الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما العام: فهو ما عم شيئين فصاعداً، من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء.
وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرف بالألف واللام، واسم الجمع المعرف باللام، والأسماء المبهمة كـ"من" فيمن يعقل، و "ما" فيما لا يعقل، و "أي" في الجميع، و "أين" في المكان، و "متى" في الزمان، و "ما" في الاستفهام والجزاء وغيره، و "لا" في النكرات.
والعموم من صفات النطق، ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه.
والخاص يقابل العام، والتخصيص: تمييز بعض الجملة، وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل. فالمتصل الاستثناء ].
اختلاف الأصوليين في اعتبار العموم وثبوته
ذكر أبو المعالي هنا ما يتعلق بالعموم، وذكر المذهب الذي عليه الجمهور من أهل الأصول، وهو القول بوجود العموم وثبوته، وقد أشار إلى أن العموم من عوارض الألفاظ، وهذه مسألة خلافية بين الأصوليين: هل هو من عوارض الألفاظ أو من عوارض المعاني؟ وبيَّن هنا أن الراجح والمختار عنده هو: اعتبار العموم، وهذا فيه مذاهب عند علماء النظر والأصول، والمشهور فيه ثلاثة مذاهب، هي:
1- إثبات العموم، وهو قول الجمهور.
2- أنه يحمل على أدنى الجمع، ولا يكون زائداً عن ذلك إلا بدليل.
3- التوقف في هذا، وأن ما سماه أصحاب العموم عموماً فإنهم يجعلونه من المشترك، فيكون فيه -على هذا التقدير- قدر من الإجمال.
فهذه ثلاثة مذاهب مشهورة للنظار، والراجح عند الجمهور من أهل الأصول: هو اعتبار العمل بالعموم، وأنه ثابت من حيث الألفاظ، وبعضهم يجعل العموم من عوارض المعاني كذلك.
صيغ العموم وألفاظه
ثم ذكر أبو المعالي الصيغ الجامعة للعموم، فذكر الاسم المعرف بـ (أل) فإنه من صيغ العموم، كما في قول الله سبحانه وتعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
[المؤمنون:1] فهذا يدل على العموم، ثم ذكر ما كان من الأسماء المبهمة، وهي الأسماء الموصولة، كـ (من) في العاقل، و(ما) في غير العاقل، فإنها تدل على العموم كذلك، ولها صيغ مفصلة في كتب الأصول.
المراد بالخاص والتخصيص
ثم ذكر الخاص والتخصيص، ويراد بالخاص في تقريب المسائل وبسيط المسائل ما قابل العام، ويراد بالتخصيص تخصيص العموم، أي: إخراج بعض أفراده، فإن الأصل هو العمل بجميع أفراد العام، وأن الحكم الذي ورد العموم فيه يكون متعلقاً بجميع أفراده، فيكون التخصيص مخرجاً بعض أفراد العام، ومن يقولون بالعموم يتفقون على ورود التخصيص على العام، وإن كان التخصيص هنا فيه بعض المسائل المحكمة، وفيه بعض المسائل التي فيها قدر من الاشتباه والاختلاف.
أما المحكم: فهو أن يكون التخصيص بالنص، فالعموم اللفظي يخصصه النص واللفظ الصريح، وهذا له نظائر في الشريعة، ومنه الاستثناء عند بعضهم، وبعضهم يجعل الاستثناء ليس من باب التخصيص أصلاً، ولكن إذا وقع التخصيص بالنص فهذا مورد لا يختلف فيه، وإن كان بعض ما يسمى تخصيصاً بالنص لا يختلف في كونه نصاً، ولكن قد يختلف في كونه تخصيصاً، كالاستثناء مثلاً.
مسألة: ورود التخصيص على أكثر أفراد العام
ومن المسائل التي يرد فيها بعض التردد في مسائل التخصيص للعموم، مثل مسألة: هل يمكن أن يخرج التخصيص أكثر أفراد العام؟ أو أن التخصيص لا بد أن يكون بما دون ذلك، أي: بالأقل من أفراد العام وليس بالأكثر؟
هذا محل خلاف، الجمهور يقولون: إن التخصيص لا يرد على الأكثر، ومثل هذه القاعدة إذا اعتبرت في فهم الدلالات يبين أحياناً أن بعض الرأي من بعض الفقهاء في تفسير بعض النصوص يرد عليه الإشكال؛ وذلك لأنه يتفرع عن أن هذا النص العام حمل على أدنى أفراده فحسب، وهذا له بعض الأمثلة في مسائل يذكرها الفقهاء الذين قد يحملون بعض المسائل على وجه من التخصيص بصفة، فيتفرع عن تصحيح هذا المعنى في الأصول، وهو أنه هل يمكن أن يكون التخصيص مفرغاً العام من أكثر أفراده أم لا؟
الراجح خلاف ذلك وهو أن التخصيص يكون بما دون ذلك ولا يكون بالأكثر.
تخصيص العموم بالقياس والمصلحة المرسلة
ومن المسائل التي هي من مورد البحث في مسائل الخاص والعام: هل التخصيص يقع بما دون النص، كالتخصيص بالقياس مثلاً، والتخصيص بالمصلحة المرسلة؟
الراجح: أن التخصيص لا يقع بما هو من الاستصلاح أو المصلحة المرسلة، ولا بالقياس، وما يصح من المعاني يكون عند التحقيق لم يثبت العموم في هذا المحل الذي وقع معتبراً في المصلحة المرسلة، فإن المصلحة المرسلة تقديرها عند من يثبتها: المصلحة التي لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء، أي: باعتبار معين، ولا إلغاء معين، وهو الذي يسميه طائفة من أهل الأصول كـأبي الحسن الآمدي وغيره بالمناسب المرسل، فهم قسموا المناسب إلى أربعة أقسام: المناسب المؤثر، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والمناسب الملغى، فالمناسب المؤثر هو أقواها، وكذلك المناسب الملائم وهو ما كان اقتضاؤه بالنوع والجنس، فهذا النوع وهذا النوع يجعلونهما مادة القياس، الذي هو من الأدلة المشهورة في الأصول، ويجعلونه الدليل الرابع بعد الكتاب والسنة والإجماع عند أكثرهم. وبعض علماء الحنفية يقوون هذا الدليل أكثر من ذلك.
طريقة أبي حامد الغزالي في اعتبار القياس وترتيبه بين الأدلة
وبعض الأصوليين يعتبر بالقياس، لكنه ينقله عن نظام الاستدلال أصلاً أو نظام الأدلة ويجعله في الاستنباط، كما صنع أبو حامد في المستصفى، فإنه لم يجعل القياس من الأدلة المرتبة عنده كترتيب أدلة مبتدعة، إنما يقول: إن القياس هو في الاستنباط، فهو يصحح القياس تصحيحاً بالغاً، ولكنه من حيث الترتيب جعل له ترتيباً مختلفاً، وجعل أصول الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع والاستصحاب، ثم تكلم فيما زاد على ذلك، وسماه موهوماً، ثم صحح القياس، وجعله في الاستنباط.
فالمقصود أن التخصيص لا يقع إلا بالنص، أو ما كان في دلالة النص، وكلمة النص هنا لا يراد بها ما يقابل الظاهر وما دونه، إنما يراد بـه في هذا السياق ما يقابل القياس والمصلحة المرسلة، فالمصلحة المرسلة لا تخصص العموم.
معلوم أن مبحث المصلحة المرسلة والاستصلاح فيه جدل بين علماء النظر والأصول من جهة تحرير ماهيته قبل النظر في حكمه، وهكذا كثير من مسائل الأصول الخلاف متجه إلى التحرير قبل أن يقال في الحكم، حتى لا تقع المعاني في الإثبات والنفي على أوجه مختلفة، فيكون المثبت لا يريد ما أراده النافي.
فإذا كان المثبت لا يريد ما أراده النافي ما تحرر أن الخلاف خلاف على الحقيقة، إلا إذا كان المعنى بين المثبت والنافي معنى واحداً، فهذا أثبته وهذا نفاه، أو كان الاشتراك بينهما إنما هو بالاسم فما عاد الخلاف خلافاً؛ ولهذا اختلف في تحرير المصلحة المرسلة، واختلف في تحرير الاستحسان، واختلف في تحرير الاستصحاب، وأخذوا من أقوال أئمتهم الحمل على المعنى الاصطلاحي فتوسعوا في ذلك، فبعض أصحاب أحمد لما وجدوه يقول: أستحسن عند دخول الحمام كذا، فقالوا: إنه يقول بدليل الاستحسان على معناه الذي هو العدول عن دليل إلى دليل.
مدى صحة الاستدلال على مشروعية الاستحسان بقوله تعالى: (فيتبعون أحسنه)
درجات أخذ المذاهب بدليل الاستحسان
والمذاهب فيه كما هو معلوم: الحنفية أعلى المذاهب في إثبات الاستحسان، والشافعية أقصر المذاهب في إثباته، والمالكية والحنابلة بينهما، وما كان من التوسط عند المالكية والحنابلة هو في الجملة وجيه، لكن في بعض معاني الحنفية من الامتياز والتحقيق ما يُعلم به أن مذهب الحنفية أبلغ في التحقيق في هذا الأصل من مذهب الشافعية، فهو نفس بالغ التحقيق في الفقه إذا انضبط على أوجه مناسبة، مع أن بعض علماء الحنفية توسعوا فيه حتى جعلوا من الاستحسان العدول عن المنسوخ إلى الناسخ، وسموا هذا العدول استحساناً، وكذلك العدول عن العام إلى الخاص سموا هذا العدول استحساناً، وهذا لا يتجه؛ لأن العمل بالناسخ نسبته إلى نص الشريعة أقوى وأشرف من نسبته إلى اسم الاستحسان وهو اسم اصطلاحي، فمثلاً: الآن الذي يصلي إلى الكعبة، والمسلمون جميعهم يصلون للكعبة، هل نقول: هذا عمل منهم بدليل الاستحسان؟ لا، هذا عمل بالنص:
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
[البقرة:144]، وإن كان قد عدل عن الصلاة إلى بيت المقدس، فليس أي نسخ أو انتقال من العموم إلى الخصوص نسميه استحساناً.
تعريف الاستحسان عند الحنفية وحقيقة الخلاف بينهم وبين الشافعية فيه