إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تجنب البدع والحذر منها لا يكون إلا بعد معرفتها؛ ولذلك عرف الشاطبي البدع بتعريفين، وكان من المهم معرفة العلاقة بين البدع والمعاملات والعادات، فالعادات أصلها الإباحة إلا إذا اقترن بها أمر شرعي فتكون بحسبه، ولا بد من ميزان عند الحكم على فعل أو قول ما بدخوله في البدع، والميزان هو الكتاب والسنة.

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

    هذا هو المجلس الثالث من المجالس العلمية في النظر في كتاب أبي إسحاق الشاطبي المسمى بالاعتصام والتعليق عليه, وكنا في المجلس الذي سلف تكلمنا عن الباب الأول من أبواب الكتاب, وسبق أن الباب الأول ذكر فيه المؤلف ما يتصل بحد البدعة وتعريفها, وذكرنا أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر تعريفين للبدعة وبين أن كل تعريف هو فرع عن رأي.

    فالتعريف الأول قال فيه: (إنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية, يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه), ثم قال: (وهذا على رأي من لا يدخل العادات في البدع).

    قال: التعريف الثاني: (أنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية, يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية), قال: (وهذا على رأي من أدخل العادات).

    علاقة العادات بالبدع

    وسبقت الإشارة إلى أن الإشكال في هذا التعريف والذي قبله هو أن المصنف جعل كل تعريف فرعاً عن مذهب, أو عن معنى كلي, وهذه القضية الكلية هل العادات تدخل في البدع أم أن البدع تنحصر في العبادات المحضة؟ مع أن مسألة العادات كما سبق الكلام فيها يقال: إذا أردت تحرير ما يسمى بمحل النزاع, أو بنواة النظر في هذه المسألة, لا تجد أحداً من أئمة الإسلام يمكن أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة, يقول: إن العادة المحضة تكون بدعة في حكم الشريعة, بمعنى أنها بدعة شرعاً, لا أحد يقول بذلك, وإلا لو كان الأمر كذلك لانغلقت على الناس حواسهم, ولضاق على الناس أمرهم, وإذا كان الله قد قال لنا في الدين: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], فكيف تكون البدع في العادات, فإن طبيعة الناس واختلاف الزمان، واختلاف المكان يقود إلى تحول جملة من العادات المألوفة إلى عادات غير مألوفة، ثم العادة أصلها في الشرع الإباحة والإذن, وهذا بإجماع الأئمة, إلا إذا تعلق بالعادة ما يقود إلى كونها مخالفة لحكم الشريعة كأن يصير في الأكل والشرب وجه من السرف, فيقال: إن هذه العادة دخلت باب الكراهة؛ لأن الشريعة ذمت السرف والتبذير وما إلى ذلك. وكأن تجاوز العادة وجهاً من الفسق, فيقال: إن هذه العادة تكون شرعاً لما اتصل بها, فإن كان هذا المتصل منفكاً عنها وإنما يقارنها؛ أمر بترك المقارن لا العادة، وإذا كان المتصل بها هو في حقيقته منفك عنها، ولكنه يقارنها في تطبيقات بعض الناس فإنه لا يدعى إلى ترك العادة، وإنما يدعى إلى ترك المقارن أيضاً, الذي هو منفصل عنها ولكنه يصاحبها. ومعنى (أنه منفصل) أي: أنه لا يضمن فيها هذا الوجه من المعصية أو الفسق, فإن كان هذا الوجه من المعصية أو الفسق متضمناً في هذه العادة دعي إلى تركها؛ لأنها قد تضمنت ما هو مخالف للشرع، وأما إذا كانت العادة فسقاً محضاً فهذه من البديهيات في الشرع أنه يدعى إلى تركها من كل وجه، ويغلق بابها.

    فإذاً: العادة أصلها الإباحة, ولكن ينظر في العادة وحكم الشريعة فيها.

    فأصلها الإباحة من حيث جواز الابتداء, وقد يقول قائل: ما دام أن العادات قد تكون فيها جملة من المآخذ الشرعية لماذا نقول: الأصل الإباحة والإذن, بمعنى: أنه يجوز ابتداع العادات, بخلاف العبادات فإنه لا يجوز ابتداعها, بمعنى: لا يجوز إحداثها, بل لا بد أن تكون اقتداءً واهتداءً واتباعاً.

    فإذاً هذا معنى قولنا: إن الأصل في العادة الإذن, أي: أنه يجوز ابتداعها.

    ولا يقال له: ما الدليل على بدايتك بهذه العادة؟

    فإن هذا السؤال خطأ شرعاً؛ لأنه لا يلزم عليها دليل, لأن الشارع ما أراد أنها أمر توقيفي لا بد له من دليل يقود إليه, ويكون الجواب على هذا السائل أن الدليل على جواز الابتداء بها أن هذا هو الأصل, فهذا من الكلام الذي ليس له ضرورة، فإذاً هذا هو الأصل في العادات بإجماع المتقدمين من أهل العلم.

    كما أسلفت لما جاءت المصطلحات العلمية والتحقيقات العلمية؛ وبدأت تؤصل كثير من المسائل دخلت فيها هذه الفروضات والإشكالات؛ لأن جملة مما فرضه أصحابه أنه عادة اتصل به وجه من التعبد فصار مناسباً أن يقال: إنه عبادة, أو إنه إذا كان ليس على هدي الشريعة فإنه صار بدعة, فأحياناً يقع قدر من الاتصال.

    المآخذ على قاعدة (العادة محكمة) والأمثل في هذه القاعدة

    ولهذا أنا أقول: إن من أدق الفقه هو فقه الاتصال بين هذه الأمور التي قصد الشارع مراعاتها, ولكنه لم يجعلها أصلاً مفصلاً؛ مثل العادة, فالشارع قصد اعتبار العادة, فالعادة معتبرة, والعرف معتبر, وإن كانت العبارة التي درج عليها كثير من أهل القواعد؛ أن العادة محكَّمة, مع أن هذا التعبير فيما أرى ليس هو الفاضل, فلو عدل عنه إلى قول: العادة معتبرة, فهذا أدق في المعنى العلمي؛ لأن قولك: إن العادة محكَّمة؛ التحكيم في مدلوله الشرعي ومدلوله العلمي, سواء -العلمي بالمعنى الاصطلاحي أو حتى بالمعنى اللغوي- فكلمة التحكيم كلمة تعطي قدراً من الانصياع والالتزام بما قضى به هذا المحكم في هذا الحكم؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يذكر الحكم قضاءً محضاً مضافاً إليه, وإلى ما أنزله من الوحي, وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44], والحكم هو أن يحكموا بين الناس بالعدل وما إلى ذلك.

    فالحقيقة أن العادة ليست محكمة؛ ولهذا الآن لو سألنا سؤالاً: هل يجوز للناس أن يتحاكموا إلى عاداتهم؟ فيكون الجواب: لا, بل يتحاكمون إلى الشرع, فإذاً: العادة ليست محكمة, المشركون قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22], أي: على عادات, فهذه العادات قد تكون عادات مباحة, وقد تكون عادات مكروهة، وقد تكون عادات محرمة، إذاً العادة ليست محكمة بهذا المفهوم, صحيح أن الذين نطقوا بهذا من علماء القواعد والأصول والفقهاء ما أرادوا بذكر هذه العبارة التي درجوا عليها أن الناس يتحاكمون إليها, منهم من يقول: إن هذه القاعدة مجمع عليها؛ لأن مقصودهم بذلك أنها معتبرة, وليس بمعنى أنها محكمة أنها تفصل في سائر المسائل, فهناك جملة من المسائل ترد إلى العرف أو إلى العادة, والكثير من هذه المسائل يدخلها اختلاف؛ مثل: الإيجاب والقبول في كثير من العقود, هل يحصل بألفاظ مخصوصة؟ وهل يوكل ذلك إلى العرف والعادة؟

    جملة من الفقهاء يقولون: إن هذا يعتبر راجعاً إلى العرف والعادة.

    فإذاً مقصود أهل العلم بهذه الكلمة معروف وصحيح, ولكننا إذا أردنا التعبيرات المنضبطة فإنه يفترض أن نقول بعبارة أدق, لأن عبارة العادة محكمة لا تعتبر منضبطة، بل نقول: العادة معتبرة؛ لأنك لا تجد عادة تحكم وحدها في الشرع, لا بد أن يكون لها متصل شرعي.

    فإذاً: حقيقتها أنها اعتبرت في نتيجة الحكم وليس أنه اقتصر عليها وحدها في نتيجة الحكم, لا توجد أحكام في الشريعة تقتصر على العادة المجردة, بل لا بد أن تكون العادة متصلة بدلالة الشريعة, إما دلالة تبع وإما دلالة أصل أو ما إلى ذلك؛ فهذا الذي أراه أنه التعبير الأجود.

    من القواعد: أن العادة معتبرة, وهي معتبرة في الحكم, لكنها ليست محكمة, المحكم دائماً هو الشرع, وإذا قال الشرع باعتبار هذه العادة صار الحكم للشرع حتى لو أثرت العادة في الحكم هذا لا بأس به, وقولنا: العادة تؤثر في كثير من الأحكام, والعرف معتبر في كثير من الأحكام هذا لا إشكال فيه, بل هذا مما أجمع عليه, ولكنها ليست محكمة تحكيماً مجرداً عن الشريعة, وهذا ما تدل عليه كلمة التحكيم, فإن معنى التحكيم في اللغة والاصطلاح الانضباط والالتزام فكلمات الشارع تدل على هذا المعنى من القوة والعزم والانضباط.

