الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما النسخ فمعناه لغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، أي: أزالته، وقيل: معناه: النقل، من قولهم: نسخت ما في هذا الكتاب، أي: نقلته.
وحده: هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتاً، مع تراخيه عنه.
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ].
قوله رحمه الله تعالى: (وأما النسخ فهو الإزالة) هذا معناه في اللغة، وقيل: النقل، والنسخ اسم ذكر في القرآن كما في قول الله تعالى:
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
[البقرة:106]، وعلماء الأصول تكلموا في الناسخ والمنسوخ، وتكلم فيه أيضاً أهل علوم القرآن، لكن عناية أهل الأصول في مسائل النسخ من جهة حد النسخ، ومن جهة الأوجه التي يقع عليها النسخ، وهي التي أجمل أبو المعالي رحمه الله ذكرها في هذه الرسالة، والنسخ هو: رفع الحكم الثابت بدليل متأخر عنه -أي: متراخ عنه- لولا هذا التراخي لكان ثابتاً، واستعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الاسم؛ لأن أصله في القرآن -كما ذكرنا- وإن كان استعمال الصحابة لاسم النسخ أوسع من الاستعمال الاصطلاحي عند الأصوليين؛ لأن جمهور أهل الأصول ولا سيما نظار الأصوليين ميزوا بين النسخ وبين التخصيص، مع أن التخصيص -تخصيص العام- يدخل على أنه وجه من النسخ من هذا الاعتبار في الحد، أي: عند اعتبار رفع الحكم بدليل متراخ لولاه لكان ثابتاً. فإن العام قبل التخصيص كان جميع أفراده متصلة بهذا الحكم، أي: المقول في النص العام، فلما جاء التخصيص خرج بعض أفراد العام، وهذا هو حقيقة التخصيص، فيجعل بعضهم إخراج بعض أفراد العام نسخاً لبعض أفراده، وبعضهم لا يجعله نسخاً.
وعلى كل حال هذا اصطلاح، لكن في ظاهر كلام بعض المتقدمين أنهم سموا هذا نسخاً، وما أرادوا به النسخ على معنى النسخ عند نظار الأصوليين، إنما أرادوا به وجهاً من التخصيص، كما قال ابن عباس : هذه الآية نسخت هذه الآية. ما أراد النسخ على معناه الأصولي عند نظار الأصوليين، إنما أراد أن هذه الآية خصصت هذه الآية، فالنسخ من حيث الجملة ثابت باتفاق أهل الأصول، وإن كانوا مختلفين في حقيقته.
والخلاف الذي يهم هنا هو الطرف الأخير أو النتيجة فيه، أما الطرف الأول أو بعض المقدمات فهذه مبنية على خلاف في علم النظر وعلم الكلام بين المعتزلة وجمهور المتكلمين في حقيقة النسخ، فهم كلهم يقولون بالنسخ، لكن اختلفوا في حقيقته فقط، وهذا الخلاف مبني على مقدمة وهي: هل لله سبحانه أحكام معينة في كل المسائل؟ أو إنما يكون هناك اجتهاد ويكون هو الحكم؟ هذه أيضاً مسألة متصلة بهذه المقدمة التي هي محل خلاف، وسنتحدث عن هذا لاحقاً بشكل أوسع عند التحرير لبعض المسائل الأصولية حتى يكون هناك لدى طالب العلم القدرة على التحرير في كتب الأصوليين والمقارنة وما إلى ذلك، ويبقى الشرح لأفراد المسائل على المتون المعروفة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ].
هذا التقسيم من حيث الناسخ، والتقسيم الأول من حيث المنسوخ، فما هو الناسخ؟
الناسخ يكون بين النصوص إما نصوص الكتاب أو السنة، فالمصنف ذكر القسم الأول بقوله: (ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب) أي: القرآن بالقرآن.
قال المصنف رحمه الله: [ ونسخ السنة بالكتاب ونسخ السنة بالسنة ].
أي: ويجوز نسخ السنة بالكتاب، فيكون القرآن -الكتاب- ناسخاً لما هو من السنة، وكذلك نسخ السنة بالسنة، فهذه ثلاثة أوجه مقرةِ في علم الأصول في الجملة.
وأما القسم الرابع وهو الذي تركوا القول فيه، وهو أن تكون السنة ناسخة للكتاب، فهذا محل خلاف، فالجمهور يتركونه، ولكن هذا الخلاف عند التحقيق يعتبر نظرياً؛ لأنه لم يثبت له شاهد صحيح أن السنة نسخت ما هو من القرآن، وكل ما جاء في هذا أو ذكروه مثالاً فهو عند التحقيق من باب التخصيص أو التقييد أو ما إلى ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر، ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر، ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد ].
إذاً: الأقسام الثلاثة في الناسخ وفي صفته مقرة عند العامة من أهل الأصول، نسخ الكتاب بالكتاب، نسخ السنة بالكتاب، نسخ السنة بالسنة.
أما القسم الرابع فهو الذي تركه جمهورهم وأثبته بعضهم، لكن عند التحقيق لا شاهد له، وهو أن تكون السنة ناسخة للكتاب.
وكذلك في صفة الناسخ من حيث التواتر والآحاد، فيجوز نسخ المتواتر للمتواتر، هذا قسم، كأن نقول: الآية نسخت آية أخرى، وكل القرآن متواتر، فينسخ المتواتر بالمتواتر على معنى المتواتر عند علماء النظر، وهو: ما يقتضي قطعاً، بخلاف الآحاد فإنه يقتضي ظناً، ولا يفيد علماً عند جمهور النظار، ونسخ الآحاد بالمتواتر ونسخ الآحاد بالآحاد هذا أيضاً يقع.
أما الرابع فهو من جنس القسم الرابع السابق في تركه، وهو أن يكون الآحاد ناسخاً للمتواتر، فهذا يمنعه جمهور أهل الأصول، ويأتي أحياناً بعض المتجردين من علم الكلام وعلم النظر فيريد أن يصحح ذلك، وأن الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ -ولو كان آحاداً- ما يقدر أنه متواتر، ويرى أن هذا أحرى بالتحقيق، والذي يظهر أن طريقة النظار فيها قدر من الزيادة، وهذه الطريقة فيها قدر من الزيادة، فأين الزيادة هنا، وأين الزيادة هنا؟
أما الزيادة في طريقة النظار فهي أنهم فرضوا هذه المسألة كما لو أن لها شواهد من الشريعة، وكما لو أن جملة آحاد نسخت متواتراً من السنة، أو ما هو من القرآن وكله متواتر.
وأما الزيادة في الطريقة الثانية: فإنها نفس الزيادة التي وقعت في هذه الطريقة، فقدّروا أن هذا مما يقع وجعلوا له شواهد ينازع أهل الكلام وأهل النظر فيها، وأولئك زادوا من حيث فرض المسألة عن النظار، وهؤلاء زادوا من حيث تقدير وقوع المسألة، المتكلمون زيادتهم في فرض المسألة، وهؤلاء زيادتهم في وقوع المسألة، والتحقيق: أن المسألة لا تقع، بمعنى: أنه لم يقع أن متواتراً في السنة نسخه آحاد، هذا ليس له مثال منضبط، قد يكون أكثر استفاضة منه لكنه لا يصل إلى حد التواتر والآحاد على ما يعرفونه.