إسلام ويب

فن أصول التفسير [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علم أصول التفسير يعتبر من العلوم التي تحتاج إلى تطبيق وممارسة أثناء قراءة القرآن، وقد كان لسورة الطور في بدايات آياتها نصيب وافر من التطبيقات العملية لبعض المسائل المتعلقة بأصول التفسير في هذه المادة.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله: (والطور)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فنبتدئ الآن بالتطبيق على ما أخذنا سابقاً، وسنأخذ سورة الطور.

    نبتدئ بقوله سبحانه وتعالى: وَالطُّورِ [الطور:1].

    فنقول: سورة الطور أولاً، هل هي مكية أو مدنية؟ مكية. ‏

    اسم سورة (الطور)

    والاسم المشهور لها سورة الطور؛ وسبب التسمية: أنه ذكر في مبدئها الطور، وفي بعض التفاسير يسمونها سورة (والطور)، وهذا حكاية لأول السورة، وهذا يندرج على كثير من السور، حيث يسميها بعض العلماء، أو بعض الناس بحكاية أولها، مثلاً: يقولون: سورة (لم يكن)، سورة: (تبارك الذي بيده الملك)، وهكذا.

    لكن هل هذا الاسم (الطور) وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ورد عن الصحابة، أو هو وارد عمن هو دون الصحابة؟ فإن كان وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يبحث فيه عن الحكمة من هذه التسمية، يعني: ما علة هذه التسمية؟ كوننا نقول: علة هذه التسمية أنه ذكر فيها الطور، هذا لا يكفي، هذه علة ظاهرة، لكن ما هي العلة الخفية في اختيار هذا الاسم لهذا السورة ذات الموضوعات المتعددة؟

    نوع الكلام في قوله تعالى: (والطور)

    لو رجعنا إلى قوله: وَالطُّورِ [الطور:1]، هل هو من باب الإخبار، أو من باب الإنشاء؟ هو قسم، فيكون من باب الإنشاء، وهنا فائدة نتنبه إليها ونحن نقرأ في بداية السور، فهناك بدايات تدخل في باب الإنشاء، وبدايات تدخل في باب الخبر، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هل هو من باب الإنشاء، أو من باب الخبر؟ وقع خلاف بين العلماء في كون هذه الجملة إنشائية (طلبية) معناها: قولوا: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أو هي إخبار بأن الحمد ثابت لله رب العالمين؟

    فالمقصد من هذا ننتبه إلى هذه الفائدة في بدايات السور.

    الواو في قوله تعالى: (والطور)

    أيضاً مسألة أخرى في قضية بدايات هذه السورة بالذات، الواو هذه نسميها واو القسم.

    أيضاً نسأل: ما هي السور التي ابتدأت بالقسم؟ وما هي أنواع المقسم به؟ فعندنا هنا أقسم بالطور، فلو أردنا أن نأخذ نظائر لهذه السورة من جهة الابتداء، نجد مثل: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، مثل: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]، مثل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، مثل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، مثل: وَالْفَجْرِ [الفجر:1].

    إذاً نلاحظ أن عندنا نظائر لهذه السورة من جهة القسم، ومفيد جداً لتالي القرآن أن يتأمل ما هي النظائر في الخبر والإنشاء؟ ما هي النظائر في قضية القسم؟ يعني ما هي السورة التي ابتدئ بها بالقسم؟ ما هي السورة التي ابتدئ بها بالحمد؟ ما هي السورة التي ابتدئى بها بالأحرف المقطعة.. وهكذا.

    فإذاً هذا أيضاً مجال من مجالات النظر والتأمل والتدبر.

    المراد بالطور

    نأتي إلى الطور ما المراد به؟

    طبعاً هناك خلاف بين العلماء على قولين: بعضهم قال: إن الطور هو مطلق الجبل، وبعضهم قال: الطور هو الجبل الذي عليه نبات، ومعنى ذلك أنهم متفقون جميعاً على أنه جبل، لكن اختلفوا هل هو مطلق الجبل أو جبل خاص، وهو الذي يكون عليه النبات؛ لأنه ليس كل جبل ينبت؟

    والظاهر والله أعلم أنه مطلق الجبل، والذين خصوه بأنه الجبل الذي ينبت كأنهم أرادوا أن يشيروا إلى الجبل الذي كلم الله سبحانه وتعالى عليه موسى: ولو سألتك: ما الدليل على كون الطور هو الجبل مطلقاً؟

    قال تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سيناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون:20]، هذه الآية فيها دلالة على أن الطور هو الذي ينبت، يعني: يكون فيه نبات، لكن أنا أريد دليلاً على أن الطور هو مطلق الجبل، سواء كان فيه نبات، أو لم يكن فيه نبات.

    الجواب: قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، وفي الآية الأخرى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:171]، فمرة قال: الجبل، ومرة قال: الطور، فهذا نستدل به على أن الطور هو مطلق الجبل.

    لكن كيف استطعنا أن نستدل من القرآن؟ الجواب: أنه عبر عن الحدث الواحد مرةً بالجبل، ومرة بالطور، فدل هذا على أن الطور هو مطلق الجبل، فإذاً الطور مطلق الجبل، وكذلك الطور ما يكون فيه نبات، لكنه ليس خاصاً به.

    أيضاً لو قلت لك: تأمل الآيات التي ورد فيها لفظ: الطور، نجد قوله: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سيناءَ [المؤمنون:20]، وقوله: وَطُورِ سِينِينَ [التين:2]، الذي هو طور سيناء، والطور أيضاً ورد في مواطن أخرى مثل: جانب الطور، مع موسى عليه السلام، وفي البقرة قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، وفي سورة النساء: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء:154]، وقوله: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52]، وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ [طه:80].

    إذاً لفظة: الطور الواردة في القرآن، وردت في شمال الجزيرة، ووردت في قصة موسى عليه السلام، وهنا نلاحظ أن أغلب استخدامات الطور مع موسى عليه السلام، وأيضاً في الجهة الشمالية من جزيرة العرب، فهل يمكن أن نستنتج ونستنبط أن هذه اللفظة هي مما كان ينطق في ذلك العصر أكثر من نطق الجبل؟ فبعض الألفاظ تكون في منطقة أكثر من منطقة، فكانت في ذلك الوقت نطقها أكثر من نطق الجبل عندهم، فكان يستخدم الطور أكثر من هذا، ولهذا عندما تتأمل في جغرافية هذه المنطقة وتقرأ في بعض ما كتب في الدراسات القديمة عن هذه المنطقة، تجد بعض المناطق مثل: طور زيتا، يعني الذي هو طور الزيت، وطور سيناء أيضاً، وهناك مجموعة من الأسماء كلها تبدأ بالطور، فهذا كأن فيه إلماحاً بهذا، وهذه مسألة ظنية، وليست يقينية، لكن من أين أخذناها؟ أخذناها من نظام القرآن فقد استخدم هذه اللفظة فقط في قصة موسى عليه السلام، واستخدمها أيضاً فيما يتعلق بشمال الجزيرة العربية.

    وهنا أريد أن ألفت انتباهكم إلى أمر ملاحظ، وهو أن القرآن يستخدم ألفاظاً مع أقوام أو أشخاص ولا يستخدمها في مكان آخر، مع أنها قد تكون فيها غرابة، مثل الآية التي ذكرناها في قصة سليمان عليه السلام: تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، لم ترد في القرآن إلا مع سليمان، وكأنه والله أعلم! أن هذا اللفظ هو الذي كان يستخدم للدلالة على العصا أكثر من استخدام العصا، مع أن لفظ العصا أكثر وأشهر، ولهذا في قصة موسى: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، ومع سليمان قال: (مِنسَأَتَهُ)، فهذه مسألة تاريخية مرتبطة بالتاريخ واللغة وتحتاج إلى إثبات.

    كذلك أيضاً في قصة يوسف تجد أن لفظة (حاش لله) ما وردت إلا في قصة يوسف، في كلام النسوة في أول الأمر لما رأينه، وفي آخر الأمر لما برأنه، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، وهناك قلنا: قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51].

    كذلك لفظة (اليم) استخدمت مع يونس عليه السلام، واستخدم مع موسى عليه السلام، مع أن النهر والبحر أشهر من لفظة اليم، فقصدي هو أن نلتفت إلى هذه الفائدة.

    قد يقول قائل: هل كان هؤلاء يتكلمون بنفس الألفاظ؟ هذه مسألة لا أريد أن ندخل فيها، ولكن من أراد الاستزادة فيها فقد كتبت فيها مقالة موجودة في ملتقى التفسير، بعنوان: اللغة الأم لغة الاشتقاق.

    وأنا عندي أيضاً في هذا أن هذه اللغات التي كان ينطق بها أولئك، هي اللغة التي استقرت بلغة العرب، مات منها ألفاظ، وبقيت ألفاظ، والقرآن دلنا على كثير من هذه الألفاظ التي كانت موجودة عندهم بهذه الطريقة، مثلاً اسم سرية إبراهيم عليه السلام التي ولدت إسماعيل عليه السلام، من أين جاءت؟ جاءت من مصر، وإبراهيم لما ذهب إلى مصر ما كان يحتاج إلى ترجمان، كحالنا اليوم فيمن يذهب من الجزيرة إلى مصر ما يحتاج إلى ترجمان، اللغة واحدة، وإن كان النطق قد يختلف إلى لهجات.

    إذاً ما اسم السرية التي أخذها وصارت زوجة له؟ هاجر، وهاجر اسم عربي، والأسماء لا تتغير، قد يحور فيها، لكن ما تتغير! فاسمها عربي صريح جداً، وكذلك زوجة فرعون اسمها آسيا بنت مزاحم ، فقصدي من ذلك أن ننتبه إلى هذا الملحظ، ونحن نقرأ في القرآن. لما قال الله سبحانه وتعالى: وَالطُّورِ [الطور:1]، هل هناك تقييد بجبل محدد من الجبال أو هي لفظة مطلقة؟

    لم يقيد، فالأصل إطلاق ما أطلقه الله، لكن بعض المفسرين قد يقول: الطور: هو طور سيناء، من أين جاء بطور سيناء؟ السياق في الآية موجود عنده، أو آيات أخرى استدل بها، لكن من حيث العموم نحن بالنسبة لنا ما دام أنه أطلق فنحن نطلق، فإذاً نقول: الطور مطلق الجبل، مثل طور سيناء، لكي ندخل قول من قال: بأن المراد طور سيناء، لكن ما هناك دليل قوي يجعل المراد طور سيناء دون غيره من الطور. فإذاً نتعامل مع أقوال السلف المتقدمين بذكر الإطلاق، ثم نذكر أمثلة مما ذكروه، مثل: طور سيناء.

    القسم في (الطور)

    هل ورد القسم بالطور في غير هذا الموطن؟

    نعم وردت في قوله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ [التين:2]، فذكر الطور هنا مقيداً، وهناك أطلق، فلفظة الطور وقع القسم عليها مرة مطلقةً، ومرة مقيدة.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (وكتاب مسطور)

    قال: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هذا قسم آخر. ‏

    القسم بالكتاب

    وهل وقع القسم بالكتاب في غير هذا الموطن؟

    نعم، وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، لكن: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، و وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، هل بينهما فرق؟ هناك فرق، فـ: (وَالْكِتَابِ المُبِينِ) مقيد (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)، مطلق، ليس محدداً ومعيناً أنه الكتاب الفلاني، أما: وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، فمعروف أن المراد به القرآن؛ لأن الكتاب المبين هو القرآن، أما قوله: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، فيحتمل القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل الإنجيل، ويحتمل زبور داود، ويحتمل صحف إبراهيم، ويحتمل غيرها من الكتب؛ لأنه قال: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، ثم سيأتي قيد آخر وهو قوله تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]. فعندنا نوع من الإطلاق، فإذاً إلى الآن لم يتحدد عندنا ما هو الكتاب.

    وجوه ذكر القرآن للفظ كتاب

    لما قال: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هنا أيضاً من باب الفائدة، يمكن لقارئ القرآن أن ينظر في لفظة الكتاب، ووجوه ذكر القرآن للفظ كتاب، ويسمى علم الوجوه والنظائر، وهذا علم لطيف جداً، ونحن قد نستخدمه ونحن لا ندري عنه، فعندما نبحث عن لفظة الكتاب مطلقة، يعني: أن الله ذكر الكتاب مطلقاً دون تحديد، أين ذكر الكتاب مطلقاً دون تحديد؟ لا يراد به القرآن، ولا يراد به التوراة، لا يراد به الإنجيل، لا يراد به كوجود كتاب من كتب الله، وإنما مطلق الكتاب، إذا وجدنا أمثلة نسمي هذه الأمثلة نظائر، والكتاب الذي نتكلم عنه، هو المطلق، هذا نسميه الوجه الأول.

    الوجه الثاني: أن يراد بالكتاب القرآن، ونأتي بالأمثلة، أو بالنظائر التي ورد فيها أن الكتاب مراد به القرآن.

    الوجه الثالث: أن يراد بالكتاب التوراة، ونأتي بالآيات التي ورد فيها إطلاق الكتاب على التوراة، مثل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]، يراد به التوراة، وأحياناً يراد به التوراة والإنجيل، فإذاً الكتاب هنا المراد به كتب بني إسرائيل، وهذا الإطلاق على كتب بني إسرائيل، التي هي التوراة والإنجيل، أحياناً يراد أحدهما، وأحياناً يراد به الجميع.

    إذاً وأنت تقرأ ممكن أن تتأمل وتنظر، كيف وردت هذه اللفظة في القرآن؟ ما الذي يدخل فيها من النظائر، والنظائر هي: الآيات التي وردت على وجه واحد، والأوجه هي المعاني المتعددة في الكلمة الواحدة، يعني مرة الكتاب، قلنا: مطلق الكتاب، هذا معنى، والكتاب القرآن هذا معنى آخر! والكتاب التوراة هذا معنى ثالث، والكتاب التوراة والإنجيل، هذا معنى رابع.. وهكذا، هذه نسميها وجوهاً، والآيات التي في كل وجه إذا تعددت نسميها نظائر.

    قد يقول قائل: هل يمكن أن يوجد وجه ليس له إلا آية واحدة، لا يوجد نظائر؟

    عندما نقول مثلاً: كذا له وجهان، الوجه الأول كذا، ونظائره كذا، الوجه الثاني كذا، والذي ليس له نظائر يوجد له أمثلة، وابن فارس كتب كتاباً في هذه الفكرة، سماه الأفراد، وفكرة ابن فارس في هذا الكتاب أنه يقول مثلاً: كل بعل في القرآن فهو زوج، إلا قوله تعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]، فإنه أراد صنماً، وورد البعل بمعنى الزوج في عدة آيات منها: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72]، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228] إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]، فإذاً البعل ورد بمعنى الزوج في آيات متعددة، وهذه الآيات المتعددة نسميها نظائر.

    الوجه الثاني: أن البعل صنم، لكن هل وردت آيات أخرى بأن البعل هو الصنم؟ لم يرد إلا في هذا الموطن: أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]، فإذاً قد ترد بعض الوجوه، ليس لها إلا مثال واحد، فإذا وردت وجوه لها أكثر من مثال سميناها نظائر.

    تقييد الكتاب في قوله: (وكتاب مسطور)

    وهنا لما قال: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هذا فيه نوع من التقييد؛ لأنه وصف هذا الكتاب بأنه مسطور، لكن هل الإطلاق تقيد بزيادة (مسطور) أو ما زال هناك نوع من الإجمال؟ ما زال هناك نوع من الإجمال، فالتوراة بعد أن سطرها اليهود -لأنها كتبت بالألواح- صارت كتاباً مسطوراً، والقرآن صار كتاباً مسطوراً، والإنجيل صار كتاباً مسطوراً، وهكذا غيرها من الكتب، وأيضاً الكتب التي يكتبها البشر كتب مسطورة، وهناك آية شبيهة بقوله: (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) وقع القسم فيها بالمسطور، وهي قوله: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]، لكن اختلفت الصيغة، والذي يسطرون، هو الكتاب المسطور.

    لكن هل وردت مادة كتب بمعنى: سطر؟ يعني كتب الكتاب، نقول وردت في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ [البقرة:79]، وقوله: فَلْيَكْتُبْ[البقرة:282].

    معاني (كتب) و(سطر) الواردة في القرآن

    وهل ورد كتب بمعنى آخر غير الكتاب؟ نعم لما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، بمعنى فرض، فإذاً وأنت تقرأ القرآن تتأمل هذه الوجوه التي وردت للفظة، أو لأصل اشتقاق مادة كتب.

    كذلك أيضاً مسطور، أصل المادة هي سطر، لكن ما هي الاشتقاقات التي وردت من سطر؟ الآن عندنا: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وعندنا ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ[القلم:1]، هل استخدمت مادة سطر في غير هذا الموطن؟

    نعم، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5]، وأساطير أصلها من السطر، وإن كانت أساطير بمعنى أكاذيب وخرافات كما يزعمون، لكنها مأخوذة في النهاية من مادة السطر، يعني كأنه شيء قد سطره الأولون وكتبوه، ثم سميت أساطير.

    أيضاً لو تأملت في مادة سطر، هل هناك معنى آخر غير الأساطير في مادة سطر؟ الوجوه: هي تعدد معاني اللفظة في استخدامات القرآن، والنظائر: هي مجموع الآيات في الوجه الواحد، وبعض الوجوه لا يرد لها إلا آية واحدة فقط، وهي التي سماها ابن فارس : الأفراد، هذا معناها باختصار.

    ومثال النظائر: كُتب فهي بمعنى فرض وجه، وكُتب بمعنى سطر وجه آخر، ومثالها بمعنى فرض: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، فنقول: هذه نظائر، معنى كتب في الثانية نظير معنى كُتب في الأولى، أي: متشابه متماثل إلى آخره.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (في رق منشور)

    لو انتقلنا إلى قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3].

    ورود لفظة (رق) في غير سورة الطور

    هل وردت (رق) في غير هذا الموطن؟ ما وردت إلا في مكان واحد، مثل ما ذكرنا: دَرَاهِمَ [يوسف:20] تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22]، ما ورد إلا في موطن واحد، مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، ما وردت إلا مرة واحدة، فهل ورد الرق في غير هذا الموطن؟

    ما ورد إلا في هذا الموطن، فهو من الأفراد في الذكر.

    تقييد الكتابة في الرق

    لما قال تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، أضاف قيداً آخر على هذا الكتاب، أنه يكتب في رق، وهذا هو الغالب على ما كان يكتب، لأن الرقاق هذه هي المشهورة والمتداولة بين جميع الأقوام، يكتبون فيها، وليس كل أحد يستطيع أن يكتب على ورق مثلاً البردة أو غيرها، وليس كل أحد عنده هذا، أما الرق فكثير من الأمم تستخدم الرق.

    فإذاً هو أشار إلى أن هذا الكتاب مسطور في رق، وهذا الرق منشور، ومعنى منشور مفتوح، نشر الشيء بمعنى فتحه.

    نظائر قوله تعالى: (في رق منشور)

    نريد الآن أن نربط أيضاً بنظائر المعنى، وليس نظائر الألفاظ، فقوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، هل الرق المراد به الصحيفة التي تكتب لكنها تكتب على جلد، وهل ورد في القرآن نظير لهذا المعنى الذي هو النشر، نشر الشيء المقروء؟ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، هذا نظير في المعنى، وليس نظيراً في اللفظ، فمعنى هذه الجملة نظير معنى هذه الجملة، فقوله: (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) نظير لقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)، هذا نسميه نظائر في المعنى.

    وكذلك نظائر الألفاظ، هل تدخل في باب تفسير القرآن بالقرآن؟ بمعنى: هل إذا التبس علينا معنى ففهمناه من خلال آية أخرى، في مثل هذه الألفاظ يدخل، أو هو مجرد إضافة زائدة على قضية بيان المعنى؟ إذا ما استطعنا أن نفهم المعنى من خلال القرآن، وإنما فهمناه من خلال اللغة، فالرق هو الجلد المرقق الذي يكتب عليه، والمنشور هو من مادة نشر، أي: فتح، ولما قلنا: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، لم يتبين لنا معنى هذه الآية، لكن لما فهمنا معنى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، قلنا: إذاً هذه الآية نظير معناها هو قوله: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10].

    الأشياء التي يقع فيها النشر

    كذلك نقول: ما هي الأشياء التي يقع فيها النشر؟ يعني: استخدمت مادة النشر في القرآن أكثر من استخدام، كما قال هنا: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، الذي هو نشر الكتاب، فتح الكتاب، فهل استخدم النشر في غير هذا؟

    نعم، في البعث الذي سمي يوم النشور، كما في آية: وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]، على قراءة (كيف ننشرها)؟

    وقوله: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس:22]، وقوله: فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [الزخرف:11].

    فاستخدم النشر مرة في نشر الكتاب ومرة في نشر المطر للأرض الميتة، ومرة في نشر الإنسان لبعثه، وهل استخدم النشر في غير هذا؟

    نعم في قوله: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، يعني: موطناً للانتشار، غير نشر البعث، يعني الانتشار للعمل. فإذاً هذا الأمر يمكن بالتأمل في هذه الألفاظ والنظر في الآيات التي وردت في هذه المعاني، والنظر في المفردات مجال رحب، واستخداماتها الاشتقاقية، كما استخدمت انشقاقها من القرآن، وما هي الآيات التي وردت بهذه المعاني؟

    من باب الفائدة، قد يرد في الآية خلاف في المعنى، فإذا نظرت إليها من هذا المعنى جعلتها في وجه من الوجوه، وإذا نظرت إليها من جهة المعنى الآخر جعلتها في وجه آخر، وهذا ليس فيه إشكال؛ لأن هناك سعة في المعاني، الذي هو من باب توسيع الدلالة وتوسيع المعاني.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله: (والبيت المعمور)

    ثم قال: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، هذا القسم رقم ثلاثة، فقوله: وَالطُّورِ [الطور:1]، هذا القسم الأول، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:2-3]، وهذا القسم الثاني، وإلى الآن ما هناك تحديد، مع التقييدات التي وردت بها الأوصاف؛ لأنه ما تحدد المراد بالكتاب ما هو.

    المراد بالبيت في قوله: (والبيت المعمور)

    قال: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان له بأنه في السماء السابعة، وأن إبراهيم عليه السلام يتكئ بظهره عليه، فهذا الخبر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم، هل كان يفسر لنا: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:1-4]، أو هو خبر مطلق؟

    نعم، هو نقلي اجتهادي، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن البيت المعمور، لم يكن قصده أن يفسر لنا قوله: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، لكن لما وجد في السنة وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4] مصطلح البيت المعمور، وكذلك في القرآن: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4] فنربط بينهما بأن المراد البيت الذي في السماء، ولذا ورد عن الحسن وغيره، أن المراد بالبيت المعمور الكعبة، ولو تأملنا من حيث المعنى، هل الكعبة بيت معمور أو ليست بيتاً معموراً؟ معمور، لكن هل هي المراد بالآية أو لا؟ هذا هو الخلاف، والجمهور على أن المراد بالبيت المعمور البيت الذي في السماء، والحسن ومن قال بقوله: على أن المراد بالبيت المعمور الكعبة.

    وهنا نسأل: هل ورد ذكر البيت المعمور الذي في السماء في غير هذه الآية؟ ما ورد.

    نظائر ذكر البيت المعمور في القرآن

    هل ورد البيت المعمور إذا قلنا بأنه الكعبة في القرآن؟

    ورد بتسميته بالبيت، قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ [البقرة:125]، وهذا هل يدل على معنى المعمور؟ ويكون له نظائر في المعنى أو ما يكون؟

    معنى الآية أنهم يأتون إليه مرةً بعد مرة. فالمعنى متقارب، يعني: من حيث المعنى هناك نظائر في المعنى، هذا لو قلنا: بأن المراد بالبيت المعمور الكعبة، لو كنا على صيغة الوجوه والنظائر، فمرة نجعل البيت المعمور وجهاً، والمراد به الذي في السماء، ومرة نقول: البيت المعمور: الكعبة، ولن نستدل بمثل هذه الآية، نقول: نظيرها قوله تعالى كذا، أو نقول: البيت في القرآن لو تأملنا بالمعنى الواسع: البيوت المسكونة، وهذا له أدلته أمثلة نظائره، والبيت الكعبة، والبيت المساجد، والبيت المعمور، فيمكن ونحن نتكلم عن البيت أن نقول: البيت الكعبة: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ [البقرة:125]، ونظيره قوله تعالى: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، على وجه، من أجل أن نفهم أن هناك وجهاً آخر، وإلا فما نأتي للبيت المعمور الذي في السماء نقول: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، فمرة جعلناه هنا، ومرة جعلناه لتعدد الأقوال، هذا منهج لو أردنا أن نستخدمه، لكن المقصد من ذلك أن قوله: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، الأظهر والأشهر أن المراد به البيت الذي في السماء، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ وهو الذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين، فالأولى اتباع الحديث، وقول الجمهور.

    إذاً صار عندنا مثال في تحديد المدلول بالسنة النبوية.

    وبعض المتصوفة، وذكره عنهم أبو عبد الرحمن السلمي ، قالوا: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، هذا والله قلب رسول الله، قد عمره الله بالطاعة.

    وهذا المعنى صحيح بلا خلاف، لكن هل المراد بالبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: لا، لا علاقة بين هذا المعنى المذكور وبين الآية، فالمعنى المذكور من حيث هو صحيح، لكن الآية لا تدل عليه بأي وجه من الوجوه، ولهذا يعتبر هذا من التفسير الإشاري الخطأ الذي لا يقبل.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله: (والسقف المرفوع)

    قال تعالى: وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ [الطور:5]، هذا القسم رقم أربعة، ما المراد بالسقف من حيث المعنى اللغوي؟ السقف هو ما على مثل سقف البيت، لكن ما السقف المرفوع؟ المراد سقف البيت أو سقف آخر.

    لكن هل هناك آية في القرآن تدل على أن السقف المرفوع هو السماء؟

    الجواب: قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا[الأنبياء:32]، إذاً هذا نعتبره من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنه بين لنا المراد بالسقف المرفوع؛ لأن لفظ السقف المرفوع يحتمل أن المراد به ما علاك من السقوف، لكن لما قال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)، دل على أن المراد بالسقف المرفوع هنا السماء.

    وهكذا فعل علي بن أبي طالب، فقد فسر السقف المرفوع بقوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا[الأنبياء:32].

    والسقف من ناحية استخدام القرآن، سنجد أنه استخدم سقف البيوت، واستخدم السقف الذي هو المراد به السماء.

    والمفسر الصوفي السابق لما جاء عند السقف قال: هذا والله رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه عالٍ في السماء. وهذا القول أشد من الأول.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (والبحر المسجور)

    قال: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، هذا القسم رقم خمسة. ‏

    أوصاف البحر الواردة في القرآن

    وهنا فائدة عند النظر في البحر ومدلولاته وأين ما ورد فيه في القرآن من أوصاف، أو.. أو.. إلى آخره ستجد أشياء كثيرة، مثل: كون ماء البحر مالحاً، اللحم الطري الذي في البحر، فوائد البحر التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، علاقة البحر بموسى عليه السلام، علاقة البحر بالطوفان، أمثلة كثيرة ممكن تتـأملها وأن تقرأ فيما يتعلق بالبحر ووروده في القرآن، والمنافع أو الأشياء التي في البحر، لكن نريد الآن غير هذا، هنا قال: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، هل وردت آية شبيهة بهذا؟

    نعم، قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، وليس لها أيضاً نظير، يعني ما وردت في القرآن مادة سجر في غير هذين الموطنين.

    معنى سجر

    وعندما نأتي إلى مادة سجر، نجد فيها اشتراكاً لغوياً، فبعضهم قال: سجر بمعنى أوقد، وبعضهم قال: سجر، بمعنى امتلأ، وبعضهم قال: سجر بمعنى غاض وانتهى ماؤه، وبعضهم قال: المسجور: المحبوس، وكلها دلالتها لغوية، لكن كيف نتعامل مع هذا الخلاف، ونربط بين الآيات؟ هل الآيات بينها تشابه في الزمن؟ لما قال: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، هل هو إقسام ببحر موجود، أو بحر سيوجد؟ موجود، فقوله: وَالطُّورِ [الطور:1]، عطف عليه، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وعطف عليه، وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، وعطف عليه، وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ [الطور:5]، وعطف عليه، وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، أي: أن هذا الشيء موجود، فقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فهل هذا موجود أو غير موجود وسيقع؟

    بناءً على هذا لو جاء مفسر وفسر البحر المسجور بغير: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، هل نقول: إن المفسر تناقض قوله؟ لا ما نقول: تناقض قوله، فإذا جاء الطبري عند قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، وقال: المسجور: المملوء، ولما جاء عند قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، قال: الموقدة، فيقول: هذا فيه تناقض، لماذا لم يتواءم قوله في المسجور مع قوله في وإذا البحار سجرت، نقول: لا؛ لأن قوله: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6]، هو حديث عن البحر الموجود، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، حديث عما سيكون في البحار، فإذاً اختلف الزمن، وإن كان مدلول المسجور وسجرت من حيث المعنى اللغوي قد يكون بينهما تقارب كما سيأتي.

    إذاً قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، الطبري رحمه الله تعالى لما أراد أن يستدل على رأيه، بأنه البحر الموجود بين يدينا من هذه البحار، نظر ما هو الوصف الذي يصلح لها؟ هل هي محبوسة؟ هل هي ملأى؟ هل هي موقدة؟ هل هي فارغة؟ أي وصف ممكن ينطبق عليها من هذه الأوصاف الأربعة؟ ملأى، وأيضاً محبوسة، لكن دلالة الامتلاء أشهر من دلالة الحبس، فإذاً قدمنا دلالة الامتلاء لأمرين: لكونها الآن مملوءة، ولكون الامتلاء أشهر في الإطلاق من الحبس، فكأنه قال: والبحر المملوء ماءً، وهو الحدث الذي نشاهده اليوم، يعني: كل الناس يرون البحر ممتلئاً بالماء.

    وإذا اخترنا أنها أوقدت يعني ملئت فأوقدت فيبست، على أنها مراحل لها؛ لأنها إذا امتلأت فجر بعضها على بعض؛ لأنه قال: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3]، فإذا تفجرت البحار بعضها على بعض تكون بحراً واحداً ممتلئاً، ثم تحصل مرحلة الإيقاد فيها، ثم يحصل لها مرحلة اليبس؛ فالماء إذا تعرض للنار يتبخر ويفنى ويذهب، فكأنها إشارة إلى مراحل تقع للبحار، ويكون هذا من بلاغة القرآن في اختيار اللفظة الواحدة الدالة على هذه المراحل (سجرت).

    لكن على العموم المقصد أن ننتبه إلى أن قوله: وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6] وقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فبينهما علاقة من جهة، لكن أيضاً بينهما اشتراك من جهة أخرى.

    فإذاً هذا القسم قسم بالبحر الموجود عندنا الآن والذي نشاهده، ونحن نشاهد البحر الآن ممتلئاً، فيكون كأنه قسم بالبحر المملوء، وسبق أن لفظة المسجور لم ترد في القرآن بأكثر من هذا الموطن.

    1.   

    ثمرة التأمل والتدبر في الآيات

    الآن عندنا تلك الإقسامات التي في هذه الآيات الست، وهذا جزء مما يمكن أن يتدبر فيه، وأن يتأمل، وخذ يقيناً لو أن كل واحد منا جلس يتأمل ويتدبر وكان عنده أيضاً من المعلومات الشيء الكثير، سيظهر له أشياء وأشياء غير ما يظهر للآخر، وتصور لو كل واحد منّ الله عليه بمثل هذه التدبرات فيكتبها ويتدارسها مع غيره، ثم تنشر هذه التدبرات، فكم من المعاني والاستنباطات واللطائف ستخرج عندنا، مثلاً قول الله تعالى: قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:37]، كنت أستمع للشيخ عبد الوهاب الطريري وهو يعلق على هذه القصة، فسبحان الله تعجبت كيف وقف عند ترزقانه! ولماذا قال: ترزقانه؟ مع أن المعنى بدونها تام؛ وقصد يوسف عليه السلام أن يخبرهم بأن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه هذه القدرة على معرفة هذا الغيب الذي سيأتيه، فكانت الفائدة من ذكر (ترزقانه) التنبيه على نعمة الرزق، وأن هذا الطعام رزق من الله سبحانه وتعالى لكم، فلاحظ مجيء هذه اللفظة كيف دلت على هذه الدلالة؟ فكأنه يدعوهم إلى الله الذي يرزقهم، وهو الآن في مقام الدعوة، فالحقيقة انبهرت من هذه اللطيفة التي تنبه لها الشيخ الدكتور عبد الوهاب ، وألمح إليها، مع أن الواحد يمكن أنه قرأ هذه مرة ومرتين وعشراً، فما التفت إلى هذه الفائدة اللطيفة.

    المقصد مما سبق أن العبد المسلم إذا سخر نفسه لمثل هذه الأمور تبدأ تتوالد عنده الأفكار والاستنباطات البديعة جداً، ولكن كما قلنا سابقاً أن الذي ليس عنده علم، لا يتسور على هذه الأمور ويتبناها، وإنما يتدارسها مع أهل العلم، ويسأل عما فهمه من القرآن؛ لأنه قد يكون فهمه خطـأ، فيكون قد قال على الله بغير علم، ومن قال على الله بغير علم فإنه يدخل في قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، ثم ختم الآية بقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

    ومع أننا ندعو إلى التدبر، فإننا أيضاً ندعو إلى ترشيد هذا التدبر، ولا يكون كل واحد يتدبر ويروح يخرج لنا كتاباً فتخرج لنا أشياء من الطوام بسبب أن الأساس فيه جهل، فلا بد أن يكون هناك نوع من المدارسة لمثل هذه الأمور.

    وقد وردت أحاديث في أن النار تحت البحر، والأحاديث في ذلك ضعيفة، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سأل يهودياً، قال: أين جهنم؟ قال: البحر، يشير إلى أن جهنم تحت البحر، فقال علي رضي الله عنه: ما أراه إلا صادقاً، وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [الطور:6] وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، قرأها هكذا بالتخفيف، فـ علي بن أبي طالب يستدل ويصحح قول اليهودي بالقرآن، وهذا يجب أن ننتبه له فلا يقول قائل: هذا قول يهودي، فكلامه الذي ذكره يوافق ما قاله الله في معنى: (وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ)، (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)، وعلي فهم من السجر الإيقاد، الذي هو أحد معاني السجر.

    وفي العلم المعاصر اكتشفوا أنه تحت البحر نار أو كذا، وإذا ثبت هذا ثبوتاً يقينياً، فهو لا يمنع ولا يضر، بل يقوي المعنى المذكور بقضية البحر المسجور، الذي هو أحد المعاني الواردة، وليس معنى ذلك أن المعاني الأخرى ليست صحيحة، بل هي صحيحة.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع)

    ثم قال تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7].

    علاقة (إن عذاب ربك لواقع) بما قبلها من الآيات

    ما علاقة: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7] بما قبلها من الآيات؟ هذا نسميه جواب القسم، وقتادة رضي الله عنه عنده عبارة دائماً يرددها يقول: هنا وقع القسم، وهي التي سماها العلماء الذين جاءوا بعده بجواب القسم، وجواب القسم هنا ظاهر، ولك أن تبحث الأقسام في القرآن التي ظهر جوابها في الآيات، وأقسام القرآن التي حذف جوابها، فجواب القسم، إما أن يكون ظاهراً، وإما يكون محذوفاً، ومثال الآيات التي يكون جواب القسم فيها محذوفاً: قوله سبحانه وتعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، يقدر جواب القسم، لَتُبْعَثُنَّ ))، ومثله أيضاً: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، ومثله أيضاً: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1].

    أما أمثلة الآيات التي يكون جواب القسم فيها ظاهراً فقوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2].

    وقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[الليل:1]، جواب القسم إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] جواب القسم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، إذاً عندنا أمثلة كثيرة.

    نظائر قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع) في القرآن

    وقوله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، هل ورد نظير لهذا المعنى في القرآن؟

    نعم في سورة الذاريات قال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، لكن ما معنى صادق، قال في الآية بعدها: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6]، الذي هو الجزاء، وهنا قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7].

    وقوله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، (إن) هذه مؤكدة، يعني: الخبر مؤكد بالقسم، ثم مؤكد بـ (إن)، ثم مؤكد باللام في قوله: (لَوَاقِعٌ).

    دلالة استخدام اسم الرب

    ومن اللطائف التي تمر كثيراً، استخدام اسم الرب في هذا الموطن، وهو أول الأسماء ظهوراً لمحمد صلى الله عليه وسلم لما نبئ كقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1] وقوله: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3]، وفي قصة موسى عليه السلام في سورة طه، قال: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12]، قصدي من ذلك أنا ننتبه إلى هذه القضية.

    ومن الأشياء التي يمكن أن تبحثها: أن في قصة موسى عليه السلام في سورة طه قال: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:11-12]، فبدأ بالربوبية، ثم ثنى بالألوهية.

    وفي سورة النازعات قال: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16]، نلاحظ أن الظهور الأول باسم الربوبية، وهذا له معاني متعددة، ومن المعاني معنى التربية والرعاية، يعني لما ذكر اسم الرب، كأنه يشير إلى ما في هذا الاسم من معنى التربية والرعاية له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الألوهية معناها التكليف والعبودية، ولم يأتِ بعد التكليف والعبودية، فظهر له أولاً باسم الرب.

    وعند النظر في قوله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، كيف قيل: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)؟ هل العذاب من آثار الربوبية؟

    أنت إذا تأملت الأصل، تجد أن المربي يغلب جانب الإصلاح، وجانب الرفق، فلما جعل العذاب من جانب الربوبية، دل على أن الخطأ الذي وقع، خطأ عظيم، مثلما يقولون: اتقِ غضبة الحليم إذا غضب، فلو قال: إن عذاب العزيز لواقع، إن عذاب الجبار لواقع، فهذا متناسق ظاهر، لكن كونه يقول: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، كأن فيه إشارة إلى عظم الذنب الذي وقع، وهو قضية إنكار البعث، لأنهم هم لا يؤمنون بالبعث.

    كذلك ما قال: إن عذاب ربهم، وإنما قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ [الطور:7]، فأضاف اسم الربوبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإضافة اسم الربوبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المقام فائدتها: الأمر الأول: تشريف النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ربك أنت.

    الأمر الثاني: قضية الرعاية، فكأن فيه تطميناً للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن هؤلاء الكفار سينتقم منهم، قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، ولو قيل: إن عذابنا لواقع، أو غيره من أسماء الربوبية، أو أسماء الله سبحانه وتعالى، لاحتمل صحيحاً، لكن اختيار هذا الاسم يجعلنا نبحث عن العلة والفائدة من اختيار هذا الاسم.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (ما له من دافع)

    ثم قال: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:8].

    ما هي النظائر التي وردت في قوله: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:8]؟ هناك نظائر في المعنى كثيرة في القرآن، من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك )، فمثل هذا الحديث، وما ورد من أمثاله، يدخل في معنى: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:8]، يعني: حتى لو جاء بالأموال الطائلة، بالبنين، فإنه لا دافع من عذاب الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (يوم تمور السماء موراً)

    قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9].

    علاقة قوله: (يوم تمور السماء ...) بقوله: (إن عذاب ربك لواقع)

    ما علاقة قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9]، بقوله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]؟ كأنه أشار إلى ما يحدث في هذا اليوم الذي يقع فيه العذاب، وهنا أيضاً فائدة تنتبهون لها في حديث القرآن عن يوم القيامة، لما قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7] .. يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9-10]، الحديث عن أحداث يوم القيامة حديث واحد، يعني كأنه وقت واحد يحدث فيه كل هذه الأحداث، وإن كانت في الحقيقة أحداث متوالية، شيئاً بعد شيء، لكن في القرآن إذا جاء الحديث عنها فإنها كأنها يوم واحد تقع في زمن واحد. مثلاً سورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:1-2] .. إلى أن قال: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [التكوير:11]، هل الوقت هذا الذي يقع فيه الاثنا عشر حدث واحد، وتحصل في وقت واحد؟ أو في وقت طويل؟

    هو في وقت طويل، فالتعبير عن هذا الوقت الطويل في القرآن بهذه الأحداث، بغض النظر عن متى يقع هذا؟ ومتى يقع هذا؟ لأن المقصود هذا الزمن الذي يسمى يوم القيامة، تقع فيه جملة هذه الأحداث، ولهذا عندما قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ [الطور:7-9]، يعني كأنه قال: واقع (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا).

    الأحداث التي تقع للسماء غير المور

    وهنا سؤال: قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9]، هل هناك أحداث تقع للسماء غير المور؟

    نعم هناك أحداث أخرى للسماء، قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، وعندنا أيضاً الانشقاق: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، وعندنا أيضاً: فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37].

    إذاً المقصد أن الحديث عن الأحوال التي تقع للسماء يوم القيامة موزعة في آيات القرآن، يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ [المعارج:8]، فإذاً هي أحداث تقع للسماء في هذا اليوم، وقد وزعت في القرآن.

    كل واحدة حدث، وبعضها قد يكون نفس المعنى، وبعضها لا، المور غير: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ[المعارج:8]، غير: فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37]، غير الانشقاق، وقد يكون بعضها من لوازم بعض.

    مواطن ورود المور في القرآن

    هل ورد المور في القرآن في غير هذا الموطن؟

    نعم في سورة الملك قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، فما هو المور؟ من لطائف اللغة أن بعض الألفاظ المعنى فيها متركب من عدة معاني، فلفظة (المور) متركبة من عدة معاني: الحركة، والاضطراب، والذهاب، والمجيء، يعني: تصوروا الحركة تكون هكذا، يكون فيها ذهاب ومجيء، من جهة إلى جهة، فيها اضطراب، وفيها الحركة هذا، وهذا يسمى المور.

    فإذاً: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9]، بمعنى أن تحصل لها هذه الحركة والاضطراب والذهاب والمجيء، كذلك التشقق الذي يحصل ما علاقته بالمور؟ يعني: هل المور هو التشقق، وهل يلزم من المور التشقق؟

    من حيث اللفظة لا يلزم، لكن من لوازم مور السماء تشققها، يعني: تتشقق بعد هذا المور.

    وقضية ترتيب الأحداث التي تحدث في السماء، قد يكون صعباً أنك تراقب الأحداث، ماذا يحصل؟ ثم ماذا يحصل؟ ثم ماذا يحصل؟ قد يكون صعباً، وأحياناً في بعض الأحداث قد يمكن أن يقال: النتيجة لهذا فيما يدل عليه العقل، لكن على العموم إن كل هذه الأحداث التي تحدث للسماء، في قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9]، وأكد قوله: (تمور) بقوله: (موراً)، وهذا من باب التأكيد، الذي يسمى المفعول المطلق.

    1.   

    التطبيق العملي لأصول التفسير في قوله تعالى: (وتسير الجبال سيراً)

    قال: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:10]، هل ورد ذكر سير الجبال في غير هذه الآية؟ نعم في قوله: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [الكهف:47]، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88].

    فإذاً مرحلة التسيير وردت بالقرآن في أكثر من موطن.

    هل الجبال لها أحوال أيضاً في القيامة غير حالة التسيير؟ مثل قوله: كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ [القارعة:5]، قوله: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:6]، فَدُكَّتَا [الحاقة:14]، فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، إذاً عندنا أيضاً أحوال للجبال يمكن النظر فيها في القرآن، وكذلك أيضاً ورد عندنا التأكيد بالتسيير بقوله: (سَيْرًا).

    لعلنا نقف عند هذا الحد، وهذا الجزء الذي ذكرناه الآن كتطبيق، هو جزء من محاولة إعمال الذهن في بعض القضايا الواردة في القرآن، ويمكن لكل واحد منا أن يتأمل القرآن، وأيضاً قد يكون له اتجاهات ذهنية غير الاتجاهات الذهنية للآخر، فقد يعنى بشيء لا يعني به الآخر، ويبدأ يستنبط ويفهم شيئاً لا يستنبطه الآخر ويفهمه.

    1.   

    الأسئلة

    قراءة تفسير الطبري للمبتدئ

    السؤال: هل تنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة تفسير الطبري ؟

    الجواب: لا شك أنه لا يصلح لطالب العلم المبتدئ تفسير الطبري ، وقد يستفيد منه في مسألة من مسألتين، أما أن يكون كتاباً يقرأ فيه ويراجعه، فهذا الكتاب لا يصلح له.

    أفضل كتاب يتناول قواعد التفسير

    السؤال: ما هو أفضل كتاب يتناول قواعد التفسير؟

    الجواب: عندنا كتابان في هذا، كتاب للشيخ خالد السبت، الذي هو قواعد في التفسير، وكتاب الشيخ: حسين الحربي للقواعد الترجيحية.

    الفرق بين التدبر والتفكر

    السؤال: ما الفرق بين التدبر والتفكر؟ وهل يمكن الوصول لدرجة التفكر قبل استكمال درجة الفهم في الجزئية المقصودة؟

    الجواب: طبعاً التدبر والتفكر لفظان متقاربان، لكن القرآن استخدم التدبر في مواطن، واستخدم التفكر في مواطن، وهذا موطن من مواطن التدبر والتفكر، أن تنظر في لفظ التدبر واستخداماته في القرآن، ولفظ التفكر واستخداماته في القرآن، فقد يتبين لك الفرق بين المعاني، يعني: متى تستخدم التفكر؟ ومتى تستخدم التدبر؟ أما قبل استكمال درجة الفهم فلا شك أنه يقع نقص في التدبر، لا بد من تمام الفهم، وأن تكون قد فهمت الآية فهماً واضحاً.

    مفهوم قوله تعالى: (فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله)

    السؤال: يقول: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ [العنكبوت:10]، هل تعني الآية أنه إذا ترك إنكار المنكر فإنه يصيبه من جراء ذلك أذى متحقق؟ وأنه بتركه يكون مذموماً، حيث جعل هذا الذي يصيبه صاداً له عن أداء الواجب، أم ماذا؟

    الجواب: الكلام الذي قلته صحيح، لكن هل الآية تدل عليه؟ هذا الذي يقع فيه الإشكال، يعني: هل الآية تدل على هذا المعنى الذي ذكرته؟ أم لا؟ هذا يحتاج إلى تأمل، يعني: هل يدخل ضمن معنى الآية أو لا؟ ليس عندي فيها شيء الآن.

    زمن حصول المودة والحب بين الزوجين

    السؤال: هل الاستدلال بهذه الآية وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ... [الروم:21] على أن المودة والحب بين الزوجين إنما تقع بعد الزواج، وأن كل حب له علاقة بما قبل الزواج باطل وكذب، وهل يعد هذا استنباطاً صحيحاً؟

    الجواب: نحتاج أصلاً إلى أن نعرف الواقع، هل بالفعل كل حب قبل الزواج يكون باطلاً، هذا مشكل، يعني: هل الواقع يدل على هذا؟ صحيح أن أغلب الحب الذي قبل الزواج فاسد، ونتائجه فاسدة، لكن لا يلزم أنه كلياً، فهذا يحتاج إلى تأمل، وأن الآية تدل على هذا المعنى أو لا.

    هذا السؤال يحتاج إلى مراجعة أيضاً، ما عندي فيه جواب مباشر.

    ربط ما حدث في شواطئ إندونيسيا بقوله تعالى: (وإذا البحار سجرت)

    السؤال: ما حدث في شواطئ إندونيسيا، هل يقوي معنى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]؟

    الجواب: لكن ما كان فيها نار، هي كانت فيضاناً، كونها فيها نار أو ما في نار هذه قضية أخرى، لكن: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، هي تتحدث عما سيكون يوم القيامة، وليس عما هو كائن الآن.

    المراد بالرسم العثماني

    السؤال: ما المراد بالرسم العثماني؟

    الجواب: الرسم العثماني: هو الرسم الذي كتب به الصحابة المصحف في وقتهم، وهذا تعريف اصطلاحي، وإلا فهو في الحقيقة الرسم الإملائي الذي كان في وقتهم، لكن حصل تطور للرسم، فما صار بعده من رسم، صار يسمى الرسم الإملائي، وأما الرسم الذي رسم به الصحابة فسمي رسماً عثمانياً وثبت، ولذا لا يجوز أن يغير رسم الصحابة؛ لأنه إجماع من الصحابة على هذا الرسم. يعني: الصحابة لما جاءوا يكتبون المصحف، كتبوه على ما يعرفونه من الرسم الذي تعلموه، وثبت واستقر هذا الرسم وما غير، وأما الرسم في غير المصحف فإنه تطور؛ فلذا لا يقاس رسم المصحف العثماني على غيره من الرسوم التي أريد لها أن تتطور، والتطور فيها مستمر إلى يومنا الحاضر، وهناك خلافات بين علماء الرسم -الذين هم علماء الإملاء- واضحة وكثيرة جداً، كيف تكتب كذا؟ كيف تكتب كذا؟ إلى اليوم، وأمثلة معروفة بين المملين كيف تكتب إلى اليوم، فالمقصد أن ننتبه إلى أن الرسم العثماني هو الرسم الذي كتبه الصحابة في وقتهم، وثبت عليه المصحف.

    مخالفة القراءة للرسم العثماني

    السؤال: وإذا خالفت القراءة الرسم العثماني لماذا لا يحتج بها مع التوضيح والأمثلة؟

    الجواب: هذا موضوع شائك قليلاً، لكن نقول: أحياناً قد تكون القراءة مخالفة للرسم ويقرأ بها؛ لأن القراءة قاضية على الرسم، فالأصل القراءة وليس الرسم، أيضاً من باب الفائدة، لأنه أحياناً يلبس علينا فيها مثل النصارى والمستشرقين، فنقول: إذا تأملنا هذا الموضوع الذي هو موضوع الرسم، فلو رجعنا إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم، هل الصحابة كان الأصل عندهم اعتماد المرسوم أو المحفوظ؟ المحفوظ، يعني: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الاعتماد الأغلب على ما يتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظونه، ثم يقرءونه مثلما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم، والرسم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان قليلاً، هو موجود لكنه كان قليلاً، كذلك في عهد أبي بكر وعهد عمر رضي الله عنه، وعهد عثمان رضي الله عنه أيضاً، أيهم كان أكثر؟ المحفوظ المقروء، أو المرسوم؟ المحفوظ المقروء ما زال هو الأكثر، ولا زال هذا هو الأغلب في حال المسلمين إلى زمن قريب، واسأل أي واحد عندكم، إذا كان أحد من أجدادكم حياً، اسألوه: كم كان يوجد في مسجدكم من مصحف؟ المصاحف كانت قليلة إلى وقت قريب، لكن ما شاء الله كثرت في الزمن المتأخر، فنحن نتخيل أو نتصور أن المصاحف مثلما هي عندنا كانت عند الصحابة والتابعين، وهذا غير صحيح فوجود المصحف كان شاقاً، لا يعني أنه لا توجد المصاحف، لكن كم كان عدد المسلمين؟ وكم منهم يستطيع أن يمتلك مصحفاً؟

    فكانت قضية الحفظ هي الأساس، والمسلمون لا يقرءون من المصحف، يعني: لا يعتمدون الرسم، ليس الرسم هو المعتمد عندهم، وإلا كان الأمر كما قالوا: لا تأخذ القرآن من مصحفي، يعني: ممن يقرأ من المصحف والألواح؛ لأنه يبقى عنده خطأ وخلل كثير، وأنت لو تقرأ مصحفاً على حسب ما رسم، قد تقرأ آيات خطأ، مثلما لو كنت تتعلم لغة قوم، وبدأت تتعلم كلمات، هذا كذا، هذا كذا، ثم أعطاك جملة أو كلاماً وقال لك: اقرأ، تقرأ على حسب ما تعلمت من لفظ الكلمات، فيقول لك: لا، هذه الكلمة تقرأ كذا، إذا جاء الحرف الفلاني، يقرأ كذا.

    فإذاً الرسم وإشكالاته موجود في جميع لغات العالم ورسوم العالم، والاعتماد في قراءة القرآن على المقروء المحفوظ، وليس على المرسوم، ولهذا بعضهم يلبس، قد يكون جاهلاً، لكن بعضهم حتى مع جهله يتقصد التلبيس، ويأتي بمخطوط يقول: هذا ليس فيه نقط.

    وأنا رأيت أحد النصارى حاقداً جداً على المسلمين، أتى بمخطوط، يقول: كيف المسلمون يقرءون هذا الكلام؟ يعني ما تتخيلون يقع عندهم أخطاء، يقول: هذه وقع فيها أخطاء في قراءة القرآن، وكل واحد منهم قرأ على مزاجه ثم خرجت الأحرف السبعة، والقراءات، والكلام الطويل، وهذا جهل مطبق جداً، لكن هذا نصراني كافر، يريد أن يلبس على المسلمين، ولذا يجب أن ننتبه إلى مثل هذه القضية: أن الاعتماد الأغلب هو على المحفوظ، والقرآن إنما يؤخذ بالتلقي، كيف تأخذ الروم؟ كيف تأخذ الإشمام؟ لا يمكن أخذه إلا بالتلقي، ولا يمكن أخذه من خلال الرسم.

    قواعد في إلقاء دروس التفسير على العامة

    السؤال: من أراد أن يلقي على العامة دروساً في التفسير، فهل يلزمه أن يكون عالماً بقواعد التفسير؟ أم يكفيه أخذ المعاني من كتب المفسرين، وإلقاؤها على الناس؟ وهل له أن يختار معنى واحداً؛ لئلا يلبس على العامة، أم لا بد أن يذكر جميع معاني الآية التي ذكرها المفسرون؟

    الجواب: هذا سؤال جيد! العلم يا إخوة، لا يمكن أن نقول: أنت الآن تستطيع أن تلقي، وأنت لا تستطيع أن تلقي دائماً، يعني: قد يكون عندنا بعض طلبة العلم، عنده قدرة على أن يلقي، وبعضهم ما يستطيع أن يلقي, لكن أحياناً قد يكون طالب علم عنده قدرة على أن يلقي، فكيف يستطيع أن يلقي على العامة، هذا سؤال جيد، وأعتبره حقيقة من الأسئلة المهمة التي تستحق أن يوضع لها ندوة في مداولة كيف يمكن أن نفهم العامة معاني القرآن.

    وأقول: عندنا مراتب، على سبيل المثال: التفسير الميسر، يفيد العامة؛ لأنه يأتي بالمعنى الإجمالي، والإشكالية عندنا أننا غير فاهمين فكرة هذا الكتاب، وقد نعتبر أن الكتاب معانيه بسيطة جداً، لا ليست ببسيطة، بل الحقيقة أن الذين يكتبونها يحتاجون إلى قدرة في سبك المعلومة بهذه الصورة، والذي يعرف اختلاف المفسرين ويقرأ في ذلك كتاباً يعرف القدرة التي وقعت في السبك في هذا، فإذاً العامة يحتاجون إلى المعنى الإجمالي، والآيات لو جئت تفسرها على العامة، لا تحتاج أن تذكر لهم الخلافات، بل تعتمد أحد العلماء، أو أحد الكتب المعتبرة، وتأخذ بالقول الذي رجحه وتنتهي، مثل الشيخ السعدي أو ابن كثير إذا كان رجح، أو الطبري إذا رجح، أو مثل التفسير الميسر المجتمع عليه نخبة من العلماء، وكتبوه، فتذكر لهم دون ذكر المعاني هذه.

    المسألة الثانية التي يحتاجها العامة، إذا انتهينا مثلاً من المعنى: هي بعض الهدايات والإرشادات التي في الآيات، فعندما تقرأ له: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]، تستطيع أن تعطيه بعض الفوائد من خلال هذه الآيات، لكن بشرط أن تكون فوائد معتبرة وصحيحة والآيات تشير إليها وتدل عليها، مثلاً عندما تأتي لقوله: وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ [الطور:4]، يمكن أن تعطي فوائد على قوله: (وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ)، وأنه هو البيت الذي في السماء، وتذكر كيف منَّ الله سبحانه وتعالى علينا نحن البشر، وأنعم علينا بهذا البيت المعمور الذي بين يدينا الذي هو الكعبة، وشرفنا به، وجعل هناك بيتاً في السماء مثله تدخله الملائكة، وتطوف به، بحيث أنك تنبه المسلمين إلى قيمة هذا البيت الذي عندنا، هذه فائدة ممكن تذكرها بهذا الأسلوب، وتذكر فائدة أن تكون عامراً لبيت الله سبحانه وتعالى، مكثراً من الحج، مكثراً من العمرة، مكثراً من الطواف، مكثراً من الصلاة في هذا البيت إذا كنت قريباً منه، كل هذه فوائد تشير إليها.

    فإذاً هذا ما يحتاج إلى قضية استنباطات أو استدلالات، وإذا سلكنا هذا الأسلوب، فحينئذٍ ممكن أننا نوصل معاني القرآن للعامة بإذن الله بيسر وسهولة. والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767942771