إسلام ويب

كتاب الصلاة [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مكارم هذا الدين وكمالاته أنه حث على ستر العورات مطلقاً داخل الصلاة وخارجها، وقد جعل للعورة حدوداً تختلف بالنسبة للرجل عن المرأة الحرة والأمة. كما توسع الفقهاء في ذكر أحكام انكشاف العورة في الصلاة، وكيفية صلاة من لا يجد ما يستر عورته، وصلاة العراة جماعة، وغير ذلك.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ستر العورة: وهو الشرط الثالث ].

    حكم ستر العورة في الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [باب ستر العورة، وهو الشرط الثالث].

    قوله: (وهو الشرط الثالث) أي: من شروط الصلاة، وهذا الذي عليه جماهير الفقهاء؛ أن ستر العورة شرط من شروط الصلاة.

    وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه واجب وليس شرطاً، والراجح ما ذهب إليه الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، فدل على أن ذلك شرط، وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فقوله: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) دليل على أن ستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة، أي: لا تصح الصلاة إلا بالإتيان بهذا الشرط، وهو الذي عليه الجماهير من أهل العلم، وبعضهم جعله واجباً وليس شرطاً، وبعضهم جعله شرطاً مع الذكر، فيسقط في حال النسيان. والأصح الأول: أنه شرط مطلقاً.

    حكم ستر العورة خارج الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [ وسترها عن النظر بما لا يصف البشرة واجب ].

    ستر العورة في النظر بما لا يصف البشرة واجب على المكلف، وهذا مما جاءت به الشريعة؛ أن ستر العورة في خارج الصلاة واجب عن النظر، فلا يصح أن يلبس ثوباً يصف البشرة.

    حد عورة الرجل

    قال المصنف رحمه الله: [ وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة، وعنه أنها الفرجان ].

    أما الرجل فعورته ما بين السرة والركبة، وهذا الذي عليه الجماهير من أهل العلم وهو المعتبر، وهو الذي جاءت بمقتضاه الأدلة.

    وهل الركبة داخلة في العورة أو ليست داخلة؟ على قولين: والذي عليه الجمهور؛ أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة، وهذا المعتبر، وأما ما جاء في انكشاف فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عرض على غير القصد، كما جاء في حديث أنس ، فهذا لا يدل على أن الفخذ ليس عورة، وإن كان رواه البخاري في الصحيح، لكنه عرض، وبعضهم يجعل الرواية مما اختلف فيه من جهة الرواية، ولكن على كل حال من جهة طرق الاستدلال فهذه حالٌ عرضت لا تقارن بالأحوال التي هي حال مستقرة، ولا تقارن بالأقوال، فهذا هو معتبر الجمهور في أنهم لم يجعلوا حديث أنس رضي الله تعالى عنه لما انحسر الإزار عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم في ركض الخيل دليلاً على ذلك؛ لأن أنساً رضي الله عنه قال: (وأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وانحسر الإزار عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا عرض وهو في حال حرب. فقوله: (وأجرى في زقاق خيبر) أي: في الطرق الضيقة، فهذا عرض فيكون اتقاؤه في مثل هذا مما يتعذر، ولم يذكر أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذا الأمر على حاله، إنما ليفيد به أن حال النبي صلى الله عليه وسلم كان في شأن من أمره، وهذا عندي من الحال المبتدعة، فلم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة كانوا يتجوزون في ذلك في الأحوال المعتادة، فهذا لا يصح الاستدلال به على أنه ليس عورة، ولهذا ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أن هذا الحديث يتأول على هذا الوجه، وهو المناسب لها، فإن ما ورد مطلقاً لا يعطي أحكاماً عامة، وإنما ما ورد مقيداً فإنه يعطي حكماً مقيداً، ومعلوم بالمنطق والنظر أن الحكم يلاقي الدليل في دلالته، فإذا كان الدليل على هذا التقييد من الحال صار الحكم الذي يلاقيه على هذا التقييد من الحال؛ ولهذا في حال الحاجة والضرورة يتجوز في ذلك كما هو معروف.

    حد عورة الأمة

    أما الأمة فقال المصنف: (والأمة ما بين السرة والركبة) جاء عن الإمام أحمد في الأمة روايات، وفي المذهب أقوال، فهذا مما قيل في المذهب وهي رواية عن الإمام أحمد عند جماعة من أصحابه، والأظهر أن الأمة ليست كالرجل في عورتها. وفي مذهب أحمد قولان مشهوران غير ما ذكر، أحدهما: أن عورة الأمة ما لم يظهر غالباً وعادة منها كالقدمين والساعدين ونحو ذلك، وهذا قول لطائفة من الأصحاب، وهذا القول يكون على هذا التقدير أدنى من قوله: ما بين السرة والركبة؛ لأن ما يظهر عادة وغالباً من الإماء، كجزء من الساقين لا يبلغ الركبتين، وجزء من الساعدين وهكذا.

    والقول الثاني في المذهب: أن عورة الأمة دون ذلك، بمعنى أنه يجب عليها أن تستر الساقين ونحو ذلك. وبعضهم يفرق بين الأمة البرزة والأمة الخفرة التي لا تظهر عادة خارج البيوت.

    والذي عليه عامة الفقهاء أنهم يفرقون ما بين الأمة والحرة، وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء، ولكن جعل عورة الأمة كعورة الرجل ما بين السرة والركبة هذا فيه نظر؛ لأن هذا لم يأت به دليل، ولم تمض به سنة، وليس هو من اقتضاء الشريعة، والعموم من الأدلة في أحكام المرأة ينافيه، وهذا فيه بعد، والله أعلم.

    قوله: (وعنه أنها الفرجان) يعني: وعن الإمام أحمد أن العورة في الرجل والمرأة الفرجان، فلا يكون الفخذ عورة، وهذه رواية مرجوحة. وأما جعلها في الأمة كذلك فهذه رواية حكاها بعض الأصحاب عن أحمد ولكنها بعيدة، بل نص الشيخ تقي الدين رحمه الله على أن هذا غلط على الإمام أحمد وعلى الشريعة، وهذا ظاهر، فلا يصح أن يقال: إنها الفرجان في حقها، فهذا بعيد، وليس هو فيما يظهر من قول أحمد ، وإنما فهم عنه خطأً كما نبه عليه بعض المحققين من أصحابه.

    حد عورة الحرة في الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [ والحرة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان ].

    قوله: (والحرة) أي: المرأة الحرة (كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان) يعني: في الصلاة المرأة الحرة تكشف وجهها، وكذلك في الكفين روايتان كما قال المصنف، والراجح: أنه يجوز للمرأة أن تكشف الوجه والكفين، ولا تغطي وجهها في الصلاة، وهذا هو فعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنهن لا يغطين وجوههن في الصلاة، فلا تغطي المرأة وجهها في الصلاة، بل تنهى عن ذلك، إلا إذا كان ثمة أجانب بين يديها، فإذا خشيت ذلك غطت وجهها، كما في بعض الأحوال التي يزدحم فيها الرجال بمقارب مكان النساء. والكفان تكشفهما المرأة كذلك على الراجح في مذهب الإمام أحمد.

    وأما القدمين فالراجح من المذهب أنها تغطى في الصلاة، والقول الثاني للفقهاء وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وهو قول في مذهب الإمام أحمد : أن القدمين يجوز كشفهما في الصلاة، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، وفيما يظهر أن هذه المسألة فيها بعض السعة؛ لأن هذا مما جرت العادة بظهوره.

    قال المصنف: [ وأم الولد، والمعتق بعضها كالأمة، وعنه كالحرة ].

    قوله: (وأم الولد، والمعتق بعضها) على روايتين: هل هي كالحرة أو كالأمة؟

    المستحب للرجل من ثياب في الصلاة والمجزئ في ذلك

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين، فإن اقتصر على ستر العورة أجزأه، إذا كان على عاتقه شيء من اللباس. وقال القاضي: يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض ].

    قوله: (ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين) لأن هذا يكون من اتخاذ الزينة، ويريدون بالثوبين: الإزار والرداء؛ لأن هذا هو الأصل في العرف وفي اللباس، وكذلك ما كان من العادة، فتشرع الصلاة بما جرت العادة والعرف بلبسه؛ لأن هذا من الزينة، والله يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعراف:31]، فهذا هو المشروع: أن يصلي في ثوبين، أي: بالإزار والرداء على حسب تلك الحال الأولى.

    قال: (فإن اقتصر على ستر العورة أجزأه)، أي: إن لم يصل الرجل في ثوبين واقتصر على ستر العورة أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء أنه إن ستر العورة أجزأه ذلك، ولا يلزمه أن يصلي في ثوبين، لكن هل يجب عليه أن يجعل على عاتقيه شيئاً من اللباس، أو لا يجب ذلك؟ هذا محل خلاف، وقد ثبت في الصحيحين: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: أو لكلكم ثوبان؟! ) فهذا الحديث فيه إشارتان: الإشارة الأولى: أن الأكمل الصلاة لبس الثوبين.

    الإشارة الثانية: أنه يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة، ولكن الجمهور من الفقهاء يقولون: يكفي ستر العورة، وعن الإمام أحمد روايتان: الرواية المشهورة في المذهب: أنه يجعل على عاتقه منه شيئاً، لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء )، والرواية الثانية عن الإمام أحمد وهي مذهب الجمهور، أن ذلك لا يلزم؛ لما ثبت في الصحيح: ( وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك )، فهذا يدل على أنه يصلي بالثوب الواحد ولا يكون على عاتقه منه شيء.

    لكن لا شك أن هذا خلاف السنة، وأنه يكره أن يصلي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، فإن لم يتمكن إلا كذلك أجزأه ذلك إجماعاً؛ لأن الإمام أحمد لا يجعله شرطاً، بل يجعله واجباً، ففي مذهب الإمام أحمد لو صلى في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء صحت صلاته، ويكون قد ترك ما يجب عليه إذا كان الثوب الواحد لا يفي إلا بستر العورة، فإذا كان الثوب الواحد لا يستطيع أن يجعل على عاتقه منه شيئاً كفاه إجماعاً، أما إذا كان يستطيع أن يتقي ذلك، فهل يجب أو لا يجب؟ على قولين: الجمهور على عدم الوجوب، والمذهب على الوجوب، ولكن السنة ظاهرة في أن هذا خلاف ما شرع، فلا ينبغي التجوز فيه، فأقل أحواله -إن لم نقل: إنه واجب- هو الكراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ).

    وهذا مما ينبه إليه الناس في حال النسك؛ لأنهم يلبسون الإزار والرداء، ثم تجد بعضهم إذا أراد أن يصلي ألقى الرداء بجانبه، أو وضعه على عنقه، ولفه عليه، وهذا مما لا يشرع وهو خلاف الأدب؛ لأن مراعاة الأعراف في ذلك مقصودة ومطلوبة.

    وقوله: (وقال القاضي: يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض) هذا قول لطائفة من أصحاب أحمد ، ولم يجعلوا ذلك واجباً في النفل بل جعلوه في الفرض.

    المستحب للمرأة من ثياب في الصلاة والمجزئ في ذلك

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة، فإن اقتصرت على ستر عورتها أجزأها. وإذا انكشف من العورة يسير لا يفحش في النظر لم تبطل صلاته، وإن فحش بطلت ].

    قوله: (ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمارٍ وملحفة) هذا هو المشروع؛ لأنه أستر لها (فإن اقتصرت على ستر عورتها) التي سبق ذكرها (أجزأها) ذلك.

    انكشاف العورة في الصلاة

    قوله: (وإذا انكشف من العورة) قدر (يسير لا يفحش) عادةً (في النظر لم تبطل صلاته) كما لو ظهر جزء من تحت السرة مثلاً، أو ما يقابلها من ظهره، أو جزء من أول الفخذ، فهذا الانكشاف اليسير لا يبطل الصلاة، لما ثبت في حديث عمرو بن سلمة وهو حديث مروي في السنن، رواه أبو داود و النسائي وغيرهما، فهذا لا تبطل به الصلاة على الراجح.

    وبعضهم قدر ذلك بالدرهم ونحوه.

    (وإن فحش) أي: ما ظهر من العورة (بطلت) أي: الصلاة، وعليه يكون المذهب عند الإمام أحمد أنهم يفرقون إن انكشف من العورة يسير لا يتقى عادة لم تبطل، وإن انكشف فاحش عادة وهو ما يقابل اليسير بطلت، وهذه الطريقة بالتفريق بين الحالين هي ما عليه الجمهور من الفقهاء، لكنهم يختلفون في التقدير، فبعضهم يجعل ذلك معتبراً بالعادة، وبعضهم يجعل ذلك مقدراً ولا يرد إلى العادة، فمنهم من قدره بقدر درهم ونحوه، كما هو المشهور في مذهب الإمام أبي حنيفة . والأظهر ما عليه مذهب الإمام أحمد ؛ لأن التقدير هنا ليس فيه نص؛ فيقال: ما جرت العادة بالاغتفار فيه مع أن الأصل وجوب اتقاء ذلك، فليس المقصود في المذهب أنه يجوز أن يكشف القدر اليسير من العورة، بل المقصود أنه لو عرض فانكشف يسير منها بغير قصده، فهل يبطل ذلك الصلاة أو لا يبطلها؟

    نقول: إن كان يسيراً كما لو ارتخى الإزار أسفل من السرة يسيراً، فهذا ما قصده فهل هذا يبطل الصلاة؟

    المعتمد في المذهب أن هذا لا يبطل الصلاة، لكن لو كان فاحشاً بطلت الصلاة، كما لو انكشف نصف الفخذ فهذا لا يكون يسيراً عادة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501953

    عدد مرات الحفظ

    772704916