إسلام ويب

كتاب الطهارة [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحتل النية مكانة عظيمة في صحة العمل وقبوله، ولهذا تشترط النية لرفع الحدث سواء في الغسل أو الوضوء، وبهذه المنزلة نجد الطهارة بالنسبة للصلاة، فيجب على المسلم أن يغسل ويمسح أعضاء معينة ليقف خاشعاً عابداً لربه في صلواته المفروضة والنافلة.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى في كتاب الطهارة: [ والنية شرط لطهارة الحدث كلها، وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها ].

    اشتراط النية للطهارة وأقوال العلماء في ذلك

    قوله: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها)، أي: لطهارة الأحداث كلها، وعلى هذا يدخل في ذلك ما كان من الحدث الأصغر، أو كان من الحدث الأكبر.

    والنية يراد بها: القصد، وهو ما يكون في القلب من العزم والقصد، وهذا أصله في الشريعة مستقر، فإن الشريعة مبنية على الإخلاص لله سبحانه وتعالى والقصد إلى اتباع ما شرع، فلا بد من النية في طهارة الأحداث كلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر الذي رواه البخاري وغيره: ( إنما الأعمال بالنيات )، والشريعة قاعدتها: أن الأمور بمقاصدها، فكل عبادة من العبادات فإنها تحتاج إلى النية، وهذا مُطرد في الشريعة، فجميع العبادات المحضة لا بد فيها من النية، والوضوء عبادة محضة، فإن صفته هي من وضع الشارع بخلاف إزالة النجاسة، فإن إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية؛ ولهذا ترتفع النجاسة في أظهر قولي الفقهاء ولو بغير فعل الآدمي؛ فإن اشتراط النية هو ما يميز العبادات المحضة، كالصلاة والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة والوضوء ونحو ذلك، عن غيرها من العبادات الغير محضة.

    فالنية شرط لطهارة الأحداث كلها، وهذا الذي عليه جماهير الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد و مالك و الشافعي ، خلافاً لأهل الرأي، فإن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أن النية لا تشترط في طهارة الماء، وإنما يجعلون ذلك خاصاً بالتيمم، واستدل بعض فقهاء الحنفية لقولهم هذا بعدم ورود الأمر بها، ولكن لما كانت العبادات المحضة لا تقع في الشريعة إلا ويقصد بها التقرب من جهة الإخلاص، ويقصد بها الاتباع من جهة ما جعله الشارع في الشريعة لها، لم يحتج ذلك إلى أن ينص في كل عبادة معينة؛ ولأن العبادة إذا تجردت عن هذا القصد من أصله صارت عملاً عادياً، فلو أن شخصاً دار حول البيت يبحث عن مفقود أو يبحث عن صاحب له، فلا يسمى فعله هذا طوافاً يسقط به الركن.

    وكذلك إذا دخل عرفة وهو لا ينوي بذلك الوقوف بعرفة، وإنما دخل لتجارة أو نحو ذلك، فلا يعد واقفاً بعرفة، فإنه لو دخلها لتجارة، ثم بعد ذلك في أثناء اليوم أو في آخره قبل الفجر أنشأ الإحرام، ولم يقف بعرفة بعد ذلك، فلم يقل أحد: إن مروره الأول لتجارته بعرفة كان مجزئاً له.

    وهكذا في بقية ما كان من باب العبادات المحضة، فإنه لا بد فيها من النية، والأصل في هذه النية أن العمل في الشريعة جاء هكذا، فهي لا تحتاج إلى تنصيص؛ لأن العمل إنما شرع لهذه الصفة، فطلب دليل مختص يقتضي وجوب النية مقدر على أن العمل يقع مجرداً مشروعاً بدونها.

    دليل وجوب النية

    فإذا قيل: ما الدليل الدال على وجوب النية؟

    قيل: هذا مبني على تقدير وجود العمل مجرداً مشروعاً بدون النية، فتكون قدراً زائداً، مثلما قيل: ما الدليل على وجوب التسمية؟ فإنه يقدر وقوع الوضوء دون التسمية، وكذا يقدر وقوع الطواف دون أن يكبر عند ابتداء طوافه، أو أن يستلم الحجر.

    فالعبادات المحضة لا يقدر وقوعها مجردة أصلاً، فلا بد فيها من هذا الاستصحاب، بحيث إذا وقع التصرف على القصد العادي المحض لم يكن هو العبادة التي أوجبها الله، فلو غسل أعضاءه يريد بذلك التبرد: غسل كفيه، وغسل وجهه، وغسل يديه، فلما كان في أثناء غسل يديه يريد بذلك إزالة الغبار، أو يريد بذلك التبرد، طرأ له نية الوضوء أو نية رفع الحدث، فلا يعتد بما غسل ابتداءً؛ لأنه لم يوقع ذلك على سبيل قصد القربة، كما لو أنه دار بالبيت على صفة وجه الطواف، يبحث عن صاحب له، فلما أمضى شوطين قال: أجعله طوافاً، فلا يعتد بهذا البحث عن صاحبه أو مفقود له عن الطواف الشرعي.

    إذاً قوله: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها) أي: الأحداث كلها، سواء كان الغسل أو الوضوء أو التيمم، خلافاً لـأبي حنيفة فإنه يجعل ذلك مختصاً بالتيمم دون الطهارة المائية.

    قال: (وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)، كمس المصحف مثلاً، وكالطواف بالبيت على مذهب جمهور العلماء، فهذا لا يباح إلا بالطهارة.

    ارتفاع الحدث بنية الطهارة للمسنون أو التجديد

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد، فهل يرتفع حدثه على روايتين ].

    (فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد)، ويمثل له الفقهاء ببعض الأمثلة التي يعرض فيها خلاف، كقراءة القرآن من غير مس المصحف، فهذا فيه خلاف، ولكن إذا نوى ما تسن له الطهارة، أو نوى التجديد لطهارته، ناسياً لحدثه ثم ذكر حدثه، فهل يرتفع حدثه أو لا يرتفع حدثه؟ على روايتين عن الإمام أحمد ، وهما قولان للفقهاء، والأظهر أن ذلك يجزئ؛ لأنه نوى بذلك العبادة المحضة، وحيث نوى العبادة بطهارته، فهذه هي النية الواجبة، وهذه هي النية المشترطة.

    أما رتبة هذه العبادة فهذا تفصيل ليس بلازم ولا يلزم استصحابه، وإنما الذي يجب استصحابه ويجب اعتباره أن ينوي العبادة المحضة بذلك، فإذا نوى العبادة المحضة سواء كانت مستحبة أو واجبة كفى ذلك، وإذا كان ناسياً حدثه ارتفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وهي المشهور من المذهب، وهو الذي رجحه الموفق .

    إجزاء الغسل المسنون عن الواجب

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن نوى غسلاً مسنوناً، فهل يجزئ عن الواجب؟ على وجهين ].

    قوله: (وإن نوى غسلاً مسنوناً)، كغسل الجمعة، فعلى مذهب جمهور الفقهاء أن غسل الجمعة مستحب، فهل يجزئ عن الواجب، فلو أنه كان جنباً ونسي أن عليه غسلاً واجب، فنوى غسله المسنون كغسل الجمعة، ثم ذكر بعد ذلك، فهل يجزئه أو لا يجزئه؟ قال المصنف: على وجهين، وبعض الأصحاب يجعلون ذلك على روايتين عن الإمام أحمد ، وسبق أن الوجهين هما للأصحاب، وأن الروايتين عن الإمام نفسه، ففيها قولان في مذهب الإمام أحمد ، وبعض الأصحاب يجعلها وجهين، وبعضهم يجعلها روايتين عن الإمام.

    والراجح في هذا أن كل من نوى عملاً مشروعاً أجزأه ذلك، ولا تؤثر الرتبة بين واجبٍ ومستحب، إنما الذي يؤثر ألا ينوي القربة، وإنما ينوي عملاً عادياً، فإذا نوى عملاً عادياً لم يجزئه.

    النية في تعدد الأحداث الموجبة للطهارة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل، فنوى بطهارته أحدها، فهل يرتفع سائرها على وجهين ].

    وهذا فيه خلاف في مذهب الإمام أحمد ، والمحقق أنها ترتفع، وظهور كونها ترتفع بنية واحد منها بين؛ لأنك إذا قلت: إنها ترتفع بنية واحد ما بطل في حق هذا الذي جزم بارتفاعه إلا بسبب ناقضٍ للطهارة مستجد، وهذا لم يقع، فما دام أنه يعلم عدم وقوع السبب المستجد الناقض للطهارة، فمعناه: أنه لا يزال في طهارته، فلا يلزم أن يستصحب عدد ما يوجب رفع الحدث، بل ينوي بذلك ما يشرع له أو يجب له الطهارة، فإن نوى ما يشرع له أو يجب له الطهارة أو نوى واحداً من الأحداث وعنده أكثر من حدث، أو أكثر من سبب في الحدث، فإن هذا كله لا يؤثر؛ لأن المقصود من شرط النية القربة إلى الله في عمله، وحيث وقع ذلك لا يلتفت إلى ما هو فوق ذلك.

    تقديم النية على غيرها من واجبات الطهارة

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة ].

    ويجب تقديمها على أول الواجبات، وهذا إذا قيل: إن أول واجب هو التسمية، وهذه رواية عن الإمام أحمد وجب تقديمها على التسمية، وإذا قيل على مذهب الجمهور بأن التسمية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وهذا هو الذي سبق ترجيحه أن التسمية في الوضوء مستحبة وليست واجبة، فيجب تقديمها على أول الواجبات، وأول الواجبات على الصحيح من المذهب المضمضة، وسواء بدأ بالمضمضة أو بدأ بغسل الوجه، فإن هذا كله يتجه إلى معنى واحد، والمقصود أنه لا بد أن تتقدم النية على أول الواجبات، فلو ابتدأ بغسل وجهه يزيل بذلك ما كان عليه من الغبار أو العرق، ثم عرض له إرادة الطهارة ورفع الحدث، لم يعتد بما ابتدأ، بل لا بد أن يرجع.

    استصحاب ذكر النية في الطهارة

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب تقديمها على مسنوناتها، واستصحاب ذكرها في جميعها، وإن استصحب حكمها أجزأه ].

    قوله: (ويستحب تقديمها على مسنوناتها) كالتسمية على مذهب الجمهور، (واستصحاب ذكرها في جميعها)، واستصحاب الذكر: أن تكون النية حاضرة في جميع فعله لفروض الوضوء، وإن كان هذا ليس بلازم، وإنما اللازم ما ذكره المصنف وهو استصحاب الحكم، والفرق بين استصحاب الذكر واستصحاب الحكم، أن المقصود باستصحاب الحكم، هو: ألا ينوي قطعها بعد إرادتها، أو بعد وقوعها، فإذا وقعت النية في نفسه وفي قلبه ولم ينوِ قطعها فإنه يعد مستصحباً لحكمها، وإن لم يكن مستصحباً لذكرها، فلو أنه غيب ذهنه ومدركه عن استصحاب النية، فإن هذا لا يؤثر، فمعنى أن يستصحب حكمها: ألا ينوي قطعها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501953

    عدد مرات الحفظ

    772704916