إسلام ويب

التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدلة السمعية قد تفيد القطع أو الظن بحسب رتبتها من تواتر وآحاد، وقد اعتبرت الشريعة الضروريات الخمس، وذلك مأخوذ من خلال استقراء الأدلة التي تواترت معنوياً في ذلك، هذا وقد نبه الشاطبي إلى أنه أدخل في علم الأصول مسائل لا يترتب عليها فروع فقهية، ويكثر فيها الجدل والمناظرة، والخوض فيها لا يستحسن شرعاً.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فهذا هو المجلس الثالث في التعليق على مقدمات أبي إسحاق الشاطبي ، وينعقد في الشهر السادس من سنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمكة المكرمة.

    قال المصنف رحمه الله: [وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجةً، أو خبر الواحد أو القياس حجةً، فهو راجع إلى هذا المساق؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق، لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضاً، فصارت بمجموعها مفيدةً للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب، وهي مآخذ الأصول، إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها، وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع، فكر عليها بالاعتراض نصاً نصاً، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض، لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة، إلا أننا نشرك العقل، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع، فلا بد من هذا الانتظام في تحقيق الأدلة الأصولية.

    فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه].

    وهذا السياق الذي ذكره هو تمام لما سبق ذكره، فلما ذكر الدليل السمعي، وأشار إلى المشهور في علم الكلام كما هي صفة كلامه والتعبير الذي عبر به، وأن الدليل السمعي القطع فيه معدوم أو نادر، وذكر السبب: وهو أن براءته من الموانع القطعية متعذر في الجملة، وذكر هذه الموانع، وهي مذكورة عند كثير من المتكلمين كـالرازي وغيره، وهذا التحصيل ليس محققاً لا من جهة النظر ولا من جهة دلائل الشرع.

    وبعد ذلك يقول: (وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد)، وكأنه يتجه إلى المنهج الذي سار عليه كثير من النظار، وهذا له مقام باعتبار الأصول، فهو يعد من المقدمات الأولى في الأصول، حتى في مسائل أصول الدين، وفي مقدمات الأدلة يذكرونها، لما ظن كثير من النظار أن الدليل الواحد لا يكون مفيداً للقطع، من هنا جاءت عبارته: (وإنما الأدلة المعتبرة هنا)، يقصد القطعية، (المستقرأة من جملة أدلة ظنية)، وذكر الاستدلال بمثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، وقال: إن ثبوت وجوب الصلوات الخمس القطعي فيه ليس مثل هذا السياق من القرآن، إنما القطعي فيه الاستقراء.

    هذا الكلام نتيجته أنه ينظر هنا ولو على درجة التنظير، ولا يلتزم بهذا؛ لأن مقدمات الاستدلال كثر فيها التفاوت بين التقرير النظري الذي يقال في كتب النظار، سواءً في علم أصول الدين، أو في أصول الفقه، أو في كتب معايير العلم التي يذكرونها كمقدمات علمية، فليس كل ما ينظر به في هذا العلم، ملتزم عندهم تماماً عند التطبيق؛ ولهذا ربما تجد أن بعض النظريات لو التزم بها صاحبها لأدت إلى امتناع كثير من الحقائق الشرعية والعلمية التي يقررها كما يقررها غيره من أهل العلم باعتبارهم فقهاء أو علماء أو ما إلى ذلك.

    فلا نقطع بأن منهج أبي إسحاق الشاطبي من حيث التطبيق يلتزم بهذا، ولكن هذا التنظير عنده فهو يقول: (إن الدليل الواحد لا يكون مفيداً للقطع)، وهذا منهج جرى عليه النظار من المعتزلة وغيرهم، وليس هذا المنهج هو المعتبر عند التحقيق.

    فالأدلة السمعية من الكتاب والسنة قد تفيد القطع وقد تفيد الظن، فأدلة السنة من جهة الثبوت منها المتواتر القطعي ومنها الآحاد الظني، أما أدلة الكتاب فهي محققة القطع من جهة ثبوتها، فالقرآن كتاب محفوظ من عند الله.

