إسلام ويب

المدخل لدراسة الفقه [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من الأهمية بمكان معرفة المدخل العام للعلوم الشرعية، والقراءة في نشأة العلوم، فهي رفيقة طالب العلم في حياته العلمية. ومن هذه الأمور دراسة المدخل لعلم الفقه المبني على مقدمات من أهمها: معرفة المعنى الشرعي والاصطلاحي لكلمة الفقه، والاهتمام بالمقاصد الشرعية ومعرفة دلالات النصوص، وكذا الاهتمام بدراسة المدارس الفقهية، ومعرفة أسباب اختلاف الفتوى، وما امتازت به كل مدرسة عن غيرها.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فالمدخل لدراسة الفقه هو شيء مهم جداً لطالب العلم؛ فإذا أراد طالب العلم دراسة علم الفقه مثلاً، أو علم الحديث فلا يصح تحت هذا القصد أن يكون علمه في التفسير لا حقيقة له، أو لا وجود له بوجه متحصل، بل حتى إذا أقبل على علم الفقه أو الحديث أو غيره من أصناف العلوم فإن المدخل العام يقتضي أن يكون ناظراً في قدر مناسب لمراده ولقدرته ولإمكانه من كتب الفقه، وكتب أصول الفقه، وكتب التفسير، وكتب اللغة، وكتب الحديث وعلومه وهلم جرا.

    وإذا ما ابتغى طالب العلم في كل علم من هذه العلوم جملة من الكتب، ولو ثلاثة أو أربعة من الكتب التي هي أمهات في هذه العلوم، فإن هذا في الجملة يحصل عنه نتيجة مفادها، أن طالب العلم بهذا الاعتبار قد أخذ مدخلاً في العلوم التي سميت بهذه الأسماء.

    ولعل المقصود من المدخل على هذا المعنى صار بيناً من حيث العناية بنشأة هذه العلوم، كعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم الحديث، وعلوم اللغة، وخاصة ما يتعلق منها بعلوم الشريعة، ويتفرع عن ذلك النظر في مسائل الدلالات كدلالات النصوص فيما يتعلق بعلم أصول الدين، ومسائل الاعتقاد.

    المعنى المقصود من المدخل

    والعناية كمدخل عام بنشأة هذا العلم كاسم مختص، وبمسائله على وجه التفصيل الذي يناسب المقام، بحيث لا يكون تفصيلاً كحال المختصين في هذا العلم.

    فمثلاً: إذا جئنا إلى التفسير فإنه يقرأ في نشأة هذه الكتب ومناهجها، وقد كان السابقون من الصحابة والتابعين كما هو معروف على عناية بما سمي بالتفسير المأثور، والذي يتضمن بيان مراد الكلمات من حيث هي أفراد، وبيان مراد السياق من حيث دلالات السياق على معانيها.

    ثم اختص بعد ذلك كما هو معروف في نوع من هذه الدلالات بنيت على الأثر من جهة, وبنيت على نظام الأدلة الفقهية من جهة أخرى، وظهر ما يعرف بكتب التفسير التي عنيت بالأحكام، كأحكام القرآن للقرطبي و لـابن العربي وأمثالها من الكتب التي عنيت ببيان أحكام القرآن, فإن هذا نوع، والسابق له كما في تفسير ابن جرير وأمثاله من كتب التفسير بالمأثور نوع وهلم جر.

    أهمية القراءة في نشأة العلوم

    والقراءة في النشأة أهميتها تأتي من جهة أن طالب العلم يكون على حسن إدراك لمقتضى هذه النتائج التي وصلت إليه في هذا العلم المعين، فمثلاً: إذا كان يقرأ في المدخل العام في كتب الفقه، فأولى له أن يكون على نوع من الإدراك لنشأة المدارس الفقهية، ونشأة المناهج الفقهية كذلك، فإن ثمة مناهج فقهية، وثمة مدارس فقهية، وهذا ليس مقصوداً أن نستفصل فيه الآن, لكنه تمثيل للنشأة.

    يعني: لو أن طالب علم، أو ناظراً في العلم إقباله ومراده ونفسه مقبلة إلى أن يكون مختصاً بعلم الحديث مثلاً, فأراد أن يأخذ مدخلاً في الفقه، وإلا فإقباله من حيث الاختصاص على علم الحديث، فإذا ما أرد أن يأخذ في الفقه فلا بد له أن يعرف المناهج الفقهية التي استقرت، فإنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان خلاف الصحابة كما هو معروف خلافاً مشهوراً في كثير من المسائل، وقد أجمعوا على كثير من المسائل، ولكن تكّون من الفقه الذي أثر عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعض المدارس الفقهية، وتكونت بعض المناهج الفقهية التي يكون الخلاف بينها كمناهج أو كمدارس هو في الجملة من خلاف التنوع المقبول، وعلى كل حال فهذا سيأتي.

    لكن المقصود: أن من يقصد إلى علم من العلوم كعلم الفقه وهو مختص بعلم الحديث، أو بعلم الاعتقاد، أو بآخر، أو بالتفسير مثلاً وأصوله، فإنه يأتي إلى النشأة؛ لأن النشأة تفيد طالب العلم، حتى يعرف منازع المدارس الفقهية، وإذا ما قرأ بعد ذلك في كتاب من كتب فقه الحنفية، أو كتب المالكية فإنه يدرك النشأة التاريخية التي تولد عنها الفقه المالكي، فإنه ربما يقرأ في كتاب لفقيه من فقهاء المالكية من أهل المغرب وقد كثر علماء المالكية في المغرب، فإذا قرأ كتاباً لأحدهم ولم يكن قد قرأ في النشأة ومتصوراً للنشأة فلا يستصحب الأصل الذي تفرع عنه هذا المذهب، من حيث أن مدرسة الإمام مالك التي كانت في المدينة النبوية كنتيجة لجملة من فقه التابعين المأخوذ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو ما يسميه بعض الناظرين في هذا الباب بأنه هو مدرسة أهل الحديث الأولى التي تولدت عنها مدرسة بغداد.

    وعلى كل حال: فإن العناية بنشأة العلم مهمة من هذا الاعتبار كمثال، باعتبار أن يدرك معنى المدرسة كالتمذهب مثلاً، وهذا سيأتي له حديث فيما بعد.

    المقصود من دراسة نشأة العلوم

    لكن العناية بالنشأة ليس كتسلسل تاريخي يقصد للرسم التاريخي المعين فقط، بتسمية رجال بأسمائهم وأنسابهم، وأخذوا عن فلان وهذا في تاريخ كذا، وولد في تاريخ كذا، ويقال: إنه في سنة سبع وتسعين، وقيل: في سنة ست وتسعين، ثم البحث في هذه الجزئيات، كتقدمه في سنة الوفاة أو الولادة أو محل الوفاة ومحل الولادة، فهذا ليس هو المقصود في النشأة التاريخية.

    إنما المقصود البحث في النشأة التاريخية العلمية، التي يكتسب بها الناظر تصوراً مفيداً لنظره في العلم، يوم ينظر في العلم بعد ذلك كنتائج، وكأحكام فقهية في علم الفقه، وكتفسير في علم التفسير، وكنتائج للمحدثين في طريقة حكمهم على الحديث من حيث الصحة والضعف، والتفاوت بين مدارس المحدثين، أو بين طرائق كثير من المحدثين في الحكم على الحديث، وأثر التأخر التاريخي في تساهل أو إسقاط بعض علماء الحديث لكثير من الشروط التي كان يشترطها بعض المتقدمين من المحدثين من الحكم على الحديث بالصحة.

    فإنك إذا اعتبرت حال بعض الأئمة كـابن خزيمة في صحيحه، وقارنت بينه وبين صحيح البخاري ، فإن هذا سمى كتابه صحيحاً، وهذا سمى كتابه صحيحاً، ولكن بين شرط البخاري وطريقته، وبين طريقة ابن خزيمة تفاوت كبير، فالفقه يكون بمثل هذه الأمور.

    أما من حيث التسميات، وأين ولد البخاري ؟ وهل ولد في بلدة كذا؟ أو في بلدة كذا، وهذه البلدة انتقل منها، فهذه الجزئيات التي هي من التاريخ المجرد الذي ليس متصلاً اتصالاً علمياً مباشراً بالعلم، هذا ليس هو المقصود، وإن كان شريفاً في بابه، وإنما المقصود العناية بالنشأة من هذه الجهة.

    ومثله إذا جئت إلى علم أصول الفقه، فإن الناظر في المدخل العلمي العام بعلم الشريعة يأخذ بعض الكتب التي كتبت في علم أصول الفقه، ويأخذ من هذا ما كان من الكتب عمدة في بابه، ولماذا يقال: إنه يكون عمدة في بابه؟

    لأنه لم يختص بعد ذلك، ويتتبع كتب أصول الفقه إذا ما كان مقبلاً على علم آخر كالتفسير مثلاً، فينبغي له أن يأخذ ثلاثة من الكتب، كتاب يؤسس له في علم أصول الفقه، ويتدرج به إلى كتاب متوسط، وكتاب ثالث يكون عمدة في علم أصول الفقه، حتى يكون متصوراً لجملة هذا العلم.

    مثلاً: لو أخذ بعض المقدمات المختصرة وبعضها معاصر في علم أصول الفقه، ثم ارتقى إلى كتاب متوسط، ثم انتهى مثلاً بكتاب جامع من كتب الأصول كالمستصفى لـأبي حامد الغزالي، فقرأه وحاول أن يصل إلى فقه جملته، ثم تجده بعد ذلك من المقبلين على علم آخر على التفسير، أو على علم الحديث، إما رواية وإما دراية, فيكون علمه بأصول الفقه في الجملة إلى قدر كبير مناسباً ومتحصناً.

    ومثله: إذا كان مقبلاً على علم الفقه، فإنه يقبل على الحديث، سواء من جهة علوم الحديث أو من جهة الرواية، فليس صحيحاً أن الفقيه لا يعرف من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما تعلق بجملة من الأحكام، وهي المختصرات التي كتبها الحفاظ المتأخرون، كبلوغ المرام والمحرر وأمثالها، فهذه باعتبار نظر الفقهاء تكون متصلة بنتائجهم الفقهية أكثر من غيرها.

    ولكن من القصد في علم الشريعة أن يقصد إلى كتب السنة الأمهات، فيجعلها مدخلاً له في العلم، ولو بنوع من القراءة المتأملة مرة أو مرتين أو ثلاثاً، أو يتعاهد ذلك فيما يتردد فيه من العلم، كقراءة الكتب الستة أو الكتب التسعة وهي معروفة عند طلبة العلم، البخاري و مسلم والسنن الأربع ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي.

    فهذه الكتب التسعة لا ينبغي لطالب العلم أن يقصر عن النظر فيها إذا ما كان من أهل الحديث، أي: أنه من المختصين بعلم الحديث فإن انشغاله بهذه الكتب سيكون من جهة النظر في أسانيدها وطرقها، ومن جهة درايتها، وغير ذلك من الأمور التي يختص بها الناظرون في الحديث.

    لكن إذا ما كان مقبلاً على علم آخر، فإن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهي أصل العلم مع كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي أن يكون النظر فيها مختصاً لأهل الحديث، ولربما أن بعض الناظرين في الحديث حتى إنما ينظر في مسائل الطرق والأسانيد ولا ينظر في المتون، وكأن المتون إنما هي من اختصاص الفقهاء وهذا ليس كذلك؛ لأن العارفين بعلم الحديث يدركون أن المتن له أثر حتى من جهة صحة الحديث وضعفه، والحكم عليه بكونه محفوظاً أو بكونه شاذاً أو ما إلى ذلك، والعلة كما تكون في السند فإنها تكون في المتن.

    مصاحبة المدخل العام للرحلة العلمية

    وعلى كل حال هذا فيما أرى أنه من المدخل لطالب العلم، ولعل بعض طلبة العلم أو السامعين لهذا الكلام قد يقول: إن الكتب التسعة مطولة، فإن المقصود من المدخل ليس أنه يكون هو الأول في العلم، وينتهي بسنة أو سنتين، إنما المدخل العام يكون مصاحباً لطالب العلم في رحلته العلمية، حتى لو كان يشتغل بعلم خاص، بمعنى: أنه لا يتبادر حينما نقول: المدخل العام أنه ينتهى منه, ثم يبدأ بالمدخل الخاص, فليس الأمر كذلك، وهذا ترتيب فيما أرى فيه وهم كثير.

    إنما المقصود: أن طالب العلم يكون لديه منهج يسميه لنفسه مدخلاً عاماً يتصل بكل علوم الشريعة، أما هذا المدخل فليس المقصود: أنه ينتهي قبل أن يدخل في التخصص كما يقال.

    إنما المقصود: أن هذا المدخل يصاحبه، فلربما تأتي إلى رجل قد عرف بعلم الحديث أو عرف بعلم التفسير، وربما كان أستاذاً فيه بحسب التراتيب الأكاديمية اليوم، أو كان مشهوراً فيه ببحوث أو عرض أو تدريس أو نحو ذلك، فإذا ما كان معروفاً بعلم التفسير فلا يعني أنه في هذه المرحلة من الاختصاص بهذا العلم أنه معزول عن علم أصول الفقه، بل يجب أن يكون جزءاً من المدخل الذي ينتظم معه إلى مراحل متقدمة من العلم.

    وبقدر ما نقول: إنه في الأخذ بعلم شيء من علم أصول الفقه فإنك تأخذ منه مقدمات، ثم تأخذ كتاباً منتهياً في هذا العلم كالمستصفى، فإن الكتاب المنتهي لن يدرس كمدخل أو كجزء من المدخل العام للعلم إلا في مراحل متأخرة لطالب العلم بعض الشيء عن أوائل الطلبة التي هي السنة الأولى والثانية بل وربما الثالثة ونحو ذلك.

    فإذاً: لا يتبادر أن المدخل يقصد أن يفرغ منه ضرورة من جميع جهاته في سنة أو سنتين، فهذا ليس متيسراً، ولا مقصوداً أيضاً؛ لأنه لا يعطي نتيجة مناسبة.

    إنما المقصود: أن طالب العلم لا يمنعه الاختصاص، بل لا ينبغي أن يكون الاختصاص يقصره عن النظر في علوم الشريعة؛ لأنه كما قلنا ابتداءً: هذا التخصص فيه نوع من المبالغة في هذا الزمان أو في هذا العصر، فصار يغلب مسألة الاختصاص إلى درجة ربما لا يكون عارفاً بشيء من المسائل في الباب الآخر من العلم.

    صحيح أن السابقين كان عندهم نوع من الاختصاص من جهة كثرة الاشتغال، فإن العارف بـأبي حنيفة مثلاً يعرف أنه اشتغل بالفقه والرأي والمسائل من هذا النوع أكثر من اشتغاله بعلم الحديث، أي: أكثر من اشتغاله بعلم الحديث كأسانيد وطرق ونحو ذلك وهذا من البدهيات.

    وأن ابن معين على خلاف ذلك، فقد كان اشتغاله بطرق الحديث وأسانيده والرواية وجمعها ونحو ذلك، ما ليس له في الرأي والفقه والقياس ونحو ذلك، ولكن مع هذا فإن لـأبي حنيفة قدراً من المعرفة، ولـابن معين معرفة مشهورة في الفقه، وله فقه ولكنه لم يحفظ بقدر ما حفظ عنه فيما كثر اشتغاله به.

    فعلى كل حال أصل علم الشريعة واحد، والاختصاص وإن كان مناسباً أو سائغاً من بعض الجهات إلا أنه لا يمنع ثبوت المدخل العام بين هذه العلوم.

    فعلى كل حال هذا هو الجملة العامة التي يبتدئ بها، وهي المدخل العام ويتواصل فيها بعد ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521621

    عدد مرات الحفظ

    777102636