إسلام ويب

التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جرى الخلاف بين العلماء حول قطعية وظنية أصول الفقه، وقد انتصر الإمام الشاطبي للقول بأن مسائل أصول الفقه قطعية، ومحل النزاع في ذلك هو ما يقصد بهذه المسائل، فإن قصد بها الكليات فهذه قطعية باستقراء الأدلة، وإن قصد بالأصول كل ما يدخل تحت مادته بوصفه علماً فالصواب أن فيه القطعي والظني.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام الهداية والسداد، وبعد:

    ففي هذا المجلس نبدأ التعليق على المقدمات التي ابتدأ بها العلامة الإمام أبو إسحاق الشاطبي كتابه الذي أسماه: الموافقات.

    وبين يدي هذه المقدمات أحب الإشارة إلى جملة من المعاني على سبيل الإجمال والاختصار:

    منهج الشاطبي في تأليف الموافقات

    المعنى الأول: أن هذا الكتاب صار له قدر من الذيوع والشيوع والاعتبار عند أهل العلم، باعتبار مؤلفه من جهة، وباعتبار موضوعه من جهة أخرى، ولا بد لطالب العلم أن يفقه حال المؤلفين والموضوعات التي كتبوا فيها، ففيما يتصل بـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله من حيث السيرة وما إلى ذلك، فأظن أن هذا قريب من طلبة العلم، بل حتى المبتدئين فيه، من جهة اسمه ونسبه وعمن أخذ ومن أخذ عنه.. إلى آخره، فإن هذا من جملة السير المعروفة.

    وإنما أحب الإشارة فيما يتعلق بالمؤلف إلى أنه يعد من المؤلفين الذين يجملون فيما ينقلونه من الكتب، فيكون ما يتحصل في مؤلفاته وهذا الكتاب -أعني: كتاب الموافقات من أخصها- يعد من الذين يركبون المعاني المنقولة على قدر من التصرف، مع أنه مستصحب لمنهج مختص به، وهذا المعنى من الفاضل أن يفقه في أبي إسحاق الشاطبي ، وهو يقع في غيره من أهل العلم المتأخرين.

    طرائق المتأخرين في التصنيف

    وطرائق المتأخرين في التأليف يمكن أن نقول فيها: إنها تنقسم إلى ثلاث طرق:

    الطريقة الأولى: التي يعتني صاحبها بالنقل المحض والجمع، وهذا له مثالات في سائر كتب أهل العلم، سواء في كتب المفسرين، أو في كتب الفقهاء، أو في كتب أصول الفقه، أو غيرها من الكتب، وتجد أن النقل والجمع يغلب على هذا المؤلف، أو على هذا الكتاب من كتب المؤلف.

    والطريقة الثانية: أن يكون المؤلف في كتابه هذا، أو في جمهور طريقته معتنياً بالتركيب، أي: بتركيب المعاني من الكتب المنقولة، ولكنه تابع لها من حيث المنهج.

    الطريقة الثالثة: أن يكون المؤلف معتنياً بتركيب المعاني من الكتب المنقولة، ولكنه يكون مستصحباً لمنهج فيه كثير من الاختصاص، و الشاطبي من هذا النوع، فإنه استقرأ كتباً كثيرةً من كتب أصول الفقه، واستقرأ فروعاً كثيرةً من الفروع، ولا سيما فروع المالكية، وفقه الإمام مالك باعتبار مذهبه، فهذا الاستقراء العام عنده، وهذه النقولات التي أحاط بها، ركبها من حيث المعاني، ولكنه يحمل تصوراً مختصاً في صياغة مسائل المقاصد، ولهذا تجد أن في كلامه هذا قدراً كبيراً من الاختصاصات العلمية التي صرح بها، إما أنه لم يصرح بها الآخرون على هذا الترتيب، وهذا بين من جهة اختصاصه، أو أنه يقع مستدركاً على كثيرين ممن سبقوه، فمقام الاختصاص في كلام الشاطبي تجد أنه بين.

    وهذه الطريقة الثالثة التي وقع الشاطبي عليها في كتابه الموافقات وفي كتابه الاعتصام، هي طريقة من طرق المحققين في العلم، ولكن ينبغي لطالب العلم عند القراءة في هذا النوع من الطرق، أن يكون مترفقاً في الاعتبار، وأقصد بذلك: أن كل المتحصلات التي أخذها هذا المؤلف أو ذاك بنوعٍ من الجزم، لا يلزم أن تكون منضبطةً كذلك.

    فهذا تنبيه على طريقة الإمام الشاطبي ، أو هي جزء من شخصيته بعبارة أوضح في تأليفه وفي ما يؤخذ على غيره من أهل العلم في طرقهم أو في كلامهم.

    المكانة العلمية لكتاب الموافقات

    أما باعتبار الكتاب: فإن هذا المؤلف -وهو كتاب الموافقات- يعد من أخص الكتب التي كتبت في مقاصد الشريعة، وإذا ذكر القول في مقاصد الشريعة، فإن العلماء من بعد الشاطبي ، ولا سيما بعد شيوع كتابه هذا، يجعلونه من أخص المراجع بفقه مقام المقاصد، وهو كذلك، فإنه كتاب متين من حيث التحصيل، ومن حيث التنظيم، ومن حيث المعنى.

    أما من حيث التحصيل، فإنه نتيجة استقراء موسع، وهذا بين من حال مؤلفه، ومن حيث التنظيم، فإنه منظم على قدر عالٍ من حسن الترتيب الذي لا مبالغة فيه؛ لأن بعض كتب أصول الفقه -كما هو معروف- قد بلغ الترتيب فيها درجة من التعقيد على كثير من الناظرين فيها.

    وهو كذلك من حيث المعاني، فإن المعاني التي توصل إليها هي في الجملة من المعاني القوية المنضبطة في أكثر مواردها، هذا من جهة أن هذا الكتاب يعد كبيراً في باب المقاصد.

    وهذا هو المعنى الأول بين يدي الدخول في المقدمات.

    تقسيم الشاطبي لكتابه الموافقات

    المعنى الثاني: أن هذا الكتاب جعله المؤلف خمسة أقسام:

    القسم الأول: ذكر فيه أبو إسحاق رحمه الله جملةً من المقدمات، وهي ثلاث عشرة مقدمة، وسيكون القول في هذا القسم في هذه المقدمات التي افتتح بها الإمام الشاطبي هذا الكتاب.

    القسم الثاني: جعله في الأحكام، وتكلم فيه عن الأحكام التكليفية الخمسة، التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. وتكلم في باب الأحكام التكليفية بكلام حسن في كثير من الموارد، وهذا إنما يشار إليه مجملاً، وأما الدخول فيه فإنه ليس مقصوداً في هذه المجالس.

    القسم الثالث: في مقاصد الشريعة، وكأن هذا القسم هو القسم الذي أراد به الشاطبي الإشارة إلى اختصاصه في هذا الباب، وما جرى عليه تأمله ونظره في باب مقاصد الشريعة.

    القسم الرابع: في الأدلة.

    القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد.

    هذا جملة الكتاب من حيث الأقسام العلمية فيه.

    موضوعات كتاب الموافقات للشاطبي

    المعنى الثالث: إن موضوع هذا الكتاب، وهو مقاصد الشريعة، هو استقراء في نصوص الشريعة ابتداءً، بمعنى: أن هذه الكتب التي كتبت في المقاصد كهذا الكتاب، تعرف بمقامٍ من هذا المعنى، وإلا فإنه عند التحقيق من رام الفقه لمقاصد الشريعة فعليه بكثرة الاستقراء، أو كما يقول العز بن عبد السلام في كتاب القواعد: معرفة نفس الشارع لا بد لطالب العلم فيه من كثرة الاستقراء.

    مقامات الاستقراء

    وأول مقامات الاستقراء: الاستقراء لنصوص الكتاب، وهي منتهية كما هو معروف، وكذلك الاستقراء في كتب السنة وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالكتب التي جمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كالكتب الستة أو الكتب التسعة، وما فيها من آثار الصحابة، أو الكتب التي كثرت فيها آثار الصحابة كمصنف عبد الرزاق و ابن أبي شيبة ، فهذا الاستقراء الأول هو من أخص المواد التي تجمع الفقه لمقاصد الشريعة.

    المقام الثاني: حسن الاستقراء في لغة العرب، ويقصد بحسن الاستقراء في اللغة: أن يكون طالب العلم على اطلاع على قواعد اللغة وعلى قواعد فقهها، وعلى بيان اللغة، فإن اللغة -كما تعرف- هي في الأصل مادة مركبة، وليست مجرد الكلمات المقطوعة عن التركيب.

    وإنما أشرت إلى حسن الأخذ للغة والنظر في اللغة؛ لأن كثيراً من طلبة العلم يقصرون نظرهم في علم اللغة على علم النحو، ولا شك أن لهذا العلم مقاماً كبيراً في هذا الباب، ولكن ينبغي لطالب العلم أن ينظر في كتب اللغة وكلام العرب، ولا سيما في أول طلبه للعلم، فإن الإكثار من هذا النظر يكسب الإنسان قدراً من الانطباع والسليقة في حسن الفهم، وتعرفون أن السالفين كانوا على عناية بكثرة القراءة في كتب اللغة وفي كلام العرب، وهذا لا بد لطالب العلم منه.

    المقام الثالث لتحصيل فقه المقاصد: القراءة في كتب المتقدمين من الأئمة قدر الطاقة، سواءً الكتب التي كتبوها في الفروع أو الكتب التي كتبوها في الأصول والمقاصد، فاستقراء أجوبة الأئمة كـمالك و أحمد و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم، استقراء لطريقة المتقدمين وما كتبوه في الفقه، وما حصلوه من الفروع والنتائج وطريقة الاستدلال، وليس المقصود بالقراءة هنا في هذا المقام أن تعرف النتائج الفقهية الفرعية التي تحصلت مذهباً لـأحمد أو للشافعي أو لـمالك أو لـأبي حنيفة ، فإن هذا مقام يمكن ضبطه كتخصص أو كمنهج فقهي محض في كتب الفقه التي رتبت المذاهب الفقهية. وأنتم تعرفون أن لكل مذهب من المذاهب كتباً صارت هي التي تضبط المذهب عندهم، وصار عندهم طريقة لمتقدميهم وربما متوسطيهم ثم لمتأخريهم، فهذا ليس هو المقصود هنا، كأن تقول مثلاً: إن الحنابلة يعتبرون المذهب بكتاب الإقناع والمنتهى، وإنما المقصود أن تقرأ في فقه الإمام أحمد وكبار أصحابه؛ لتعرف طريقتهم في ترتيب الأحكام الشرعية على الأدلة.

    فإن المقاصد لها مقام عظيم في علم أصول الفقه، وعلم أصول الفقه ينبني على هذا الترتيب، فلهذا ينبغي لطالب العلم على أقل الأحوال أن يستعرض الكتب الشائعة من كتب المتقدمين، سواءً المسائل المروية عنهم، أو الجوابات المروية عنهم، أو كتب كبار أصحابهم، وكذلك ما جاء في كتاب الشافعي وما جمع للشافعي في كتاب الأم.. إلخ، فهذا مقام ثالث.

    المقام الرابع: القراءة في كتب المقاصد والأصول التي كتبها المتأخرون، وهذا الكتاب يعد من أمتنها وأخصها، فإذا أخذ طالب العلم قصد الفقه إلى علم المقاصد بهذا الترتيب، وصار واسع النظر في النصوص من جهة، وقرأ في لسان العرب وقرأ في كتب المتقدمين، لا لمعرفة الفروع كنتائج، وإنما لمعرفة منهج التطبيق بين الأدلة والأحكام، وبين الدلالة والحكم، فهكذا ينبغي أن تكون القراءة في هذه الكتب.

    وإنما أشرت إلى ذلك؛ لأن الكثير من طلبة العلم ربما يبتدئ علم المقاصد وفقه المقاصد بالقراءة في كتب المتأخرين، وهي كتب شريفة كبيرة القدر، ولكن لا بد لطالب العلم من هذه المقدمات الأولى ليكون فقيهاً في هذا الباب الشريف من العلم وهو باب المقاصد؛ لأنه ليس من الأبواب التي تتحصل بنتائج وأحكام منضبطة، وإنما هو نوع من الاستقراء وحسن التدبير للعلم وبناء الملكة العلمية.

    فهذه المقدمة إشارة إلى هذا المعنى، حتى لا يكون عند طالب العلم نوع من الاختصار لهذا العلم، وهو علم المقاصد.

    دور علم المقاصد واللغة في أصول الفقه

    المعنى الرابع والأخير في هذه المقدمة: أشار كثير من المصنفين إلى أن علم أصول الفقه مركب من ركنين:

    الركن الأول: علم بلسان العرب.

    الركن الثاني: علم بمقاصد الشريعة.

    وكتاب الموافقات للشاطبي غلب عليه العناية بالركن الثاني، في حين أن بعض المصنفات التي كتبت في أصول الفقه غلب عليها العناية بمقام دلالات الألفاظ. والجمع بين هذين الركنين في هذا العلم يتحصل لطالب العلم بحسن الاستقراء.

    ولكن هل من المتحصل بالتحقيق أن هذا العلم يدور على هذين الركنين: علم المقاصد والعلم بلسان العرب؟

    هناك إشارة عامة إذا ما اعتبرها طالب العلم في منهج القراءة العلمية استقرت عنده كثير من الأمور: وهي أن كل حكم فإنه لا ينازع فيه بإطلاق ولا يؤخذ على التصديق المطلق أيضاً، إلا بعد معرفة التصور السابق له، فإنه إذا قيل: إن علم أصول الفقه يدور على هذين الركنين ربما استدرك بعضهم وذكر ركناً ثالثاً، في حين أن الخلاف هنا يكون في جملة الأمر من الخلاف اللفظي؛ لأنه ما المراد بعلم اللسان من جهة؟ وما المراد بعلم المقاصد من جهة أخرى؟ فهذا يرجع إلى تفسير المعنى الأول وتفسير المعنى الثاني، فربما كان التفسير هنا وهنا جامعاً، وربما لم يكن كذلك.

    وعلى كل حال فهذه مقدمات بين يدي كلام المؤلف، ثم بعد ذلك نأخذ في قراءة كلامه في المقدمة الأولى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088832120

    عدد مرات الحفظ

    779342697