    أما ما يتعلق بالدلالة فقد تكون الدلالة قطعية وقد تكون ظنية، فإن وجوب الصيام على المكلفين، أو وجوب الحج على المكلفين في قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، هذه الدلالة قطعية؛ لأنها دلالة مطابقة قطعية من حيث اللسان والدلالة، وللدليل القطعي الثبوت وهو القرآن، أما إذا قيل: إن الآية ليس فيها ذكر لفورية الصيام والحج مثلاً، إنما فيها قدر من الاشتراك، وهل الاستطاعة في الآية تعني أنه على الفور، أم أنها لا تنافي التراخي، أو ما إلى ذلك من جهة تفصيل الفعل، ومن جهة كذا، ومن جهة كذا، فهذه جهات تفرض على هذا الدليل، لا يفيدها بالقطع، ولربما لا يفيدها بالظن، فهذه التفاصيل مثلاً لا يفيدها هذا الدليل المجمل، والآية التي في وجوب الحج لم تذكر تفصيلاً مثلاً لعدد الجمار التي يرمى بها، فهي لا تدل على التفصيل لا بالقطع ولا بالظن، وإنما تستفاد التفاصيل من أدلة أخرى، كبعض المسائل في الحج أو في الصيام تستفاد منه بالظن، مثل مسألة التراخي، إنما الذي نريد أن نصل إليه كمنهج أن الآية التي في الحج أو الآية التي في الصيام، وهي قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ، أنها من حيث الدلالة دلت على أن الصيام مكتوب على المكلفين من المؤمنين، وأن الصيام كتب على هذه الأمة كما كتب على الذين من قبلهم من أتباع الرسل، فهذه الدلالة دلالة قطعية، فلا يقال: إن هذه الدلالة لم تتحصل بالقطع من هذا الدليل، بل بجملة الاستقراء، ولا يعني حينما نقول: إنها قطعية من هذا الدليل، أن غيره من الأدلة لا يدل على هذه الدلالة أي: العلم بوجوب الصيام، فالحكم معروف من هذه الآية ومن غيرها، لكن القصد أن الدليل المعين القطعي الثبوت كالآية من كتاب الله، لا يمكن أن تدل على حكم دلالةً قطعية، هذه هي النظرية، وهو المنهج الذي يشير إليه الشاطبي هنا بالتنظير، وهو منهج كثير من المتكلمين يقولون: الدلالة القطعية لا بد أن تكون مجموعة من جملة الاستقراء لا من دليل واحد، وهذه النظرية ممنوعة أصلاً باعتبار أن الدليل القطعي الثبوت يمكن أن يكون قطعي الدلالة، كدلالة قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، على أن الصيام مكتوب على هذه الأمة، هذه دلالة قطعية، أما كونه مكتوباً باعتبار حال الحضر ويرخص في حال السفر بالفطر، فهذه التفاصيل قد يكون الدليل يحتملها وقد لا يحتملها أصلاً، وإنما إذا ذكرت يستدل عليها بأدلة أخرى من أدلة الشريعة.

    ولكن النتيجة أن الدليل المعين يمكن أن يكون دليلاً قطعياً، وإلا لو التزم أبو إسحاق بالنظرية التي أشار إليها؛ لأنه لم يستكمل الإقبال عليها فيما أرى، فهذه النظرية لو التزم بها لأورد عليها تساؤلات كما أورد بعض النظار عليها ذلك؛ لأنه إذا قيل: إن الأدلة حتى القطعية الثبوت، باعتبار الدلالة لا تكون قطعيةً كأعيان من الأدلة، وإنما قطعية الدلالة يكون بالاستقراء، فهذا الاستقراء أفاد اجتماع الظنيات، فكأن النتيجة عند هؤلاء يقولون: إن الدلالات ليس فيها قطعي، وإنما هي ظنيات، فإذا اجتمعت الظنيات صارت قطعيات.

    وهذا مشكل عند كثير من النظار؛ لأن بعضهم يقولون: إن الظنيات ولو اجتمعت، ليس بالضرورة أنها تفيد القطع، بل بعضهم يمنع تولد القطعي من الظني مطلقاً حتى ولو اجتمعت فهذا يحتاج إلى تفصيل أي المراد بدرجة الدلالة والظنية، وهو أولى.

    فهذه الجملة التي انتهى إليها الشاطبي رحمه الله ليست من الجمل المحققة، بل الصواب أن الدليل المعين إذا كان قطعي الثبوت، يمكن أن يكون قطعي الدلالة أو ظني الدلالة، بل حتى الدليل الظني الثبوت، يمكن أن يكون له دلالةً قطعيةً، لكن يبقى أنه لا تثبت هذه الدلالة بالقطع فلا يكون الحكم قطعياً؛ لأن مبدأه من حيث الثبوت ليس قطعياً، لكن من حيث تصريح الدليل بالحكم على سبيل القطع والمطابقة المحضة، أو التامة بحسب موازين لسان العرب، لا إشكال فيه فهو قطعي الدلالة.

    إذاً: المعنى المطابق لكلام الشارع مطابقة تامة على وفق لسان العرب دلالته قطعية.

    فالقطع في الدلالة يتولد من الدليل المعين ويتولد من الاستقراء، وليس هناك اطراد، فالاستقراء لا يستلزم القطعية مطلقاً، كما أن الدليل المعين لا يستلزم الظنية مطلقاً، فقد يكون استقراء ولا يتحصل منه إلا دلالة ظنية، وقد يكون الاستقراء ويتحصل منه دلالة قطعية، كما أن الدليل المعين قد يتحصل منه الدلالة القطعية باعتبار تمام المطابقة، وقد يتحصل منه الدلالة الظنية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088544627

    عدد مرات الحفظ

    777234934