    القول في العادات عند اقترانها بوجه من التعبد

    وعلى كل حال فإن الإشكال في الكلام الذي ذكره الشاطبي رحمه الله أنه جعل التعريف الأول فرعاً عن المعنى الأول, وجعل التعريف الثاني فرعاً عن المعنى الثاني, فهذا هو الإشكال في كلامه؛ لأنه يمكن أن نقول: إن العادة لا تكون بدعة, فإذا اتصل بها وجه من التعبد فنقول: إنها صارت بدعة, لكن نقول: إنها تسمى هنا عبادة, فرجعنا إلى أن باب الابتداع في معناه الشرعي خاص بالعبادات, ويقال في الحروف الشرعية والحروف العلمية المنضبطة: إن العادات من حيث هي حال تجريدها أي لا يتصل بها حكم أنها تكون بدعة في الشرع, فما يتصل إما أن يدخل على العادة فيجعلها بدعة، وإما يدخل على العادة فيجعلها مطلوبة شرعاً, لأن صاحبها قصد بها تعبداً, وربما دخل المتصل الشرعي على العادة فجعلها فسقاً؛ لأنها تضمنت أمراً مخالفاً للشرع، فنقول فيه: إنه فسق, فيكون هذا الفعل في مجموعه فسقاً, وإذا كان الفسق متضمناً في العادة صارت العادة فسقاً, وأما إذا كانت العادة على معنى اختلاف الطبائع عند الناس كما هو الأصل فيها, فهذا هو الأصل في العادة؛ أنها من تنوع طبائع الناس وأحوالهم وبيئاتهم وما إلى ذلك؛ هنا يقال: إنها عادة مباحة, وهذه هي العادة بمفهومها المجرد.

    فإذاً: العادة من حيث هي لا تستطيع أن تقول: إنها بدعة، بل تكون تارة معتبرة في الشرع, بل مقصودة في الشرع, وتارة تكون منهياً عنها؛ إما لوجه من الابتداء باستجلابها نفعاً فتكون عبادة أو على معنى العبادة وهلم جرا, ولا أحد من العلماء يقول: إن العادة إذا حولت في قلوب الفاعلين إلى قصد التعبد فإنها لا تكون بدعة؛ فهذه الخرافات التي انتشرت في الأمم الوثنية والأمم المشركة، وما عاناه الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت وجهاً من القصد في العبادة؛ فتحولت هذه العادات إلى عبادات، ولهذا صارت من العبادة لغير الله وما إلى ذلك, وإن كانت هذه العبادة لم يشرعها الله جل وعلا, ولكن القلوب انصرفت في عبادتها لغير الله سبحانه وتعالى.

    ثم لا تجد أيضاً أن ثمة خلافاً متبايناً في مسألة العادات, بل يقال: إن هذه مسألة فيها تفصيل, وهذا المعنى هو الذي يمكن؛ أن العادة من حيث هي لا تكون بدعة, وأما إذا اتصل بها متصل ما؛ فقد ينقلها إلى درجة من الابتداع إذا كان الفعل العادي قصد به التعبد لله سبحانه وتعالى, والتعبد بمعنى التعبد المحض, وإلا فإن الأفعال العادية كما تعرفون يشرع فيها النية الصالحة، كما قال معاذ لـ أبي موسى : وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي, وليس تبتغي بالعادات وجه الله إلا ازددت بها درجة حتى اللقمة تجعلها في فيِّ امرأتك, فالأمور التي هي من عادات الناس وأحوالهم يشرع فيها النية الصالحة, وهذه مقاصد شرعية فاضلة, لكن تكون بدعة إذا داخلها شيء من التقرب؛ مثل من لم يأكل أكلاً معيناً, إما تقرباً وإما لأنه يرى أن من الدين أنه لا يأكل هذا الأكل؛ كما حصل لبعض الذين غلوا في أوجه الزهد والعبادة, فإنهم حرموا على أنفسهم بعض المطاعم, ولا شك أن هذا الفعل يكون بدعة في الدين, لكن لو أنه لم ير ذلك أو أنه لا يأكل هذا الأكل أو هذا الطعام ولا يشرب هذا الشراب ذوقاً, وهذا هو الأصل في عادته, فهذا لن تستطيع أن تقول: إن هذا الفعل بدعة؛ لأن هذا من حق كل إنسان.

    ولعل الموضوع من هذه الناحية يكون قد فصل بما فيه الكفاية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088539434

    عدد مرات الحفظ

    777208521