إسلام ويب

التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [4]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قسم الشاطبي طرق العلم إلى طريقين: طريق البرهان والعرفان، وهو نهج الفلاسفة والمتكلمين، وطريق السنة والقرآن، وهذا التقسيم إنما نقله عن الفلاسفة، والطريقة القرآنية النبوية هي المناسبة للعامة وأهل العلم، كما أنها غاية التحقيق في العلم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فهذا هو المجلس الرابع من مجالس التعليق على مقدمات كتاب الموافقات للشاطبي رحمه الله، وينعقد في الشهر السابع من سنة 1428هـ.

    قسم الشاطبي رحمه الله طرق العلم بحسب ما وصف إلى طريقين: الطريق الأول وقد سماه: مناسباً أو لائقاً بالجمهور، والطريق الثاني: لا يكون لائقاً بالجمهور، وأشار إلى أن الشرع لم يعتبره؛ لصعوبة مرامه والوصول إليه في مسالكه.

    تقسيم الفلاسفة لطرق تحصيل العلم ومعرفة المطلوب وموقف الشاطبي منه

    هذا التقسيم من حيث الأصل ليس من التقاسيم التي تستحسن في الذكر، وإن كان الشاطبي هنا لم ينزع ذلك النزع الذي نزعه الذين رسموا هذا التقسيم ابتداءً وقصدوا به نتيجةً مرادةً عندهم، وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن الخطاب في القرآن والسنة هو خطاب للجمهور، كما يقول بعض الفلاسفة الإسلاميين: يليق بالعقول العامية، وأما الطرق التي تبين الحكمة، فإنها مذكورة على النظم الذي ذكره الحكماء، ويعنون بهم: الفلاسفة.

    وهذا ما يذكره ابن سينا في كتبه بوجه عام، ومن أقرب ما ذكره في الرسالة الأضحوية التي أشار فيها إلى أن خطاب الشارع في المعرفة والتصديقات، أو في التطبيقات والعمل، هو خطاب للجمهور، ويذكر هذا غيره من الفلاسفة حتى المقتصدة من الفلاسفة الإسلاميين كـأبي الوليد بن رشد فإنه يذكر أن ثمة طريقين: طريق الجمهور، وهو المذكور في نصوص الشارع، والطريق الثاني: وهو الذي عليه الحكماء وهو فاضل في نفسه، ولكنه مستعص على الجمهور، ومن هنا لم يذكر في خطاب الشارع؛ لكونه مستعصياً على الجمهور، ليس لإشكال فيه، وليس في تأخر رتبته أيضاً؛ وإنما لهذا السبب المحض الذي هو: ضعف أو نقص العقول العامية، كما يعبر عنه ابن سينا نقص العقول العامية عن إدراكه.

    ولهذا يرى المتفلسفة على هذه الطريقة، أن كل من لم يسلك الطريق الفلسفي فإنه يكون على طريقة الجمهور، حتى إنهم يصفون علماء الكلام الذين خاضوا في علوم النظر والجدل وغيرها بالجمهور، فيجعلون طريقتهم من ضمن طريقة الجمهور، ويخصون الطريقة التي عليها البرهان بالطريقة التي عليها الفلاسفة، وإن كان بين المتفلسفة خلاف في ترتيب الطرق المناسبة الصحيحة، فإن لـأبي الوليد بن رشد طريقاً مختاراً، ولـأبي علي بن سينا بعض المخالفة وإن كان سابقاً له، ولكن طريقة ابن سينا تختلف عن طريقة ابن رشد ، وتعقب أبو الوليد بن رشد ابن سينا في كثير من طرقه، وخاصةً فيما ينزع إليه من الطريقة التي تقوم على الإشراق، وعلى النفس وأحوالها ومقاماتها ورياضتها، وهي: الطريقة العرفانية التي اعتمدها ابن سينا في كثير من كلامه وفي كثير من كتبه وإشاراته، بخلاف طريقة أبي الوليد فإنها تميل إلى التجريد العقلي.

    والصحيح أن ابن سينا استعمل كلا الطريقتين، وهذا فرع عن تعدد النظر والمذهب عنده كما هو حال أبي حامد الغزالي في هذا التعدد، وإن كان الغزالي ليس من عداد هؤلاء باعتباره من علماء النظر والتصوف، وليس من علماء الفلسفة المحضة، وإن كان تأثر بها كما هو مشهور وشائع بحسب ما طالع من كتب الفلاسفة، وقد رد عليهم في كتابه تهافت الفلاسفة، فإنه أصابه موافقة لبعض مقامات الفلسفة، ذكره عنه بعض أصحابه كـابن العربي ، فإنه ذكر عن أبي حامد ما كان عليه من الحال في أثر الفلسفة عليه، وعلى كل حال فإن كتب أبي حامد أصدق من هذا كله، فهي تبين أنه قد أصابه أثر من كتب الفلاسفة، وهذا قد يكون له سبب ليس هذا محلاً لذكره، والمقصود: أن أصل التقسيم بين طريقة الجمهور، وبين الطريقة الثانية: هي في الأصل نزعة فلسفية في التقسيم.

    وأبو إسحاق ليس على طريقة الفلاسفة ولا يصحح هذه الطريقة كنهج علمي مطرد، ولا يفضلها أيضاً، ولا يصف طريقة الجمهور بالصفة التي تصفها بها الفلاسفة، إنما يذكر هذا التقسيم عن الفلاسفة.

    الطريقة القرآنية النبوية في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    لا يوجد في الحكمة الشرعية إلا طريق واحد، وهي الطريقة التي ذكرت في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، وأخبر الله عنه بأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهذه هي: الطريقة العلمية لمعرفة الإسلام تصديقاً ومعرفةً، أو في العمل والتطبيق والتشريع، وليس هناك طريقة أخرى مستقلة عن هذه الطريقة.

    ويكون تفريع العلماء رحمهم الله والفقهاء والمحدثين والأصوليين وأهل التفسير وغيرهم من أصحاب النظر والبحث في الشريعة يكون فرعاً عن هذه الطريقة، والتي جاءت على أتم بيان وأصدق نظام في كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه القرآن، أو في كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي أوتي جوامع الكلم .

    وليس صحيحاً أن هذه الطريقة غايتها: أنها مناسبة للأمة الأمية -أي: للجمهور- بل هي مناسبة للعقل مهما كانت درجة هذا العقل من العلم أو غير ذلك، وأنت ترى في كتاب الله غاية البراهين العقلية المصححة لحكمة الأنبياء ونبوتهم، أو المصححة والمعرفة لمقامات التوحيد ومقامات الإيمان أو غير ذلك؛ ولهذا سمي ما مع الأنبياء: آيات، كما هي التسمية الشرعية في القرآن، وإن كان درج الاصطلاح على تسميتها: بمعجزات الأنبياء، لكنها في القرآن تسمى: آيات الأنبياء، وسميت براهين: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32] .

    فالطريقة القرآنية النبوية هي في نفسها: غاية التحقيق في العلم، فهذه صفتها الأولى سواء باعتبار العقل، أو باعتبار الحقائق الشرعية الخبرية المحضة؛ ولهذا سبق أن ذكرنا أن القرآن ليس مبنياً على الخبر المحض فحسب، بل فيه أخبار محضة، وفيه خطاب للعقلاء أجمعين، وهذا هو الذي خوطب به من ليس مسلماً في كتاب الله سبحانه وتعالى في مقامات من أحوال الآخرة أو أحوال الإيمان أو غير ذلك، بل حتى في مقام التشريع فإن الخطاب العقلي يكون وارداً في القرآن بحسب ما يقتضيه السياق.

    فإذاً: الطريقة القرآنية النبوية: هي طريقة للجمهور وغيرهم، بل هي المناسبة حتى للعلماء، بل التحقيق: أن العلماء أياً كانوا وفي أي زمانٍ كانوا لا يصلون إلى تمام الإدراك لكل ما تضمنه القرآن من الخصائص والأحكام والحكم، وتمام الخطاب والإشارات والتنبيهات التي فيه، فإن هذا الكتاب فيه من العلم والحكمة والبيان، كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: لو جمعت حكمة سائر النبيين إلى حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي أوتيها فيما نزل عليه من القرآن والسنة، قال: لاستحيا من يطلب المقابلة.

    تجد في كتاب الله أن الله يقول: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] ، فقد أوتوا حكمةً وأتوا كتاباً، وهذه الحكمة وهذا الكتاب لا يمكن أن يصل بشر مهما بلغ في الفلسفة والنظر والبحث والاطلاع والاختصاص، مهما حاول الوصول فإنه لا يستطيع الوصول إلى الوحي الذي أوتيه الأنبياء؛ لأنه من رب العالمين سبحانه وتعالى.

    فتجد في كتاب الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] ، جاء عن ابن عباس وغيره من المفسرين: أن هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله أخذ الميثاق على الأنبياء في حق محمد صلى الله عليه وسلم، أن يصدقوه ويشهدوا بنبوته ويتبعوه إن أدركوه، فأخذ الله عليهم هذا الميثاق؛ ولهذا عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل فإنه يكون تبعاً لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.

    فالقصد: أن حكمة الأنبياء بوجه عام وحكمة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، لا يمكن لبشر أن يصلوا إلى قدرها في العلم والحكمة؛ لأنها من عند الله سبحانه وتعالى، وصحيح أن الفلاسفة تكلموا في كثير من المقامات كالإلهية، والطبيعية والرياضية وغيرها، وكلامهم في باب الطبيعيات وفي باب الرياضيات ونحوها من المقامات البشرية لا شك أنه خير من كلامهم في الأمور الإلهية، فإن النظر في الأمور الإلهية التي تكلم بها السالفون من الفلاسفة لم يصلوا فيها إلى تحقيق مناسب صحيح؛ ولهذا فإن من قلدهم من الفلاسفة المتأخرين لا ينتهي إلى تحقيق بين في هذا المقام.

    فالمقصود: أن طريقة الأنبياء أجمعين، والطريقة التي نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في الحكمة النبوية العالية التي أوحاها الله إليه، وقبل ذلك في كتاب الله المنزل على نبيه، فهذه طريقة علمية برهانية تامة التحقيق، كما قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، وهذا الكمال ليس في التشريع فحسب، فإن التشريع الذي هو العمل فرع عن العلم، كما قال البخاري : باب العلم قبل القول والعمل، فالكمال الذي ذكره الله عن هذا الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، هو كمال في العلم كما هو كمال في العمل، فليس فقط الكمال في العمل والتطبيقات الفعلية، بل هو كمال في العلم وكمال في العمل.

    فالمقصود هنا: أن طريقة القرآن، أو ما جاء في كتاب الله من العلم والحكمة، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام هي الطريقة البرهانية العلمية التامة التي هي غاية التحقيق، وليس قدرها وفضلها من جهة أنها تناسب العقول العامية، أو الأمة الأمية كما يعبر بعض النظار في هذا الباب أو ما إلى ذلك من التعبيرات، ولا شك أن من خصائص الشريعة الإسلامية ومن صفاتها أنها تناسب جميع المستويات حتى العوام، وهذا صحيح؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام يخاطبون الخلق أجمعين، وأكثر الناس -كما هو معروف- هم من السواد العامي، وليس من أهل العلم والنظر والحكمة والاختصاص الخاص، فهذا موجود فيها كاختصاص لكنه ليس هو الاختصاص الأول فيها، أو بعبارة أخرى: ليس هي ناقصةً عن الطريقة التي تذكر مقابلةً لها.

    مقارنة تبين طريقة الفلاسفة والطريقة القرآنية النبوية في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    ولهذا فإن البراهين العلمية التي يذكرها النظار من أصحاب المدارس الكلامية أو حتى أصحاب المدارس الفلسفية، فما يذكرونه من البراهين الصحيحة في بعض مقامات المعرفة أو مقامات إثبات الربوبية ونحو ذلك، مما يصح عندهم من البراهين فإن المحكم والمحقق منه تجد أنه يذكر في القرآن، وإن كانت اللغة من حيث التصنيف اللفظي تكون مختلفةً، فيذكرون مثلاً دليل التركيب وإن كان ليس المقصود التمثيل به كدليل مناسب، لكن أقصد العبارات التي تستخدم في هذه الأدلة كلفظ التركيب أو التخصيص، ثم يأتون إلى مقدمة الأعراض والجواهر وما إلى ذلك.

    فالاختلاف في الأدلة الصحيحة؛ لأن هناك بعض الأدلة ليست صحيحة، حتى في مقام النظر وعلم الكلام أو الفلسفة، حتى النظار أنفسهم يتكلمون عن نقصها أو عن تأخر رتبتها أو ما إلى ذلك، ولكن لا يوجد عندهم أدلة محكمة، ويوجد في القرآن على أتم نظام، فالقرآن خطاب للعلماء كما أنه خطاب للعامة، بل هو خطاب لأئمة العلماء، ونزل على أئمة العلماء وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار هذه الأمة، فإنهم هم أئمة العلماء فيها، وهم ورثة الأنبياء، ورثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن أصحاب الأنبياء من قبلهم هم ورثة الأنبياء، وقبل ذلك أن القرآن خوطب به الرسول عليه الصلاة والسلام وهو إمام للأنبياء وإمام المرسلين عليه الصلاة والسلام.

    فهذا الوهم ينبغي لطالب العلم أن يكون مدركاً له، وإن كنت أذكره على هذا الوجه من العموم، وليس لأن أبا إسحاق التزم به، ولكن هذا التقسيم من حيث هو ليس بفاضلٍ ابتداءً، فهو موجود في كتب المتفلسفة بالدرجة الأولى، وتَأثَّر به بعض علماء الكلام والنظر، وأدخلوه في كلامهم، وقالوا: إن ثمة طريقاً للجمهور، وهو: خطاب القرآن، وثمة الطريق البرهاني أو الفلسفي أو الذي عليه الحكماء، أو ما إلى ذلك من التعبيرات التي ليس تحتها حقيقة منتظمة عند البحث والتحقيق.

    صحيح أنها توجد بعض الموافقات المناسبة في الأدلة، فتكون هذه من الأدلة الصحيحة التي يدركها العقل بحكم الفطرة وبحكم نظام العقل الصحيح، فيكون عارفاً ببعض الأدلة التي يذكرونها، ولكن الطريقة النظرية أو الفلسفية مختصة عن الطريقة القرآنية بامتياز علمي في نفسها، لكنها لم تذكر في القرآن وفي السنة، لكونها صعبة الوصول أو صعبة المرام باعتبار الجمهور والعامة، وهذا ليس صحيحاً، فالقرآن خطاب للجمهور وخطاب للعامة.

    مناسبة الطريقة القرآنية النبوية لخطاب المكلفين

    ليس في الشريعة من حيث الأصل تقسيم للمكلفين بهذا التقسيم الذي يقصد كطريقة في المخطابة، بل الله سبحانه وتعالى يخاطب العلماء ويخاطب العوام بخطاب واحد، وتغيير القرآن -كما قال ابن عباس في الأثر المروي، عنه وهو من حيث المعنى متحقق الصحة- على أربعة أوجه:

    تفسير تعرفه العرب من كلامها، فهذا حتى العوام يعرفونه؛ لأن العوام إذا قرئ عليهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، يدركون أن الصوم مكتوب على المؤمنين كما كتب على المؤمنين السالفين من أتباع الأنبياء.

    وتفسير لا يعرفه إلا العلماء، أو يعرفه الراسخون في العلم، كما في الأثر عن ابن عباس ، وهذا بعض المعاني العلمية التفصيلية التي قد نعبر عنها بالفقه التفصيلي لهذه النصوص، فهذا يعرفه الراسخون في العلم.

    وتفسير استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه.

    وتفسير لا يعذر أحد بجهله، لأنه دون المقام الأول في الإدراك.

    وهذا كان من الأمور المنتهية، لكن لما جاء كلام الفلاسفة واشتغل النظار بدفعه، صارت مثل هذه المصطلحات تطرأ، وإن كان الفلاسفة التزموا النتائج؛ لأنهم لم يقصروا الأمر على الخطاب، بل في كلام ابن سينا مثلاً: أن الحقائق المذكورة في اليوم الآخر والمعاد يرى أنها من التخييل للجمهور. أي أنهم خوطبوا بطريقة التخييل وليس بطريقة الحقائق في نفس الأمر، فهذا لا شك أنه من الانحراف العلمي الكبير الذي أصاب هؤلاء.

    لكن الطريقة التي يذكرها أبو إسحاق قطعاً ليس فيها هذا الكلام، ولم يرد هذا رحمه الله، بل تعقب كثيراً هذا الكلام، لكنه لم يحرر المقصود، وإن كان هذا فاته من حيث الذكر، وليس معناه أنه فاته من حيث القناعة به أو الاتصال به أو الإدراك له، لكن كان الأولى به أن يذكر أن طريقة القرآن والسنة هي الطريقة التامة في العلم والمناسبة للخطاب، فهي تجمع الامتيازين: أنها هي: التامة في العلم، فمن حيث النظام العلمي فهي أتم الطرق، ولا توجد طريقة أفضل منها حتى في حق العلماء، وأنها هي: المناسبة للخطاب.

    وأظن هذا إذا رجعت إلى العقل يجب أن تقوله؛ لأن القرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام قد خوطب به العلماء وغيرهم، ثم إن الواقع أيضاً يثبت ذلك، فإن الذين راموا الطرق الفلسفية والحكمية والنظرية لم ينتهوا إلى نتيجة موجودة أصلاً، بل إن ما يذكره هؤلاء من دليل، تجد أن آخرين من أصحاب الصنعة والاشتغال بالفلسفة أو العلم النظري يغلطونهم فيه، وتجد أن الفلاسفة بينهم، حتى الإسلاميين منهم كـابن سينا مع ابن رشد ونحو ذلك، فتجد أن أبا الوليد يتعقب ابن سينا كثيراً في كلامه بل وفي أصل طريقته أحياناً، وتجد في المدارس الكلامية الأمر كذلك.

    فالعقل في الأصل ليس معارضاً للشرع حتى تفرض مثل هذه التقسيمات، فالخطاب العقلي موجود في خطاب الشارع وأنت إذا قرأت القرآن وجدته في كثير من آي القرآن، وأنها تضمنت خطاباً عقلياً كما تضمنت خطاباً خبرياً محضاً.

    فالطريقة المذكورة في القرآن هي الأتم في العلم، وهي الأتم في المناسبة.

    الطريقة غير المناسبة في تحصيل العلم ومعرفة المطلوب

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما الثاني: وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له؛ لأن مسالكه صعبة المرام: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] ، كما إذا طلب معنى: الملك، فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجردة عن المادة أصلاً، أو يقال: جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان فقيل: هو الحيوان: الناطق المائت، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه: جسم بسيط كري ].

    هذه الطريقة لا تناسب الجمهور من العوام على الصحيح، لكن ليس الإشكال فيها أنها لا تناسب العوام، يعني: أنها طريقة علمية صحيحة، وهذا في الحقيقة يفهم من كلامه لكنه لم يلتزمه، بل في كلامه الآتي بعد ذلك ما يدل على أنه يمنع هذه النتيجة العلمية؛ لأنها طريقة مصححة في العلم؛ ولهذا قال: (فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية .. إلخ) فهل سبب المنع هو: التعذر؟ أم أن سبب المنع هو: الإشكال العلمي في نفس الطريقة؟

    والمقصود: أن الطريقة الثانية لم يعتبرها الشارع؛ لعدم مناسبتها للجمهور من جهة؛ ولكونها خاصةً فيما يذكره النظار والفلاسفة، وليست محققة حتى من حيث النظم العلمي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088839382

    عدد مرات الحفظ

    779387725