الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وحيا الله الإخوة الذي معنا في الأستوديو، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم الذين يبلغون عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله ما علموه وعرفوه وطبقوه في سرهم وعلانيتهم, وفي جهرهم وخفائهم، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
كنا قد ذكرنا في درس سابق مسائل في الأعذار المسقطة لحضور الجمعة والجماعة, وذكرنا أعذاراً أعيدها على عجل, فذكرنا أنه يجوز للمريض أن يترك الجمعة والجماعة, وقلنا: إن هذا أمر ثابت بإجماع أهل العلم.
وكذلك إذا كان يدافعه الأخبثان أو كان بحضرة طعام, وذكرنا شروط ذلك, وذكرنا أيضاً إذا كان يخاف ضياع ماله أو فواته, أو ضرراً فيه، أو موت قريبه، أو خوف ضرر من سلطان, أو ملازمة غريم, أو غلبة نعاس أو أذى, وذكرنا أن من الأذى المطر, وتوقفنا عند هذا الأمر, ولعلي -كما قلت- أذكر هذه المسألة ببسط.
وقلنا: الدليل على جواز ترك الجمعة والجماعة لأجل المطر: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في ليلة ذات ريح أو مطر أو وحل أن يقول: صلوا في رحالكم ).
وقلنا: إن هذا الحديث إنما هو في السفر كما في رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر , ورواه مالك واختلف عليه, فرواه القعنبي و يحيى بن يحيى عن مالك بدون ذكر السفر, إلا أن مالكاً في الموطأ قال: (باب النداء في السفر) وذكر حديث ابن عمر , فكان دليلاً على أن هذا الحديث الذي ذكره ابن عمر إنما كان في السفر.
ورواه محمد بن الحسن الشيباني عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، وقال: (في سفر), فيدل ذلك على أن هذا الحديث إنما كان في السفر.
وقد روى عبد الرزاق وغيره من طريق أبي المليح عن أبيه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية فمطرنا، فقال صلى الله عليه وسلم للمؤذن: قل: ألا صلوا في الرحال ), وفي رواية: ( فوددت أن قال: صلوا في رحالكم فقال: صلوا في رحالكم ), وفي رواية قال: ( فأصابنا مطر لم تبل السماء نعالنا ), وهذا يدل على أن هذا المطر ليس مثل المطر الشديد, فأجاز الشارع أن يصلي المرء في بيته.
وقد يقول قائل: أكثر الأحاديث في قوله: (ألا صلوا في الرحال), إنما كانت في السفر، وأقول: نعم, أكثر الروايات في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا صلوا في رحالكم), إنما كان ذلك في السفر.
وأما قوله: (في الحضر) فإنما هو فعل فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم, فقد روى البخاري و مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أنه صلى بالناس الجمعة في يوم مطير, فقال للمؤذن: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، ولكن قل: صلوا في رحالكم, ثم قال: أما إن الجمعة عزمة, ولكن كرهت أن يخرج الناس في الطين والدحض، فسألوا
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله يوم الجمعة, فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فرأى ابن عباس أن فعله في الحضر أو السفر سواء, ولهذا قاس عليه الجمعة, لكن المحفوظ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في السفر.
وفي رواية: كنت في لحاف فتمنيت أن يقول المؤذن: لا حرج, فقال: لا حرج, وهذا يدل على أنهم كانوا مسافرين, ولهذا أشار كثير من أهل العلم في روايتهم أن ذلك كان في سفر, ولكن لا فرق ولا أثر لهذا, وهكذا يجب أن تكون الصلاة في البيوت ليست بأولى من الصلاة في المسجد خاصة في الأعذار التي ربما لا تكون عذراً عاماً للناس.
فمثلاً الغبار ليس عذراً لعامة الناس, إنما هو عذر لبعض من به ربو, أما عامة الناس فإنهم لا يتضررون التضرر الذي يحصل عليهم بالمطر, وإن كان بعض الغبار ربما يكون أشد من المطر, لكن يجب أن نفهم أنه ليس كل مطر يجوز معه الجمع كما يظن كثير من الناس.
ولكن هذا يدل على أن العذر إذا كان ليس عاماً أو غالباً في الناس فإنه يقال للناس: ألا صلوا في رحالكم.
ومثل ذلك إذا كان هناك دحض -أي طين- وشق ذلك على الناس، فيقال: صلوا في رحالكم, لكن الصلاة في المسجد هو الأصل.
أنا أقول هذا لأجل أن نعلم حكم التقلبات الجوية خاصة عندنا في المملكة العربية السعودية حفظها الله، أو في العراق، أو في دول الخليج, فأحياناً هذه التقلبات ليست بالعذر الذي يجوز به الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء, فحينئذ إذا نودي في الناس: (ألا صلوا في رحالكم), فليس المقصود كل الناس؛ لأن الأصل أن يصلى في المسجد, فمن كان عنده عذر صلى في رحله, ومن لم يكن عنده عذر في نفسه فإنه يجب عليه أن يصلي في المسجد.
وأما إذا اشتد المطر فإن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر, نعم لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر بنصه, لكن روى سعيد بن جبير وأبو الشعثاء عن ابن عباس : ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ), وهذه الرواية رواها أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ورواها عن أبي الزبير خلق كثير, رواها مالك و حماد بن سلمة و زهير بن معاوية و هشام بن سعد وغيرهم؛ رووها عن أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: (من غير خوف ولا سفر), ولأجل هذا رجح الإمام البيهقي وغيره أن الرواية المحفوظة هي (من غير خوف ولا سفر).
ورواها حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ( من غير خوف ولا مطر ), وقد اختلف أهل العلم فرجح أكثر المحدثين رواية السفر, وذهب بعضهم إلى رواية حبيب بن أبي ثابت بلفظ: المطر، وبعضهم يقول: الأصل أنه يجوز, ولكن الشأن في هذا أن نعلم أنه في حال المطر يجوز أن يقال: (صلوا في رحالكم), لكن بشرط أن يكون هذا المطر شديداً بحيث يبل الثياب، ولهذا يقول المالكية في بعض كتبهم: ويشق على أوساط الناس إلا بتغطية رءوسهم, فهذا نوع من أنواع العذر, وهو المطر الذي يبل الثياب بحيث يشق على أوساط الناس إلا أن يغطوا رءوسهم, فحينئذ يقال: أيهما أفضل: أن يقال للناس: (ألا صلوا في رحالكم)، أم الجمع بين الصلاتين؟
وأما القائلون بجواز الجمع لأجل المطر, وهو قول أكثر السلف والخلف, وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وهي السنة المتواترة عن الصحابة رضي الله عنهم, كما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان في ليلة مطيرة الجمع بين الصلاتين, وهذا وإن كان مقطوعاً على أبي سلمة , إلا أنه يذكر السنة المتواترة عمن أدرك من الصحابة, وقد روى عبد الرزاق وغيره عن سعيد بن المسيب و هشام بن سعد و أبي بكر بن عبد الرحمن : أنهم كانوا يجمعون لأجل المطر، وكانوا يجمعون مع الناس من غير نكير.
وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه إذا جمع الأمراء في ليلة مطيرة جمع معهم من غير نكير, يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: فهذه الآثار تبين وتدل على أن الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء من السنة المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, يقول: وهي من المتواتر عنهم.
يقول ابن تيمية : إن الجمع بين الصلاتين لأجل المطر أولى من الصلاة في البيوت, بل ترك الجمع والصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة, إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة, وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كـمالك و الشافعي و أحمد .
هذا النقل ذكرته لأجل أن نعلم أن الجمع لأجل المطر في المساجد أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, لكن يجوز أن يصلوا في الرحال.
وعليه؛ فهذا هو الأصل، وكل من قال بجواز الجمع لأجل المطر يقول: إذا وجد المطر فصلاة الناس في المساجد جمعاً أولى من الصلاة في رحالهم, خلافاً لما يقال اليوم: إن الصلاة في الرحال أفضل, والصحيح أن الصلاة في المسجد أفضل, ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جوز أن يجمع بين الصلاتين للعذر في المسجد دل على أن الصلاة جماعة مأمور بها، بدليل أنه ترك فيها الوقت لأجل الجماعة, مما يدل على أن تحصيل الجماعة أولى من الصلاة في غير جماعة, وهذا لا يتأتي إلا في الرحال.
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المؤذن أن يقول: ( ألا صلوا في رحالكم ), وهل تمنعون من ذلك؟
نقول: لا نمنع, لكن السنة المعروفة أن قوله: (صلوا في رحالكم) في الأكثر إنما كانت في السفر, والأصل في المسافر أنه يجوز له ترك الصلاة في المساجد، بدليل ما رواه مالك عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه: ( أن رجلين أتيا مسجد الخيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر, فلما سلم إذا بهما لم يصليا فقال: علي بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما، قال: ما منعكما أن تصليا معنا, أولستما بمسلمين؟ قالا: بلى, ولكنا صلينا في رحالنا, قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا تكن لكما نافلة ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهرهما لأنهما لم يصليا في المسجد؛ لأنهما كانا مسافرين؛ فإن الرسول لم يصل في مسجد الخيف إلا حينما كان حاجاً, فكان مسافراً صلى الله عليه وسلم, فعلى هذا فيقال: إن الأكثر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع عند العذر، فلما جمع لأجل العذر مع وجوب الصلاة في أوقاتها فهذا دليل على أن تحصيل الجماعة أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, فالذي يأتي إلى المسجد ليصلي جماعة أفضل من أن يصلي في رحله, وهذا إذا وجد المطر الذي يعذر به صاحبه, أما إذا وجد مطر لا يكون فيه مشقة فإن الإنسان لا ينبغي له أن يجمع بين الصلاتين, وعلى هذا فإن الإنسان لو ترك الجمع مع الناس لكونه يرى أن هذا المطر ليس هو الذي يجوز فيه الجمع فلا حرج عليه، لكنه إن كان يظن أن الصلاة في البيوت من غير جمع أفضل من الصلاة جماعة في المسجد، فقد خالف السنة وقد أخطأ, ولهذا يقول ابن تيمية : بل إن ترك الجمع والصلاة في البيوت متفرقة بدعة مخالفة للسنة. ولعله يقصد بالبدعة هنا المداومة على ذلك.
إذا ثبت هذا فإن القائلين بجواز الجمع للمطر يعدونه أفضل من الصلاة في الرحال, وهذا أمر سار عليه أئمة السلف والخلف كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قال: وهذا من السنة المعمول بها في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, فدل ذلك على أنه منقول عنهم بالتواتر, نعم لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه جمع لأجل المطر في الحضر, لكن هذا هو الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا اختلف أهل العلم في العذر الذي جمع لأجله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا سفر ), وفي رواية: ( من غير خوف ولا مطر ), فقد تفرد بها حماد بن سلمة و زهير بن معاوية فروياها عن سعيد عن ابن عباس , وأما مالك و هشام بن سعد وغيرهما فإنهما لم يذكرا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (في المدينة), فدل على أن الأصل أن كلمة (في المدينة) فيها نوع من النكارة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
القول الأول: ذهب مالك و الشافعي إلى أن الجمع إنما هو لعذر المطر, استدلالاً بما رواه مالك عن أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس : ( من غير خوف ولا سفر ).
ويشكل على هذا رواية حبيب بن أبي ثابت عن سعيد عن ابن عباس : ( من غير خوف ولا مطر ), قالوا: وهي رواية ثابتة, لكن البيهقي رحمه الله أشار إلى أنها ضعيفة, خاصة أن حبيب بن أبي ثابت معروف بتدليسه (تدليس المرسل الخفي), فإنه أحياناً يحدث عن شيوخه أحاديث لم يسمعها منهم, فيسمى هذا تدليس المرسل الخفي, وهو مشكل كثيراً!
القول الثاني: أن ذلك لأجل الوحل.
القول الثالث: أن ذلك لأجل الغيم.
القول الرابع: أنه لعذر المرض.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه يجوز ترك الجمعة والجماعة لأي عذر, وهذا هو قول عند الإمام أحمد ، وهو مذهب محمد بن سيرين و ابن المنذر واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: أن العذر أياً كان يبيح الترك, ولو كان ذلك شغلاً, وقد فهم الصحابة ذلك, فقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس : أنه خطب الناس بعد الظهر, فلم يصل بهم, فقام رجل من تميم وقال: الصلاة, الصلاة, فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟! ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر, قال: أراد ألا يحرج أمته؟ قال: نعم ), ففهم ابن عباس أن العلم الذي احتاج الناس إليه في هذا الوقت بالذات عذر يباح به تأخير الظهر إلى وقت العصر, فدل ذلك على أنه إذا كان هناك عذر يباح له ترك الجمعة والجماعة، فيجوز فيه الجمع كما فهم ذلك ابن عباس ، وهو قول محمد بن سيرين و القفال و أبي علي بن أبي هريرة و الخطابي و النووي ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله, لكن ليس هذا لكل أحد, وإنما هو لبعض أهل العلم الذين قد ارتووا من أصول الشريعة وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم كما أراده الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء ما يعضده كما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن أبي العالية عن عمر أنه قال: (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب), إلا أن أبا العالية لم يسمع من عمر , فدل ذلك على أن الجمع بين الصلاتين من غير عذر كبيرة من كبائر الذنوب, وقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103], فلا يجوز للإنسان أن يصلي الصلاة في غير وقتها الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أجمعوا على جواز الجمع في عرفة بين الظهر والعصر, وجواز الجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء, وقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم كـابن المنذر والإمام أحمد و ابن حجر و أبي عمر بن عبد البر و أبي العباس بن تيمية و النووي وغيرهم, أن سنة الصلاة في عرفة الجمع, وسنة الصلاة في مزدلفة الجمع.
بل إن الحنفية قالوا: لو صلى في عرفة من غير جمع لم تصح صلاته, ولو صلى في مزدلفة من غير جمع لم تصح صلاته, وهذا أشار إليه المرغيناني وغيره من الحنفية.
والراجح -والله أعلم- كما هو مذهب الأئمة وغيرهم أن الجمع إنما هو سنة، ومن خالف فقد خالف السنة وصلاته صحيحة، كما أشار الشافعي رحمه الله في الأم وغيره.
إذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر و جابر , وجمع في مزدلفة كما ثبت في حديث ابن مسعود و أسامة بن زيد , وكما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله و ابن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يصح الجمع بأن تقدم الثانية فتصلى في وقت الأولى, أو تؤخر الأولى فتصلى في وقت الثانية, وهذا هو مذهب الحنفية في المشهور عندهم, ورأوا أنه لا يصح جمع التقديم ولا جمع التأخير، أي: لا يصح تقديم العصر إلى وقت الظهر, أو العشاء إلى وقت المغرب, ولا العكس، قالوا: ولا يصح الجمع إلا إن كان جمعاً صورياً.
وما الجمع الصوري؟ قالوا: أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها، بحيث إذا سلم دخل وقت العصر فصلاها، فيكون بذلك قد صلى العصر في وقتها والظهر في وقتها, ويؤخر المغرب حتى يصليها ثم يغيب الشفق فيصلي بعدها العشاء, فيكون قد صلى المغرب في وقتها والعشاء في وقتها.
دليلهم في هذا: قالوا: لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (من جمع بين صلاتين فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب).
والجواب على هذا أن عمر إنما قال ذلك في حق من جمع من غير عذر, وقد ثبت الجمع لعذر بالإجماع المنقول المتواتر عن الصحابة والتابعين من غير نكير في جواز الجمع لأجل المطر, وكذلك ثبت في السنة المتواترة من حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قبل أن تزول الشمس ركب ثم صلى الظهر والعصر في وقت العصر ), وهذا ثابت أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا أمر مخالف لحديث ابن عباس أيضاً: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولا مطر ).
وأما حمل ذلك على الجمع الصوري فإن هذا ليس بصحيح, بل هو فهم فهمه الراوي؛ ولهذا قال الراوي عمرو بن دينار: فقلت لـأبي الشعثاء : لعله أخر الظهر إلى قريب من العصر فصلاهما جميعاً, وأخر المغرب إلى قريب من العشاء فصلاهما جميعاً؟ قال: لعله!
فنقول: إن أبا الشعثاء إنما قال ذلك من عنده، وليس هو نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنه، بدليل أن أيوب السختياني قال لـأبي الشعثاء جابر بن زيد : لعله كان ذلك في ليلة مطيرة؟ قال: لعله! ومن المعلوم أن هذا لا يمكن أن يكون في ليلة مطيرة كلها؛ لأن الرسول جمع بين الظهر والعصر, والظهر والعصر ليسا في ليلة مطيرة، بل في النهار, فدل ذلك على أن هذا فهم فهمه أبو الشعثاء رضي الله عنه.
واستدلوا أيضاً بما ثبت عن ابن عمر أنه كان يؤخر المغرب حتى يصليها قريباً من الشفق، ثم يجلس حتى يغيب الشفق، ثم يصلي العشاء.
فنقول: إن فعل ابن عمر رضي الله عنه لا يعني أنه لا يرى الجمع إلا صورياً, بدليل ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه كان إذا جمع الأمراء في ليلة مطيرة جمع معهم, وهذا يدل على أن ابن عمر لا يرى بأساً بالجمع الصوري والجمع غير الصوري للعذر, فدل ذلك على أن الصحيح هو القول الثاني.
ومما يدل على ذلك أن هذا هو فعل الصحابة, فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جمع الأمراء جمع معهم في ليلة مطيرة, بل نقول: قد روى عبد الرزاق أن عمر جمع بين الظهر والعصر في مطر.
وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : من السنة أن يجمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة.
نقول: اختلف العلماء في ذلك على قولين.
القول الأول: هو مذهب مالك و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد : أن الأعذار محصورة، على خلاف في حصرها كما سوف نأتي إلى تفصيلها إن شاء الله بعد ذلك.
فالحاصل أنه ذهب مالك و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد إلى أن هذه الأعذار محصورة.
والقول الثاني في المسألة: أن هذه الأعذار موصوفة فليست بمحصورة, فيجوز للخباز أن يجمع إذا خشي على ماله, وكذلك يجوز للذي خاف من فوات رفقته, وكذلك يجوز للمريض, ويجوز لعذر المطر, أو الوحل، أو عنده محل, وكذلك لأجل الخوف أو الشغل, وهذا هو مذهب أحمد في رواية, بل هو المذهب كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قال: وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين هو مذهب أحمد ، وهو الذي تدل عليه أصوله ونصوصه, وهو مذهب محمد بن سيرين و ابن المنذر ، وهو اختيار النووي و أبي العباس بن تيمية و الخطابي و القفال و أبي علي بن أبي هريرة من الشافعية, وقالوا: إن الأعذار ليست محصورة, لكن يجب ألا يصلي إلا لعذر يشق معه عدم الجمع, وقد سبق أننا قلنا: إن العذر هو المشقة غير المعتادة, وأما المشقة المعتادة فإنه لا ينفك التكليف عنها غالباً كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله.
العذر الأول: الجمع لعذر المرض فقد اختلف العلماء هل يجوز الجمع لعذر المرض أم لا؟
فالقول الأول في المسألة: أنه يجوز الجمع لعذر المرض, وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة, وقول عند فقهاء الشافعية واختيار أبي العباس بن تيمية و ابن القيم ، وعليه الفتوى عندنا في زماننا عند مشايخنا، إلا أن المالكية قالوا: إن هذا في المرض الذي يخشى معه غياب عقله في وقت الثانية, فيجمع بين الظهر والعصر إذا خشي أن المرض يشتد عليه، فربما أغمي عليه في وقت العصر.
إذاً المالكية أشد من الحنابلة في مسألة الجمع للمرض, فهم يرون جواز الجمع للمرض، لكن يقيدون بما إذا كان يخشى الغلبة على عقله بحيث لا يدرك الثانية, فيقولون: إذا خشي فإنه يجوز له أن يجمع جمع تقديم.
وذهب الحنابلة إلى أن المرض إنما هو المرض الذي يشق معه الصلاة في وقتها, كأن يشق عليه أن يقوم فيتوضأ، فقالوا: هذا معذور, واستدل أصحاب هذا القول بأدلة:
الدليل الأول: ما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر )، وهذه رواية حبيب بن أبي ثابت عن سعيد عن ابن عباس , وفي رواية أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس : ( من غير خوف ولا سفر )، قالوا: من المعلوم أنه لا يمكن أن يكون قد جمع من غير عذر, فدل على أن العذر إنما هو المرض.
والجواب على هذا: أن تحديده بالمرض تحكم, خاصة أنه لا يجوز الجمع لأجل عذر الإمام, بل للعذر الذي يقع على غالب الناس, ولم يأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرض عام يشق على الناس فيه, فدل على أن تحديد ذلك العذر بالمرض يحتاج إلى وقفة، وينبغي لمن قال بها أن يتأملها أكثر وأكثر!
ولكن الدليل الأقرب والأظهر هو ما رواه الترمذي من حديث حمنة بنت جحش ، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! إنني أستحاض فلا أطهر, قال: أنعت لك الكرسف- وهو القطن - قالت: يا رسول الله! إنه أشد من ذلك, قال صلى الله عليه وسلم: فاستثفري قالت: يا رسول الله! إنه أكثر من ذلك, قال: فتلجمي، قالت: يا رسول الله! إنما أثج ثجا, قال: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء ثم توضئي وصلي ), أو قال: (اغتسلي وصلي, وإن شئت أن تؤخري الظهر إلى وقت العصر ثم تغتسلين وتصلين جميعاً, وتؤخري المغرب إلى وقت العشاء ثم تغتسلين وتصلين جميعاً، وهذا أحب إلي).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـحمنة بنت جحش أن تجمع بين الظهر والعصر لعذر الاستحاضة, ومن المعلوم أن الاستحاضة مرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق ), وهو مشقة غير معتادة, ولأجل هذا جاز لها أن تصلي جمعاً, فدل ذلك على أن المرض عذر، وهذا أظهر.
القول الثاني في المسألة: وهو المذهب عند الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد ، قالوا: إن المرض لا يجوز معه الجمع.
والراجح هو القول الأول؛ لأن الإلزام بأن يأتي نص بذلك مع العلم أن الشارع لا يفرق بين متماثلين تحكم، وقد جاء الشرع بالجمع في غير ذلك.
يقول ابن تيمية : وجمع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة وفي مزدلفة ولم يكن ذلك لأجل مطر, أو لأجل النسك؛ لأنه لو كان لأجل النسك لجمع من حين إحرامه بالحج أو العمرة, فدل ذلك على أن الجمع كان لحاجة التفرغ للعبادة، قال: فهذا يدل على أن العذر أياً كان يجوز معه الجمع, ومن ذلك المرض, فإن المرض ربما يكون أعظم ضرراً ومشقة من المطر.
أي أن المطر أحياناً ليس فيه ضرر كبير، مثل المرض الذي يشق على المرأة معه أن تقوم فتتوضأ في الوقت الآخر، فإن هذا فيه مشقة غير معتادة, فلأجل هذا قلنا: الراجح -والله أعلم- أن الجمع لأجل المرض لا بأس به، وهو مذهب الحنابلة والمالكية.
نقول: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة والشافعية في أحد القولين إلى أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر؛ لأنه ليس ثمة عذر ولا مشقة.
القول الثاني: وهو رواية عند الإمام أحمد ، وهو المذهب عند الشافعية، وقول عمر رضي الله عنه: أن ذلك جائز.
فنقول: الراجح جواز ذلك بشرط أنه يفرق في الجمع بين الظهر والعصر لأجل المطر بين الصيف والشتاء؛ لأن الشتاء يغلب على الظن استمرار المطر بحيث يشق على الناس الخروج معه, خاصة أن الإنسان قد لا يستطيع أن يرى من شدة المطر, ولهذا يفرق بين البلاد في ذلك, فليس الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر جائز إلا متى وجدت مشقة, أما أن يكون مثل المطر الذي يوجد الآن في بلادنا في الصيف، فإن هذا سحابة صيف، وبين الظهر والعصر مسافة طويلة, لا يسوغ معها الجمع بدعوى المطر؛ لأن الجمع إنما جاز لأجل أنه يشق عليه الخروج في وقت الثانية, أو يغلب على ظنه استمرار المطر, أما مع وجود الأعذار البسيطة مثل هذا فلا ينبغي التعجل في هذا الأمر، وفي المسألة تفاصيل.
ولعل في هذا كفاية, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر