بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين, وآل كل وصحبه أجمعين, وأسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم وختام المسلمين, وأن يحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
اللهم علمنا علمًا نافعًا, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أما بعد:
أيها الفضلاء! فقد توقف بنا الكلام في الدرس الذي مضى عند قول ربنا جل جلاله: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [الأنعام:114], وعلمنا أن هذه الحجة الناصعة لقنها رب العالمين جل جلاله محمداً صلى الله عليه وسلم, حين عرض عليه المشركون أن يذهبوا معه إلى بعض كهنتهم أو إلى بعض علماء اليهود والنصارى ليسألوهم: أمحمد صلى الله عليه وسلم صادق أم كاذب؟ فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول لهؤلاء القوم: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114], أأطلب حكماً غير الله عز وجل؟! والحال أنه سبحانه: أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114], قد فصل فيه الأحكام والأخبار والقصص والأمثال والأمر والنهي والوعد والوعيد.
ثم قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114].
هؤلاء الذين يريد المشركون أن يأتوهم ليسألوهم عنك يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ , كما قال سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
ثم ختمت الآية بقول ربنا: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [الأنعام:114], وعلمنا أن هذا الخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمراد به أمته كما في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65], وكما في قول الله عز وجل: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ [القصص:86], ونحو ذلك من الآيات, فمعاذ الله أن يمتري رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعاذ الله أن يكون صلوات ربي وسلامه عليه ظهيراً للكافرين, ومثلها قول ربنا جل جلاله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24], وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يطيع آثماً أو كفوراً.
يقول الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].
هذه الآية المباركة قرأها الكوفيون الثلاثة, أعني: عاصماً و حمزة و الكسائي , بالإفراد: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], وقرأها بقية السبعة أعني: نافعاً و ابن كثير و أبا عمرو و ابن عامر , بالجمع: (وتمت كلمات ربك), والقراءتان متفقتان في المعنى, فمعلوم أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة أفاد ما يفيده الجمع, كما في قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34], المقصود: وإن تعدوا نعم الله, وكما في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63], أي: عن أوامره، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , كلمات ربك جل جلاله منها هذا القرآن الكريم, وقد بين ربنا في كتابه أن هذه الكلمات لا نهاية لها, فقال سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109], وفي هذا المعنى قول ربنا جل جلاله في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27], لو أن شجر الأرض كله تحول إلى أقلام, وبحار الأرض كلها تحولت إلى مداد, هذا كله ينفد قبل أن تنفد كلمات الله.
قول ربنا جل جلاله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , المقصود بالتمام هاهنا: الكمال, أي: كملت، فيصف ربنا جل جلاله كلامه بالكمال المطلق.
يقول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115], صدقًا وعدلًا، للمفسرين في إعرابها وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أنهما تمييز محول عن الفاعل, والمعنى: وتم صدق وعدل كلمات ربك، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا , أي: تم صدقها وتم عدلها.
والوجه الثاني: أنها منصوبة على الحالية: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], حال كونها: صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].
والوجه الثالث: أنها نابت مناب المفعول المطلق.
يخبر ربنا جل جلاله في هذا الآية المباركة أن كلماته موصوفة بالصدق فلا يعتريها كذب, وموصوفة بالعدل فلا يعتريها جور ولا ظلم؛ لأن أخبار القرآن كلها صدق لا يتطرق إليها الكذب بحال؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42], وسواء في ذلك ما كان من أخبار الأمم الداثرة والقرون الغابرة, أو ما كان من أخبار المستقبل وما يأتي في مقبل الأيام, فكل هذه صدق لا ينبغي أن يشك فيها مؤمن.
ثم إن أحكام القرآن كلها عدل لا يعتريها ظلم ولا جور, والمتأمل في القرآن يجد أن هذا المعنى ظاهر تمام الظهور, فإن كلام ربنا جل جلاله قد تضمن كل ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم, أمر ربنا جل جلاله بمكارم الأخلاق, وأمر بسلامه المعتقد, وأمر بأن يعبد جل جلاله حق عبادته, وأن يذكر حق ذكره, وأن يشكر حق شكره, أمر ربنا جل جلاله كل واحد منا بأن يكون سخياً كريماً شجاعًا باذلاً نفسه في نفع الناس, مخلصاً لأمته غير غاش لها, حتى في العلاقة الخاصة التي تكون بين الإنسان وزوجه وعياله, أمر ربنا جل جلاله بالإحسان إليهم ومعاشرتهم بالمعروف, والحذر منهم؛ لئلا يوقعوك في مأثم أو مغرم, فقال جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14], ثم زين ربنا جل جلاله هذه الآية بتوجيه يدل على أن الإنسان لو اطلع من أهله وعياله على ما لا ينبغي فلا ينبغي أن يغلظ عليهم ولا أن يسيء إليهم، بل يستعمل العفو والصفح, فقال جل جلاله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14-15].
وكذلك نظم ربنا جل جلاله العلاقة التي تكون بين الرؤساء والمرءوسين، فأمر الرؤساء بالرفق واللين والرحمة والعطف، فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وبالمقابل أمر المرءوسين بالطاعة والتعاون على البر والتقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59], وأرشدهم إلى حل النزاع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
ثم أحاط ربنا جل جلاله تلك الجواهر الست بتشريعات منظمة, أمرنا جل جلاله بحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والنسب والمال, ففي حفظ الدين أمر جل جلاله بالجهاد من أجل حفظه؛ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ [البقرة:193], وأوجب جل جلاله قتل المرتد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحديث في الصحيحين: ( من بدل دينه فاقتلوه ), وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة ).
ومن أجل حفظ النفس حرم ربنا جل جلاله الاعتداء عليها فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29], وقال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
وأوجب في الاعتداء عليه عمداً قصاصاً: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179], وقال سبحانه: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45].
وفي حفظ العقل حرم ربنا جل جلاله إذهاب هذه النعمة بشرب مسكر أو تناول مخدر أياً كان, فثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كل مسكر حرام ).
وفي حفظ العرض حرم ربنا جل جلاله الزنا, وأوجب جل جلاله فيه حداً إما أن يكون جلداً وإما أن يكون رجماً, وأوجب ربنا جل جلاله في الاعتداء على الأعراض والأنساب بقذفها ونفيها حداً آخر وهو حد القذف, فقال في الزنا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32], وقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2], وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خذوا عني خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام, والثيب بالثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة ), وفي القذف قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5], وفي سبيل المحافظة على المال حرم ربنا جل جلاله أكل الأموال بالباطل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
وأوجب ربنا جل جلاله في الاعتداء على المال بالسرقة حداً, فقال سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
هذه كلمات ربنا جل جلاله في القرآن, أحكامها عدل وأخبارها صدق.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115], لا يستطيع أحد من الناس أن يبدل كلمات الله عز وجل, فيجعل عدلها جوراً أو صدقها كذباً، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ , وقد قال ربنا جل جلاله جواباً للمشركين الذين قالوا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يتلو عليهم القرآن: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس:15], الله جل جلاله هو الذي يبدل لو شاء؛ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106], هذا صنيعه جل جلاله.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115], ختم ربنا جل جلاله هذه الآية المباركة بهذين الاسمين الحسنين الجليلين: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , وقد دل على صفتين عظيمتين:
الصفة الأولى: أنه جل جلاله سميع بسائر المسموعات، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, ( يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ), وأنه سبحانه وتعالى عليم بكل معلوم لا تخفى عليه خافية: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3]. لا يكاد الواحد منا يقلب صفحة من صفحات المصحف الشريف إلا وجد تذييلاً للآيات بهذه الأسماء وتلك الصفات: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115], إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139], وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], وهذا يدل على أن أعظم زاجر وأقوى رادع هو مراقبة الله عز وجل, فمن راقب الله سارع إلى إنفاذ أوامره واجتناب نواهيه.
والمثال المحسوس كما قال بعض المفسرين: لو أن ناساً علموا أن ملكاً في ناحية من النواحي -شديداً بأسه عظيماً بطشة, سيفه مسلط, ونطعه مبسوط, وجلاده قائم- واقف بين الناس وقد خشعت منهم الأبصار وسكنت منهم الحركات وخفتت الأصوات, وحول هذا الملك حشمه وحريمه, فإنه لا يجرؤ أحد أن يغمز لأحداهن، ولا يجرؤ أحد منهم أن يلقي بورقة لواحدة منهن؛ لأنه يعلم أن هذا الملك الشديد البطش، العظيم البأس قد بث عيونه وأرسل في الناس جواسيسه, وأن من فعل ذلك فعقوبته إهدار الدم, وقطع الرأس.
لله المثل الأعلى, لو أن الواحد منا استيقن أن الله عز وجل يسمع كلامه ويرى مكانه ولا يخفى عليه شيء من أمره, وأنه جل جلاله عليم بحاله مطلع على أمره، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7], مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7], فإن هذا الإنسان يرتدع عن معصية الله عز وجل.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
ثم قال ربنا جل جلاله, مخاطبًا نبيه المختار عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116].
يخبر ربنا جل جلاله في هذه الآية عن معنىً تكرر في القرآن كثيراً، وهو أن أكثر من في الأرض ضالون, فاسقون, خبيثون, صادون عن سبيل الله, كقول ربنا جل جلاله في سورة المائدة: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة:49], وكقوله جل جلاله في سورة هود: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17], وقوله جل جلاله في سورة يوسف: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103], وقوله جل جلاله في سورة غافر: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59], وقال سبحانه في سورة الشعراء وتكررت هذه الآية في السورة مراراً: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8], وفي الصافات: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات:71].
ولذلك ليست الأغلبية عندنا مرجحة في كل حال؛ فلو أن الناس اتفق أكثرهم على الضلال والخبال فما يضرك أن تكون أنت وحدك, عليك بطريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين, وإياك وطرق الردى ولا يغرنك كثرة الهالكين، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116].
والضلال يطلق في القرآن ويراد به معان ثلاثة:
المعنى الأول: وهو الأكثر في القرآن أن الضلال يطلق على الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل, بمعنى أن الإنسان يتعمد ترك الحق إلى الباطل, قال الله عز وجل: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7], وقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77], هذا هو الإطلاق الأول.
المعنى الثاني: يطلق الضلال في القرآن على الذهاب والاضمحلال, كما في قول الله عز وجل: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ [السجدة:10], أي: غبنا وذهبنا، أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10], ومنه تقول العرب: ضل اللبن في الماء وضل السمن في الطعام, أي: ذهب واضمحل.
المعنى الثالث: يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء, كما في قول الله عز وجل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7], وكما في قول الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ [البقرة:282], أن تضل أي: تذهب عن حقيقة الشيء.
في هذه الآية يقول الله عز وجل: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116], يتعمدون يا محمد إذهابك عن الحق إلى الباطل, وعن الهدى إلى الضلال, وعن الصواب إلى الخطأ, وعن الخير إلى الشر, إما لأنهم أتباع للشيطان, وإما لأنهم قد احترفوا الضلال والصد عن سبيل الله, وإما حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109], كما كان شأن أبي جهل وشأن اليهود وأضرابهم، أو لغير ذلك من الأسباب, وسبيل الله عز وجل طريقه, وكلمة السبيل في القرآن تارة تذكر وتارة تؤنث, فقد أنثت في قول ربنا جل جلاله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108], وذكرت في قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146], فيصح فيها التذكير والتأنيث.
قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:116], (إن) بمعنى: ما, أي: هؤلاء الضالون المضلون ما يتبعون في ضلالهم وإضلالهم علماً ظاهراً ولا دليلاً راجحاً ولا حجة بينة, وإنما يتبعون الظن.
والظن في القرآن يطلق ويراد به معنيين:
المعنى الأول: بمعنى الشك والحدس والتخمين الذي لا يقوم على دليل, كما في قول ربنا جل جلاله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23], وقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:28].
المعنى الثاني: يطلق الظن مراداً به اليقين, كما في قول ربنا جل جلاله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:45-46], فيظنون هنا بمعنى يوقنون, وكما في قول العبد الصالح -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقولون تلك المقالة- الذي أوتي كتابه بيمينه ففرح وسر واطمأن وانشرح وقال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ [الحاقة:19-20], أي: أيقنت، أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20], ومنه قوله تعالى عياذاً بالله من تلك الحال: وَرَأَى المُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53], لما رأوها أيقنوا أنهم مواقعوها, أي: واقعون فيها, ومكدسون في دركاتها, نسأل الله السلامة والعافية. الظن في هذه الآية بالمعنى الأول وهو الشك, إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:116], الذين عبدوا الأصنام وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [الزمر:3], ما كانوا يتبعون إلا الظن، الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا * مَا لَهمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الكهف:4-5], ما كان عندهم علم، بل كانوا يفترون على الله الكذب.
فالظن بمعنى القول على الله بمجرد الشك والحدس والتخمين مذموم مقبوح منبوذ, سواء كان في العقائد أو كان في الأحكام, أما الظن بمعنى إدراك الطرف الراجح في الأحكام فإن أغلب أحكام الشريعة مبني عليه, المفتي إذا أفتى والقاضي إذا حكم, فإنه يفتي بناء على ظن راجح؛ ولذلك كان سيدنا أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله, لا يفتي في مسألة إلا قال: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32].
فالله عز وجل ذم هؤلاء الضالين المضلين بأنهم يتبعون الظن: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116], والخرص هو الكذب, ومنه قول الله عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10], أي: الكذابون, يتبعون هذا الظن بالكذب على الله عز وجل، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].
فَكُلُوا [الأنعام:118], كلوا: فعل أمر من الأكل, وماضيه: أكل, وعندنا ثلاثة أفعل في لغة العرب حين نأخذ منها الأمر فإننا نحذف همزتها: أكل.. كل, أخذ.. خذ, أمر.. مر, لما طلق عبد الله بن عمر زوجته وهي حائض, قال عليه الصلاة والسلام لـعمر رضي لله عنه: ( مره فليرجعها ), وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ), لكن إذا كان قبلها حرف عطف يؤتى بالهمزة, كما في قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
قال الله عز وجل: فَكُلُوا [الأنعام:118], فعل أمر من الأكل، فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118].
لا خلاف بين المفسرين رحمهم الله تعالى أنه هذه الآية وما بعدها من الآيات إلى قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121], نزلت بسبب جدال المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قالوا: ( يا محمد! هذه الميتة من قتلها؟ قال: الله, قالوا: فكيف يكون ما قتله الله حراماً, وما ذبحته بيدك حلالًا؟ ), كيف يكون ما قتله الله نجساً خبيثاً، وما ذبحته بيدك طاهراً طيباً؟ فالله عز وجل يزيل هذه الشبهة فيأمرنا معاشر المسلمين بأن نأكل مما ذكر اسم الله عليه.
الأكل ينقسم -كما لا يخفى عليكم- إلى جماد وحي, إما أن تأكل جماداً وإما أن تأكل حياً, فأما الجماد فإنه مباح كله, سواء كان نبات الأرض أو كان زيتاً أو كان ماء أو كان خبزاً أو ما أشبه ذلك, اللهم إلا ما كان ضاراً كالسموم ونحوها، فإن الله عز وجل قد حرم علينا الإضرار بأنفسنا.
أما ما كان حياً فمنه الحلال ومنه الحرام, فأما الحلال: فبهيمة الأنعام, الأزواج الثمانية, إذا ذكيت ذكاة شرعية وكذلك الطيور بأصنافها, اللهم إلا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ذوات المخلب كالصقر والباز والنسر والعقاب والشاهين, وكذلك دواب الأرض، اللهم إلا ما استثناه الشرع كالحمر الأهلية التي تخالط الناس وتستعمل ركوبة وحمولة هذه أكلها حرام, حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر, لما وجد الصحابة قد طبخوا وأمر بالقدور فأكفئت قال: ( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية ).
وكذلك حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع, وذو الناب من السباع هو الذي يأكل اللحم, فيدخل في ذلك القطط والكلاب، ومن باب أولى السباع الضارية والوحوش المفترسة كالأسود والنمور والذئاب وما أشبه ذلك، واختلف أهل العلم في الفيل فقال بعضهم: بأنه مباح أكله؛ لأنه يعيش على العشب ولا يأكل اللحم, وجمهور العلماء على أنه محرم لاستقذاره, وكذلك اختلف أهل العلم في القرود, فقال الإمام أبو عمر بن عبد البر القرطبي المالكي رحمه الله: وفي القرد ما يغني عن النص على تحريمه, فإنه مما يتنافى مع الطبع السليم تعاطيه, يعني: الطبع السليم ينفر من أن يأكل القرد.
وقد أباح المالكية الأكل من خشاش الأرض، كالخنافس وبنات وردان التي يسميها الناس بالصراصير، وكذلك العقارب والحيات, فهذا أيضاً مما اختلف فيه.
وبعد ذلك الأشياء التي أبيحت لا تباح إلا بذكاة شرعية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ), فهنا الله عز وجل قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118], المعنى: ما ذكيتم وذكر اسم الله عليه.
أجمع أهل العلم على أن ذبيحة الكافر غير الكتابي لا تؤكل ولو ذكاها أحسن ذكاة, يعني: لو أن مجوسياً أو هندوسياً أو زرادشتياً أو شيوعياً.. وأمثالهم من الكفرة والمرتدين ذكى وذبح وذكر اسم الله مائة مرة فإن ذبيحته لا تؤكل.
وأجمعوا على أن ذبيحة المسلم تؤكل إذا ذكر اسم الله, وذكر اسم الله عز وجل إما أن يقول: بسم الله, أو أن يقول: الله أكبر, والأفضل أن يجمع بينهما: بسم الله والله أكبر, ولو أنه ذكر اسم الله بأي صيغة كانت, لو مثلاً قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [الأنعام:79], إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163], وذبح فذبيحته حلال تؤكل.
واختلف أهل العلم بعد ذلك في المسلم الذي ينسى ذكر اسم الله, هو مسلم موحد، وذبح ولم يذكر اسم الله عز وجل, والذي عليه جمهور العلماء أنها حلال تؤكل, من نسي اسم الله فذبح فذبيحته حلال, لما دلت عليه نصوص الشرع أن الله عز وجل لا يؤاخذ بالنسيان: ( إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ), رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
واختلف أهل العلم بعد ذلك في المسلم الذي يتعمد ألا يذكر اسم الله, فذهب الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله إلى أنها تؤكل ولو ترك اسم الله عمداً, ولكن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة و مالك و أحمد : على أنها لا تؤكل, فمن تعمد ألا يذكر اسم الله فإن ذبيحته لا تؤكل؛ لأنه لا يعذر, وهذا مطرد في الشريعة كمن صلى بالنجاسة ناسياً فإن صلاته صحيحة, ومن صلى بالنجاسة عامداً فإن صلاته باطلة, فهاهنا أيضاً من تعمد ترك التسمية فلا تؤكل ذبيحته, ومن نسي فإنها تؤكل ذبيحته.
وأما بالنسبة لأهل الكتاب فسيأتي معنا الكلام عنهم في قول ربنا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121], سنتكلم عن الحكم فيما لو قال الكتابي: باسم مارجرجس أو قال: باسم المسيح فذبح.
قال الله عز وجل: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118], إن كنتم أيها المخاطبون، بِآيَاتِهِ , الآيات جمع: آية, وتقدم معنا أن الآية في لغة العرب تطلق على معنيين:
المعنى الأول: العلامة: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248].
المعنى الثاني: الجماعة: جاء القوم بآيتهم أي: بجماعتهم.
وأما في القرآن فالآيات تطلق على معنيين:
المعنى الأول: آيات الله الكونية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].
المعنى الثاني: آيات الله الشرعية: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:11], فهاهنا الله عز وجل قال: إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118], الإيمان في اللغة: التصديق, وأما في الشرع فمراد به التصديق الكامل بجميع جهاته, التصديق بالجنان وذلك بسلامة الاعتقاد وأن يحصل اليقين الذي لا يخالطه شك, والتصديق باللسان بأن ينطق المرء بأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, والتصديق بالعمل بأن يأتي العبد بما افترض الله عليه.
هاهنا الإشكال في الآية، يقول الله عز وجل: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118]، السؤال: أليس المخاطبون بهذه الآية مؤمنين؟ فكيف يقول الله عز وجل: إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ؟
والجواب أن للمفسرين في هذا التذييل وجهين:
الوجه الأول: أن اسم الشرط (إن) مراد به معنى إذ, إذ كنتم بآيته مؤمنين، أي: حال كونكم مؤمنين, وكما في الحديث: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بالمقابر، قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ), فالمعنى أننا إن شاء الله بهم لاحقون يقيناً؛ لأن الله عز وجل قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ [آل عمران:185], وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26], وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88], جل جلاله, فهاهنا المعنى: ونحن إذ شاء الله بكم لاحقون يقيناً.
ومنه قول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ [الفتح:27], لَتَدْخُلُنَّ [الفتح:27], اللام واقعة في جواب القسم, الله جل جلاله يقسم أنهم سيدخلون المسجد الحرام يقيناً فتكون (إن) هنا بمعنى: إذ.
الوجه الثاني وهو أقرب الأوجه -والله تعالى أعلم- أن تذييل الآية بقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ , ليس مراداً به حقيقته، وإنما المراد التهييج والإغراء, ولله المثل الأعلى كما أنك تعلم أن ولدك ذكي ألمعي، وأنه سريع الفهم، حاضر الذهن، فتقول له: كن الأول على زملائك إن كنت ذكياً, هاهنا أنت تريد التشجيع والتهييج والإغراء والتحضيض, فالله عز وجل يأمرنا ويحضنا إن كنا مؤمنين أن نأكل مما ذكر اسم الله عليه, هذا منطوق الآية، ومفهومها: إن كنتم مؤمنين فلا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه, على التفصيل الذي مضى في التفريق بين العامد والناسي.
هذه الآيات يستفاد منها فوائد:
1- أن كلام الله عز وجل تام في غاية الكمال والجلال.
2- أن القرآن كلام الله تكلم به ربنا حقيقة على الوجه الذي أراد.
3- أن القرآن أحكامه كلها عدل, وأخباره كلها صدق.
4- أنه لا أحد يقدر على أن يبدل كلام الله فيجعل عدله جوراً وصدقه كذباً.
5- إثبات الاسمين الكريمين العظيمين: السميع العليم.
6- أن الله تعالى سميع بكل مسموع عليم بكل معلوم.
7- ما يلزم من ذلك من مراقبة العبد ربه جل جلاله فيما يأتي وفيما يذر.
8- الحكم بالضلال على أكثر أهل الأرض، والنهي عن طاعتهم فيما حرم الله تعالى، وأن دأبهم الصد عن سبيل الله.
9- أن دين الضالين قائم على الشك والكذب لا اليقين والعلم.
10- ذم الظن الكاذب.
11- أن علم الله عز وجل قد سبق في الأزل من المهتدي ومن الضال.
12- إباحة الأكل مما ذكر اسم الله عليه, قوله تعالى: فَكُلُوا [الأنعام:118], الأمر للإباحة.
13- وجوب ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة والصيد.
والتذكية الشرعية تكون بثلاث وسائل: إما الذبح، وهذا يكون في الغنم اتفاقاً, وفي البقر على الراجح؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67], وإما بالنحر، وهذا يكون في الإبل, بأن يطعن في لبتها, وإما أن يكون بالعقر, والعقر بمعنى: الرمي، أن يرمى المتوحش من الدواب التي أباح الله عز وجل أكلها من صيد البر ترمى بالسهم أو ترمى بالآلة أو أنه يستعمل في صيدها ما كان معلماً من صقر أو كلب؛ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ [المائدة:4], هذه هي الوسائل الثلاث, لا بد فيها من ذكر اسم الله, إذا ذبحت إذا نحرت، إذا عقرت أو أرسلت كلبك المعلم, لا بد أن تذكر اسم الله عز وجل.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ [الأنعام:117].
الله جل جلاله في علمه الأزلي وما جرى به قلمه قد علم من الضال المضل, ومن الهادي المهتدي, هو أعلم من يضل عن سبيله, الله جل جلاله عالم من الشقي ومن السعيد، عالم من ساكن الجنة ومن ساكن النار، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ [الأنعام:117], المهتدون جمع مهتد، كلمة مشتقة من الهدى, والهدى في أصل اللغة مأخوذ من الميل, ومنه الحديث: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرض موته وقد عصب رأسه بعصابة يتهادى بين رجلين ), يتهادى أي: يتمايل عليه الصلاة والسلام, والرجلان علي بن أبي طالب , و الفضل بن العباس رضوان الله عليهم، فالهدى هنا معناه: الميل إلى الحق, الميل إلى الصواب, الميل إلى محاب الله عز وجل ومراضيه، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ [الأنعام:117].
ثم فرع ربنا جل جلاله على هذا العلم حكماً فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر