الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:8-16].
في هذه الآيات من كتاب الله ذكر الله عز وجل الصنف الثالث -وهم الذين ظهروا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة- وهم المنافقون, الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، فقال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] .
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الله جل وعلا بين في هذه السورة وفي هذا المقام من صفاتهم ما لم يبينه من صفات الكفار, فتجد أن تفصيل حال المنافقين في هذا المقام أكثر من تفصيل حال الكفار الذين كفروا ظاهراً وباطناً؛ لما في حال المنافقين من الكيد للمؤمنين والتشبع بالإسلام والإيمان وهم ليسوا كذلك, إلى غير ذلك من الوجوه التي يراد منها بيان فساد هذه الطريقة حتى لا يقع فيها وفي أثرها من هو من أهل الإسلام.
فإن خطر المنافقين على المسلمين أبلغ من خطر الكفار ظاهراً وباطناً, والمراد بالمنافقين هنا: المنافقون الذين ذكروا في القرآن على هذه الصفة؛ كــعبد الله بن أبي بن سلول ونحوه, فإن الله جل وعلا بين أن أحوالهم قد تخفى على الناس؛ ولهذا لم يظهر كثير من حالهم لبعض المسلمين.
ومن أشد ما يشكل في أمر المنافقين أنه قد يقع من بعض المسلمين السماع لهم؛ كما قال الله جل وعلا: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] , فهذا مما يجب على المؤمنين أن يحذروه من أمر المنافقين.
قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] , فهذا بيان صريح في كتاب الله أن المنافقين ليسوا من المؤمنين, وهذا مثل قول الله جل وعلا في سورة التوبة: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56]، وهنا قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] .
ثم ذكر الله جل وعلا مخادعتهم المؤمنين, فقال جل وعلا: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9] , فذكر مخادعتهم لله, وهذا فيه تطمين لنفوس المؤمنين أن الله سبحانه وتعالى محيط بهؤلاء المنافقين, وما يكون من مخادعتهم للمؤمنين فإنما هو مخادعة لما شرع الله، وإذا أبدلوا الشريعة بالمخادعة فإن الله سبحانه وتعالى محيط بهم؛ ولهذا كما أخبر الله في مثلهم الذي ضرب بعد ذلك: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] , فتركهم الله جل وعلا في طغيانهم يعمهون, أي: يترددون في الضلالة.
ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] , أي: إذا طلبوا ودعوا إلى الإيمان قالوا في أنفسهم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] , يقولون هذا على سبيل الاستكبار, وهذه طريقة المنقطع أنه إذا كان ليس على أثارة من العلم, وليس على قدر من الإدراك والوعي فإنه يرمي غيره ممن هو على قدر من العلم والاتباع والمعرفة بالسفه ونحوه, فهذا من مقامات الجهل المطبقة, ومن مقامات الاستكبار, فمن أعظم مقامات الاستكبار: الاستكبار عن العلم والمعرفة.
ولهذا صرف الله جل وعلا هديه وما أوحى إلى أنبيائه عن المتكبرين, فقال الله جل وعلا: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ [الأعراف:146] , والمنافقون من أهل الكبر, ولهذا يقولون في أنفسهم: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] , فقال الله جل وعلا: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] ؛ لأن السفيه في الشريعة وفي أمر الديانة هو من سفه الحق؛ كما قال الله جل وعلا في مشركي العرب: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] , فهؤلاء سفهاء؛ لأنهم سفهوا الحق, فكل من أعرض عن الدين فإنه سفيه كما سماه القرآن في قول الله جل وعلا فيمن أعرض عن ملة إبراهيم: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130], فيكون سفيهاً, وهذه أبلغ السفاهة, وهي أبلغ من سفاهة الصبي ونحوه, ممن لا يحسن التصرف في ماله, بل هذا هو أعظم السفه وهو السفه الديني, فإذا أعرض عن دين الله وعن النور الذي أنزله الله فهذا هو السفه المطلق في القرآن؛ كما قال الله جل وعلا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] , أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] , وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] .
فجعل الله كل مخالف لملة إبراهيم سفيهاً, ولا شك أنه كذلك كما أخبر الله جل وعلا به: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] , وأنت إذا رأيته من جهة الاعتبار بان لك ذلك, فإنه وإن كان عارفاً بنوع من العلم أو حتى مبدعاً فيه أو إماماً فيه، إلا أنه بتركه ما هو أعظم وادعى للاعتبار في نفسه وفي مصلحته وفي تقدير خالقه, وهو تركه للدين فهو أبلغ السفاهة.
فإن السفيه: هو من لا يحسن التصرف. وهذا الذي لم يؤمن بسبب كفره الصريح، أو لم يؤمن بسبب نفاق أظهر معه الإيمان، فإنه سفيه؛ لأنه ترك المصلحة العليا وهي أن يكون مؤمناً؛ لأنه إذا كان مؤمناً أصاب رضا الله, واستحق رحمة الله سبحانه وتعالى, فإن رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] , بخلاف إذا كابر هذا الرسول وما أوحى الله سبحانه وتعالى فإنه يكون سفيهاً؛ لأنه أعرض عن حق الله الأعظم وهو طاعته وتوحيده, وأعرض عن مصلحة نفسه في آخرته, فعرض نفسه لأن يكون من أهل النار إذا مات على غير الإيمان، وعرض نفسه في حياته لعدم السعادة, فإن العمل بشرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيه استقامة أحوال الناس وفيه سعادتهم، بخلاف الإعراض عن شرائع الأنبياء, فإن فيه فساداً في أحوال الناس وفي أخلاقهم وفي طبائعهم؛ ولهذا بين الله جل وعلا أن بذكر الله تحصل طمأنينة القلوب، فقال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] .
بين الله في هذه السورة حال المنافقين، فقال جل وعلا: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: مع شياطينهم.
قال بعض المفسرين من الصحابة ومن بعدهم: إن المراد بشياطينهم: نفر من اليهود. وقيل: بعض المنافقين. وقيل: نفر من المشركين. ولا تعارض، فالآية تتحمل هذا كله؛ فإنهم إذا خلوا إلى بعضهم إلى غير المؤمنين بينوا أنهم ليسوا على الإيمان الصحيح.
ولهذا لا يدخل المنافق في اسم الإيمان؛ لأن هذا نفيه صريح في كتاب الله (وما هم بمؤمنين), وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
قال الله جل وعلا: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15].
والعمه في اللغة هو: التردد فيما ليس حسناً, فالتردد في الظلمة يسمى: عمهاً, والتردد في الأمر السيئ يسمى عمهاً, فأما إذا كان تردداً في وجه فاضل أو بين فاضلين فإنه لا يسمى عمهاً, إنما العمه هو من استغلق عليه الأمر كالتردد في الظلمة؛ ولهذا قال الله تعالى: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:186] .
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] , فكل هذا الترتيب الذي رتبوه مع أنفسهم ومع شياطينهم وهذا الإظهار وهذا الإخفاء شأنه قريب, وإن كان يلوح لهم أنه نوع من الامتياز وحسن التدبير, بل حقيقته ومآله أنهم (اشتروا الضلالة بالهدى), قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] .
فسمى الله هذه تجارة؛ لأن فيها ترتيباً, وبين أنها تجارة خسارة, وأن هذا المكر مآله إلى الخسران, فقال تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] , وهذا مطرد في أن كل من راعى في فعله ما هو على خلاف شرع الله -وإن لاح له أن ذلك يكون حسناً له أو نافعاً له في دنياه- فإن عاقبته في دنياه وفي آخرته خلاف ذلك.
ألا ترى أن أبا طالب لما حضرته الوفاة؛ كما في حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ).
و أبو طالب عالم وموقن أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق, بل كان يقول هذا في شعره:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
( فقال له: قل: لا إله إلا الله, فراجعه أبو جهل ، فقال: هو على ملة عبد المطلب , فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قل: لا إله إلا الله, فراجعه أبو جهل فقال هو: على ملة عبد المطلب , ومات عليها ).
فـأبو طالب مات عليها مع أنه يعلم أن هذا خلاف الحق, ولكنه أصر على هذه الكلمة وظن أن هذه محمدة ستبقى له, فقدر مصلحة تحمده بها العرب في ظنه, ونسي أن العرب بجملتهم سيكونون من أهل الإسلام, وسيعم الإسلام العرب والعجم, وسيظهر الله هذا الدين إلى أن تقوم الساعة, وسيكون هذا الدين هو حجة الله على خلقه.
فما حسب أبو طالب هذه الأبعاد، وهكذا إذا اعتمد الإنسان على نظره وعلى عقله وعلى تدبيره خسر, فتدبير الإنسان مهما كان فهو قاصر, ومهما بلغ الإنسان في الاعتبار فنظره قاصر, وهذا مطرد, حتى في أمور العلم وفي غيرها، فينبغي أن يكون الإنسان مقدراً للعاقبة التي عند الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي بيده مقاليد كل شيء.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه, وأن يعلي كلمته, وأن يجعلنا من أنصار دينه, وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح, والإخلاص لوجهه الكريم.
وبالله التوفيق, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر