الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا هو المجلس الثاني في التعليق على مقدمات العلامة أبي إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات، وسبق معنا في أوائل هذه المقدمة: أن الشاطبي رحمه الله عزم في أول كلامه على أن أصول الفقه قطعية، وسبق أن هذا مقام يحتاج إلى شيء من التفصيل؛ لأن هذا اصطلاح من جهة العلم نفسه، فإن أصول الفقه إنما تكون بهذا التركيب كعلم اصطلاحي، جمع تحته جملة من القواعد والأدلة والتراتيب، فهذا يرجع إلى التفسير.
قال المصنف رحمه الله: [ قال المازري : وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول، وإن كان ظنياً على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم؛ لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها، لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر، قال: فهي في هذا كالعموم والخصوص، قال: ويحسن من أبي المعالي ألا يعدها من الأصول؛ لأن الأصول عنده هي الأدلة، والأدلة عنده: ما يفضي إلى القطع، وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه، هذا ما قال ].
هذا الذي ذكره الشاطبي يدل على أن النظار من أهل الأصول لا يسلمون بهذا المبدأ الذي ابتدأ به، من جهة أن أصول الفقه قطعية، وهذا مستفاد من هذا النقل الذي نقله؛ لأنه ليس المقصود هنا الوقوف عند تصحيح الطريقة التي اختارها القاضي أو التي اختارها الجويني أو التي اختارها الشاطبي ؛ لأنه أشار إلى ثلاث طرق في ترتيب هذا العلم، أو في تحديد ماهيته.
وهذه الطرق الثلاث هي طرق ممكنة من حيث الاصطلاح، بمعنى: أنه لا مشاحة أن يصطلح عالم أو ناظر من المرتبين لهذا العلم المصنفين له على أحد هذه الأوجه، ويكون اصطلاحه مختصاً به؛ فإنه لو افتتح كتابه على أن هذا هو الاصطلاح الذي ينتهي إليه ترتيبه لهذا العلم في هذا الكتاب أو في سائر كتبه، لكان هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال في طريقة أبي إسحاق رحمه الله أنه يعزم بهذا، يعني: يجزم به، ويرى أن ما خالفه يكون متعذراً من جهة الترتيب، والأمر ليس كذلك.
لكن يستفاد مما ذكره الشاطبي عن القاضي وعن الجويني : أن تفسير النظار في علم الأصول لماهية هذا العلم من جهة قدره الكلي مختلفة، ومن هنا اختلف ترتيبهم بعد ذلك. فإذاً: ما ذكره هنا يدل على أن الأصوليين والنظار في هذا العلم لا يلتزمون فيه الالتزام الذي التزمه أبو إسحاق في أن أصول الفقه قطعية، وعليه فقوله: إن الجويني لما جعل أصول الفقه هي الأدلة، فإنه لا يناسبه أن يدخل فيها ما ليس قطعياً؛ لأن الدليل عنده قطعي، وهذا على قدر من النظر والتأمل والمراجعة، وليس على إطلاقه.
وعلى طريقة القاضي يمكن أن يكون الظني مفضياً إلى ذلك بحسب ما ذكره المازري ، وإن كان أراد أن يجيب عنه بعد ذلك، ,النتيجة من هذا: أن هذا النقل الذي ذكره المازري وأجاب عنه، والنقل كما هو من كلام المازري ، ولكن أبا إسحاق أقره من جهة المنقول، وإن كان أراد أن يجيب عنه بعد ذلك.
فما ذكره المازري أو نقله أبو إسحاق عن المازري ، يدل على أن ثمة أكثر من منهج في رسم القطعي من الظني في هذا العلم، وهذا هو الذي يكفي، فرجع الأمر إلى أن التنوع هنا اصطلاح وليس لزوماً علمياً.
قال المصنف رحمه الله: [ والجواب: أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعاً به ] هذا ليس على إطلاقه، فكلمة: الأصل من حيث اللغة ومن حيث جمهور الاصطلاح، تعني: أن الأصل يصل إلى قدر من هذا المعنى وهو القطع، ولكن أن يقول: إن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعاً به، فيقال: الأمر ليس كذلك، فإن الأصل إذا أريد به المقدمة كما هي طريقة القاضي لم يلزم أن المقدمات تكون قطعيةً على كل تقدير، فهذا اللزوم ليس ضرورياً لا من جهة اللغة، ولا من حيث الاصطلاح، ولا من حيث الحقائق العلمية.
نعم، إذا قيل عن معنىً من المعاني أو عن قدر من المعاني: إنها أصل، فيفترض أن الأصل يكون له قدر من العلم. ولو قال رحمه الله: إن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون معلوماً، لكان هذا فيما أرى مناسباً، فإن ثمة فرقاً بين القطعي وبين العلمي، فإن العلم هو المقدمة الأولى، وأما أنه قطعي أو ليس قطعياً، فهذا من النتائج والأحكام، وكثير من النظار جعلوا كل علمي قطعياً على أساس المقابلة بين العلم وبين الظن، فهذا بحسب ما يفسر به؛ لأن في كتاب الله سبحانه وتعالى يذكر العلم، ويقابله الظن، ولهذا وصفت طريقة الأنبياء بالعلم، بخلاف طريقة من خالفهم بأنهم يتبعون الظن، كما في قوله جل وعلا: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23] ، فمقام الظن المذكور هنا ليس هو مقام الظن الذي يقع في الاصطلاح، ولهذا المعلوم قد يكون العلم به قطعياً وقد يكون العلم به ظنياً، مع أنه يسمى: علماً، بهذا الاعتبار.
فإذاً قوله: (إن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعاً به): هذا يحتاج إلى قدر من التحصيل أكثر مما ذكر.
قال المصنف رحمه الله: [ لأنه إن كان مظنوناً تطرق إليه احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين عملاً بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها ].
قوله: (لأنه إن كان مظنوناً)، يعني: الأصل (تطرق إليه احتمال الإخلاف) أي: التأخر عن الصحة.
لهذا قال: (ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين عملاً بالاستقراء) وأصول الدين ليس فيها ظني.
ثم يقول: (والقوانين الكلية) يعني: في أصول الفقه، (لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها)، يقصد به أصول الدين، وقصد بالقطعي القوانين الكلية في أصول الفقه، فهذا يمكن أن يقال: إنه قطعي، وهذا أمر يتأتى، بمعنى: أن القوانين الكلية في هذا العلم يجب أن تكون قطعيةً، وهذا بحسب ما ينتظم عند الناظر والمصطلح، فإنه إن أراد ألا يدخل في هذا العلم إلا القطعي وما عداه لا يجعله من هذا العلم، فهذا اختيار ليس من جهة لزوم الحقائق، وإنما من جهة الاصطلاح.
ثم استدل رحمه الله بما جاء في كتاب الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، وقال: إن المحفوظ هي الأصول الكلية، وهذا لا ينتهي إلى نتيجة؛ لأن أصول الفقه كاصطلاح يجب أن تكون قطعيةً، إنما هذه الآية تدل على أن القرآن محفوظ كما هو الغالب في تفسيرها، وحتى على تحصيل معنى مجمل منها، فإنها تدل على أن أصول التشريع وأصول الدين محفوظة، وأصول العلم وأصول العمل كلها محفوظة، وهذا لا إشكال فيه، لكنها لا تدخل إلى مسألة الاصطلاح.
بعد ذلك يأتي جوابه رحمه الله عن كلام القاضي وكلام ابن الجويني ، فالأمر يدور على ذلك الترتيب.
قال المصنف رحمه الله: [ ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] أيضاً، لا أن المراد المسائل الجزئية ].
وهذا كلام حسن ليس من جهة تفسير الآية، فالمعنى فيها أعم مما ذكره رحمه الله. لكن من جهة أنه يفرق بين الكلي والجزئي، فهنا يعود السؤال: هل أصول الفقه من جهة الاصطلاح هي الكليات من المقدمات، أم يدخل فيها الجزئيات من المقدمات؟ هذا نتيجة البحث، فمن قال: إنها المقدمات الكلية فحسب، قال: إن هذا العلم قطعي، ومن قال: إنه يدخل فيها المقدمات الكلية والجزئية، قال: إن هذا العلم يدخل فيه ما هو ظني.
قال المصنف رحمه الله: [ إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز، ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون ]. وهذا فيه تجوز وليس على إطلاقه، بل الصواب أن الشريعة محفوظة من سائر مواردها، لكن تفسير الحفظ هو الذي يقع التردد فيه، وإلا فإنك تعلم أنه حتى في الجزئيات والفروع، لا بد أن يكون حكم الشارع قائماً في كل العصور، ولا يمكن أن يكون سائر ما يقوله الناظرون والمجتهدون حتى ولو في جزئي اختلفوا فيه مخالفاً لحكم الشارع في نفس الأمر.
وجرى في الأصول بحث في إحداث قول ثالث في المسألة، والمتحقق عند المتقدمين أنه إذا انضبطت المسألة ودارت بين أئمة الاجتهاد في القرون المتقدمة على قولين، فلا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة يختص عنهما بالاختلاف؛ لأنه يعلم أن هذا المختص عنهما بالاختلاف لا يكون صواباً؛ لأنه لو جاز أن يكون صواباً لزم أن إطباق المجتهدين على خلافه أو على تركه نوع من تأخر بلوغ حكم الشارع لأهل ذلك القرن، وهذا من حيث القواعد الشرعية متعذر.
وبمناسبة الكلام على إحداث القول الثالث، إلا أنه يقع في كلام بعض المتأخرين من الفقهاء والمعتنين، أنهم يقيدون بعض المسائل الفقهية ببعض العوارض، فربما تحصل في سياق البحث أن المسألة صار فيها القولان باعتبار الأصل فتصير المسألة بعد هذا التقييد على ثلاثة أقوال، فالمناسب من الباحث إذا أراد نسبة القول الثالث، يضيف القول الأول مثلاً إلى جملة من التابعين أو جملة من الصحابة، أو إلى أحد الأئمة الأربعة، ويضيف القول الثاني كذلك، باعتبارها مذاهب متحررة ومستقرة من سابق، فإذا جاء إلى إضافة القول الثالث فإنه لا يستطيع أن يضيفه كقول ثالث إلا لمن حرره من المتأخرين، فيقول: والقول الثالث هو قول فلان من العلماء المتأخرين من حيث التاريخ، وإن كان محققاً من جهة العلم.
هذا التقييد بالعوارض هو نوع من الترتيب العلمي، لكن فيما أرى لا ينبغي أن يعد هذا من الأقوال الأصلية في المسألة، ومثال ذلك: أنهم إذا ذكروا مسألة الغسل في يوم الجمعة، فإن المشهور فيها إما القول بالوجوب وإما القول بالاستحباب وهو الذي عليه الأئمة الأربعة وهو الصحيح.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أراد التقييد بمعنىً مناسب من جهة الشريعة، لكنه لم يرد أن يختص بقول ثالث، فربما جاء بعض الباحثين وظنه قولاً ثالثاً في المسألة، وقال: هذا القول هو الوسط، وهو الذي تجتمع به الأدلة وهو كذا إلى آخره من المقدمات التي قد لا تقدم ولا تؤخر في دعواها، وإنما الاعتبار بحقيقتها.
فكما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله بأن من كانت به رائحة شديدة يتأذى منها الناس، فإنه يجب عليه أن يغتسل، وهذا يعتبر من العوارض في القول، يعني: الأصل عند الجمهور الذين قالوا بالاستحباب لا يريدون صاحب هذه الحال؛ لأن له حكماً خاصاً، فمن حيث الدليل الشرعي: من كانت به رائحة شديدة يتأذى منه الناس إلخ، فيقال في حقه: يجب عليه إزالة الرائحة الكريهة، ولا يقال: يجب عليه الغسل، وهذا اطراد فقهي، أما لو قيل بوجوب الغسل على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية فهذا له معنى آخر، لكن ليس قولاً مستقلاً من حيث الابتداء عن قول الجمهور.
قال المصنف رحمه الله: [ وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية، ووقوع الخطأ فيها قطعاً، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات، فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كلياً ].
ومعنى قوله: (وجد الخطأ في أخبار الآحاد، وفي معاني الآيات): فالخطأ الذي يقع هنا ليس خطأً في الخبر نفسه، وليس خطأً في المعنى في نفس الأمر، وإنما هو في الفهم، وهذا لا تناهي له، لأنه يفرض على كل علم، حتى في مسائل أصول الدين، أخطأ بعضهم في فهم بعض المعاني العقدية، وهذا أمر شائع ومعروف.
قال المصنف رحمه الله: [ وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعياً، هذا على مذهب أبي المعالي ، وأما على مذهب القاضي, فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفاً على تلك القوانين التي هي أصول الفقه، فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها, واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين، فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها؟! ].
فيقال: القوانين التي أرادها القاضي ليست هي في سائر مواردها ظنية، بل منها ما هو ظني ومنها ما هو قطعي، وعند القاضي وغيره أن المرتب على المقدمات الظنية يكون ظنياً، لكن منهجه لا يمنع من دخول الظني في هذا العلم.
والقاضي لم يرد أن الظني يكون مقدمةً بالضرورة للقطعي، لكنه يرى أن هذا العلم كما أن الظني يجيء في مقدماته، فيجيء في نتائج هذه المقدمات.
قال المصنف رحمه الله: [ ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها، فإنها حاكمة على غيرها، فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين، وأيضاً لو صح كونها ظنيةً، لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة وذلك غير صحيح، ولو سلم ذلك كله، فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل أصولاً ] .
وأقوى ما يمكن أن يقف معه أبو إسحاق رحمه الله: مسألة الاصطلاح، فإن كلمة: أصل، من حيث الاصطلاح ومن حيث اللغة فيها قوة، فكيف يكون الظني أصلاً؟! هذا هو محل الترتيب الأساس عنده.
لهذا قال رحمه الله: [ وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما جرى فيها مما ليس بقطعي، فمبني على القطعي تفريعاً عليه بالتبع لا بالقصد الأول ].
وما دام أنه يصح أنه يكون بالتبع، فهذا هو محل الخلاف الاصطلاحي بين النظار، لكن تقدير درجة التبعية هذا ما لم يتفقوا عليه، فما الفرق بين ما هو أصل وما هو تبع؟ هذا المناهج فيه مختلفة.
قال المصنف رحمه الله: [ إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعيةً؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بين ].
هذا تفصيل في المقدمة الثانية لما أجمله في المقدمة الأولى، فهو يرى أن المقدمات والأدلة المستعملة في هذا العلم لا بد أن تكون قطعيةً، وهذا في الجملة يصدق عليه ما سبق في المقدمة الأولى من أن المقدمات الكلية والأدلة الكلية في هذا العلم، المرتبة لحقائقه والمحصلة لنتائجه قطعيةً؛ حتى ينتظم هذا العلم كعلم في فقه التشريع أو تحصيل فقه التشريع ومعرفة المشتبه بتحصيل الفروع من جهة هذا العلم، فإن هذا لا بد أن يكون كذلك.
وأما إن أريد أن كل المقدمات والأدلة المستعملة في هذا العلم قطعية، فهذا ليس بلازم، فإن قيل: إن هذا ليس مراداً له، قيل: هو ليس مراداً له ولا مراداً لغيره، بمعنى: أنه ما كان من اللزوم أن ينص على مثل هذا المعنى للتحصيل والتحقيق، ويذكر فيه الخلاف مع الجويني أو مع القاضي أو ما إلى ذلك، إذا فسر على هذا المعنى الصحيح المناسب.
قال المصنف رحمه الله: [ وهي: إما عقلية: كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة. وإما عادية وهي تتصرف ذلك التصرف أيضاً، إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل. وإما سمعية: وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط: أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة ] .
لما ذكر الشاطبي الأدلة القطعية والمقدمات القطعية، قال: (وهذا بين، وهي)، يعني: هذه المقدمات والأدلة، (إما عقلية: كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة) وبعده ذكر الدليل والمقدمة العادية، وذكر بعده السمعي.
أما من حيث الدليل العقلي، فإن الأصل فيما سمي دليلاً عقلياً أنه يفيد العلم، فإذا وصل إلى هذه الرتبة، أنه كان مفيداً للعلم وسمي دليلاً عقلياً، وإن كان السؤال الأتم أو الأكبر على الدليل العقلي ليس من جهة الحكم بكونه مفيداً للعلم، أو حتى مفيداً للقطع، وإنما السؤال الأتم: متى يكون الدليل دليلاً عقلياً، حتى يقال: إنه مفيد للعلم، أو يقال: إنه مفيد للنتيجة الأتم وهي القطع؟
هل المقصود أنه لا بد أن يتفق عليه النظار من العقلاء، أم لا بد أن يتفق عليه سائر العقلاء، أم فرضيات ترد في هذا الباب؟
وعلى كل تقدير إذا تم الدليل العقلي عند العقلاء، بمعنى: أنهم سلموا به، فإن هذا الدليل لا بد أن يكون مفيداً للعلم، وإلا لو كان العقل في سائر موارده لا يصل إلى علم وإلى قطع، لتعذر أن يكون مقاماً في فهم دليل الشارع.
ولكن ليس كل ما يضاف إلى العقل كما هو بدهي يكون عقلياً، فإنه أضيف إليه الوهم، وأضيف إليه الظن، وأضيف إليه العلم، فالمعتبر من درجة الحكم العقلي هو العلمي، وهذا يعرف من جهة النتائج أكثر من المقدمات؛ لأنك إن رددته إلى المقدمات، فإن كل طائفة تدعي قطعية بعض المقدمات العقلية ولزومها؛ لأن الدليل العقلي يجب أن يكون مشتركاً بين العقلاء، فإذا دخله الاختلاف، فإما أن الاختلاف يعود إلى أنه ليس بعقلي، وإما أنه يكون من الدليل العقلي المركب مع دليل الشارع وهو النظر الشرعي، فتكون المنازعة في النظر الشرعي، وليس في أصل الدليل العقلي.
فعلى كل حال: ما أشار إليه في الدليل العقلي في الجملة مناسب، إذا ما انضبط على ما أشير إليه.
أما المقدمة العادية: فالنظار تكلموا عنها وعن الدليل العادي، هل يصل إلى رتبة الدليل العقلي أم لا يصل؟
وكأن المناسب والأقوى أن الدليل العادي أو المقدمة العادية لا تصل إلى هذا القدر؛ لأن القاطع العقلي لا يمكن رفضه، فمثلاً من قطعيات العقل: أن العقل يقضي بأنه يمتنع الجمع بين النقيضين، فتقول: هذا من الأحكام العقلية القطعية. لكن الدليل العادي إذا قضى بحكم، أو المقدمة العادية إذا قضت بحكم، فإن الاعتياد وجوباً أو جوازاً أو استحالةً، وفي حقيقته ليس من شرطه الاطراد، لأنه بحسب ما يدركه المعتادون بالحس والتجربة ونحوها من الطرق العادية، وهذه ليست قوانين مطردة.
ولهذا العقلي لا يرفع، بخلاف العادي فإنه يمكن رفعه، حتى ولو ظن الناس أنهم معتادون على أمر ما وعدوه من قطعيات العادات، فتجد أنه في مقام آخر من الحس يمكن الرفع لهذا العادي، فلو قال قائل: إنه لا يجوز رفع النقيضين، لقلنا: هذا قطعي، وهو من حكم العقل، لا يمكن رفع النقيضين أبداً، لكن لو قال قائل: إنه لا يجوز أن الجسم إذا أسقط من أعلى أن لا يذهب إلى الأسفل، لأن العادة تمنع ذلك، نقول: هذا حكم عادي، يمكن رفعه، إما بتصرف البشر أحياناً، أو في محيط آخر من الحس، تجد أن هذا القانون لا يكون لازماً فقد يسقط الجسم من أعلى ثم لا يهوي إلى أسفل بل يبقى يسبح في الفضاء كما لو ربط بمظلة وهكذا.
النتيجة أن الدليل أو المقدمة العادية عند التحقيق ليست في رتبتها كالمقدمة العقلية، المقدمة العادية مبنية على الحس والتجربة وغير ذلك، فلزومها لا يطرد، أما الدليل العقلي فلازم مطرد لا يتخلف أبداً. والأصل في الحسيات الاختلاف، ولهذا إذا ذكرت في القرآن فتذكر في مقام الاعتبار: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا [الروم:8]، وفي مقام التفكر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190]، فهي في مقام التفكر والاعتبار، لكنها من حيث أصل التحصيل العلمي هي دليل على ربوبية الله سبحانه وتعالى، باعتبار ما فيها من التمام، وما فيها من الإبداع، وما فيها من العظمة. ولكن من حيث الدلالة التي ترتب على المعنى العقلي، هذا مقام وهذا مقام.
فإذاً: العاديات أو الكونيات هي دليل، ولكن نظام الدلالة فيها يختلف عن نظام الدلالة المحصلة من دليل العقل.
ثم قال أبو إسحاق : (وإما سمعية)، ثم قال: (وأجلها)، وهل المراد بهذا التعبير الأول، أم أراد جميع ما ذكر؟ يقول: (وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ)، ثم قال: (أو من الأخبار) إلخ، هل أراد أن الأحوال الثلاثة أو المعاني الثلاثة العادي والعقلي والسمعي التي ذكرها، فالسمعي القطعي أجلها، أم أنها كلها قطعي عنده؟ هذا سؤال يرد في هذا المقام.
ولكنّ أبا إسحاق يذكر أن المقدمات والأدلة القطعية في علم أصول الفقه هي العقلية والسمعية، لكنه يقيد العقلي بقيد، ويقيد السمعي بقيد، فكأنه يرد العقلي إلى السمعي جزماً منه، فيجعل العقلي المعتبر هو المبني على المقدمة السمعية أو على الدليل السمعي، فهو مركب وهذا هو النظر الشرعي في اصطلاح كثيرين.
فيرد العقلي إلى السمعي جزماً منه، وأما رد السمعي إلى العقلي فلم يجزم به، ولكنه حكاه وقال: إنه المشهور في علم الكلام، لكنه في الحقيقة لم يعانده، يعني: لم يمنعه، والمعاندة: اصطلاح يذكره ابن حزم أحياناً فهو إنما ذكر هذا المشهور في علم الكلام، باعتبار رد السمعي إلى العقلي من جهة خلوه من المعارض، وهذا سيأتي بعد ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ فإذاً: الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع ] .
يعني: أن الوقوع أو عدم الوقوع يدخل في السابق، فتكون هذه من جملة ما يذكر.
وقوله: [ فأما كون الشيء حجةً أو ليس بحجة، فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك ] .
يعني: إلى وقوعه حجةً أو وقوعه ليس حجةً.
قال: [ وكونه صحيحاً أو غير صحيح، راجع إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضاً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو حراماً، فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول ].
في هذه المقدمة الثانية ذكر المقدمات والأدلة، والمقدمات والأدلة لها صفات: الصفة الأولى: أنها إما عقلي أو عادي أو سمعي. الصفة الثانية في الترتيب: الجواز، الوجوب، الاستحالة. الصفة الثالثة: الوقوع، وعدم الوقوع. الصفة الرابعة: أن تكون حجةً أم ليست حجة؟ الصفة الخامسة: مسألة الوجوب أو الفرض والندب والإباحة والكراهة والتحريم، التي سميت في الأصول بالأحكام التكليفية.
فهذه الصفات أراد المؤلف أن يقصر مراده بكون مقدمات هذا العلم وأدلته، لا بد أن تكون قطعية على الصفة الأولى، والصفة الثانية. ثم قال: (والثالثة: الوقوع أو عدم الوقوع تعود إليها)، أما ما بعدها فلا دخل له في مسائل الأصول.
وينتهي الشاطبي هنا إلى نتيجة منضبطة، وهي: أن الأحكام الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة ليست من علم أصول الفقه، فهي منضبطة من حيث النتيجة، وإن كانت المباحث التي قدمها لم تكن مناسبةً لها على كل تقدير، فلما يقول رحمه الله: (فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول)، فإذاً: هو رجع إلى التقييد مرةً أخرى، وكأنه يقول: لا نسمي فروع هذا العلم أصولاً، لكنه سمي هكذا: بأصول الفقه، أرأيتم لو سمي: بمقدمات الفقه، فإن كلمة: مقدمة لا توجب في اللغة أن تكون قطعيةً، فهكذا أصول الفقه، وهذه تسمية مناسبة، فهي من حيث الأصول لا تدخل في هذا العلم، وهذا اصطلاح مناسب.
ثم يقول: (فمن أدخلها فيه، فمن باب خلط بعض العلوم ببعض) وهذه النتيجة أشد من النتيجة السابقة، فلا دخل للأحكام الخمسة في هذا العلم من حيث هي أصول، فهذا الصحيح فهي فروع فيه، وأما أنها من إدخال بعض العلوم ببعض، فهذا يعني المغايرة بين الأمرين، وهذا ليس كذلك.
وأيضاً: الأدلة والمقدمات لو وقف عندها على الصفة الأولى والصفة الثانية، لما عرف الفقيه تحصيل الحكم من دليل الشارع، ولهذا الترتيب العلمي المناسب، تدخل في أصول الفقه، يعني: من آخر الصفات وآخر صفة ذكرها، فقال: (وأما كونه فرضاً أو مندوباً أو مباحاً)، فإذا قيل: إن هذه الأحكام لا تدخل في أصول الفقه، وهي من إدخال بعض العلوم على بعض. فالفقيه إذا أراد أن يعرف حكم الشارع في الفروع من علم أصول الفقه، ويجعل هذا العلم معرفاً له بأحكام الشارع في الفروع، فإذا لم يكن العلم بالدليل من جهة كونه فرضاً أو أفاد الفرضية أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو التحريم أو الإباحة، لا يدخل في هذا العلم، فأين يدخل؟! بل لو كان هذا العلم مقتصراً على الصفة الأولى في الأدلة والصفة الثانية، لما كان معرفاً للفقيه على التمام، فهذه الأحكام ليست من إدخال بعض العلوم ببعض.
فكان مقتضى السياق أن يقال: فلا مدخل لها في الأصول، دون أن يقال: من حيث هي أصول، فما فائدة هذا القيد؟ إذا لم تعد من الأصول مطلقاً، وقيل: إنها من إدخال بعض العلوم على بعض، فإذاً: هي ليست منه لا أصلاً ولا فرعاً، فعبارته الأولى تفيد أن الأحكام الخمسة ليست أصلاً في علم أصول الفقه، ولكن لا يمنع أنها تكون فرعاً فيه أو متممةً له، وعبارته الثانية تفيد أنها من إدخال بعض العلوم على بعض، فمسألة إدخال بعض العلوم على بعض هذا استقلال، ومعناه: أن هذا علم وهذا علم، وهذا باب وهذا باب.
قام الشاطبي في المقدمة الثالثة بتفصيل ما ذكره إجمالاً في المقدمتين، وابتدأ بالأدلة العقلية، لأنه في الأول قال: إن مقدمات وأدلة هذا العلم قطعية، وهذه المقدمات أو الأدلة هي: المقدمات العقلية والعادية والسمعية.
فالدليل العادي أو الحسي دليل ليس فيه إشكال، وهو في القرآن، ومن دلائل التوحيد ودلائل الربوبية، ودلائل النبوة، لكن يبقى الفرق بين المعنى العقلي وبين المعنى الحسي.
ولهذا ما يقع الآن عند السحرة أو العرافين أو الكهان، هو تحريك للأحوال العادية، فهم لا يستطيعون تحريك الأحوال السمعية المحضة، ولا تحريك الضوابط أو القوانين أو الحقائق العقلية؛ ولهذا تجد أن الأمر الذي يقع من هؤلاء الكهان أو غيرهم، إنما هو في أمور خرجت عن عادة الناس أو عن قدرتهم العادية، لكن هذه القدرة قابلة للزيادة طبعاً وخلقاً وتصريفاً، فالبشر مختلفون في قدراتهم العادية، فالإنس والجن بينهما فروق كثيرة في الأحوال العادية.
قال المصنف رحمه الله: [ الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم، فإنما تستعمل مركبةً على الأدلة السمعية ] .
رجع رحمه الله ليقيد الدليل العقلي المراد عنده بأنه الدليل المركب مع خطاب الشارع، وهو ما يسمى: بالنظر الشرعي، فإذاً يقول: الدليل العقلي المستعمل في علم الأصول والمقاصد، ليس هو الدليل العقلي المحض المجرد، وإنما الدليل المركب من قاعدة شرعية وقاعدة عقلية.
قال: [ أو معينةً في طريقها ومحققةً لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع, وهذا مبين في علم الكلام فإذا كان كذلك فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ] .
في هذه المقدمة أفاد أن الدليل العقلي لا يعتبر في الأصول والمقاصد، إلا إذا كان دليلاً مركباً أو معيناً، أو ما شابه ذلك على ما عبر رحمه الله، مع دليل الشارع أو مع خطاب الشارع، فالدليل العقلي المجرد لا يدخل عنده في هذا العلم؛ لأن النظر هنا في أحكام التشريع والشريعة، يقول: (والعقل ليس بشارع)، فلو اعتمدنا دليلاً عقلياً وجعلناه محصلاً للنتيجة في أمر شرعي، للزم منه أن يجعل العقل دليلاً من الأدلة الشارعة، أو دليلاً شارعاً، قال: وهو ليس كذلك، هذا على كل حال كنتيجة صحيحة، وإن كانوا -أعني: النظار وأهل الأصول- يذكرون الدليل العقلي في المقدمات الأولى، ولكنه يكون متابعاً بدليل سمعي، فلا تتحصل النتيجة الكلية من دليل عقلي فحسب.
هناك خلاف كما هو معروف في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وهذه مسألة فيها خلاف بين النظار في مسائل أصول الدين، أو النظار في مسائل أصول الفقه والتشريع.
قال المصنف رحمه الله: [ فإذا كان كذلك فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ].
هذه النتيجة التي وصل إليها حسنة، لو أنه لم يتابع المشهور في علم الكلام؛ لأن إدخاله في هذا المقام ليس مناسباً على كل تقدير، فضلاً عن كونه مشكلاً حتى في كتب علم الكلام، ليس مسلماً، لكن ما كان يحتاج إلى أن يدخل هذا الأمر في هذا المقام، مع أن ما ذكر في كتب علم الكلام ليس مسلماً.
ولهذا قال: (فالمعتمد بالقصد هو الدليل الشرعي)، وهذا هو الإشكال الذي أدخله في هذا الموضع، وكأن إدخاله رحمه الله له ليس تحقيقاً منه، يعني: لم يصل إلى تحقيق في هذا الإدخال، ولهذا قيده فقال: (ووجود القطع فيها)، يعني الأدلة الشرعية.
قال المصنف رحمه الله: [على الاستعمال المشهور]، هذه الجملة الاعتراضية تفيد أنه ليس هذا من التحقيق الذي جزم به وارتضاه مطلقاً، ولهذا يقول: (على الاستعمال المشهور)، وأنت تعرف أن العالم أو الناظر أو المؤلف إذا ذكر شيئاً وأضافه إلى المشهور، فكأنه ينبه به لهذه الجملة، يعني: ربما تفهم أحياناً على أنها تصحيح للمعنى ينبه بهذه الجملة على أنه ليس بالضرورة أنه أراد أن يرتضي كل ما ذكر، وإنما أراد أن يتم المعنى بحسب ما يقتضيه الترتيب العلمي.
وإلا فإن بعض المحققين يذكرون المشهور ولا يقصدون بذكره أنهم يعتمدونه، وإنما يقصدون بذكره إما ترتيباً علمياً أو بيان مقام هذا المشهور أو ما إلى ذلك، ولكنه قد يتعقب هذا في كلام له بعد ذلك، وتجد أنه يخرج عنه، هذا موجود في معارف المؤلفين، سواء في هذا العلم أو في غيره، يعني: انظروا كمثال، الإمام ابن مالك رحمه الله في ألفيته أحياناً يذكر المشهور في النحو، ثم بعد ذلك يخرج عن هذا المشهور، فمثلاً: لما قال في مسألة عود الخافض، قال:
وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازم قد جعلا
فمن حيث السياق الأول تفهم منه أنه يعتمد هذا، وهو أراد إبانة المشهور عند أهل النحو، ثم يقول:
وليس عندي لازماً إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا
وجرد الفعل إذا ما أسندا لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
ثم قال:
وقد يقال سعدا وسعدوا.. إلخ .
فتنبيه الشاطبي رحمه الله بمسألة المشهور تختلف عن الجزم، ولهذا في افتقار الدليل العقلي إلى الدليل الشرعي جزم به، لكن افتقار الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي لم يجزم به، قال: وهو المشهور في علم الكلام، طبعاً! وهذا أمر شائع في كتب المتكلمين أشار إلى جملته هنا بعد ذلك.
فقال: [ووجود القطع فيها على الاستعمال المشهور معدوم، أو في غاية الندور].
وهذا صعب جداً، ولا ندري كيف أن المتكلمين من النظار تكلموا بمثل هذا الكلام، وكيف أنهم أرادوا تحصيل الحقائق من جهتها، هذا أمر في غاية التعذر العلمي، وفي غاية التعذر الشرعي، لأنك إن قلت: إن وجود القطع في الأدلة السمعية معدوم، فهذا نتائجه مشكلة من حيث أصول الدين، ومشكلة حتى من حيث أصول التشريع وأصول الفقه، ومن حيث الفروع الفقهية، هذا الكلام لم يقله السواد من أئمة الإسلام الأوائل، ولا من المحققين والنظار.
وليس كل من ذكره من نظار علم الكلام، فإنه يعتمده في التطبيق، فإن هناك جملاً من كلمات النظار قرروها في مسائل النظر والجدل، ولكنهم عند التطبيق لم يعتمدوها، خاصةً في مسائل التشريع والفروع، لأنك لو أردت أن تطبق مثل هذه القواعد على الحقائق الكلية في أصول الدين، أو على المنضبط المعلوم في مسائل الفروع أيضاً، فإذا قلت: إن القطعي في الأدلة السمعية معدوم، لزم أن النتائج القطعية معدومة؛ لأن من المسلمات في النظر أن الحكم يعود إلى الدليل، كما أنهم يقولون في الترتيب المنطقي: إن النتيجة ترجع إلى المقدمة، فإذا قلت: إن الأدلة في سائر مواردها ليست قطعية، فهذا يلزم عليه أن تكون النتائج ليست قطعية، فقوله: (ووجود القطع فيها معدوم)، هذا لا شك أنه ليس من الصواب على كل تقدير، بل هذا من الغلط الذي كثر في كتب المتأخرين من النظار وهو ليس بمسلم، بل هو غلط محض في العقل وفي الشريعة.
قال المصنف رحمه الله: [ أعني: في آحاد الأدلة، فإنها إن كانت من أخبار الآحاد، فعدم إفادتها القطع ظاهر ] .
هذا التقييد لا يحتاج إليه؛ لأنه يتكلم عن الأدلة القطعية أصلاً، ولهذا قال في المقدمة الثانية: (وأجلها المتواتر لفظاً)، ثم قال: (والمتواتر المعنوي أو المحصل بالاستقراء)، هذه هي القطعيات، أما الآحاد فهذا باب آخر، ما كان مستوجباً للتعبير الذي شاع في كتب المتكلمين.
ثم إن الشائع في كتب بعض المتكلمين تعذر القطع على الدليل السمعي من حيث هو، لا على الآحاد، فما كانوا يتكلمون على الآحاد أصلاً، والآن ما دام ينقل أو يقول: المشهور عند المتكلمين، فهو مشهور عند بعضهم، هذا ليس في الآحاد بل في الدليل السمعي من حيث هو.
قال: [ فإنها إن كانت من أخبار الآحاد، فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترةً، فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني ] .
أصل الجملة هذه، أعني: في آحاد الأدلة ليس مقصوده ما قابل المتواتر، بل مقصوده بالآحاد: أعيان الأدلة؛ لأنه يقول بعد ذلك: (فإنها إن كانت)، يعني: أعيان الأدلة (من أخبار الآحاد)، فهذا أمر معروف أي: أنها لا تفيد القطع.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن كانت متواترةً، فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير، والمعارض العقلي ] .
هذه الموانع، وهي بضعة عشر مانعاً، ذكرها كثير من النظار كـالرازي وغيره، وهي ليست متممةً من حيث أنها تفيد النتيجة التي وصلوا إليها؛ فإذا رجعت في أصل المعنى وجدت أولاً: أن ورود هذه الموانع على كل دليل ليس بلازم من جهة، وثانياً: أن إفادة هذه الموانع الظنية من كل جهة ليست لازمةً، وثالثاً: أن هذه الموانع يمكن فرضها على الدليل العقلي، فإذا برئ الدليل العقلي منها، فيمكن براءة الدليل السمعي؛ لأن ثمة حقائق في الشريعة في أصولها العلمية والعملية برئت من حيث النتيجة من هذا التردد الذي أشير إليه بالاشتراك والخصوص والعموم والإجمال وآراء النحاة.. إلخ.
فإذاً: كون الدليل يحتمل هذه العوارض لا يقدح فيه، بل لا يلزم أن القطعي يكون بريئاً من كل هذه العوارض؛ لأن هذه العوارض لا يسلم بأنها في سائر مواردها تؤخر رتبة الدليل من كونه قطعياً إلى كونه ظنياً من حيث الإفادة، فإن عروض بعض الرأي في دعوى الاشتراك مثلاً أو دعوى المجاز أو دعوى العموم أو دعوى الخصوص لا يسقط رتبة الدليل.
وإلا لو ابتليت الأدلة بكل من صار له فهم لأحد هذه العوارض، للزم من ذلك إسقاط القطع حتى في الحقائق العقدية، وهذا مع الأسف هو الذي حصل في كثير من قرون الأمة الإسلامية التي كان يجب أن يتفق علماؤها ونظارها وأئمتها على الحقائق الشرعية الكلية، ويكون الاختلاف في مسائل واسعة من الفروع.
وفي الجملة فما ذكره الشاطبي هنا ليس من ترتيبه فيما أرى، وإنما هو كما صرح به من كتب علم الكلام، وهي ليست حقائق تطبيقية، باستثناء المعارض العقلي، فنقول: إن هذه العوارض التي أشار إليها يمكن أن تعرض على الدليل السمعي، لكنها لا تمنع في سائر أحوالها القطعية ضرورةً، بل قد يحصل عنها كون الدلالة ظنية، وقد يعرض شيء منها بالظن، فيكون عروضه ظنياً على الدليل.
فإذا كانت هذه العوارض فيما أشار إليه أبو إسحاق من كتب المتكلمين، تنقل الدليل إلى كونه ظنياً، فيقال: إن الأمر يتسلسل من حيث النظر، بمعنى أنه قد يقال: إن عروض الاشتراك ظني على الدليل، يعني هل كل عارض لو أخذته، يكون عروضه على الدليل قطعياً أم ظنياً؟ فربما ينازع ويقال: كثير من هذا العروض المقول هو ظني، ولو تسلسل هذا الأمر لما بقي في الشريعة قطعي، وهذا لا شك أنه مرفوع شرعاً وعقلاً، أي: لا يصح لا شرعاً ولا عقلاً.
ولهذا التنظير قلت سابقاً: إن كثيراً من النظار ينظرون به ولا يلتزمونه، فلا يوجد أحد من نظار المسلمين انتهى إلى أن الشريعة ليس فيها نتائج قطعية، بل ينتهون إلى أن ثمة قطعيات، لكن تبقى هذه المقدمات التي يقولونها لا يلتزمون بها كثيراً في مثل هذا.
المعارض العقلي: هو فرض مبدأ التعارض بين العقل والشرع، وهذا فرض طرأ في تاريخ الأمة طروءاً وليس من الاستعمال الأول، لا باسم الدليل العقلي ولا باسم النظر ولا باسم الحجة ولا باسم البرهان ولا بأي اسم من الأسماء، فلما شاع علم الكلام والكتب التي نظمته مع أن علم الكلام علم مولد في تاريخ المسلمين، ومركب من مقدمات عقلية محضة وجمل شرعية ومقدمات فلسفية، هذا هو التعريف المناسب لهذا العلم: علم مولد، بمعنى: ليس منقولاً، والأصل في الفلسفة أنها منقولة، ولهذا وجدت قبل تاريخ المسلمين أو قبل الإسلام وجد الفلاسفة والمدارس الفلسفية المعروفة في التاريخ، لكن علم الكلام لم يعرف قبل تاريخ الإسلام بهذا الاصطلاح.
فإذاً: هو علم مولد في تاريخ المسلمين ومركب من مقدمات عقلية، ومقدمات فلسفية، وجمل شرعية، فالجمل الشرعية وجدت؛ لأن الخائضين فيه من المسلمين، يعني: من الحاملين للشريعة، أو الناظرين فيها.
ومما طرأ في علم الكلام مسألة التعارض فلما اعتمدوا دليل العقل ودليل السمع، فرضوا أنه في حال التعارض بين الدليل العقلي والدليل السمعي، أيهما يقدم؟ ولهذا إن قال: من شرط الدليل السمعي حتى يكون قطعياً عدم وجود المعارض العقلي، مع أنه في الحقيقة العلمية والنظرية أن الدليل العقلي لا يقابل الدليل السمعي أو الدليل الشرعي، فهما ليسا من باب المتقابلين، بل الدليل الشرعي يقابله الدليل غير الشرعي بالنفي، أو تقول: الدليل البدعي مثلاً أو ما إلى ذلك، أما أن تجعل الدليل العقلي المقابل له هو الدليل الشرعي، فهذا ليس صحيحاً.
فمن نظر لهذا من المتكلمين بناه على أن الدليل السمعي هو الدليل الخبري، وقالوا: النتائج إما أن تكون خبرية محضة، أو محصلة بالعقل، فلو كان الدليل السمعي الذي هو دليل الشارع هو الخبري فحسب، لكان يحتمل هذا القول كمقدمة وإن كان لا يسلم كنتيجة، لكن قد يحتمله من حيث أصل الترتيب، ولا يسلم بكونه معارضاً، لكن أصل الترتيب غلط؛ لأن الدليل السمعي هو المتلقى عن الشارع فهو الكتاب المنزل والسنة الموحاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المتلقى عن الشارع كتاباً وسنة ليس كل سياقاتهما من الخبر المحض المبني على صدق المخبر، لاشك أن القرآن كله خبر صادق، هذا كجملة بدهية عند المسلمين، لكن المقصود أن السياقات التي في القرآن منها ما هو خبري محض مبني على صدق المخبر، ومنها ما هو من الخطاب للعقول، ولو لم يكن القرآن مشتملاً على مخاطبة العقول، فكيف يؤمن به من ليس مسلماً؟! ولو كان كل ما في القرآن مبنياً على صدق المخبر، للزم التسلسل من حيث كون القرآن دليلاً لهداية غير المسلمين؛ لأن القرآن هداية للمسلمين وهداية لغيرهم، فهو دليل يهتدي به جميع البشر وجميع الخلق إلى اتباع الحق.
فمثلاً: قول الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، هذا خبر محض، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] هذا أيضاً خبر محض، لكن قول الله جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، هو خبر محض من جهة القصة، لكن من جهة ترتيب المقدمات فهي مقدمات عقلية يصدق بها المسلم وغير المسلم.
فإذاً: القرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام تضمنا من الحقائق العقلية اليقينية البرهانية الصحيحة، ما يهدي الناس إلى الحق في المعارف العلمية والتطبيقات العملية، ولهذا فإن إبطال التطبيق العملي عند الجاهليين بعبادة الأصنام كثيراً ما يأتي بوعيدهم بالنار أو ما إلى ذلك، بل يأتي هذا الوعيد في سياق، ولكن يأتي البرهان العقلي في إبطال هذه التطبيقات العملية.
فإذاً لما يقولون: المعارض العقلي، نقول: الأصل أن الدليل السمعي لا يقابله العقلي؛ لأن من السمعي ما يكون عقلياً باعتبار التراتيب والمقدمات، ولهذا نص كثير من المتكلمين من أصحاب هذا القانون على أن الدليل السمعي خبري محض، والمقصود بكونه خبرياً محضاً، أي: أنه ليس فيه دلالة عقلية، وهذا غير صحيح.
وهذا القانون له بحث طويل في كتب العلماء والمراجعين لهذا القانون والمعترضين عليه.
قال المصنف رحمه الله: [ وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد اعتصم من قال بوجودها، بأنها ظنية في نفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادر أو متعذر ] .
وهذه الندرة والتعذر إنما يعود إلى قوة الفرض والاحتمال، فهذه الفروضات لا تسلم ابتداءً، الثاني: أنه لا يلزم من وجودها ظنية المتواتر المحتمل لها؛ لأنك إذا أخذت الأمور كمقدمات أولى في العقل والنظر، فإن الدليل القطعي لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي آخر، سواء جعلت الدليلين كلاهما من السمعي، أو جعلت أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، أو جعلتهما عقليين، والقواعد الكلية العقلية تقول: إن القطعيين يمتنع التعارض بينهما، سواء كانا سمعيين أو عقليين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً.
فلو فرضنا جدلاً أنا قدمنا دليلاً عقلياً على دليل سمعي، فيكون سبب التقديم أن الأول أفاد القطع والثاني أفاد الظن.
إذاً: فالقطعي يقدم لكونه قطعياً، هذه جهة.
والجهة الثانية من الأخطاء أو من التعقبات المستغربة في كلام كثير من النظار: أنهم يجعلون المقابل للقطعي هو الظني، وهذا في النظر والتحقيق ليس بمسلم؛ لأن المقابل للقطعي هو الوهم فقط أما الظني فيقابله ظني، فيكون الناظر فيهما متردداً في تقوية أحد الظنيين، ولهذا تجتمع الظنيات في نظر الناظرين، لكن إذا قلت: إن هذا الدليل القطعي من حيث الثبوت والدلالة، فالمقابل له أو المعارض بالتصريح وهماً؛ لأن الظن قد يطلق ويراد به الوهم كما في القرآن في ذكر حال المشركين، وقد يطلق الظن كما هو في كتب أصول الفقه وكثير من المقدمات وكتب النظار، ويقصدون بالظن درجةً من العلم ليس مجزوماً بها، ولكنها محتملة الصحة، فهم يقولون في كثير من الفروع: إن الحكم فيها بأنها واجبة أو مستحبة ظني، والمقصود بكونه ظنياً أنه يحتمل الصحة، فهل الوهم المعارض للقطعي يمكن أن يكون محتملاً للصحة؟
الجواب: لا يمكن أن يكون الوهم المعارض للقطعي محتملاً للصحة.
فإذاً: حقيقته أنه لا يسمى ظناً، حسب المصطلح العلمي الموجود عند النظار؛ لأن النظار عندهم القطع والظن والوهم، وإن كان الذين يحسنون ترتيب حكم الوهم ووصفه هم أصحاب الفلسفة أكثر من النظار في علم الكلام؛ لأن الفلاسفة كـابن سينا وأمثاله، يتكلمون في كثير من الأمور التي يعدونها في الوهميات، وينعون على الجمهور من النظار جعلها في الحقائق المنضبطة، أو في الظنيات وهي من الوهميات. والأمثلة التي يمثل بها ابن سينا هنا ليست مسلمة، لكن أصل المعنى من حيث الملاحظة له قدر من الاعتبار، من حيث إن المقابل أو المعارض للقطعي لا ينبغي أن يسمى: ظنياً من حيث الاصطلاح الذي عند المتكلمين، بل المعارض للقطعي يسمى: وهماً.
أما في كتاب الله فيذكر الظن عند المشركين بمعنى الوهم، وليس الظن بمعنى المحتمل الصحة.
ولا بد لطالب العلم أن يعرف أن القطعي لا يقابله أو لا يعارضه إلا الوهم، ويجوز أن نسمي الوهم ظناً على هذا التفسير، لكن المصطلح في استعمال النظار للظن هو المحتمل للصحة. وهل يمكن للوهم المعارض للقطعي أن يكون صحيحاً؟ هذا ممتنع بخلاف الظني عندهم في الاصطلاح، فإنه تمكن صحته.
قال المصنف رحمه الله: [ وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنىً واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما، ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس، كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعاً، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، أو ما أشبه ذلك، لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضرورياً في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين ].
وهذا التركيب هو نوع من النظر والاجتهاد لـأبي إسحاق ، والنظار من علماء الكلام إنما يذكرون علم الكلام؛ باعتبار ما له من الأثر في علم أصول الفقه، فقد حصل في كلامهم كثير من قوة الاشتراط وقوة الفرض في ثبوت العلم أو في ثبوت القطع، إلى درجة مثل هذه اللزومات التي التزموها وإنما صارت هذه اللزومات، لما عرفوا الدليل القطعي بتعريف، وعرفوا الدليل المفيد للعلم بتعريف آخر، فجاءت مثل هذه اللزومات وجاءت مثل هذه النتائج التي في حقيقتها أشكلت وضاق تطبيقها.
ومن الأمثلة الشائعة المشهورة عند أهل العلم لما تكلموا في الدليل المفيد للعلم بالقطع من جهة الثبوت لم يتكلموا في القرآن باعتباره محفوظاً من الله سبحانه وتعالى، فلما جاءوا إلى السنة قالوا: من شرط كون الدليل علمياً أو قطعياً أن يكون ثبوته متواتراً، ثم وضعوا حداً للمتواتر، وهو حد مشهور في كتب الأصول ومصطلح الحديث، فله جملة من التعاريف، لكن من أشهرها: أنه ما رواه جماعة عن جماعة... إلخ.
ولن نتكلم في هذه المقدمات عن هذا التعريف، وإنما ينظر إلى النتيجة التي نجمت منه، فلما قيل: هذا الترتيب وضعه النظار، وحفاظ الحديث؛ لأن هذا التعريف للمتواتر لم يكن موجوداً في زمن المتقدمين من المحدثين، إنما أدخلوه على علم الحديث متأخراً، والسابقون كانوا لا يعتبرون الكلام به على ترتيب النظار، صحيح أن فقهاء المحدثين بل المحدثون أنفسهم يتركون من الحديث زيادة الراوي إذا تفرد بحسب المقامات التي عليها ميزانهم في اعتبار رواية الراوي وضبط حاله وإعلال روايته، وهذا باب معروف كمنهج عند المحدثين، لكن لم يكن مرتباً على قوانين علم النظر التي نظمها النظار من علم الكلام، فهذا المنهج هو منهج المتقدمين من المحدثين كـالبخاري وابن معين وأحمد وأمثالهم، أما منهج النظار فمنهج مختلف.
فالحفاظ المتأخرون أخذوا من هذا، ولكنهم وجدوا أن ما ذكره النظار ينتظم على قانون معين، بخلاف ما عليه المتقدمون فهو استقرائي، فـالبخاري أعرض عن حروف من أحرف الأحاديث، فقد يخرج الحديث ويعرض عن حرف منه تفرد به راوي أو ما إلى ذلك، مثلما أخرج حديث ابن عباس : ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ) إلخ، لم يخرج البخاري لفظة لا يرقون؛ لأنها جاءت عنده من رواية لم يعتمدها، وإنما بقي في صحيحه: ( لا يسترقون ) وجملاً أخرى أخرجها مسلم .
وحديث: ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) ، أخرجه مسلم من حديث ابن عباس ، بلفظ: ( تصدق على مولاة لـميمونة بشاة فماتت، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) ، أما البخاري لما روى الحديث ترك كلمة: فدبغتموه؛ لأن جملة من المحدثين كانوا يعلون أحاديث الدباغ، التي فيها أن الدباغ يكون مطهراً، وهذا كما يقول بعض العلماء: أحد الجوابين اللذين كان الإمام أحمد يجيب بهما في إحدى الروايات عنه.
ولهذا؛ فإن المتأخرين من أصحاب الحديث لما أرادوا أن يمثلوا للمتواتر على حد النظار، ضاق عليهم هذا الأمر، حتى إن بعضهم قال: إنه ليس له مثال، وبعضهم قال: لا مثال له إلا كذا، فهذا التعريف للمتواتر يضيق الأمر، ويلزم عليه أن السنة لا متواتر فيها، أو أن المتواتر فيها أعيان من الأحاديث فحسب، وهذا ليس بمسلم على هذا الترتيب، ولم يكن محتاجاً إليه لضبط الدليل العلمي، بل يمكن أن يضبط الدليل العلمي بغير هذا الترتيب الذي استعمله، جملة من النظار وليس جميع النظار في مسائل النظر والشريعة.
قال المصنف رحمه الله: [ ومن هاهنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع، لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب ] .
فالإجماع قطعي؛ لأنه لا بد أن يعود إلى دليل قطعي، ولولا وجود الدليل القطعي لما حصل الإجماع؛ لأن الإجماع في الحقيقة نتيجة لحكم مستفاد من دليل، هو الذي جمع المجتهدين على هذا الحكم، ولولا وجود الدليل القطعي لما أجمعوا؛ ولهذا لم يجمعوا على حكم ويكون دليله ظنياً، هذا لا وجود له، إذ كل ما أجمعوا عليه يكون دليله قطعياً.
السؤال: ما الفارق بين الأمر العقلي والعادي؛ لأننا نقول فيما خالف العادة مثلاً: لا يقبله العقل؟
الجواب: الأمر العادي: هو الذي لا يصل إليه العقل بالحكم ابتداءً، وإنما يصل إليه عن طريق القياس المحصل بالمشاهدة، أو الحس، أو التجربة أو ما إلى ذلك، فهذا يقال: إنه حكم عادي لأحد الأسباب العادية فيه، أما الحكم العقلي: فإنه مجرد عن عالم الحس، وإنما يقضي العقل به ضرورة.
فمثلاً: في أحوال القبر حينما يقول بعض المخالفين لأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما أخبروا به عما يقع للإنسان في قبره من النعيم أو من العذاب أو ما إلى ذلك، إذا قال قائل ممن يعترض على هذا الأصل بأن هذا يخالف العقل، كيف يكون منعماً، وكيف يكون معذباً وهو لا حياة له، فيقال: هل هذا يعارض الضرورة العقلية أو المعروف عقلاً أو المعروف عادةً وحساً؟ فحياة البرزخ تختلف عن الحس الذي يعيشه الإنسان في الدنيا، فعذاب القبر ليس مخالفاً للعادة، فالعادة ما اعتاده الإنسان، والحس ما حسه الإنسان، فالإنسان محيطه محدود، فهو يحكم عادةً بحسب ما يحيط به، فإذا خرج إلى محيط آخر من العالم تغير الحس والعادة عنده، فهذا ليس مما يعارض الحكم العقلي أبداً؛ لأنه يختلف عما اعتاده الناس من الأحوال والوقائع، ولكنه ممكن من حيث العقل ضرورةً.
السؤال: ما الفرق بين تعليل أفعال الله، وتعليل الأحكام، وهل يلزم من القول بأحدهما القول بالآخر، وإن كان الجواب بنعم، فما شأن الأشاعرة الذين عللوا الأحكام، وذكروا باب القياس وتوسعوا فيه، ولم يعللوا أفعال الله عز وجل؟
الجواب: مسألة التعليل مسألة مطولة باعتبارها من مسائل أصول الدين، أو باعتبارها من مسائل أصول الفقه، أما من حيث التعليل في مسائل الأحكام، فلا يمكن لطائفة فقهية أن يطرد مذهبها الفقهي على ترك اعتبار العلة وأثر العلة في تعدية الأحكام، وأما أثر العلة في وجود الأحكام، فهذه أشد امتناعاً في النفي، ولا يمكن لأحد أن ينفي أثر العلة في وجود الحكم، وأيضاً عند التحقيق لا يمكن أن ننفي أثر العلة في تعدية الحكم، فالعلة لها أثر من جهة الوجود، وهذا يكاد يكون مسلماً كحقيقة علمية، ولها أثر من جهة التعدية.
وإن كانت الثانية، أي: أثر العلة في تعدية الحكم، هي أقصر من حيث القبول النظري من الجملة الأولى، لكن الواقع الفقهي عند المذاهب الأربعة كلها أنهم يعتبرون العلة باعتبار أثرها في الوجود، ويعتبرون العلة باعتبار أثرها في تعدية الحكم، وإن كانت المذاهب هنا مواردها مختلفة من جهة الترتيب.
السؤال: هناك من أهل العلم من يجعل دلالة النصوص في الكتاب والسنة ظنية، ودلالة الأمور العقلية قطعية، وهذا يؤدي إلى تقديم العقل على النقل وتحكيمه عليه، فما تعليقكم على هذا؟
الجواب: هذا الإطلاق بأن الأدلة السمعية ظنية، والعقلية قطعية، ليس بمسلم وعليه إشكالات متعددة، وهذا من الأمور التي لا تصح كأصل شرعي أولاً، ولا حتى كنظر علمي، فلا يقال: إن الدليل السمعي ظني، هذا لا يجوز ولا يتأتى، بل هناك أدلة عقلية قطعية، وهناك أدلة سمعية قطعية، وهذا معلوم في أمور العلم وأمور العمل، لكن ليس كل ما أضيف إلى الدليل السمعي يكون كذلك على كل تقدير.
السؤال: هل ثبت عن شيخ الإسلام أنه قال: إن المذاهب كالميتة، لا يصار إليها إلا إذا لم يوجد الدليل؟
الجواب: والله لا أعرف أنه قال هذه العبارة، وأرى أن هذه العبارة تضيق العلم والفهم، وما أرى أنها صحيحة في الأدب والذوق، فضلاً عن العلم والنظر أن توصف المذاهب التي جرى عليها اجتهاد العلماء بهذا الوصف.
السؤال: هل بين اتباع الكتاب والسنة والأخذ من المذاهب الفقهية تعارض؟
الجواب: إذا أردت أن تقدم شيئاً على شيء، أو أردت أن تترك شيئاً لشيء، قبل أن تقدم هذا على هذا أو تترك هذا لهذا، تأكد من أنه لا يمكن أن يجتمعا، أو تأكد من وجود التنازع بينهما، فهل بين الأخذ بكلام الفقهاء كاعتبار ونظر وترتيب؛ واتباع الكتاب والسنة تعارض؛ لأنه من حيث النص لا يوجد في القرآن دليل على تحريم التقليد كتقعيد، إنما الذي في القرآن: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] ، أصل الاقتداء: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ [التوبة:100] ، هذا مقام، كما أن الاتباع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقام.
وعند الاعتدال لا تعارض بين العناية بمقام الدليل والأخذ من المذاهب الفقهية، وهذا أصل يجب على كل مسلم فضلاً عن طالب العلم والعالم أن يقدم قول الله وقول نبيه صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، هذا أصل في الدين، ولا يجوز أن يترك قول الرسول عليه الصلاة والسلام لقول عالم، وما زال السابقون من أئمة الإسلام يمنعون هذا ويؤكدون منعه.
لكن هذه الأمور تحتاج إلى حسن فقه في التقليد المذموم وغير المذموم، فقد يكون من التقليد الجائز، أو هو من باب سؤال أهل العلم، أو من باب الاتباع للسابقين بإحسان، فهذا لا نسميه تقليداً.
إذاً: الأمور فقط تحتاج إلى فهم ماهيتها، فقبل أن تحكم عليها بالأخذ أو بالترك اعرف الماهية؛ لأن الاعتدال في النظر في المذاهب الفقهية لا يعارض الدليل الشرعي، وإذا أخذت التمذهب كترتيب علمي، فليس معارضاً لاتباع الكتاب والسنة كترتيب علمي؛ لأنك لا بد لك من منهج علمي تأخذ به، ولا يعني أنك لا تخرج عن هذا المذهب أو ذاك.
لكن من أخذ مذهباً من المذاهب الفقهية تعصباً لكل نتائجه وكلامه، سواءً وافق النص أو خالفه، فلا شك أن هذا تعصب مذموم ولا أحد من العارفين والعلماء يكون مقراً له، حتى من وقع في شيء من هذا التعصب أو ابتلي بشيء من هذا في بعض الأحوال، أو بعض مراحل التاريخ من الأعيان، لا يقره كأصل علمي عنده، لكنه ابتلي به لسبب من ضعف البشر، والله أعلم بهذه الأسباب؛ لأنه لا يمكن أن تُحصر.
فلا بد على طالب العلم أن يضبط المرادات قبل أن يحكم بأن هذا الشيء يعارض هذا الشيء، والاعتدال ما كان في شيء إلا زانه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر