بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فنحمد الله الذي جمعنا في هذا المجلس المبارك، ونسأله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم, وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم, وأن يجعلنا إخواناً على سرر متقابلين، أما بعد:
فابتداء من هذا الدرس -إن شاء الله- نشرع في تفسير سورة الأنعام, وقبل الشروع في تفسير آياتها نذكر مقدمات تتعلق بأغراض هذه السورة وعدد آياتها, ومن أي النوعين هي: أمكية أم مدنية؟ ثم نتكلم عن وقت نزولها وترتيبها في كتاب الله عز وجل, مع بيان اسمها وحكمة إنزالها جملة واحدة.
أما اسمها: فسورة الأنعام, ولم يذكر لها المفسرون اسماً آخر, فهي من السور التي ليس لها إلا اسم واحد, فبعض سور القرآن لها اسم واحد, وبعض سوره لها أكثر من اسم، فالبقرة وآل عمران تسميان الزهراوين, وسورة النساء قال بعضهم: تسمى سورة الضعيفين, وليس لسورة المائدة والأنعام والأعراف سوى اسم واحد, وأما سورة الأنفال فتسمى سورة الأنفال وسورة بدر, وأما سورة التوبة فتسمى: التوبة وبراءة والمقشقشة والمزلزلة والمدمدمة والفاضحة والبحوث.
وسورة الأنعام ورد تسميتها بهذا الاسم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في معجم الطبراني الأوسط عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد )، ففي هذا الحديث سماها عليه الصلاة والسلام سورة الأنعام، وكذلك سماها عمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و أنس بن مالك و جابر بن عبد الله و أسماء بنت يزيد بن السكن , رضوان الله عليهم أجمعين.
وأما سبب تسميتها بسورة الأنعام فلأن كلمة الأنعام قد ذكرت فيها ست مرات؛ في قول الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136]، إلى أن قال سبحانه: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]، وما بعدها من الآيات.
ومعلوم أن السورة في الغالب تسمى بشيء قد ذكر فيها, فسميت سورة البقرة بهذا الاسم لخبر بقرة بني إسرائيل فيها, وسورة آل عمران لقوله تعالى إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33], وسورة النساء لأن أغلب آياتها تناولت أحكاماً تخص النساء.. وهكذا في سائر سور القرآن.
وهذه السورة مكية باتفاق, وقد تقدم معنا في أصول التفسير أن المكي معني به ما كان نازلاً قبل الهجرة, سواء نزل بمكة أو بالمدينة أو بغيرهما, والمدني ما نزل بعد الهجرة, وهذه السورة نزلت بمكة، بل قال ابن عباس : نزلت بمكة ليلاً جملة واحدة, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فأملاها عليهم، يعني: هذه الآيات الخمس والستون ومائة آية أملاها الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الوحي في تلك الليلة.
لكن بعض أهل التفسير يقول: إن قول الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، وقوله سبحانه: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] الآيات، ست آيات نزلت بالمدينة، وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، وسيأتي معنا الكلام في أن هذه الآية نزلت في شأن رجل من أحبار اليهود وهو كعب بن أسد عليه لعنة الله, لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وقال له: ( يا كعب ! اتق الله، وإنك تعلم أني رسول الله، فقال له: والله ما أعلم أنك رسول الله, فقال له صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله! هل تعلم فيما أنزل الله على موسى أن الله يبغض الحبر السمين -وكان الرجل سميناً بديناً- فقال له: ما أعلم ذلك, وما أنزل الله على بشر من شيء, لا موسى ولا غيره )، فجحد كتب الله المنزلة على أنبيائه ورسله؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وكذلك قال أبو جحيفة : في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [الأنعام:111]، بأن هذه الآية أيضاً مدنية, لكن على اعتبار هذا الخلاف فمعظم السورة وأغلبها مكي.
تقدم معنا أن هذه السورة المباركة نزلت جملة واحدة, وقد علمنا بأن القرآن خاصة السور الطوال كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف, قد نزلت مفرقة منجمة بحسب الحوادث, وبين ربنا جل جلاله الحكمة من ذلك في آيتين من كتابه في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32]، وقوله سبحانه: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106]، وكان ربنا جل جلاله ينزل الكتب الماضية على أنبيائه دفعة واحدة, وجملة واحدة، كما في قوله تعالى: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، أي: الألواح التي كتبت فيها التوراة.
وأما القرآن فقد نجم على امتداد ثلاث وعشرين سنة, ابتداء من قوله تعالى: اقْرَأْ [العلق:1]، وانتهاء بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ [البقرة:281]، أو قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، أو قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، على اختلاف بين أهل التفسير في ذلك.
فما الحكمة في إنزال هذه السورة جملة واحدة؟ فهي السورة الوحيدة من السبع الطوال التي نزلت جملة واحدة.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: لعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32], توهماً منهم أن تنجيم نزوله يناقض كونه كتاباً؛ فأنزل الله سورة الأنعام, وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها، كالزبور؛ ليعلموا أن الله قادر على ذلك إلا أن حكمة التنجيم أولى بالمراعاة.
فالشيخ رحمه الله يقول: إن المشركين عندهم شبهة, فهم يقولون: إن الكتب نزلت جملة واحدة, فلو كان القرآن من عند الله كما يزعم محمد فلم ينزل مفرقاً منجماً؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة جملة واحدة -وهي تعدل الزبور- ليبين لهم أنه على كل شيء قدير, لكنه جل جلاله ينجمه ويفرقه لحكم أعظم، ومصالح أكبر, وأيضاً ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام، من قصر وطول وتوسط, فالله عز وجل أنزل سورة الكوثر وهي ثلاث آيات دفعة واحدة, وهي معجزة, وأنزل سورة الأنعام خمساً وستين ومائة آية أيضاً دفعة واحدة، وهي معجزة, فالله عز وجل يعجزهم بجميع أنواع الكلام, طويله وقصيره ومتوسطة.
وقال الفخر الرازي رحمه الله في مفاتيح الغيب: السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين, فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة في أن ينزله الله عز وجل على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، أما ما يدل على التوحيد, فإنه ينزل جملة واحدة.
فـ الرازي رحمه الله يقول: إن سورة الأنعام أغلب آياتها ليست أحكاماً, وإنما نزلت في تقرير التوحيد, وفي تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وفي تقرير أن البعث والمعاد حق لاريب فيه, وهذه أصول الدين. وأما الأحكام فإنها تنزل مفرقة بحسب الحوادث وحاجات الناس؛ تقع جريمة الزنا مثلاً فينزل الله عز وجل حكم الزنا, يختلف -مثلاً- بنو المغيرة من بني مخزوم مع ثقيف في شأن الربا فينزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، يكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من النظر إلى السماء فينزل الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، وقس على ذلك، فكثير من آيات الأحكام قد نزلت بسبب تجدد الحوادث.
هذه السورة المباركة قد ورد في فضلها حديث لا يقل عن درجة الحسن, من ذلك: ما رواه الحاكم في مستدركه, وقال: صحيح على شرط مسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: ( لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ), وتعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الملائكة عليه الصلاة والسلام.
وجاء في صحيح البخاري : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام, يعني: بعد الآية مائة وثلاثين إلى نهاية السورة, ابتداء من قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].
اشتملت هذه السورة المباركة على أغراض:
أولاً: أنها في ابتدائها أشعرت الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله؛ لأنه سبحانه وتعالى مبدع العوالم كلها, سواء كانت جواهر كالسموات والأرض, أو أعراضاً كالظلمات والنور, فهو المتفرد بالإلهية, وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن.
ثانياً: تنزيه الله عز وجل عن الصاحبة والولد: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام:101] رداً على المشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله, واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله, والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.
قال أبو إسحاق الإسفرائيني رحمه الله تعالى: في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, ففي توحيد الربوبية قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا َ [الأنعام:164]، وفي توحيد الألوهية قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14]، وقوله: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، وفي توحيد الأسماء والصفات قوله: إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:95-96]، إلى غير ذلك من الآيات المباركات.
ثالثاً: موعظة المعرضين عن آيات القرآن، والمكذبين بالدين الحق, وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم, يقول الله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6].
يقول الله عز وجل: يا معشر قريش! يا أيها المعاندون المكذبون! لا تظنوا أنكم بدع من الأمم, فقد أهلكت من قبلكم عاداً وثمود, وأصحاب الرس، وقوم نوح وقوم لوط.. وغيرهم من الأمم كانوا أشد منكم قوة, وأكثر أموالاً وأولاداً, فلو أنكم تماديتم في تكذيبكم فسيسري عليكم ما سرى عليهم.
رابعاً: تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه, يقول الله عز وجل: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعني: يقول الله عز وجل: يا محمد! صلوات الله وسلامه عليه, هؤلاء الناس لا يعتقدون أنك كذاب, فهم يعلمون بأنك صادق؛ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:33-34], أي: لست أول رسول يكذب, فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34], وكما أتاهم نصرنا سيأتيك نصرنا, وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].
ثم يسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الأنعام:35]، يقول الله له: ماذا أنت صانع بهؤلاء القوم الذين يطلبون الآيات ويقترحونها؟ يقولون: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21], لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ [الإسراء:90-93] وهذا الكلام كانوا يقولونه، ويتبجحون به في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمره الله عز وجل بالإعراض عنهم وتركهم.
خامساً: بيان حكمة إرسال الله الرسل, وأنها الإنذار والتبشير, وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بالمغيبات, يقول سبحانه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، فهذه كلها لا أدعيها, لست إلا رسولاً بشراً, مبعوثاً من عند الله عز وجل أبشركم وأنذركم.
سادساً: أن تفاضل الناس بالتقوى, والانتساب إلى دين الله, وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال، فقد كان المشركون كما أخبر عنهم ربنا: قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، إذا قيل لهم: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام:145]، أي: الميتة حرام, قالوا له: ( يا محمد! الميتة من قتلها؟ قال: الله, قالوا له: ما قتلته بيدك حلال, وما قتله الله حرام! )، قال الله عز وجل: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فيبطل الله عز وجل هذه الشرائع الزائفة التي ادعاها هؤلاء الزنادقة.
سابعاً: المنة على هذه الأمة بما أنزل الله من القرآن, الذي هو هدى ورحمة, كما أنزل الكتاب على موسى, وأن الله جعل هذه الأمة أمة خاتمة للأمم الصالحة, وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام, وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات، ولذلك في الختام يقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].
هذه هي الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة المباركة.
يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم. الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، افتتحت السورة بالحمد لله, وفي القرآن الكريم خمس سور افتتحت بالحمد لله, أولها: سورة الفاتحة, وهذه الثانية, والثالثة سورة الكهف, والرابعة: سورة سبأ, والخامسة: سورة فاطر، فهذه خمس سور افتتحت بالحمد.
وهناك تسع سور سواها افتتحت بالتسبيح: إما بسبحان, كسورة بني إسرائيل, أو: سبح, كسورة الحديد والحشر والصف, أو: يسبح, كسورة الجمعة وسورة التغابن, أو: سبح, كما في سورة الأعلى.
الله عز وجل يثني على نفسه: (الحمد لله)، فما هو الحمد؟
الحمد هو: الثناء بالجميل على الجميل, والجميل هو الله جل جلاله, ( إن الله جميل يحب الجمال ), نثني عليه بجميل أسمائه وجميل صفاته وجميل إنعامه, وهاهنا يثني الله عز وجل على نفسه بهذه النعم: الحمد لله.
وهذه الكلمة المباركة كلمة كل شاكر, قالها نوح عليه السلام: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].
وقالها إبراهيم: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [إبراهيم:39].
وقالها داود وسليمان: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ [النمل:15].
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم, قال الله عز وجل له: وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111].
وقالها أهل الجنة, نسأل الله أن يجعلنا منهم, فهم لما دخلوا الجنة قالوا: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ [الأعراف:43]، وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35]، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، فالحمد لله، كلمة تسري على ألسنة أهل الجنة كما تسري أنفاسهم.
وهذه الكلمة ما كانت تفارق لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا أصابته نعمة قال: ( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ), وكان إذا أصابه بلاء قال: ( الحمد لله على كل حال ), وأخبرنا صلى الله عليه وسلم ( أن الله عز وجل يرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها, وأن يشرب الشربة فيحمده عليها ), وأخبرنا أن من طعم طعاماً فقال: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة, غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ), وأن من لبس ثوباً فقال: ( الحمد لله الذي كسانيه ورزقنيه, من غير حول مني ولا قوة, غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ), يعني: أن الله عز وجل يريد منك هذه الكلمة ثم يجزيك عليها, فمثلاً -ولله المثل الأعلى- لو أنك حملت إنساناً بسيارتك وقت الظهر, فلما نزل من السيارة قال لك: جزاك الله خيراً, ربما أنك لا تكلف نفسك فتقول له: وإياك, فأنت تقول: أنا أخذته ومقابلها قال لي: جزاك الله خيراً, لكن الله عز وجل إذا أعطاك النعمة, فقلت: الحمد لله, فإنه يجزيك على هذا الحمد, ولذلك أيضاً لو أنك أحسنت إلى أحد الناس, فقال لك: جزاك الله خيراً, فلا تجعل هذه مقابل هذه, بل قل: وإياك, أو قل: وجزاك.
ولذلك السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تعطي السائل الصدقة, فيقول لها: جزاك الله خيراً, فتقول له: وجزاك, فقال لها بعض الناس: يا أم المؤمنين! إنما يدعو لك في مقابل صدقتك, قالت: وأنا أدعو له لتكون الدعوة مقابل دعوة, والصدقة لله رب العالمين يجزيني بها.
ولذلك واجب علينا أن نعود أنفسنا على قول: الحمد لله عند كل نعمة، وعند كل بلاء, وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى إذا ابتلى عبده بمرض, يقول الله عز وجل لملائكته: انظروا ما يقول عبدي لعواده.. ), أي: انظروا ما يقول لمن يزوره؟ وهو جل جلاله أعلم, ( فتقول الملائكة: يا ربنا! حمدك وأثنى عليك ), هو مريض، موجوع, متألم, وكلما يأتيه إنسان يسأله: كيف أصبحت؟ يقول: الحمد لله, مع أنه يعاني من الآلام ما الله به عليم, ومع ذلك كلمة: (الحمد لله) لا تفارق لسانه, ( فيقول الله لملائكته: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه: بيت الحمد ), بيت مخصوص, اسمه: بيت الحمد.
وكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن عبداً قال: يا رب! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك, وعظيم سلطانك, فعضلت بالملكين كيف يكتبانها ), لم يعرف الملكان هل يكتبان أمامها عشرين حسنة أو مائة أو ألفاً, ( فصعدا إلى الله, فقالا: يا ربنا! إن عبدك قال كلمة لم ندر كيف نكتبها, قال الله عز وجل وهو أعلم: وماذا قال عبدي؟ قال الملكان: قال عبدك: يا رب! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك, قال الله عز وجل: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ).
وكذلك: ( الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه, فقال: سمع الله لمن حمده, فقال أحد الصحابة: ربنا ولك الحمد, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, فلما انتهت الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: أيكم القائل تلك المقالة؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله, قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها -يعني: يتزاحمون عليها- أيهم يرفعها إلى الله ), أي: من طيبها وحسنها؛ ولذلك من مساوئ الأخلاق الكفر بنعمة الله, ومما يقع فيه بعض الناس -أسأل الله العافية- أن تقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بشر حال, نعوذ بالله! أو تقول له: إن شاء الله طيب, فيقول لك: والطيب يأتي من أين؟! ونحو ذلك, فبعض الناس لا تأتي كلمة (الحمد لله) على لسانهم قط, وغاية ما عنده البكاء على ما مضى، نسأل الله العافية.
وقد حدثني بعض الناس بأنه رزق في الزمن الغابر مالاً قليلاً قدره عشرة جنيهات, فأمسك بها وقال: الحمد لله, فقال له صاحبه: تحمد الله على عشرة جنيهات! يعني: كأنه وجد بأن هذه لا تستحق الحمد, والمسكين لو نظر إلى نفسه لوجد أن نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى؛ كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، لكن الحال كما قال ربنا: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
لكن كلمة الحمد لله، متى تقال؟
قال الله عز وجل: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، يعني في الصباح, وفي المساء, في الظهر, وفي العشاء.. في كل وقت: الحمد لله, يقول سبحانه: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70], فالواجب أن تجري كلمة (الحمد لله) على لساننا دائماً, فالله عز وجل افتتح هذه السورة المباركة بهذه الكلمة المباركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الطهور شطر الإيمان, والحمد لله تملأ الميزان, وسبحان الله والحمد لله, تملآن ما بين السماء والأرض ), وقال: ( كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم )، وقال: ( من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ), فكلمة (الحمد لله), أعظم بها من كلمة، وأكرم بها من كلمة، ووصف هذه الأمة أنهم (الحمادون)، ونبينا عليه الصلاة والسلام محمد وأحمد ومحمود, وهذه الأسماء كلها مادتها من: الحاء والميم والدال, فهو أحمد ومحمد ومحمود, صلوات الله وسلامه عليه, فجملة (الحمد لله) تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره؛ لأنها تفيد الحصر, والألف واللام لتعريف الجنس (ال)، فهو سبحانه ما قال: حمداً لله, أو حمد لله, أي: أن الحمد كله لا يستحقه إلا الله, وهذا من باب الرد على المشركين -قاتلهم الله- الذين كانوا يحمدون الأصنام على ما يتخيلونه من إسدائها النعم إليهم.
ولذلك لما انتصر المشركون يوم أحد ذلك الانتصار المزيف قال أبو سفيان : اعل هبل, ولم يقل: الحمد لله, وإنما أرجع الفضل لهبل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا: الله أعلى وأجل, فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم, فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ).
فلما قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ).
فالله عز وجل يرد على هؤلاء الذين يحمدون الأصنام, فيقول: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1].
وعندنا هنا أسئلة:
السؤال الأول: لماذا جمعت السموات وأفردت الأرض؟ دائماً في القرآن السموات مجموعة, والأرض مفردة، وفي السنة جمعت الأرض: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو أن السموات السبع وعامرهن, والأرضين السبع وضعن في كفة, ووضعت لا إله الا الله في كفة رجحت بهن لا إله الا الله ), وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل بلداً قال: ( اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين, أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها, وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها, اللهم ارزقنا من جناها، وأعذنا من وباها, وحببنا إلى صالح أهلها، اقدموا بسم الله ).
السؤال الثاني: لماذا جمعت الظلمات, وأفرد النور؟
السؤال الثالث: أيهما أشرف الظلمات أم النور؟
السؤال الرابع: لماذا قال الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، ثم قال: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]؟
قال الله عز وجل: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي [الأنعام:1]، (الذي) اسم موصول في محل جر صفة للفظ الجلالة, الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1], (السموات) جمع سماء, فهي تجمع على سموات, وتجمع على سمي, وتجمع على أسمية, والسماء: كل ما علاك فأظلك, وبنص القرآن أن السموات سبع.
وكذلك بنص القرآن أن الأرض مثل السموات، يقول تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12], والذي عليه أكثر المفسرين: أن المثلية مثلية عدد, وليس كما قال بعضهم: إن المراد فقط مثلية صفة, فالأرضون سبع كالسموات, كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ شبراً من الأرض ظلماً, طوقه يوم القيامة من سبع أراضين )، والحديث في الصحيحين, من رواية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه.
فالسموات كل ما علاك فأظلك, والأرض كل ما كان تحتك, فما هو أرض لنا قد يكون سماء لغيرنا, وما هو سماء لنا قد يكون أرضاً لغيرنا, يعني: السموات التي فوقنا هي أرض لساكنيها من أهل الملأ الأعلى.
فالله عز وجل أفرد الأرض, وجمع السموات في آيات القرآن كلها لعلل ذكرها المفسرون:
أول هذه العلل: أن سعة الأرض بالنسبة للسموات كحصاة في صحراء, فالأرض وإن تعددت كالواحدة بالنسبة للسموات, قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] يعني: أنت أيها الإنسان بالنسبة للسموات كحصاة, وكذلك الأرض بالنسبة للسموات كحصاة.
فلما كانت الأرض صغيرة بالنسبة للسموات كانت دائماً تذكر مفردة وتذكر السموات مجموعة.
وقال بعض المفسرين: إن المقصود بالأرض السفل والتحت، لا ذات الأرض, يعني: إذا قال الله عز وجل: السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1], يقصد بالأرض ما كان تحت السموات, فيقصد بها التحت والسفل, وكلمة التحت والسفل لا تجمع.
وقال بعض أهل التفسير: إن الله عز وجل جمع السموات لأنها عوالم كثيرة, فكل كوكب منها عالم مستقل عن غيره, ومنها الكواكب السبعة المشهورة, المعبر عنها في القرآن بالسموات السبع فيما نرى, وهي المشتري والزهرة وزحل وعطارد وأورانوس ونبتون وبلوتو، فهؤلاء المفسرون قالوا: إن المقصود بالسموات السبع الكواكب.
والمعتمد علتان:
العلة الأولى: باعتبار السعة, فلما كانت الأرض ضئيلة بالنسبة لسعة السموات, فهي كشيء واحد بالنسبة لأشياء.
والعلة الثانية: أن المقصود بالأرض ليس الكوكب, وإنما التحت والسفل.
السؤال الثاني: قول الله عز وجل: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1], لماذا عبر هناك بخلق وهاهنا بجعل؟
يقول الزمخشري في الكشاف: دائماً في القرآن كلمة (جعل) تستعمل في خلق ما كان مستنداً إلى الغير, أي أن جعل وخلق بمعنى واحد إذا تعدت لمفعول واحد, وإذا تعدت جعل لمفعولين فهي بمعنى: صير, كقول الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3], فـ(جعل) هنا ليست بمعنى خلق وإنما بمعنى صير، لكن إذا تعدت لمفعول واحد كما في هذه الآية فهي بمعنى خلق.
مثل الأنثى فهي مستندة في وجودها للذكر، فالأنثى خلقت من الذكر؛ ولذلك قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]، فـ(جعل) هنا بمعنى خلق, لكن لما كانت الأنثى مستندة في أصل وجودها للذكر؛ لأنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام عبر الله عز وجل عن آدم بخلق, وعن حواء بجعل.
السؤال الثالث: لم جمع الظلمات وأفرد النور؟
هناك جوابان:
الجواب الأول: بأن الظلمات والنور كلاهما اسم جنس, واسم الجنس يستوي فيه الإفراد والجمع، يعني: لو أنك قلت: ناس، أو قلت: أناسي، أو قلت: إنسان, فالدلالة واحدة.
الجواب الثاني: أنه جمع الظلمات وأفرد النور؛ لأن ذلك أخف على اللسان, ولذلك تجد دائماً في القرآن: الظلمات والنور, قال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] فقالوا: كلمة النور مفردة أخف من أنوار, وكلمة الظلمات مجموعة أخف من ظلمة.
وهناك جواب ثالث قاله ابن كثير رحمه الله: أن الله عز وجل أفرد النور لشرفه, وجمع الظلمات لأنها وضيعة حقيرة, ولهذا نظائر في القرآن، قال الله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل:48]، أفرد اليمين وجمع الشمائل لشرف اليمين.
وقال الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي [الأنعام:153]، واحد، مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] فأفرد وجمع.
وأيضاً يتفرع عن هذا الكلام أن نقول: أفرد الله عز وجل النور؛ لأن النور واحد وهو الإسلام, وجمع الظلمات؛ لأن الظلمات كثيرة: النصرانية, واليهودية, والوثنية, والبوذية, والهندوسية, والزرادشتية, والمانوية, والشيوعية, والعلمانية.. إلى آخر ما هنالك مما يخترعه الناس, فالظلمات لما كانت كثيرة وكان النور واحداً أفرد الله النور وجمع الظلمات.
السؤال الرابع وبه نختم: لماذا قدم الله الظلمات على النور؟
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: لأن الظلمات سابقة, يعني: في خلقك أنت أيها الإنسان خلقك الله عز وجل في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة, ثم أخرجك من بطن أمك إلى النور, يمكن أن يقال هذا الجواب, ويمكن أن يقال غيره.
على كل حال هذه أربعة أسئلة:
السؤال الأول: لماذا جمعت السموات, وأفردت الأرض؟
السؤال الثاني: لماذا عبر بخلق ثم عبر بجعل؟
السؤال الثالث: لماذا جمع الظلمات وأفرد النور؟
والسؤال الرابع: لماذا قدم الظلمات على النور؟
ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم, اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم, ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم, نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل, وما قضيت لنا من أمر فاجعل عاقبته رشداً يا أرحم الراحمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا, وزدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وارفعنا ولا تضعنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, اللهم اجعلنا لك ذاكرين, لك شاكرين, لك مخبتين, لك مطواعين, إليك أواهين منيبين, اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا, وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا, واهد قلوبنا, واسلل سخيمة صدورنا, اللهم اجعل بلادنا هذه آمنة مطمئنة سخية رخية وسائر بلاد المسلمين, اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء والوباء والزلازل والمحن، وسائر الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا, واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك, اللهم كما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم, وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم, وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر