وبعد:
فقد ذكرنا أيها الإخوة! خلاف أهل العلم في متى يبتدئ وقت عرفة؟ وقلنا: إن جماهير أهل العلم على أن وقت عرفة يبدأ من بعد زوال يوم التاسع، وينتهي من طلوع الفجر يوم العيد.
وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من طلوع شمس يوم التاسع، وثمرة الخلاف هي أن من وقع بعرفة صبيحة يوم التاسع، ثم خرج منها لعذر مثلاً: فإنه على قول الجمهور فات حجه، وعليه أن يتحلل بعمرة، وعليه الهدي، فإن كان حجه حجة الإسلام فعليه الحج من قابل، وأما على مذهب الحنابلة: فإنه يكون حجه صحيحاً؛ ولكن يجبره بدم؛ لأنه لم يرجع إلى عرفة ليخرج مع الناس قبل غروب الشمس.
العلماء قسموا الواقف بعرفة إلى قسمين: قسم وافاها ليلاً، وقسم وافاها نهاراً.
القسم الأول: هو الذي وافاها ليلاً وهذا يصح أن يبقى فيها زماناً يصدق أن يكون ذكر الله فيها، حتى لو كان ماراً ثم خرج، فقد وقف بها حينئذ، ويكون حجه تاماً، ولا إشكال في ذلك، بل نقل الإجماع، كما في حديث عروة بن مضرس ، وكما في حديث ابن عمر الذي رواه الدارقطني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى عرفات بليل فقد تم حجه، ومن لم يدرك عرفات بليل فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمرة )، وهذا الحديث ضعيف في سنده رحمة بن مصعب عن ابن لهيعة ، و رحمة هذا ضعيف و ابن لهيعة ضعيف أيضاً.
ولكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة فمن أدرك عرفة بليل أو نهار فقد تم حجه ).
القسم الثاني: من وافاها نهاراً، فهذا فيه أقوال لأهل العلم:
القول الأول: قول عامة أهل العلم فهم يرون أنه يجب عليه البقاء إلى غروب الشمس، بحيث يخرج من حين غروب الشمس، ولو خرج قبل غروب الشمس وجب عليه أن يرجع فيجمع بين الليل والنهار، فمن لم يرجع، أو رجع بعد غروب الشمس وجب عليه دم، كما هو مذهب أبي حنيفة و أحمد رحمه الله، وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: قول الشافعي : فقد ذهب الشافعي إلى أنه لا يلزمه شيء، وأن حجه تام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن أدرك عرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه )، قال الشافعي : فهذا تم حجه وقضى تفثه ولا إشكال.
القول الثالث: قول مالك ، أن من وقف بعرفة بعد زوال الشمس ثم خرج منها قبل الغروب فإن حجه قد فات وأن عليه ركناً، قال ابن عبد البر وهو مالكي: لا أعلم أحداً وافق مالكاً في هذا.
والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم هو قول الجمهور على أن الوقوف بعرفة لمن وافاها نهاراً أن يبقى إلى غروب الشمس؛ لأمور:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في عرفة حتى غربت الشمس وزال وغاب القرص، كما يقول جابر ، وإنما صنع ذلك عليه الصلاة والسلام بياناً لقوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، والحيث هنا كما يقول بعض علماء اللغة: تصلح أن تكون زمانية ومكانية؛ لأن حيث معلوم أنها مكانية، لكن تصدق أن تكون زمانية أيضاً، فـ(حيث أفاض الناس) يعني: وقت إفاضة الناس، ومعلوم أن إفاضة الناس تكون بعد غروب الشمس، وقد كانت الجاهلية تخرج قبل غروب الشمس، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة المشركين مقصد.
ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد تم حجه وقضى تفثه ) المقصود بإتمام الحج أداء أركانه، وليس المقصود أن ليس عليه شيء؛ بدليل أن الشافعية وكل من قال بقولهم لم يقولوا أن من خرج من عرفة قد تم حجه وقضى تفثه؛ لأنه يلزمه المبيت بمزدلفة ومنى والرمي، وطواف الإفاضة وغير ذلك من مسائل الحج، فدل ذلك: على أن معنى (تم حجه)، يعني أنه أدرك الحج، بخلاف طواف الإفاضة، فإن طواف الإفاضة وإن كان ركناً؛ إلا أنه لا يزول وقته، فوقته ممتد، ولعل قول الجمهور أقوى، والله أعلم.
القسم الأول: هو عدم إلزام الناس ما لم يرد به دليل، فنقول: ما معنى: لا تشددوا على الناس؟ هل معنى: لا تشددوا على الناس، أن كل قول لم يرد فيه نص من الشرع من كتاب أو سنة لا ينبغي أن نشدد فيه على الناس، فنقول: نعم؛ لأن الله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، ونحن متعبدون بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسنا متعبدين بعادات أو أفعال كنا نفعلها وتبين أنها خلاف السنة، فإننا نتركها، وهذا حق.
كما كان علي رضي الله عنه ( حينما رأى
القسم الثاني: أن يكون مناط الحق والتعليل هو أنه إذا وجدنا الناس يشق عليهم هذا الأمر أو فيه كلفة ومشقة وإن كان الدليل واضحاً، والسنة فيه عامرة قلنا: لا تشددوا على الناس، فإن قائله ينبغي أن يستبين؛ لأن معنى كلامه إذا بينت له السنة قال: لا تشددوا على الناس، قلت له: أرأيت لو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول؟ قال: لا تشددوا على الناس، نقول: هذا خطر؛ لأنك كأنك تقول: إن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليست سمحة، ثم إن خطأ الناس وعدم معرفتهم بالسنة والواجب ليس علاجه أن نترك السنن لأجل بقاء الناس على ما هم عليه، نبين للناس المشروع، نبين لهم ألا يرموا قبل الزوال وأن يرموا بعده، نبين للخطوط السعودية أنها لا تجعل الطيران الساعة الثانية ظهراً مما يضطر الناس إلى الخروج قبل الزوال، وإن كنت أرى جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر لعدم ورود ما يدل على منعه، ولثبوت ذلك عن الصحابة، كما ثبت عن ابن عباس ، وروي أيضاً عن عبد الله بن الزبير .
لكن أخطاء الناس لا تعالج بترك السنن، فينبغي إحياء السنة، ( فمن أحيا سنةً قد أميتت فله أجرها وأجر من عمل بها بعده إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء ).
وعلى هذا: فكلمة لا تشدد على الناس،كلمة مجملة ينبغي التفصيل فيها، وإذا ثبتت سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز تركها لأحد أو لقول قائل من الناس، ولكن كما قال الإمام الشافعي في كتاب الرسالة: وقد أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يدعها لقول أحد من الناس.
واليوم لو قال قائل باستحباب المتعة فلن تجد أحداً ينكر عليه، وقد كان الناس في السابق ينكرون على من يقول بالمتعة، حتى إن عروة بن الزبير أنكر على ابن عباس قال: يا ابن عباس تقول بالمتعة! أأنت أعلم أم أبو بكر و عمر ؟ قال: يا عرية سل خالتك، وقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارةً من السماء، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر و عمر ، قد يقال: هكذا يريد الإعلام، أو هكذا يريد الناس؟ لا، السنة أحق أن تتبع.
نعم إذا وجدت مشقة وحرج وعنت ولم نجد بديلاً لذلك، فالشارع كما ثبت في الحديث أنه (ما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، فلا ينبغي أن نشدد على الناس بما لم يرد فيه نص من الكتاب والسنة، بل ينبغي لنا أن ننظر ما دلت عليه السنة، وما فعله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم على الخير العميم، وعلى الصراط المستقيم، فبهم فأتموا كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله تعالى على الجميع.
وعلى هذا فينبغي أن نحيي السنن عند الناس، ومن ترك سنة قلنا له: تركت السنة الفضيلة؛ لكن أحياناً نترك السنة الواجبة، حتى إن مرةً من المرات كانت بيني وبين بعض طلاب العلم بعض المناقشة فقلت له: ما تقول في حديث فضالة بن عبيد الذي رواه مسلم ؟ فقال: اترك هذا، هذا ضعفه بعض أهل العلم.
قلت: بعض أهل العلم ضعفه، هل تؤمن بهذا التضعيف أم لا؟ أمِنَ التثبت أن أرى قولاً لفلان، أو قولاً لفلان، أو قولاً لفلان وأترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: قال به مالك ، قال به فلان؟
أقول: إن الرجال إنما يعرفون بالحق.
مسألة: لو وجدت زحاماً، ولم يصل الناس في عرفة الظهر، هل الأفضل أن يصلوا الظهر والعصر خارج عرفة أم يصلوا الظهر والعصر في عرفة ولو كان جمع تأخير؟
الأقرب والله أعلم أن السنة أن يصلوا الظهر والعصر في عرفة وأيضاً جمع تقديم، فهي ثلاث سنن: جمع وتقديم وفي عرفة، وإذا تركت سنة فلا تترك السنة الأخرى.
ذهب مالك رحمه الله إلى أن المكي له أن يقصر في عرفة وفي مزدلفة وفي منى خاصة، فلو صلى المكي الظهر والعصر في مكة يعني في الحرم فإنه لا يقصر على قول مالك ، ولو صلى أيام منى في غير منى فإنه لا يقصر، ولو صلى المغرب والعشاء في غير مزدلفة فإنه لا يقصر، هذا قول مالك ، وبهذا نعرف خطأ من ينسب أن المكي يقصر مطلقاً إلا الإمام مالك ، و مالك لا يرى هذا، مالك يرى أن القصر في المشاعر الثلاثة، في منى، وفي مزدلفة، وفي عرفة، وقال مالك : يقصر المكي في عرفة إلا العرفي، ويقصر المكي في منى إلا المنوي، والمنوي ساكن منى، والعرفي ساكن عرفة، ومن سكن أيضاً مزدلفة، فدل ذلك على أن مالكاً إنما يرى الجواز في حق من لم يكن في عرفة من أهل عرفة فهذا له أن يقصر.
وذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة والشافعية وأكثر السلف إلى أن المكي لا يقصر إلا بقطع المسافة، ولا يقصر لأجل النسك كما يقول مالك ، يقول ابن تيمية : لو قيل: يقصر لأجل النسك؛ لجاز للمكي من حين إحرامه في بيته أن يقصر، ولا قائل به، هذا كلام ابن تيمية ، وقد قال به بعض مشايخنا في هذا الزمان، وقد سألت شيخنا عبد العزيز بن باز وهو يرى أن المكي يقصر، فقلت: يلزم من هذا يا شيخ! أن المكي من حين إحرامه يقصر؟ قال: نعم.
يقول ابن تيمية : ولم يقل به أحد من أهل العلم!
والأقرب كما قلت: هو قول الحنابلة والشافعية وأكثر أهل العلم؛ لأمور: أن القصر لم يشرع إلا إذا ضرب الإنسان في الأرض، وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي و ابن خزيمة من حديث أنس بن مالك الكعبي : ( إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم )، وقيد ذلك بالمسافر فدل على أن غير المسافر لا يقصر الصلاة.
ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأهل مكة: أتموا صلاتكم، قلنا لهم: وأيضاً لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما صلى بأصحابه في فتح مكة في مكة أنه قال لهم: أتموا صلاتكم، وأما حديث ( أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر )، فهذا حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنده ضعيف، وأصح شيء في الباب ما رواه مالك في موطئه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ذهب عامة أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أن عرنة ليست من عرفة، وعلى هذا: فمن وقف بعرنة فإنه لم يقف بعرفة.
وذهب مالك رحمه الله: إلى أن من وقف بعرنة فحجه صحيح، ولكن يجبره بدم، والجمهور قالوا: الدليل على أن عرنة ليست بموقف ما جاء عند ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة )، وهذا الحديث ضعيف، وأصح منه ما ثبت عند ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عن عطاء، ورواه أيضاً ابن خزيمة عن ابن عباس أنه كان يقال: ( ارتفعوا عن محسر وارتفعوا عن عرنة )، ولعل هذا القول أقوى، والله تبارك وتعالى أعلم.
والذين جوزوا ذلك قالوا: لأن عرنة من عرفة و ابن قدامة يقول: عرنة ليست من عرفة.
والراجح والله أعلم: أن عرنة ليست من عرفة، وما زال الناس عليه إلى اليوم، والحكومة جزاها الله خيراً تجعل أناساً يبينون للناس ألا يقفوا بعرنة، وهذا حق يشكرون عليه.
بل إنه ربما اتصل على أهله، وقال: أبشركم أنا قد وصلت كذا، وليس هذا من البر، وقد آذيت حجاج بيت الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أن السكينة مطلب، ( فإذا وجد فجوة نص ) يعني أسرع بأبي هو وأمي، فمتابعة السير على أصوله وعدم مخالفة، وهذا الترتيب مقصد شرعي؛ لأنك أنت إذا خالفت السير فسوف يتابعك أحد، وإذا تابعك هذا وهذا فقد اختل نظام السير ووقع الحرج والمشقة.
ولهذا الواجب على كل حاج أن يعلم أن حجه ليس له فقط، بل يسأل عن إخوانه وخلانه وأقربائه، فلا يكون كلام وهرج، بل ربما نسي الكثير التلبية والخشوع والإخبات والانكسار، مباهاة من رب الأرض والسماء، وموقف رهيب، وحجاج متضرعون إلى الله، فتجد أن هذه الوقفات الإيمانية تتناسى أمام رغبة الناس في التقدم إلى مزدلفة.
فإذا وصل الحاج فإن المشروع في حقه الجمع، بأن يصلي في مزدلفة وأن يجمع جمع تأخير، فلو صلى في غير مزدلفة صحت صلاته عند الأئمة الثلاثة خلافاً لـأبي حنيفة ، فإن أبا حنيفة كما ذكر ذلك المرغيناني قال: من صلى المغرب والعشاء جمعاً في غير مزدلفة، أو صلى المغرب في وقتها والعشاء في وقتها، أو صلى المغرب والعشاء جمعاً في مزدلفة جمع تقديم وجب عليه أن يعيد.
وأما مالك كما في المدونة: قال ابن القاسم : قلت لـمالك : أرأيت من وصل مزدلفة قبل مغيب الشفق؟ قال: لا -أظنه لأن المسافة بعيدة- قال: أرأيت من وصل؟ قال: أحب ألا يصلي حتى يغيب الشفق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بجمع تأخير.
وقال الإمام الشافعي أيضاً هذا في كتاب الأم، وأيضاً نص أحمد على الإجماع في ذلك.
وهل يشرع صلاة الليل والوتر ليلة جمع؟
الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم: أنه يشرع للإنسان أن يصلي ليلة جمع صلاة الوتر، لقول عائشة كما في الصحيح: ( ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر ولا الوتر في حضر ولا سفر )، وهذا عام يدخل فيه، وأما قول جابر كما في صحيح مسلم : ( ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح )، فإن جابراً إنما ذكر حسب ما رأى، وإلا فقد خفي عليه أن سودة أتت النبي صلى الله عليه وسلم من الليل واستأذنته، وأن أغيلمة بني عبد المطلب أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفروا مع الثقل، وكل ذلك بالليل و جابر لم يعلمه، وما يدري لعله عليه الصلاة والسلام كان يصلي.
ثم إنه من البعد بمكان أن يكون عليه الصلاة والسلام قائم يبين للناس سنته، ويجد فرصةً ولا يصلي، كيف وهو الذي يقوم حتى تتفطر قدماه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وإذا صلى المغرب والعشاء بحث عن مكان يأوي إليه، ويبتعد عن كثرة الحديث، أو يبين لأصحابه أحكام السنن، أو يرشدهم أو يعظهم.
فهذه الليلة، ليلة عليها نور النبوة، يبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، يبين فعل السلف ما كانوا يصنعون، بحيث يكون الناس تشرئب أعناقهم، تتطلع نفوسهم إلى حياة أولي النهى، إلى حياة الصحابة الكرام، بحيث تتوق نفس المسلم أن يعيش مثل هؤلاء، فيتذكر أن هذا الموطن كان فيه عليه الصلاة والسلام، وكان فيه الصحابة، وكان فيه إبراهيم وما حصل لإبراهيم عليه السلام مع إبليس في مثل هذه المواطن، كما ذكر ذلك ابن خزيمة في صحيحه، فيذكر الناس بمثل هذه المواطن، بحيث تتعلق النفوس في مثل هذه المواطن، أسأل الله ألا يحرمنا فضله، ولا خير ما عنده.
وأما قول ابن عمر كما في الصحيحين: ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولئك )، فالرخصة لها معنيان عند السلف: الرخصة ضد العزيمة، والرخصة ضد الأفضلية؛ لأنه إذا جاز لهم أن ينفروا أي الضعفاء دل ذلك على أن ذلك وقت للنفر، وإذا كان ذلك وقته جاز للأقوياء أن ينفروا، وإن كانت السنة ألا ينفروا.
أولاً: قول المبيت بمزدلفة محل نظر، كما قال ابن تيمية فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه قال: المبيت بمزدلفة، إنما يقال: الوقوف بمزدلفة، والمبيت إنما هو في منى، ثم إن قول: المبيت بمزدلفة واجب محل نظر؛ لأن من جاء مزدلفة بعد أذان الفجر، أو قبل أذان الفجر بقليل فصلى الفجر ثم نفر صح منه الوقوف بمزدلفة؛ لحديث عروة بن مضرس ، ولم يحصل منه بيتوتة، فدل كما يقول ابن تيمية : على أن البيات بمزدلفة لا يصح اسماً، وإن كان من وافى مزدلفة قبل منتصف الليلة أو قبل مغيب القمر ينبغي له أن يبقى إلى مغيب القمر، أو إلى منتصف الليل، كما يقول الشافعية والحنابلة.
فإذا نفر الضعفاء فإن الأفضل في حق الأقوياء وإمام الحج ومن في حكمهم عليهم أن يبقوا في مزدلفة حتى يصلوا الفجر فيها، ويبقوا يذكرون الله عند المشعر الحرام، ومزدلفة هو المشعر الحرام، كما قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وهذا يدل على أن الوقوف بمزدلفة واجب، وأما بقاؤه إلى الليل أو أكثر فهذا محل اجتهاد، كما يقول مالك رحمه الله.
كان اليهود والنصارى معه في المدينة فكان يحب التميز والظهور عليهم بمذهب أرحب وأنقى، حتى إنه عليه الصلاة والسلام ( كانت اليهود إذا حاضت المرأة لا يواقعن ولا يجامعن في البيوت ولا يواكلوهن، فجاء
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحني وإياكم رضاه والتقوى والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الهدى والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر