إسلام ويب

شرح الورقات [17] - شروط المفتي- المستفتيللشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينقسم الناس إلى قسمين: مفتي ومقلد، فالمفتي هو من ينقل الحكم الشرعي أو يجتهد في استنباطه، ولكن بعد حيازته شروط الاجتهاد، وهو إن أصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن شرط المفتي: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً, وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام, من النحو، واللغة، ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها].

    قوله رحمه الله: (أن يكون عالماً بالفقه أصلاً) أي: بأصول الفقه, (وفرعاً) أي: برءوس المسائل وفروعها الفقهية, وأن يعرف الخلاف والمذهب, المذهب الذي نسج على أصوله.

    قوله: (ومذهباً) أي: أن يكون عارفاً بفروع المذهب، وعارفاً بالخلاف.

    ثم ذكر في صفته أيضاً: (أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام, من النحو، واللغة، ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها) هذه الأوصاف التي ذكرها أبو المعالي رحمه الله في شرط المفتي, أي: المجتهد، أما المفتي بمعنى الناقل للفتوى، والمقرب للفتوى، فلا يلزم فيه هذه الشروط، وإلا لانغلق باب الفتوى, وإغلاق باب الفتوى أكثر إشكالاً من إغلاق باب الاجتهاد؛ لأن طائفة قالت بإغلاق باب الاجتهاد, ولأنك إذا أغلقت باب الفتوى كيف يفتى الناس؟ ولعل المخرج في هذا هو التفسير العلمي لما يرد في كلام علماء الأصول ككلام الإمام أبي المعالي رحمه الله هنا، ويذكره غيره من الأصوليين، أن نقول: فرق بين مقامين: بين مقام الفتوى أو المفتي الذي هو على صفة الاجتهاد في الفتوى؛ فهذا هو المجتهد، وإذا كان المجتهد فله شروط الاجتهاد, ولا يكون غريباً أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً ومذهباً، وأن يكون عارفاً باللغة إلى آخره؛ لأن المفتي هنا هو بمعنى المجتهد, وأبو المعالي أراد ذلك, وأنت ترى أنه في الجمل قال: (وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد) إذاً: هو أراد بالمفتي هنا المجتهد, ولا شك أن هذا هو المفتي الأعلى رتبة, لكن هل تصح الفتوى بمن دونه؟

    نقول: نعم يوجد من دونه ممن لا يكون مقلداً, لأنهم يجعلون على التقابل المفتي والمستفتي, والمجتهد والمقلد هو دون درجة المفتي على معنى المجتهد هنا من يكون ناقلاً للفتوى.

    وهذا النقل على أوجه: فقد يكون نقلاً مجرداً، كمن يكون على مذهب إمام كـ مالك رحمه الله، متقناً لفروعه، لكنه ليس عالماً بآلة الاستنباط وأوجه الاجتهاد والإحاطة أو الجمع للغة، وما إلى ذلك مما ذكر هنا.

    أو يذكر غيره ما هو أكثر منه أيضاً, لكن يكون عارفاً، وبعض المفتين من النوع الثاني يكون عارفاً بفروع مالك، ومسائله، وما انتهى إليه المذهب عنده أو عند أبي حنيفة أو عند أحمد أو عند الشافعي ، فهو من أهل العلم لكنه ما بلغ رتبة الاجتهاد, فإذا سأله العامة والمستفتون عن المسائل وهو في بلد شافعي كأن يسألوه مثلاً: متى يكون سجود السهو؟ قال لهم: يكون قبل السلام. لأنه إنما يفتيهم بمذهب الإمام الشافعي، وذاك الحنفي يقول له: سجود السهو بعد السلام. وهذا الحنبلي يقول له: الأصل فيه أنه قبل السلام إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد السلام, والمالكي يقول: عندنا ما كان زيادة فبعد، وما كان نقصاً فقبل, وقد يحسن الاستدلال على وجه من ذلك، ويكون حقيقة الاستدلال ليس تأسيساً وإنما هو نقل للاستدلال, فكما نقل القول عن مالك

    , نقل الاستدلال, فيرى أن مالكاً استدل لهذه المسألة أو لتلك بدليل، أو أن أصحابه استدلوا بمذهبه, فيحدث المستفتي بقول مالك أو الشافعي أو نحو هؤلاء وبدليله.

    فهذا في حقيقته عنده قدر من الاجتهاد من جهة المعنى المجرد للاجتهاد، وإن كان لا يتفق مع المعنى الخاص الذي يقصد به علماء الأصول في تسميتهم المجتهد المطلق، فلا ينطبق عليه بهذا التقدير, ولكنه أيضاً ليس من العامة, وهذه حال كثير من الناظرين في العلم, فعندهم مادة من الاجتهاد يعرفون بها تمييز المسائل، ورد المسائل إلى منازعها، وضبط مذاهب أئمتهم، أو مذاهب المجتهدين، والنقل عنهم، ونقل الاستدلال نقلاً محكماً، وتمييز الأوجه, كل هذا لم يصلوا به على ترتيب النظار من الأصوليين أو غير النظار أيضاً إلى رتبة المجتهد المطلق.

    تجزؤ الاجتهاد

    لكن أيضاً لا شك أنهم تجاوزوا به رتبة العامة ومقام من رتبة التقليد, فصار لهم تقليد من وجه, وصار لهم اجتهاد من وجه, وإذا اعتبرنا ما يذكره بعض علماء الأصول -وهو قول فيه وجاهة-: أن الاجتهاد يتجزأ, وهذا هو الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أن الاجتهاد يتجزأ، والدليل على ذلك: توقف كبار مجتهديهم في بعض المسائل, فدل على أن الاجتهاد يتجزأ؛ لأنه ليس هو نبوة لا بد أن يكون هناك الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم، فالمجتهد يصيب ويخطئ.

    المقصود أن ما ذكره هنا في شرط المفتي هو بمعنى المجتهد, وتقع الفتوى ممن دونه، وهو النوع الثاني من الفتوى الذي قلنا: إنه يصح حتى لا تتعطل الفتوى. فلو قيل: إنه لا يفتي إلا من هو من أهل الاجتهاد المطلق الذي هو في رتبة الإمام مالك أو الإمام أحمد لتعطلت كثير من الفتوى للمسلمين, والله جل وعلا قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ[النحل:43]، ولكن مع قولنا: إن الوجه الثاني سائغ، إلا أن من استعمله، وصار من أهل الفتوى على الرتبة الثانية، يجب أن يكون مدركاً أنه مقلد من وجه، وإن كان عنده مادة اجتهاد, ولزوم هذا المعنى في نفسه أن طريقته فيها مادة من التقليد لا ينفك عنها هي التي تلجم النفس التي يكون فيها قدر من سعة الحركة في المسائل، فلا يتوهم هذا الناظر على هذه الرتبة أنه صار من أهل الاجتهاد المطلق؛ ولهذا فإن كبار المحققين الذين ربما يقال: إنهم من أهل الاجتهاد المطلق, لكنهم من وجه آخر التزموا بأصول مذهب معين.

    الاجتهاد المطلق

    وهذا يرد عليه سؤال: هل من التزم من العلماء بأصول مذهب من المذاهب الأربعة فقد تجرد عن رتبة المجتهد المطلق؟ التنظير المشهور يقول ذلك, ولكن هذا فيه نظر, فلا يكون سلوك رتبة الاجتهاد المطلق متوقفاً على ترك التمذهب, هذا ليس كذلك, فمثال ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله له صفة الاجتهاد في بعض المسائل من الشريعة التي أشبه ما تكون بالنوازل التي وقعت، فصار له فيها قول وتحقيق, لكنه فيما جرى عليه وهي الأغلب من المسائل, أنه إنما يفرع عن مذاهب الفقهاء، فيعرض له مقام من الاجتهاد المطلق، وإن كان الأصل أنه نقل عن غيره من أهل العلم, لكن هل نقله كان مجرداً أم أنه نقل مجتهد، وفيه مادة اجتهاد في الترجيح ونظر الأدلة والدلالات؟ فهذه مادة من الاجتهاد، ولا ينضبط لك المعنى على التحقيق والتطبيق إلا بتقدير إمكان الجمع بين مادة من التقليد ومادة من الاجتهاد في نظر المجتهد واجتهاده وعقله, فهو مركب من الاجتهاد، ومركب من مادة من التقليد, أما أن يتوهم أن الاجتهاد والتقليد بينهما تمانع بحيث أن المجتهد ينفك عن التقليد من كل وجه, أو أن المقلد ينفك عن الاجتهاد من كل وجه؛ فهذا فرض من فروض العقل ليس إلا, لكن إذا جئنا إلى التطبيق فما من إمام إلا وله سلف, وقد قال الإمام أحمد وهو من أئمة الاجتهاد: لا تقل في مسألة إلا ولك فيها إمام. فهذه من المسائل التي لا تطرد على مطلق التقدير.

    فالمقصود أن النوع الثاني من الفتوى يجب أن يكون محاطاً بهذا القدر من الحال (حال النفس)، حتى لا يتقحم المسائل تقحم المجتهدين، ولا يتوهم أيضاً أن من أراد الدخول في الاجتهاد المطلق لا بد أن يتجرد من مذهب معين, فهذا التجرد لا يفيده شيئاً في العلم؛ ولذلك ما ذكروا أنه من شرط المجتهد المطلق وصفته ألا يكون عارفاً بمذهب إمام أو بنى على أصوله أو نحو ذلك فيه نظر, بل الأصل أنه لا يترقى إلى ذلك إلا إذا اعتبر بهذه المقدمات من قبل, فهي رتبة لا ينزع إليها نزعاً، وإنما يترقى إليها ترقياً, فالاجتهاد ليس طفرة كطفرة النظّام؛ لأن النظّام كان يقول بالطفرة -كما عيب عليه في علم النظر- وهو أنه قد ينتقل من رقم واحد إلى رقم ثلاثة دون أن يمر برقم اثنين, هذه مسألة بعيدة عنا, لكن القصد أن في الاجتهاد لا توجد طفرة أن الإنسان فجأة يتحول إلى مجتهد، بحجة أنه لا ينتسب لمذهب من المذاهب الأربعة، وغيره أعلم منه، لكنه لانتسابه لمذهب سمي مقلداً, العلم لا يؤتى هكذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087498644

    عدد مرات الحفظ

    772683805