فهل يجب علي أن أقطع الأكل وأذهب إلى الصلاة، أم يجوز أن آكل حتى أنهي نهمتي؟
الجواب: مذهب الجمهور أنه يجوز لك إذا كنت في وقت البداية لا تستطيع أن تصلي إلا بانشغال ذهن، وورود وساوس، فإذا أقبلت على الأكل فلا تعجل عن عشائك، ولهذا جاء في رواية مسلم : ( ولا تعجلوا عن عشائكم )، فدل على أن من كان يريد أن يأكل وقد حضرت الصلاة والحالة هذه فله أن يأكل حتى يشبع، ولا يعجل عن عشائه؛ لأنها طارئة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ومن الشروط أيضاً: ألا يخاف من ذلك خروج الوقت، فلو أنه قدم العشاء قبل الفجر وهو لم يصل العشاء، فهل يجوز له أن يقول: ( إذا حضرت الصلاة وقدم العشاء فابدءوا به، ولا تعجلوا عن عشائكم )؟
نقول: لا، إنما ذلك إذا لم يخش خروج الوقت، فهذه خمسة شروط، وهي ليست موجودة ظاهرةً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العلماء استنبطوها؛ لأنها لا تكاد تخرج عما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلك على فقه السلف رضوان الله تعالى عليهم، حيث يذكرون ذلك من باب ما عرفوه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما حوته سنة النبي صلى الله عليه وسلم من شروط وتقييدات.
فإذا كان يخاف ضياع ماله، أو فواته، أو نقصه، أو تلفه، فإنه يجوز له ترك الجمعة والجماعة، ولعل من أمثلة ذلك الخباز، فإذا عجن عجينه، وأشعل تنوره، فإنه ربما يصعب عليه أن يقفله وقد أدخل العجين، وقد حضرت الصلاة، فنقول: لا حرج، يشعل فتيل التنور، ويضع العجين في وقت الإقامة بشرط ألا يتخذ ذلك عادة على سبيل الدوام.
إذاً: فلا حرج أن يترك الصلاة جماعة إذا خاف ضياع ماله، وقد نص على ذلك الحنابلة و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله وغيرهم، وهذا يدل على أن الشارع الحكيم يرى أن حفظ المال من الضروريات، فجائز لمن خاف على ماله أن يحافظ عليه، ومن الأمثلة على ذلك: إذا كان قيماً، أي حارس أمن يحفظ مال غيره بأجرة، فإنه يجوز له ترك الجماعة بشريطة ألا يوجد بدل؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يترك الجماعة كيفما اتفق، بل لذلك شروط:
الشرط الأول: ألا يوجد غيره ممن يجوز له ترك الجماعة، فلو فرض أن هناك مريضاً قادراً على أن يجلس مكانه حتى يرجع من الصلاة مع الجماعة فنقول: لا يجوز لك أن تترك الجماعة؛ لأن الأصل حضور الجماعة، لكن لما خشيت أن يذهب مال غيرك جاز لك أن تبقى لتحرسه.
فإن العلماء رحمهم الله ذكروا من الأعذار أن يخشى الإنسان فوات رفقة، فإنه والحالة كذلك يجوز له ترك الجماعة، قالوا: لأنه لو صلى فإن نفسه تشغله من حيث خوف فوات الطائرة، أو فوات أصحاب؛ لأن سفره وحده ربما يشق عليه، فإخوانه إذا كانوا معه فسوف يسلونه، ويؤمنونه من بعض المخاطر التي ربما تدرك من سافر وحده؛ فلأجل هذا جاز للإنسان أن يترك الجماعة إذا خاف من فوات رفقة، ومن الأمثلة على ذلك: إذا حضرت الصلاة مثلاً، وقد أعلن لركوب الطائرة، فهو يخشى لو صلى ربما أقفلت الطائرة، فلأجل هذا نقول له: لا حرج أن تذهب فتصلي وحدك، وتترك الصلاة جماعة؛ لأن ذلك ربما يشق على الناس، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فإذا مات قريبه وهو يريد أن يحضره، أو يساعد في هذا الأمر فلا حرج في ذلك؛ سواء مات وهو يريد أن يكفنه، أو يريد أن يغسله، أو كان يخشى من موته، فهو يريد أن يسمع وصيته، أو أن يزوره خوفاً من أن يفارقه، فلا حرج في ذلك.
وقد روى ابن المنذر ، عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه بلغه أن أحد الصحابة رضي الله عنه يريد رؤيته قبل أن يموت، فلما أذن للجمعة خرج ابن عمر ولم يصل خوفاً من فوات ذلك، فزاره رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فدل ذلك على أن ابن عمر حينما خشي أن يموت الصحابي فلا يدركه ترك صلاة الجمعة، فدل ذلك على أن الإنسان إذا خاف موت رفيقه، أو موت أحد أولاده، أو يريد أن يسعف زوجته الحامل؛ كل ذلك لا بأس أن يترك الجماعة لأجله.
وأقول: كل هذا لأجل أن الصلاة جماعة كانت من الأهمية عندهم بمكان، والشارع جوز له أن يترك الصلاة جماعة، ولهذا يقال: إن بعض السلف كان إذا كان مريضاً يتحامل على نفسه ليصلي الجماعة، ولهذا لما أصيب الربيع بن خثيم بالفالج؛ وهو نوع من الشلل -فكان يتحامل على نفسه، فيقال له: كيف أنت وقد أعطاك الله العذر؟ فقال: أسمع المنادي يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، ولا أجيب!
فهذا يدل على أهمية الصلاة جماعةً في المساجد، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يتساهل في تركها خوفاً من أن تناله عقوبة الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أنه جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه و الدارقطني و الحاكم و البيهقي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر )، وهذا الحديث حسنه كثير من المتأخرين، والحديث يروى من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، واختلف عليه، فرواه بعضهم عن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعاً، وخالفه شعبة و وكيع فروياه عن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس من قوله.
وكذلك رواه الجماعة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس من قوله.
فدل ذلك على أن الراجح أن الحديث موقوف وليس بمرفوع، وهذا أيضاً يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون وجوب الحضور إلى المساجد إذا سمع المسلم النداء، ولهذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي من عذر؟ فرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج دعاه فقال: أتسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة ).
والمقصود من هذا أن الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم كانوا يحرصون على الصلاة في المساجد، وأنهم لا يتركونها إلا من عذر، وقد قال عمر رضي الله عنه حينما رأى الشفاء أم سليمان بن أبي حثمة في السوق، وكانت قيمةً للنساء، وكانت في مثابة وزارة البلدية، أو بمثابة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال لها: يا أم سليمان : أين سليمان لم أره قد صلى معنا الفجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، صلى من الليل ما كتب له، ثم أصابه نعاس فنام، فقال عمر : والله لأن أصلي الفجر في جماعة أحب إلي من أقوم الليل كله! وهذا يدل على حرصهم رضوان الله تعالى عليهم على حضور المساجد.
فإذا كان السلطان يريد أخذه وإمساكه وهو ظالم له فإنه يجوز له أن يترك الجماعة، وقد صلى الإمام أحمد رحمه الله في فتنة خلق القرآن في بيته خوفاً من سطوة السلطان.
فإذا كان الإنسان يخاف من ظلم الظالم فلا بأس أن يترك الجماعة لأجل أنه معذور في ذلك، وقد قال أهل العلم: إن حفظ النفس من الضروريات الخمس، ومن أمثلة ذلك: إذا كان ساكناً في بيت، والبيت في غابة فيها ذئاب أو قريبة من الذئاب، ويخشى إذا خرج من الليل أن يأتيه ذئب أو سبع، وهذا يوجد في بعض البلدان الواقعة في الغابات، فأحياناً بعض الغابات تكثر فيها السباع المتوحشة، فهو يخشى لو ذهب وحده إلى المسجد أن يصاب بشيء من هذا.
وأقول أيضاً: إن من أمثلة هذا أن الأم إذا كان ابنها حديث عهد ببلوغ، وخشيت إذا خرج في الفجر ولم يكن أحد معه أن يأتيه بعض الذين لا يخافون الله، ولا يرعون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإذا كانت تخشى ذلك وليس عنده قوة وشجاعة، وليس أحد يعينه من جيرانه، فأمرته أن يصلي في البيت مع أخواته وإخوانه الصغار، فلا أرى في ذلك حرجاً، خوفاً على نفسه؛ لأن الأم أحياناً تخاف على ابنها من سباع وذئاب البشرية.
لكن العلماء رحمهم الله قالوا: فإن كان يخاف سطوة سلطان أراده بحق فلا يجوز له؛ كيلا يجمع معصيتين: معصية عدم أداء الحقوق إلى أصحابها، ومعصية ترك الجماعة، فإذا كان ذلك بحق فلا يجوز له أن يتركها ولو أمسك به السلطان؛ لأن السلطان إنما أمسكه لأجل أن يفي بالحقوق الواجبة عليه.
فإن الغريم إذا كان يطلب شخصاً، أو كان الدائن يطالب مدينه بالسداد، فحكم الحاكم بأن يلازمه، أي: يجعل شخصاً يتابعه فهو عذر؛ لأن النفوس تشمئز من ذلك، وتتضايق، وتجد أن ذلك فيه حرج عليها، ويمنعها من حريتها التي جعلها الشارع لها، فملازمة الغريم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ملازمة غريم وعنده ما يفي به، فيأثم إذا ترك صلاة الجماعة؛ لأجل أنه يجب عليه أن يفي بحقوقه، فإن تركها جمع بين سوأتين: سوأة ترك الجماعة من غير عذر، وسوأة عدم أداء الحقوق إلى أصحابها.
القسم الثاني: ملازمة غريم وليس عنده ما يفي به، كأن ألزمه الحاكم بأن يسدد وليس عنده ما يسدد به، فإنه حينئذ إذا كان مظلوماً فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فدل ذلك على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة لهذا الأمر.
فإذا اشتد عليه النعاس، بحيث لا يستطيع أن يصلي، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: ( وكان إذا غلبه نوم أو نعاس من صلاة الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، وهذا في التطوع، ولكن العلماء قالوا: إن الإنسان قد ينشغل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ليصل أحدكم نشاطه، فإذا عجز أو كسل نام )، ولكن هذا النوم يجب ألا يكون سبباً في خروج الصلاة عن وقتها.
فإذا كان ذلك سوف يؤدي إلى خروج الصلاة عن وقتها فلا يجوز؛ لأننا ذكرنا إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز أن تصلى الصلاة خارج وقتها عمداً، لأن ذلك محرم، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
ومما يدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث نافع ، عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المنادي إذا كان في ليلة ذات مطر أو ريح شديدة أن يقول: ألا صلوا في رحالكم )، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط، فإذا أسعفنا الوقت أكملناها، وإن لم يسعفنا الوقت ذكرناها في درس لاحق إن شاء الله.
أقول: إن الوحل أو المطر يجوز للإنسان أن يترك لأجله الصلاة في المساجد، ويصلي وحده، ودليل ذلك ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المنادي إذا كان في ليلة ذات برد أو ريح أو مطر في السفر أن يقول: صلوا في رحالكم ).
وهل كان النبي يقول ذلك في حديث ابن عمر في السفر أم في الحضر؟
نقول: أكثر الروايات رواها عبيد الله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر فذكر السفر.
ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر واختلف عليه:
فرواه يحيى بن يحيى، والقعنبي ، عن مالك دون ذكر السفر، ( إذا كان في ليلة ذات ريح أو برد أو مطر يقول: صلوا في رحالكم )، إلا أن مالكاً في رواية القعنبي ويحيى بن يحيى في الموطأ ذكره في باب النداء في السفر، فأشار إلى أن فعل ابن عمر إنما كان في السفر.
ومما يدل عليه أيضاً أن محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة روى عن مالك الموطأ، فروى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وأشار فيه إلى السفر، فدل ذلك على أن ابن عمر إنما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقول ذلك في السفر.
ومما يدل على أن أكثر ذلك إنما هو في السفر: ما رواه عبد الرزاق عن طريق ابن جريج قال: حدثنا عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس حدثه: أن رجلاً من ثقيف حدثه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا كان في مطر: صلوا في رحالكم)، وفي رواية: (أن ذلك كان في الحديبية)، ومن المعلوم أن الحديبية كانت في سفر، وهناك طرق أخرى عن طريق أبي المليح، عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في السفر)، فدل على أن قوله: (صلوا في رحالكم) جاءت أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في السفر.
وأما من لم يذكر السفر في (ألا صلوا في رحاكم) عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمختلف في صحتها، وأقول: إنه لا بأس أن تقال: (ألا صلوا في رحالكم) في الحضر، كما فهم ذلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري و مسلم عن ابن عباس : (أنه صلى بالناس الجمعة في يوم مطير، فقال للمؤذن يوم الجمعة: إذا قلت الشهادتين فلا تقل: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، لكن قل: ألا صلوا في رحالكم، ثم قال: أما إن الجمعة عزمة، ولكن كرهت أن يخرج الناس في الدحض والطين، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري، فسألته عن ذلك فقال: قد فعله من هو خير مني)، فهذا يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا صلوا في رحالكم) وإن فعله في السفر، أو كان أكثر فعله في السفر، فإن ابن عباس حمله أيضاً على الحضر؛ لعدم الفارق، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أيها الإخوة والأخوات! سوف نذكر هذه المسألة ببسط أكثر في درس لاحق؛ لأن بعض الناس أشكل عليه هل يقول: (صلوا في رحالكم)، أو يجمع بين المغرب والعشاء لأجل المطر؟ فسوف نتحدث عن هذه المسألة أكثر وأكثر في حلقة قادمة إن شاء الله، وتتبع مسائل وأقوال الفقهاء رحمهم الله.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر