بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه, فالحمد لله على نعمته, ونسأل الله أن يتمها علينا.
أما بعد: فسنتكلم عن اسمين عظيمين من أسماء الله عز وجل وهما: (الرحمن الرحيم), وكلاهما مشتق من الرحمة بمعنى الرقة والتعطف.
وهذان الاسمان نثني بهما على الله عز وجل في كل صلاة, قال الله عز وجل كما في الحديث القدسي: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل, فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين, قال الله عز وجل: حمدني عبدي, وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي ), فهذا ثناء على الله عز وجل.
ما الفرق بين الرحمن والرحيم؟
كلاهما مشتق من الرحمة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر, وقال غيره: الرحمن بمعنى: أن رحمته عامة تشمل العالمين, المؤمن والكافر والبر والفاجر, والمطيع والعاصي وغير هؤلاء.
وأما الرحيم فرحمته خاصة بالمؤمنين؛ واستدلوا بقول الله عز وجل: وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[الأحزاب:43], ولم يقل: رحماناً.
وقال بعضهم: الرحمن صفة ذات, يعني: تعلقها بذات الله عز وجل؛ ولذلك قرنه الله باستوائه على العرش فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5].
أما الرحيم فتتعلق صفته بالفعل, أي تعلقها بمن يرحم.
رحمة الله عز وجل نوعان:
رحمة عامة ورحمة خاصة, أما الرحمة العامة فهي لجميع الخلق, فهو أوجدهم برحمته, رباهم برحمته, رزقهم برحمته, أمدهم بالنعم والعطايا برحمته جل جلاله, فقد أصح أبدانهم, وسخر المخلوقات لهم، فالمخلوقات مثل: الأنعام والدواب والشمس والقمر والمطر والبحار والجبال سخرها للناس جميعاً, مؤمنهم وكافرهم, وهذا تأويل قول ربنا جل جلاله على لسان الملائكة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا[غافر:7], وكذلك قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[الأعراف:156].
أما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين, يرحمهم الله عز وجل في الدنيا بتوفيقهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم, ويرحمهم في الآخرة بإدخالهم الجنة, وإنجائهم من نقمته وعذابه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )؛ ولذلك بعدما يحاسب الرب جل جلاله عبده يقول للملائكة: ( أدخلوا عبدي الجنة بفضلي ), أي برحمتي جل جلاله ومنه وكرمه.
ما هي آثار الإيمان بهذين الاسمين (الرحمن والرحيم)؟
إن نحن آمنا بأن الله عز وجل رحمن، وأن الله عز وجل رحيم فلهذا الإيمان آثار ينبغي أن تنعكس على حياة المؤمن.
أولاً: أن تثبت هذه الصفة لله عز وجل على وجه يليق بذاته, وأن تعلم يقيناً بأنها صفة ذاتية ملازمة لربنا جل جلاله.
ثانياً: ظهور آثار رحمته على الخلق بجلاء, فبرحمته أرسل إلينا رسوله عليه الصلاة والسلام, وبرحمته أنزل علينا كتابه, قال الله عز وجل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل:89]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[يونس:57]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء:82]، وقال أيضاً: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ[القصص:86].
وبرحمته جل جلاله علمنا من الجهالة, وهدانا من الضلالة, وبصرنا من العمى, وأرشدنا من الغي, وبرحمته عرفنا أسماءه وصفاته وأفعاله جل جلاله, وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم, وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا, وبرحمته أطلع الشمس والقمر وجعل الليل والنهار وبسط الأرض, وأرسى الجبال, وبرحمته جل جلاله أنشأ السحاب, وأمطر المطر, وأطلع الأقوات والفواكه والمراعي, ومن رحمته سخر لنا الخيل والبغال والحمير ركوباً لنا وزينة, وسخر لنا هذه الدواب التي نركبها في زماننا هذا, وبرحمته جل جلاله وضع الرحمة بين خلقه ليرحم بعضهم بعضاً.
ثالثاً: ينبغي أن تعلم أيها المسلم! بأن رحمة الله واسعة, لا حدود لها, كما قالت الملائكة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا[غافر:7]. ومن رحمته جل جلاله أنه يقبل التائبين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر:53]. ورحمته جل جلاله تغلب غضبه, فمن صفاته جل جلاله أنه يغضب, لكنه كتب كتاباً فهو موضوع عند العرش أن رحمته تسبق غضبه جل جلاله.
والبشارة العظيمة في قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تعالى مائة رحمة, أنزل في دار الدنيا رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة ), وفي لفظ: ( إن لله مائة رحمة, أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون, وبها يتراحمون, وبها تعطف الوحش على ولدها, حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه, وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ), وهذا يفتح باباً عريضاً للأمل في رحمته جل جلاله.
وهو سبحانه أرحم الراحمين, كما قال يوسف عليه السلام لإخوانه: قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[يوسف:92].
وهو جل جلاله أرحم بعباده من الأم بولدها, يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي, فإذا امرأة من السبي تسعى, حتى إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته, فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله, وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها ).
الكلمة الأخيرة أيها الإخوة الكرام! كيف ننال رحمة ربنا, نسأل الله أن يجعلنا من المرحومين؟
أولاً: اتباع شرع الله عز وجل, يقول ربنا جل جلاله: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأنعام:155].
ثانياً: العناية بالقرآن، قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأعراف:204].
ثالثاً: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[آل عمران:132].
رابعاً: الإيمان والهجرة والجهاد، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[البقرة:218].
خامساً: الاستغفار، قال تعالى: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[النمل:46].
سادساً: الإحسان إلى الخلق، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ[الأعراف:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( من لا يرحم لا يرحم ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين, وقرن بين أصبعيه ), ويقول عليه الصلاة والسلام: ( إخوانكم خولكم- أي الخدم- جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم, وليلبسه مما يلبس, ولا يكلفه ما لا يطيق, فإن كلفه فليعنه ).
وعلى المسلم أن يتوسل إلى الله عز وجل بهذه الصفة, كما قال سليمان عليه السلام: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19].
أسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اسم الرحمن كان معروفاً, وقد أنكره كفار قريش إنكار جحود وتعنت, قال الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا[الفرقان:60].
وكذلك في يوم الحديبية لما عقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو العامري فكتب علي رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم, قال سهيل : لا ندري ما الرحمن ولا الرحيم, اكتب باسمك اللهم, فهذا جحود وتعنت من أولئك القوم.
ذكر اسم الرحمن في القرآن سبعاً وخمسين مرة, وأما الرحيم فقد ذكر ضعف هذا العدد: مائة وأربع عشرة مرة, بعدد سور القرآن.
الرحمن لا يذكر إلا وحده, أما الرحيم فإنه يذكر مضافاً إلى غيره, مثلاً: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ[هود:90]، إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات:12]، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[البقرة:173]، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[النمل:30], وتارة يقرن بالرءوف وتارة بالبر, هكذا ذكر هذان الاسمان الكريمان في القرآن الكريم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر