الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا هو المجلس السادس من مجالس التعليق على مقدمات كتاب الموافقات للعلامة المحقق أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، وينعقد في الشهر السابع من سنة 1428 بمكة المكرمة.
قال المصنف رحمه الله: [ إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل، والدليل على ذلك أمور منها:
الأول: أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة؛ لأن الفرض أنه حد له حداً، فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله ].
أشار المصنف في المقدمة التاسعة من المقدمات العلمية التي افتتح بها كتابه إلى أن العلم منه ما هو أصل، أو كما عبر عنه، منه ما هو صلب في العلم، ومن المسائل ما يكون من الملح، ومنها: أي المسائل ما ليس من هذا ولا هذا، وقد سبقت الإشارة إليه.
ولكنه في آخر المقدمة التاسعة أشار إلى معنى مهم: وهو أنه قال: (فصل: وقد يعرض للقسم الأول)، أي: ما هو من صلب العلم في تعبيره (أن يعد من الثاني): ونتيجة هذه الإشارة في هذا الأصل وهي إشارة مهمة ومحققة في كلامه رحمه الله: أن ما سمي في كلامه من صلب العلم، وما وصفه بأنه من ملحه، يعني: أن طالب العلم أو الناظر في كتب العلماء لا يمكن أن يجد نوعاً خالصاً عن غيره، وعامة كتب العلماء مركبة من مادة هذا ومادة هذا، فإنك إذا قرأت مثلاً في كتب الفقهاء التي ذكروا فيها مسائل الفروع، فإن بعض ما يذكرونه قد يكون من صلب العلم، وبعضه يكون من باب الملح.
فالقصد أن ما هو من أصل العلم وما هو من ملح العلم يكون فيه تداخل في كثير من الموارد، وهذا هو الذي أشار إليه أبو إسحاق هنا، وذكر له بعض الأمثلة.
ثم بعدها أتى إلى المقدمة العاشرة في قوله: (إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً): وقد سبق أن أشار إلى أن كليات الأدلة تعود إلى العقلي والعادي والسمعي، وسبقت الإشارة إلى أن الدليل العادي لا يعد من أدلة تشريع الأحكام عند المحققين من أهل العلم والأصول والقواعد الفقهية، وإنما هو من أدلة وقوع الأحكام.
والمؤلف هنا لم يقل: إنه من أدلة التشريع، لكن الكلام يحتاج إلى شيء من التنبيه والتمييز، حتى يكون الناظر في كلامه على تبين في هذا، وأشار سابقاً إلى أن الدليل السمعي هو الأصل في هذا الباب، وأن الدليل العقلي هو تبع للدليل السمعي، وهذه مقدمات صحيحة، فإنه اعتبر الدليل العقلي بوجه، وليس الدليل العقلي المجرد عن الشريعة أو عن الدليل السمعي، بل هو المبني على مقدمات شرعية، فيكون بهذا الاتصال ليس دليلاً عقلياً مجرداً، وإنما هو من باب النظر الشرعي، فيسمى: دليلاً عقلياً باعتبار آخر، وهذا أمر آخر .
المقام هنا في هذه القاعدة: أنه يؤكد المعنى الذي سبقت الإشارة إليه، وهو وأن الدليل العقلي يكون تابعاً للدليل النقلي أو للدليل السمعي؛ ولهذا قال: (فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل)، هذا في الأمور الشرعية، ثم ذكر دليلاً على هذه المقدمة التي ذكرها، قال: (والدليل على ذلك أمور) فهذه المقدمة باعتبار الجملة مقدمة مناسبة وصحيحة، وهي من موارد التحقيق في طريقة أبي إسحاق في الجملة في وسط كتابه وتقريره للكلام، فهو لم يسقط دليل النظر المبني على المقدمات المتصلة من جهة الشريعة، وهكذا ينبغي للفقيه والناظر أن يستعمل دليل النظر الشرعي، وليس هو الدليل العقلي المجرد، فإن العقل إذا اعتبر من حيث الماهية المجردة من جهته فليس دليل تشريع، والتشريع ليس بالعقل، وإنما يكون بالدليل السمعي، ولكن اعتبار النظر الشرعي صحيح.
ألا ترى أنهم سموا دليل القياس بالدليل العقلي مع أن القياس حقيقةً أنه نظر، أليس كذلك؟ ولهذا تجد حتى علماء الأصول إذا استدلوا على صحة القياس، يذكرون من دليلهم في هذا ما يأتي في القرآن من الأمر بالاعتبار، لكن لا تجد أن القياس هو نظر أو دليل عقلي محض، فليس كذلك، بل هو إلحاق فرع بأصل، والأصل لا بد أن دليله يكون سمعياً، وهذا الإلحاق هو النظر من قبل المجتهد، فصار دليلاً نظرياً وقد يسميه من يسميه: دليلاً عقلياً في بعض المقامات، هذا ضبط آخر يحتاج إلى تنبيه، أو إلى اصطلاح يميز هذا المعين له بهذا الاسم، لكنه دليل نظري من هذا الوجه، وإن كان ليس نظرياً محضاً.
فهذه النتيجة نتيجة علمية مهمة في باب المقاصد، وفي الأدلة بوجه عام: وهي أن الدليل النظري المكون من مقدمات عقلية متصلة بمعنى أو بمدرك سمعي، لا يكون عقلياً مجرداً، وهذا يحتاجه الفقيه كثيراً، بل يحتاج حتى في باب المجادلة في الأمور السمعية المحضة، أو في الأمور العقدية والأصول؛ ولهذا تجد أنه حتى في القرآن يأتي مثل هذا الطريق من التحصيل في خطاب المكلفين.
ثم يبين الشاطبي الدليل فيقول: (إنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة)، نتيجة هذا الكلام: أنه لو ترك العقل على بابه من جهة عدم تحديد الشريعة أو الدليل السمعي لمحل ورود العقل في الأحكام التشريعية، لو ترك العقل على بابه لأدى إلى أن العقل يحسن من استقلال أو يقبح من استقلال، وهذا ليس كذلك، فهو يقول: إنه لا يستعمل الدليل العقلي إلا حيث كان مناسباً من جهة اعتبار الشريعة له.
ثم قال: والثاني من الأدلة على مقدمته: [ ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح ]: ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، تكلم عنها النظار في كتب أصول الدين والعقائد، وعلم الكلام، وأصلها مبني على مقدمات من حيث أصول مناهج الأدلة بين الطوائف، فالذي عليه المعتزلة هو القول بالتحسين والتقبيح العقليين، ثم لما جاء متكلمة الصفاتية صار جمهورهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيره، يقولون بنفي ذلك، وربما غلا بعضهم في نفي هذا المعنى، وغلا من غلا منهم حتى في مسألة تعليل الأحكام كما هو معروف .
والقول المحقق وسط بين هذين القولين، وهو المعنى المعتبر في فقه السلف الأول من الصحابة والتابعين والأئمة، وهو المعتبر عند التحقيق في طريقة القرآن والحديث، فإنك إذا قرأت دلائل الكتاب والسنة، وجدت أن العقل لا يذكر على جهة الذم، فليس في كتاب الله ذم للعقل من حيث هو، كما أن العقل حينما نقول: إنه لم يذكر على جهة الذم، فهو لم يذكر على جهة أنه الدليل الذي يحصل به الإدراك المفصل للأحكام، بل تجد أن الله سبحانه وتعالى يعلق باب الاستجابة والتعبد والتقوى، وغيرها من كليات المقاصد باتباع ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والاتباع للحق والاتباع للدليل، للقرآن، وللنبي صلى الله عليه وسلم بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.. إلخ من المعاني التي تواترت في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
لكن العقل لا يذكر مذموماً كما أنه لا يذكر مشرعاً، وإنما يذكر موجباً لقبول الحق، أو محركاً لقبول الحق، هكذا في موارده في القرآن، ومثل ذلك في قوله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، ولهذا فإن أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة وأئمتها على اختلاف في ترتيب هذه الأمور بين المتأخرين، وقد كان السلف الأول من الصحابة وأهل القرون الثلاثة الفاضلة يعتبرون دليل العقل على هذا المعنى الوسطي؛ ولهذا لم يسموا دليل العقل في كلامهم؛ لأن العقل من حيث هو وحده ليس دليلاً، فلا تجده في كلامهم لا في مسائل الشريعة ولا في مسائل أصول الدين، فلا يكثرون من إطراء دليل العقل باسمه.
وهذا لا يعني أنهم لا يحتجون بدليل العقل، بل كما تعرفون احتج الأئمة المتقدمون بدليل العقل في موارد من مسائل الصفات وغيرها، أو في باب إبطال بعض الشبهات التي عرضت في هذا الباب، وذكر الإمام أحمد رحمه الله دليل العقل في مسألة العلو وفي غيرها من المسائل.
لكنهم لم يكثر في كلامهم الذكر لدليل العقل بالتسمية، وعدم الذكر له بالتسمية ليس من باب الإسقاط لمعنى الدليل العقلي، ولا حتى التسمية للدليل العقلي، بل تسميته إذا قام مقتضيها فهي تكون ضمن قاعدة أو معنى أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعارض العقل والنقل؛ لأن مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم تكون مناسبة إذا قام موجبها أو سببها.
فالتعبير بصفة الدليل العقلي أمر يحتمله المقام، إذا ما ضبطت المعاني ورتبت ترتيباً صحيحاً، لكن إذا قرأت في هدي الصحابة، لا تجد هذا المصطلح: دليل العقل مستخدماً عندهم، لكن هل معناه: أن الصحابة ما كانوا يعتبرون النظر بمعنى دليل العقل؟ لا، هو أصلاً موجود في آيات القرآن فمخاطبة العقل سبقت الإشارة لها بأمثلة كثيرة في كتاب الله في محاجة المخالفين للرسل.
انظروا مثلاً في قصة إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76]، هل كان إبراهيم يقول: هذا ربي على حقيقة هذا، أم كان هذا من باب المجادلة، والقيام بالحجة العقلية على قومه، فقد خاطبهم بإبطال ما هم عليه حتى من جهة النظر والعقل؛ ولهذا قال الله بعدها في تمام الآيات، في قوله تعالى في سورة الأنعام، بعد السياق في قصة إبراهيم مع قومه، قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، حتى الحجة هنا أضيفت إلى إتيان الله سبحانه، قال: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) ، وما قال: وتلك حجته، بل جاء السياق في كتاب الله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83].
فالفقه بدليل العقل مهم، والسلف رحمهم الله لم يبطلوا دليل العقل استعمالاً له، سواءً في مسائل الأصول أو في مسائل الفروع، وليس معنى هذا أن الأصول بحاجة إلى الدليل العقلي، بل هي صحيحة من حيث الدليل السمعي، لكن فرق بين أن تقول: إنها موجبة بالدليل السمعي، وبين أن تقول: إنهم استعملوا في مقامها الدليل العقلي، وهذا معنىً مخالف له.
فالتحقيق أنه لا يطلق تحسين العقل، كما أنه لا يطلق النفي؛ ولهذا من نفى تحسين العقل وتقبيحه التزم بعض اللوازم الشديدة، كنفي العلل في الأحكام وفي أفعال الله، أو حتى في أحكام التشريع، وإن كان هذا كما سبق التنبيه إليه من حيث التطبيق ليس بمستطاع؛ ولهذا كل الفقهاء من شتى المذاهب الفقهية حتى الذين يرجعون في مسائل النظر إلى بعض هذه الآراء، في نفي التحسين والتقبيح العقليين، تجد أنهم يعللون الأحكام الفقهية، ويرتبون على هذه العلل تعدية الأحكام وما إلى ذلك.
فصار علماء الكلام بين قولين متضادين: فمنهم من يثبت تحسين العقل وتقبيحه على قدر من الغلو في هذا، ومن يبالغ في نفي ذلك، والذي عليه المحققون وهو المعنى المحقق في منهج المتقدمين، وإن كانوا لم يرتبوا هذه الاستعمالات بأسمائها، أن العقل يعتبر من جهته التي سبقت الإشارة إليها.
قال المصنف رحمه الله: [ والثالث: أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل، وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدوداً ].
يعني: لو كان العقل مستقلاً بالتشريع أو بالحكم، لأدى ذلك إلى إبطال الشريعة بالعقل، قال: (وهذا محال باطل) ولا شك أن إبطال الشريعة محال، ولكن المصنف يرتب على أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل من جهة أن العقل قد يقع معارضاً كما سبق التنبيه إليه في كلامه الذي نسبه للجمهور من أهل الكلام، ومن المشهور في علم الكلام: أن العقل قد يقع معارضاً للشرع.
والدليل العقلي لا بد من تحديد المقصود به، فإن أريد بالدليل العقلي آحاد النظر الذي يقوله النظار والمجتهدون، فهذا ليس هو الدليل العقلي الذي يقال: إنه لا يعارض النقل، إذ هذا نظر معين أو استدلال معين أو احتمال معين في دليل العقل، وإنما الدليل العقلي المصحح هو الذي يكون منضبطاً عند العقلاء أو عند المجتهدين أو عند النظار، فتكون مقدماته بينةً من حيث الثبوت والقطع، ومن حيث هي مقدمات عقلية صحيحة ومعروفة عند العقلاء أو عند النظار، وأهل الاجتهاد والعلم في هذا الباب.
أما أن كل من نظر بنظر عقلي، سمى نظره المعين دليلاً عقلياً، فهذا ليس هو الدليل العقلي المصحح؛ لأن هذا النوع من الأدلة التي هي آحاد النظر يقع بينها التضاد بين النظار كما هو معروف؛ ولهذا إذا قيل: إن في القانون الذي ذكره بعض النظار والمتكلمين في تعارض العقل والنقل، من طرق المراجعة في هذا القانون والإسقاط لهذه المقدمة التي توهمها كثير من النظار في التاريخ المتأخر عند المسلمين بوجه خاص، أنه يحتاج إلى تسمية دليل عقلي واحد عارض الدليل النقلي، تجد أن كل مدرسة تسمي دليلاً وتقول: حصل التعارض في هذا الدليل، مع أن هذا الدليل ليس دليلاً عقلياً مسلماً عند المدارس العقلية كلها، أو المدارس الكلامية كلها، وتجد الدليل الذي عند هذه الطائفة تخالفه الطائفة الثانية لا باعتبار مخالفته للسمع، بل باعتبار مخالفته للعقل، فليس هناك دليل عقلي اتفق عليه النظار الذين يقولون بهذا القانون قانون التعارض، ولا يمثلون بمثال واحد اتفقوا عليه، بل ما من مثال يذكره بعضهم، إلا والآخرون من الموافقين لهم على هذا القانون ينازعونهم في كونه دليلاً عقلياً صحيحاً، فضلاً عن كونه معارضاً؛ لأنه ليس هناك دليل، فهي نظرية أكثر مما أن لها مثال سابق في دائرة القائلين بهذا فضلاً عن غيرهم؛ لأنه عند التحقيق يقال: إن الاعتبار ليس بالقائلين لهذا القانون وحدهم، بل بكل العقلاء أو بعامة الناظرين في العلم ممن يخالفون في أصل هذا القانون وهم السواد من متقدمي هذه الأمة.. إلخ.
فهذا له نوع من المراجعة المعروفة في كتب النظر وعلم الكلام .
قال المصنف رحمه الله: [لما ثبت أن العلم المعتبر شرعاً هو ما ينبني عليه عمل، صار ذلك منحصراً فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة وهذا ظاهر، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتب الأدلة الشرعية، حسبما يأتي إن شاء الله].
هذا تنبيه مهم أن هذه المقدمات التي يذكرها المؤلف أو غيره، خاصةً ما يتعلق بالتلازم بين العلم والعمل، وردت في جمل كثير من السلف، والتنبيه في كلامهم إلى أن العلم المحمود هو الموجب للعمل، أو أن العلم هو العمل أو ما إلى ذلك، هذه كلمات مشهورة في كتب السلف ومن نقل عنهم، وخاصةً من جمع في بيان العلم وفضله كـأبي عمر بن عبد البر أو غيره .
وأبو إسحاق يقررها على أنها مقدمات علمية في مسائل الأصول، مذكورة في كتاب الأدلة، وفي تحديد الأدلة، فالعلم المحمود هو ما دلت عليه الأدلة، وما كان محصلاً من هذه الأدلة، فأنت بحاجة إلى تحديد الأدلة الشرعية، هذه جهة كما أشار إليها .
فيقال أيضاً: إن الأمر يحتاج إلى فقه جملة من الجهات، هذه الجهة التي أشار إليها بالتصريح: أن يفقه الناظر في هذا الكلام المقصود بالأدلة، فهذه الجهة الأولى.
الجهة الثانية: أن يفقه المقصود بالعمل، حينما تقول: إن العلم المحمود هو الموجب للعمل، فلا بد أيضاً من فقه المقصود بالعمل.
الجهة الثالثة تتعلق بالحصول نفسه، فيقال: إنه الذي يحصل عنه انتفاع وعمل؛ لأنه إذا نظرت في دلائل القرآن وجدت أن الانتفاع كما أنه يكون بالآيات الشرعية في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر في كتابه ما يحصل به الانتفاع من النظر في الآيات الكونية، فإذاً: مقام الحصول مقام يتفاوت فيه الناظرون؛ ولهذا فالرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل، كما في حديث ابن عباس المتفق على صحته، قبل دخوله في الصلاة يخرج من حجرته، قال ابن عباس : ( فخرج فنظر إلى السماء، فقرأ هذه الآيات في آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190] ) ، فالاعتبار بالآيات الكونية مشروع في القرآن؛ لأنه يحصل عنه انتفاع وعلم ويقين إلى غير ذلك، فمن باب أولى فيما يتعلق بالآيات الشرعية، وما تحصل عنها من العلوم التي كتبها العلماء.
النتيجة أن هذا المعنى الذي أشار إليه في أكثر من مقدمة: وهو التأكيد على مسألة امتداح العلم باعتبار العمل، وأشار هنا إلى جهة الفهم للأدلة، حتى يقول: إن هذا محصل من الأدلة، فيقال: هذه جهة، وجهة الحصول جهة، وجهة العمل جهة، وإن كان سبق التنبيه إلى أن التحقيق أن يقال: إن العلم الشرعي الذي يبتغيه المسلمون مهما كان قدره يسيراً أو كثيراً باعتبار خواصهم وعلمائهم، فإن هذا العلم الأصل فيه أنه يبتغى به وجه الله .
ولهذا ما يخالف ذلك يعتبر عارضاً، فمن تعلم العلم ليماري به العلماء، أو ليجادل به السفهاء، أو لينال به عرضاً من الدنيا أو غير ذلك، فهذه أحوال عارضة على الأصل، وليست هي الأصل، فالأصل في المسلم: أنه إذا قصد إلى هذا العلم، فإنما يقصد بهذا العلم وجه الله سبحانه وتعالى. ولا يعني هذا أنها لا تقع أحوال عارضة تضاد هذا، فقد تقع، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر: ( أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وذكر منهم العالم الذي لم يعمل وإنما ليقال: عالم )، وهذا موجود في أحوال بني آدم وحتى المسلمين، لكن هي أحوال عارضة، والأصل: أن العلم هذا يبتغى به وجه الله، وهو الأصل في أحوال المسلمين.
وعليه يقال: العلم غاية بذاته، كما أن العمل غاية بذاته، ولكن العلم الممدوح شرعاً هو الموجب للعمل، كما أن العمل الممدوح شرعاً هو المبني على العلم، أما التخفيف من قدر العلم، وأن المقصود منه العمل، هو أنه إذا فهم العمل على وجهه الشرعي العام فتكون الأمور أهون، لكن لا يحتاج إلى التعبير بلغة الوسائل، بل العلم من حيث هو عبادة لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا حينما يقال: العلم النافع هو الذي يقع عنه تعبد، فالعلم بنفسه تعبد! لهذا بعض الأئمة رحمهم الله قدموا العلم على الجهاد في سبيل الله، ونص كثير من أهل العلم على أنه هو أفضل الطاعات بعد الفرائض.
فلا بد من تشريف العلم باعتبار أن العلم بذاته فضل، لكن لا شك أن هذا العلم عبادة كغيره من العبادات، لا بد من ابتغاء وجه الله به، حتى العمل لا بد من ابتغاء وجه الله به.
ثم يقول: (في كتاب الأدلة الشرعية)، وأصول الأدلة الشرعية هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، ويذكر أهل الأصول ما أسموه بالأدلة المختلف فيها، ويبدءون بالقياس، وقول الصحابي، وما يأتي بعد ذلك مما أدخلوه في هذا الباب، وهذه أدلة مستعملة، والتحقيق أنها ليست مستقلةً عن الدليل الأول الذي هو دليل الكتاب والسنة والإجماع، بل هي محصلة عنها ومبنية عليها كما هو معروف، من حيث أن القياس إلحاق الفرع بالأصل، وبهذا المعنى يرجع إلى دليل السنة والكتاب، وحتى المستدلين بأقوال الصحابة لم يقصدوا الاستدلال بقول الصحابي على كل وجه؛ لأن الصحابة يختلفون في كثير من المسائل، ومن جهة أخرى قد يقول الصحابي باجتهاده قولاً يخالف ظاهر النص وظاهر قول كثير من الصحابة وهلم جرا.
فالمقصود: أن ما يعتبرونه دليلاً من أقوال الصحابة، هو معنى له ما يناسبه من حيث الدليل الشرعي.
قال المصنف رحمه الله: [من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام، وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئاً، ثم علمه وبصره وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا ].
هذه المقدمة يذكر فيها الإمام الشاطبي أن من أنفع طرق تحصيل العلم، هو الأخذ عن أهل التحقيق فيه، ولا بد لطالب العلم أن يعتبره، من جهة أخذ العلم المحقق، وسبقت الإشارة إلى التعبير عن هذا المعنى بالعناية بمحكمات العلم، فإنك تعرف أن ما كتبه العلماء في سائر الأبواب العلمية الشرعية التي انتظم لها اصطلاح كاسم الفقه أو الحديث أو التفسير أو الأصول أو غيرها، فإن هذه العلوم كتب فيها المئات بل الآلاف من الكتب، ولا يزال التاريخ المعاصر يحتفظ بكثير من هذا المكتوب، وما زالت الكتابة أيضاً موجودة على عصر الناس هذا.
فالطالب للعلم ينبغي أن ينظر في تحصيله للعلم فيما يتعلق بعنايته بجمع المصادر والمراجع والبحوث وما إلى ذلك.
وكأن هذا نوع من الاختصاص بذاته، فإن بعض الناظرين في العلم يكون مكتبياً يحب جمع الكثير من الكتب، لكن إذا تكلمنا في الجادة العلمية من حيث طلب العلم، فإن لم يضع لنفسه منهجاً حسناً في اختيار الكتب المناسبة لمحله من الوقت ومحله من القدرة التي جعلها الله فيه، ويجري على هذا الترتيب فإنه يضيع عليه أكثر مما يحصل من النظر والعلم، فلا بد من بناء مقدمات علمية صحيحة عند طالب العلم.
ومن أخص ما يؤكد في هذا أن طالب العلم يعنى بحفظ القرآن، وما يستطيع من حفظ السنة، أو النظر على أقل الأحوال بتأمل وحسن استقراء في كتب السنة المشهورة، وهي: الكتب الستة أو التسعة إذا كان أقدر على النظر في المصنفات التي جمعت آثار السلف وفتوى السلف، كمصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة، ثم بعد ذلك يأخذ من كل علم سمي باسم معين كالفقه أو الحديث أو التفسير أو غيرها، ينبغي أن يأخذ في كل علم جملة من الكتب محدودة العدد، كأن يأخذ في كل علم أربعة من الكتب تكون هذه الكتب عمدةً في هذا الباب.
مثلاً كتب المفسرين كثيرة وتستطيع أن تقول عن أربعة منها إنها تعد عمدة في هذا الباب، وليس بالضرورة أن يقال: هي أفضل ما في كتب التفسير؛ لأن هذا أمر ليس له قانون مطرد، فهذا أمر يدخله الاجتهاد، لكن المهم أنها تكون عمدةً في بابها، فلا يختلف العارفون بكتب التفسير بأن تفسير الإمام ابن جرير يعد عمدةً في هذا الباب، ولو جئت لكتب الفقهاء الذين كتبوا في الفقه المقارن، وهذا يختلف ربما باختلاف الأمصار والبلدان، لكن من الشائع عندهم كتاب المغني على مختصر أبي القاسم الخرقي لـأبي محمد بن قدامة ، فهو من أجل كتب الفقه المقارن، وإذا جئت للأصول تجد كتاب أبي حامد الغزالي وهو كتاب المستصفى، وإذا جئنا في باب المقاصد فتجد أن كتاب أبي إسحاق الشاطبي الموافقات عمدة في هذا الباب، وإذا جئت لكتب شروح الحديث فأحسنها لـأبي عمر بن عبد البر على موطأ مالك ، وفتح الباري للحافظ ابن حجر ، وفتح الباري لـابن رجب الموجود منه، فهذه الكتب عمدة في بابها، وهذا موجود في سائر علوم الشريعة.
فلو أن طالب العلم أحسن الاختيار والتدرج والترتيب، كذلك في كتب الاعتقاد المسندة، كالسنة لـعبد الله بن أحمد ، والسنة للخلال ، وشرح أصول السنة للالكائي، فيختار من هذه الكتب المسندة ما يكون مناسباً وأضبط في التحقيق والعناية بصحة الأحاديث وضبط المعاني العقدية، وهي كتب كثيرة -أعني: الكتب المسندة-، أو الكتب التي تكلم فيها المتأخرون ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله وكذلك من بعده.
فطالب العلم إذا أخذ كتباً مرتبة متدرجة، حتى ينتهي بكتاب يعد واسعاً في بابه، فهذا منهج حسن، ليس بالضرورة أنه يحكم به كل العلم، فالعلم من حيث الحقيقة لا يمكن أن أحداً يأتيه يوم من الزمان فيقال: قد انتهى من العلم كله، فإن العلم أوسع من طاقة البشر، وهذا أمر بدهي معروف، لكن كمثال لو أخذ في الفقه، فبدأ بكتاب العمدة مثلاً لـابن قدامة ، وانتقل من العمدة إلى ما هو أكثر سعةً منها، في كتاب ابن قدامة نفسه كالمقنع، ثم انتقل بعد ذلك إلى بعض شروح المقنع في هذا، ثم انتقل إلى كتاب المغني، فهذا مثال .
قد يقول قائل: نرجع إلى مسألة تحرير المذهب وتحقيق المذهب، فهذا باب آخر، والمهم أن طالب العلم في الفقه يعنى بأمور منها: حسن التصور للمسائل، ومعرفة أصول الأدلة على المسائل ومعرفة الخلاف، وخصوصاً الخلاف بين أئمة الاجتهاد، والذين اشتهر اجتهادهم وهم الأئمة الأربعة، وإن كان الاجتهاد ليس مخصوصاً بهم، لكن صار لهم امتداد من حيث المدارس الفقهية، فمعرفة الخلاف في المسائل، ودرجة هذا الخلاف من حيث الرتبة، وهل الخلاف هنا خلاف قوي، أو خلاف فيه شذوذ، فالتمييز لرتبة الخلاف هذا يعين طالب العلم على الترجيح.
إذا نظرت في المسألة الفقهية، وعرفت أن الجمهور من السلف والفقهاء والمحدثين على قول، وحصلت مخالفة من بعض أهل العلم ولو كانوا في زمنهم، ففي الغالب أن القول الذي عليه الجمهور من فقهاء الأمة وأئمتها يكون هو الراجح، وعلى أقل الأحوال إذا لم يكن راجحاً، فإذا ما خالفه طالب العلم، فإنه يخالفه برفق واعتدال، ولا يستعمل بعض الكلمات التي لا معنى لها، ومع الأسف صارت تستعمل في كثير من الأمور، كالقول: بأن هذا القول هو الصحيح، والقول الآخر لا دليل عليه.
وإذا رجع طالب العلم إلى الترتيب الفقهي وجد أن القول الذي وصف بأنه غير صحيح، ربما عده بعض العلماء كـابن عبد البر من الأقوال الشاذة، ويتوسع رحمه الله في الحكم على الأقوال بالشذوذ، وتجد أن القول الذي قيل: إنه لا دليل عليه، عليه كبار الصحابة وكبار أئمة التابعين، وربما الأئمة الأربعة قد ذهبوا إليه، وصحيح أن طالب العلم إنما يجب عليه أن يبقى مع الإجماع، وأما إذا وجد الخلاف بين الأئمة فالخلاف يحمل في الجملة على السعة، من حيث سعة النظر في الأدلة، ويكون القصد الموجب للحكم هو اتباع الدليل هنا.
المعنى الذي يشير إليه الإمام الشاطبي رحمه الله: هو الأخذ عن المحققين، والنظر في الكتب التي هي عمدة في بابها، النظر في كلام المحققين وخاصة إذا تكلمت عن المتأخرين الذين بعد القرون الثلاثة الفاضلة الذين كثر في زمنهم التأليف، فأكثر الكتب العلمية التي بين أيدي الناس مكتوبة بعد القرون الثلاثة، وهناك كتب في السنة خاصة كتبت قبل ذلك، لكن جمهور الكتب العلمية خاصة في الفقه والأصول والتفسير وما إلى ذلك كتبت بعد ذلك.
فينبغي أن يختار طالب العلم كتب المحققين، ويعرف أن التحقيق الذي يوصف به العالم ليس بالضرورة أنه يكون تحقيقاً مطرداً، وهذا هو الذي فوت على بعض طلبة العلم حسن الاستفادة من بعض العلماء المتأخرين؛ لأنه قد يكون محققاً في باب وفي باب آخر ليس محققاً، وإلا فابتغاء التمام والتحقيق من كل وجه هذا قليل، فما من أحد إلا ويحقق في باب وتجد أنه في الباب الآخر ليس محققاً، فقد يكون عنده أخطاء أكثر من الخطأ الاجتهادي المقبول، وقد يكون مقلداً، لا تستطيع أن تجزم على قوله بالخطأ، ولكنه في بعض الأبواب يكون من أهل التقليد، وفي أبواب أخرى من العلم يكون من أهل التحقيق، فينبغي أن تختار من علمه ما هو من مادة التحقيق.
وسبق التمثيل لبعض العلماء الذين اشتهر لهم تحقيق في أبواب، وفي أبواب أخرى صاروا مقلدة، وربما صاروا دون ذلك ووقعوا في بعض الأخطاء التي كان السلف أو المتقدمين من أئمة الفقه والحديث يتركونها وينأون عنها.
قال المصنف رحمه الله: [ غير أن ما علمه من ذلك على ضربين:
ضرب منها ضروري، داخل عليه من غير علم: من أين؟ ولا كيف؟ بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا، هذا من المحسوسات، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات .
وضرب منها بواسطة التعليم، شعر بذلك أو لا، كوجوه التصرفات الضرورية نحو محاكاة الأصوات والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات].
وهذا المعنى قد سبق في بعض المقدمات التنبيه عليه في باب الضروري والمكتسب، ثم يقول رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله: [ وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر، وهي ثلاث: إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله ].
وعرف أن أبا إسحاق كثيراً ما يؤكد صلة العمل بالعلم، ولا شك أن هذا أصل شريف في كتاب الله، في قول الله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وكثر في كلام أئمة هذه الأمة وسلفها التنبيه على مسألة العمل بالعلم، ولكن هذا يحتاج إلى حسن فقه في المقصود به، وإلا فهو معنى كلي صحيح، بل مقطوع به، ولكن يحتاج إلى حسن الفقه، وهذا من المعاني التي حسنت عنايته رحمه الله بها: وهي العناية بترتيب العمل على العلم؛ ولهذا قال: (إحداها: العمل بما علم)، ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون مفرطاً في العمل، فإنه إذا غلا في التفريط، يخشى أن يكون هذا من جنس من ذمهم الله في كتابه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44].
لكن هذا ليس معناه أن طالب العلم من شرطه ألا يخطئ أو لا يقصر أو لا يترك بعض العمل، فإنه لو كان كذلك لما علم أحداً، ولما أمر أحداً، ولما نهى أحد كما قال الإمام مالك رحمه الله، إنما التقصير موجود في سائر الناس، وهذا جزء من طبيعتهم، وكونهم بشراً، ولكن على المسلم الإنابة إلى الله وأن يحاسب نفسه، وألا يتأخر عنها.
قال المصنف رحمه الله: [ والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح ].
الأخذ عن الشيوخ، معنى مهم لطالب العلم؛ لأنه ليس الاعتبار بكثرة التردد على المجالس العلمية، بل لا بد لطالب العلم حتى لا يفوت عليه وقت كثير، أن يحسن الاختيار في المجالس العلمية، والمجالسة لمن يناسبه من أهل العلم.
ولا بد أن يحسن الاختيار، وليس معناه أنه يحكم على كلام العالم بأنه مناسب أو ليس مناسباً، ولكن القصد أن يكون رشيداً فيما يقع عليه نظره من المجالس العلمية، باعتبار مادة الكتاب، ودرجة الكلام، وهل هو الكلام العقلي؟ وإدراكه وتدرجه العلمي، كل هذا من المعاني التي هي في الجملة معاني بسيطة يدركها العاقل ابتداءً.
الجهة الثانية: أن الاستفادة من الشيوخ، وهذا المعنى إذا ما أخذ باعتدال معنىً عادي قد يكون من المعاني التي تحفظ بعض الحقائق العلمية، لكن ليس المقصود أنه يكون في الأخير أن يقال: من شيوخه فلان ومن تلاميذه فلان، فإنه لا ينبغي للعالم ولا لطالب العلم أن يكون هذا مقصودًا كبيراً عنده، إلا إذا كان الترتيب على الشيوخ -مثل ما كان عند كثير من أهل الحديث- له معان علمية، وهذا خاص في المحدثين أكثر من غيرهم؛ لأنه يتحصل عنه نتائج علمية، أما باعتبار كثرة التسميات بعدد الشيوخ، أو كثرة التسميات فيما بعد بعدد الطلبة والإضافات، فهذه أحوال لا ينبغي المبالغة في نفيها؛ لأنها جزء من تاريخ المسلمين، ومما يجمع النفوس على الخير وينشر العلم، لكن أيضاً لا ينبغي المبالغة في التقصد وراءها كأن الانتساب هو المقصود، حتى يفوت الكثير من العلم. مع أنه إذا سمى، فقال: من شيوخه فلان وفلان وفلان، ولا تجد من هؤلاء الشيوخ أثراً كثيراً عليه، فهذه مسألة من الملح وليست مقصودة في صلب العلم، ولا ينبغي للإنسان أن يستعمل مادة التكثر في نسبة الطلبة إليه، أو في الانتساب إلى الشيوخ ويجب على الإنسان أن يكون عاقلاً وأن يدرك أن لهذا العلم الشرعي قدراً سامياً عن العوارض البشرية التي هي من حظوظ النفس أحياناً، وهذا علم له قدره عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نزل هدىً للناس، ولم ينزل ليتكثر به بعض الناس على بعض، أو ليفخر به بعض الناس على بعض.
وليس معنى هذا أن الإنسان لا يسمي شيخاً له، أو أن العالم لا يسمي طالباً له، فهذا أمر طبيعي بل قد يكون محموداً في بعض الموارد، باعتبار ما يحصل عنه من النتائج العلمية المناسبة، وقد درج السالفون واللاحقون عليه، لكن الذي يعاب هو الإكثار من هذه الانتسابات، فبعض الناس قد لا يكون كثير العلم؛ ولذلك يقول: من شيوخي فلان ومن طلابي فلان، ويعد العشرات والمئات من الطلاب بأدنى شكل من الطلب وبأدنى شكل من المجالسة، فالعلم الشرعي ينبغي أن يوقر .
وكما سبق أن العقل والشرع ليس بينهما شيء من التعارض، فكذلك متى ما سار الإنسان بعقل متزن، فلن يخالف الشرع في هذه الأمور، فينبغي للإنسان أن يكون معتدلاً لا يبالغ في النفي والتنكر لبعض الأحوال، أو القطع عن هذا من باب الزهد في هذا الأمر أو شيء من هذا القبيل؛ لأن العلماء كما أسلفت درجوا على مثل ذلك في بعض الأحوال، لكن الإكثار منه هذا ليس ممدوحاً.
فإذاً: الجهة الثانية التي في كلام أبي إسحاق : هي أنه لا بد لطالب العلم أن يأخذ عن أهل العلم المحققين الذين يدركهم في عصره، فمجالسة أهل العلم فيها خير كثير لطالب العلم من حيث المنهج والسمت، ومن حيث الفهم لأصول العلم ومبادئه وقواعده .. إلخ، ولكن لا يعني هذا أن طالب العلم لا يكون له إلا حض يسير جداً في مسألة القراءة المختصة، بل لا بد من القراءة التي يختص بها مع نفسه، وإذا قرأ مع نفسه الكتب التي كتبها المحققون لا بأس أن يراجع، بل الأولى أن يراجع فيما يشكل عليه من بعض مسائل أهل العلم الذين يجالسهم أو يلقاهم في عصره وننبه لهذا؛ لأن كثيراً من المتحمسين والقاصدين لطلب العلم، نسبة القراءة العلمية عندهم قليلة، وربما مضى عليه عشر سنوات وهو يدور في أربعة أو خمسة متون وهي مما لا ينبغي أن يطول فيها كثيراً، فإذا سبق به الزمان لا تجد أنه استقرأ كتباً كثيرة من كتب الأصول في أبوابها.
ونؤكد كثيراً على أن طالب العلم ينبغي أن يقرأ في كتب العلماء المحققين ويكثر من ذلك، ويراجع أهل العلم فيما يشكل عليه.
الملقي: [والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم].
والاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه الاقتداء والتأدب بأدب هذا العالم الذي جالسه، ينبغي أن يكون باقتصاد وباعتدال، حتى لا يقع في الغلو في حبه؛ لأن في الغالب نفس الطالب تميل إلى التعظيم والإجلال للشيخ الذي يدرس على يده؛ ولأنه ما قصد هذا العالم أو هذا المتكلم في العلم، إلا لكونه قد مالت نفسه إليه، أو مال نظره إليه من جهة مداركه العلمية وتحصيله العلمي.
فتوقير الشيوخ ومن يؤخذ عنهم العلم، والتأدب مع العلماء منهج رشيد، وينبغي أن يكون باعتدال واقتصاد، حتى لا يتعصب لعالم على غيره؛ ولهذا ربما يكون هذا التعصب موجباً لإسقاط حق غيره من العلماء الذين يكافئونه في العلم.
وما دخل الرفق والاعتدال في شيء إلا كان مهذباً له ومناسباً له، وإنما الاقتداء المطلق يكون برسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو الذي يعصم عن الزلل، ولكن في حق العلماء من بعده عليه الصلاة والسلام يجب أن يكون باقتصاد واعتدال دون تعصب أو غلو أو إطراء؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه والأمة عن إطرائه، فمن باب أولى الزيادة في حق غيره.
قال المصنف رحمه الله: [ كل أصل علمي يتخذ إماماً في العمل، فلا يخلو: إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط أو لا، فإن جرى فذلك الأصل صحيح، وإلا فلا، وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد بالفرض لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبيةً، أو لسانيةً، أو من أعمال الجوارح ] .
وهذا المعنى سبق أن أشار إليه أبو إسحاق لما ذكر أن القطعي تكون فيه خواص منها: الاطراد والثبوت في التحقق، وأن يكون حاكماً، فهكذا الأصول العلمية كما سماها سابقاً لكنه ميز هذا بقاعدة وأراد بعد ذلك أن يذكر بعض التفاصيل تحتها.
وذكر أن الأصل العلمي من حقيقته ومن شرطه وماهيته: أن يكون مطرداً، وأن يكون ثابتاً، كما أن العادات تكون جاريةً وثابتة، فإذا لم يكن ثابتاً ولا مطرداً، فإن هذا يؤخره عن كونه أصلاً قطعياً، وهذا معنى في الجملة صحيح، فالأصل العلمي الذي يعتبر إماماً في العلم، أي: من حيث التطبيق في العمل، لا بد أن يكون مطرداً وأن يكون ثابتاً.
ثم قال: [ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله: أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم].
وهذه معان عامة مطردة، فكل أصل علمي كلي فمن حقيقته وشرطه: أن يكون مطرداً، وأن يكون ثابتاً، وأراد الشاطبي أن يذكر بعض الأمثلة التي قد يناسبها هذا الترتيب، وقد يكون بعضها عليه بعض السؤالات والتقييدات فيما يذكره.
ثم ينتقل الشاطبي بعد هذه المقدمات إلى تفصيل مادة هذا الكتاب، فيبتدئ بكتاب الأحكام.
المقصود هو التعليق على هذه المقدمات التي ابتدأ فيها أبو إسحاق كتابه الذي أسماه: بكتاب الموافقات، وفي الجملة فعلم المقاصد علم شريف، وهو من العلوم الأصول عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأئمة الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، وإن كان هذا العلم لم يكثر التصنيف فيه والتسمية لمراتبه وقواعده وتفصيل ذلك؛ ولهذا يعد ما كتبه أبو إسحاق من الكتب المحكمة العلمية المحققة، ولكن التحقيق والإحكام الذي يضاف إلى المجتهدين لا يمنع ورود التقييد والتتميم، ولا يمنع ورود السؤال على كلامهم، بل هذا من حسن التحقيق والفهم والأخذ بكلامهم.
فينبغي لطالب العلم أن يجعل مثل هذا الكتاب مقدمةً له في فقه المقاصد، وأما علم المقاصد من حيث هو فيحتاج إلى كثرة النظر في كتب السلف الصالح؛ فإن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وكبار أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين، طريقتهم في العلم هي الطريقة الفاضلة من حيث الشريعة، وهي الأقرب إلى حقائق الكتاب والسنة، وأما بعدهم فإن الأئمة كثروا، والاختلاف كثر، فينبغي لطالب العلم ألا يسقط النظر في كتب المتأخرين، فإن فيها علماً كثيراً، ولكن ينبغي أن يكون لهم أصول محكمة في الأدلة والقواعد والنتائج في المسائل العلمية وفي الإقبال على ما أثر عن السالفين من صدر هذه الأمة وأئمتها من أئمة السلف الصالح عليهم رحمة الله.
وهذا ليس إسقاطاً لرتبة كتب العلماء المتأخرين، فإنهم في الجملة نسجوا على طريقتهم، فإذا نظرت فيما كتبه المتأخرون من الفقهاء في كتب الفقه ونحو ذلك، فإنهم نسجوا على طريقة العلماء السابقين، وإن كانوا دون ما كان عليه السالفون من الأئمة، ولكن العناية بكتب السلف وفقههم بمعنىً واسع ومناسب حكيم في سعة النظر في كلام السالفين من الأئمة وحسن الاستقراء لفقههم وعلمهم.
فلا بد لطالب العلم أن يعتني وينظر فيما كتبه المتأخرون في شتى أبواب العلم، فإنهم كتبوا علماً محققاً كهذا الكتاب الذي كتبه أبو إسحاق ، فإنه تلخيص لكثير مما كان عليه السلف وأئمة الفقه والحديث، وفي أبواب التطبيق والتخريج على قواعد الشريعة ومقاصدها.
فطالب العلم بحاجة إلى العناية بطريقة الأوائل، كما أنه بحاجة إلى العناية بما كتبه المتأخرون ويختار منهما اختياراً مناسباً.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر