بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
تقدم معنا الكلام في أن هذه السورة المباركة قد نزلت دفعة واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت على سبيل المجادلة للمشركين الذين أعرضوا عن الدعوة وصدوا عن سبيل الله، وأبوا الانقياد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يريدون الشبه، وقد قال الله عز وجل في ما مضى من الآيات مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:10-12].
وهذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنبياء من قبله قد استهزئ بهم وسخر منهم، وقد أنزل الله بالمستهزئين الساخرين العقوبات، وهؤلاء المشركون على الدرب نفسه.
ولعل سائلاً منهم سأل: لم لا تنزل بنا العقوبات عاجلة غير آجلة، فالله عز وجل أجابهم بقوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ[الأنعام:12]، يعني: في ذلك اليوم ستحاسبون أيها المشركون! وستجازون على سخريتكم واستهزائكم.
ثم إن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا له مالاً حتى يصير أغناهم، أو أن يملكوه عليهم حتى يصير سيداً فيهم, قال الله عز وجل: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[الأنعام:13], الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الغني عن العالمين، هو بكل شيء عليم, هو على كل شيء قدير, هو القادر على أن يحول بطحاء مكة ذهباً لنبيه عليه الصلاة والسلام, فليس محمد صلى الله عليه وسلم محتاجاً لعروضكم أيها المشركون؛ لأن الله الذي أرسله له ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم.
ثم قال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:14-16], يلقن الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم حجته, قل لهؤلاء المشركين: لا يمكن أن أتخذ غير الله ولياً؛ لأن وليي الله جل جلاله، هو فاطر السموات والأرض، هو مبدعهما على غير مثال سابق؛ لأن وليي الله جل جلاله هو الذي يطعم ولا يطعم، ولا يمكن أن أتخذ غيره ولياً؛ لأني أعبد الله عز وجل بالخوف مع الرجاء، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]، وهو يوم القيامة، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16].
قال الله عز وجل مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ[الأنعام:17], كأن المشركين تهددوه وتوعدوه، قالوا له: يا محمد! لئن لم تنته لنفعلن بك كذا وكذا، ولننزلن بك من العذاب كذا وكذا، كما هي عادة المشركين الأولين؛ فقد قالوا لنوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116], وقالوا للوط: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء:167], وقالوا لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91], وهكذا كان المشركون يتوعدون أنبياءهم ويهددونهم ويخوفونهم، ولكن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا أهل ثقة بالله؛ ولذلك لما هدد قوم إبراهيم إبراهيم عليه السلام: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68], كان إبراهيم عليه السلام يجيبهم بقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81], الله عز وجل هاهنا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو قدر الله عليك ضراً فلا بد أن ينزل بك، ولو قدر الله لك خيراً فلا بد أن تناله، ولا يستطيع أحد منعه، كما قال ربنا في آية أخرى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].
أيها الإخوة الكرام! هذا المعنى التوحيدي، هذا المعنى في الإيمان بقضاء الله وقدره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يلقنه صغار المسلمين قبل كبارهم، والحديث الذي نحفظه جميعاً: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ), وفي القرآن الكريم نقرأ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51-52].
أيها الإخوة! الإيمان بالقدر يسكب في القلب طمأنينة، وفي النفس راحة، فلا يعيش المسلم مع الهواجس والوساوس؛ لولا كذا لكان كذا، لو لم أقل كذا لما حصل كذا، لو لم أفعل كذا لما حصل كذا..
وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأصل المس وضع اليد على الشيء، وقد يكون وضع اليد مباشرة أو بواسطة، وقد استعير هذا المعنى للإيصال، يعني: أن يصلك الله عز وجل بشيء تكرهه فلا كاشف له إلا هو.
وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الضر ضد النفع، والمراد به الشر الذي هو ضد الخير، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17] أي: بشر. ثم قال بعدها: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام:17]، وهو من أساليب التنويع وفصاحة القرآن، لم يقل الله: وإن يمسسك الله بشر، وإن يمسسك بخير، وإنما قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ[الأنعام:17], قال ابن عطية رحمه الله تعالى: وناب الضر في هذه الآية مناب الشر، وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة، ومثل هذه الآية قول ربنا: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، فإذا ذكر الجوع ذكر الظمأ، لكن الله عز وجل لم يقل: إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ، بل ذكر مع الجوع العري، إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].
ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ[الأنعام:17]، بأي نوع من أنواع الخير، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
إن معنى الآية: يا محمد! إن قدر الله عليك الضر فلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا أن يشاء الله جل جلاله، وإن قدر لك الخير فلا يستطيع أحد منعه عنك؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير، ومقدراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها.
وهذا المعنى الوارد في الآية نقش في قلوب الصحابة نقشاً، فكانت جارية رومية يقال لها: زنيرة قد آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الضعيفة المملوكة، فلم يكن لها عشيرة تحميها ولا قبيلة تدفع عنها، فأخذ المشركون يعذبونها ويعذبونها؛ فيلقونها في حر الشمس، ويجيعونها ويعطشونها ويضربونها ويضعون على صدرها الصخرة العظيمة.. ومن شدة العذاب ذهب بصرها رضي الله عنها وعميت، وتصوروا تلك الحالة لامرأة بطبعها ضعيفة -بل الإنسان بطبعه ضعيف- سلط عليها أنواع الأذى من قبل أناس لا يرجون لله وقاراً، فلما ذهب بصرها وما عادت ترى شيئاً قال لها المشركون: أذهب بصرك اللات والعزى, هذه من بركات اللات والعزى، فقالت: كذبتم، وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى ولا تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على رده إن شاء؛ فرد الله عليها بصرها! لأنها آمنت بأن النفع والضر بيد الله جل جلاله.
وكذلك بعض الصحابة عليهم من الله الرضوان، فقد خرج أحدهم مهاجراً ثم رجع إلى مكة وأبى أن يدخل في جوار المشرك الذي كان في جواره، فبدأ المشركون يعتدون على ذلك الصحابي، فضربه أحدهم حتى فقأ عينه، فجاء المشرك الذي كان يجيره وقال له: يا ابن أخي! ما كان أغناك عن هذا، أما كان خيراً لك جواري؟! فقال له: لا أرضى بجوار غير جوار الله، وقد كانت عيني الأخرى أحوج لما أصابت أختها في سبيل الله. هكذا كانوا رضوان الله عليهم.
يقول الله عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].
هذه الآية تأكيد لمعنى الآية الأولى، إذ هو القاهر جل جلاله، لا يتصرف متصرف ولا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته, ليس لأحد من الناس الخروج عن ملكه وسلطانه، بل الجميع ملوكاً ومملوكين، حكاماً ومحكومين، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، أغنياء وفقراء مدبرون مقهورون, فالله جل جلاله هو القاهر، فهو المستحق للعبادة وحده، وهو القاهر الغالب المكرِه جل جلاله، لا ينفلت من قدرته أحد، خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، ولانت لقدرته الشدائد الصلاب، فهو رب الأرباب ومسبب الأسباب، عنت له الوجوه ودانت له الخلائق.
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، العباد جمع عبد، يجمع العبد على عباد وعبيد، لكن كلمة العباد تطلق في القرآن غالباً ويراد بها البشر، والعبيد البشر وغيرهم.
هذا القهر من الله عز وجل ظاهر نلمسه فينا وفي غيرنا؛ فقد يصيبنا ما لا نحب كالمرض والموت والذي قدره هو الله، الواحد منا لو خير والله ما كان يريد أن يفارق حميمه أو صديقه، ما كان يريد أن يفارق والده أو ولده لكن الله عز وجل قهر العباد بالموت, الواحد منا لو خير ما يريد أن يصيبه مرض ولا وجع ولا ألم ولا هم ولا غم.. ولكن الله عز وجل قهرنا بذلك كله، ثم إننا نريد أشياء يمنعها الله عز وجل عنا، العقيم يريد الولد، والعزب يريد الزوج، والفقير يريد الغنى.. لكن الله عز وجل أوجد كل واحد منا مقهوراً؛ وهناك أمور يستطيع فعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة أخرة، أما ترون الواحد منا يمشي على الأرض، يدب دبيباً وللأرض منه وئيد، ثم بعد ذلك فجأة يصيبه الله عز وجل بالخدر في رجله، فيصرخ من الألم ولا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يمشي، هذا يحصل، قد يكون الواحد منا ذا قوة وعنفوان، يدخل ويخرج وينزل ويصعد، ثم فجأة يبتليه الله عز وجل بمرض يقعده عن الحراك أياماً ولربما شهوراً.
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، لكنه ليس قهراً عن تسلط، أو تجبر أو قائماً على العبث.. معاذ الله!
ثم قال سبحانه: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، الحكيم: المحكم لما صنع وفعل، والمحكم لما قدر، وهو الخبير جل جلاله من خبر الأمر إذا علمه وجربه.
ثم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المشركين المتجبرين: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19].
سبب نزول هذه الآية -كما ذكر الواحدي -: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد! ما نرى أحداً مصدقك بما تقول، قد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! يقول المشركون للنبي عليه الصلاة والسلام: ما نرى أحداً يصدقك في الذي تزعم أن الله أرسلك، وقد سألنا أهل العلم بالكتاب الأول، سألنا اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! كانوا يقولون هذا الكلام وحالهم كما قال ربنا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً[النمل:14]، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بالليل يرتل القرآن ترتيلاً بالصوت الشجي وصدره يغلي كأزيز المرجل، يأتي الأخنس بن شريق فيقعد مقعداً يسمع وأبو سفيان بن حرب يقعد في مكان آخر ولا يرى صاحبه، و عتبة بن ربيعة في مقعد ثالث، و الوليد بن المغيرة في مقعد رابع، وكل منهم يظن نفسه وحده، ثم بعد ذلك إذا انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته وتفرق القوم التقوا فلام بعضهم بعضاً.. لماذا تأتي لتسمع؟! ويقول الآخر: وأنت لم أتيت؟ ثم يتواعدون ألا يعودوا، وفي اليوم الذي بعده يجذبهم القرآن بحلاوته وطلاوته وحسن نظامه وجودة معانيه واتساق ألفاظه، فيأتون ويسمعون فإذا تفرقوا التقوا فلام بعضهم بعضاً، ثم خلا الأخنس بن شريق بـأبي جهل ، وقال له: يا أبا الحكم ! ما ترى فيما يقول محمد؟ ما رأيك فيما تسمع؟ قد مرت بنا ليالي ونحن نسمع، قال له أبو جهل : والله! إني لأعلم أن محمداً على حق، وأنه صادق لا يكذب، ولكننا تنافسنا وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، حتى إذا تجاثينا بالركب وكنا كفرسي رهان قال بنو عبد مناف: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً! هكذا.
فهاهنا يقول الله لنبيه قل لهم: يا مشركون، يا من تطلبون شهادة، أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، أكبر شهيد في الوجود هو الله، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28], قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه: أي شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان، وما انتظر منهم جواباً! بل أمره الله جل جلاله أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يماري فيها عاقل، ولا يجادل فيها إلا مكابر، وهي أن شهادة الله أكبر شهادة وأقواها وأزكاها؛ لأنها شهادة من يستحيل عليه الخطأ، والكذب، وقد شهد الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلم بصدقه فيما يبلغه عنه، فلماذا تعرضون عن دعوتي وتتنكبون الطريق المستقيم؟!
(قل) يا محمد: (أي): اسم استفهام، شَيْءٍ ))، كلمة الشيء تطلق على الموجود، خالقاً أو مخلوقاً، أَكْبَرُ شَهَادَةً ))، بمعنى: أقوى وأعدل، وأعظم وأجل. قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، هذا تهديد، قل: أنا أكلكم إلى الله جل جلاله الذي يسمع كلامنا، ويرى مكاننا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، وهو الذي أرسلني، وقد سمع جل جلاله جوابكم لي، واعتراضكم علي، وتكذيبكم إياي.
ثم قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], الله جل جلاله أنزل عليّ هذا الكتاب المعجز لأنذركم به، والقرآن إنذار وتبشير، لكنه اقتصر على الإنذار لأن المخاطبين في حال مكابرتهم لا يليق بهم إلا الإنذار، فهم ليسوا أهلاً للبشارة؛ لأنذركم به يا من تعاصرونني وتسمعونني وترونني، وأنذر من يأتي بعدكم ممن يبلغه هذا الخطاب ويسمع هذا القرآن ولو لم تحصل بيني وبينه مشافهة. قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه؛ لأن القرآن الذي نتلوه الآن هو نفسه الذي تلاه محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقال يعض المفسرين المعنى: لأنذركم به وأنذر من بلغ الحلم.
قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19].
أي: قل: يا مشركون! إن كنتم تدعون دعوى تحققونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أن مع الله جل جلاله آلهة أخرى فإني لا أشهد، قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19]، جل جلاله، وهذه القضية التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين المشركين، كانوا يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، نحن عندنا آلهة كثيرة، عندنا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل وذو الخلصة.. وغيرها، فقد كان حول الكعبة وحدها ثلاثمائة وستون صنماً.
يقولون: محمد يريد أن نترك هذا كله ونستمسك بإله واحد، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله, الله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19].
هذه الآية دالة على عموم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[الأنعام:19]، كما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107], وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ:28]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1], إنذاره عام عليه الصلاة والسلام، كفر به أولئك المشركون، فموعدهم النار وكذلك كل من يكفر به, قال الله عز وجل: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]، لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[الأنعام:19]، قل: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19].
ثم ينقلهم الله عز وجل نقلة سريعة, هذه الدنيا أيام معدودة، وأنفاس محدودة والمنقلب إلى الله، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام:22]، نحشر المشركين والكتابيين الكذابين والمفترين والصادين والمعاندين.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام:22]، يوم: منصوب على الظرفية، نحشرهم: الحشر هو الجمع، يحشرهم الله عز وجل في أرض بيضاء عفراء، كقُرصة النقي لا معلم فيها لأحد، ليس فيها بناء ولا جدار، ليس فيها شيء يظلهم ولا بيوت تؤويهم، جَمِيعاً [الأنعام:22]، لا يستثنى من ذلك أحد، من آدم عليه السلام إلى آخر أولاده، وكلمة (جميعاً) يدخل فيها أيضاً من عُبدوا من دون الله، سواء أكانوا بغير رضا منهم، كالمسيح وعزير والملائكة، أو كانوا قد عبدوا عن رضا منهم، كالأحبار والرهبان والدجاجلة والمشعوذين ومن يسجد لهم الناس ويركعون ويتمسحون بأعتابهم وهم راضون، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام:22]، ومعهم أصنامهم وأوثانهم ومعبوداتهم.
قال سبحانه: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا [الأنعام:22] لم يقل الله: ويوم نحشرهم جميعاً ونقول، بل قال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ [الأنعام:22]، أي أن ما بين حشرهم وكلام الله لهم مسافة زمنية، يطول وقوفهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:9-10], والشمس دانية من رءوسهم وهم حفاة عراة قد بلغ العناء منهم كل مبلغ، ألجمهم العرق إلجاماً، وقد أتي بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وللناس صراخ وبكاء وضجيج وهم في تلك الحال، ثم بعد ذلك.. يشفع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يبدأ الله الفصل بين الناس، فيوجه الله الكلام لهؤلاء المشركين، يقول لهم: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]، قد حشر الله معهم أصنامهم وأوثانهم ومعبوداتهم, والملائكة موجودون، وعيسى بن مريم, وعزير .. الكل موجود؛ لئلا يظن هؤلاء المشركون بأن شركاءهم لو كانوا حاضرين لنفعوهم, الله عز وجل يقول: هؤلاء هم شركاؤكم الذين كنتم تزعمون.
ثم يوجه إليهم السؤال: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]؟ استفهام توبيخي.
هؤلاء الشركاء سيتبرءون، يقول الله عز وجل للملائكة: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41], ما نعرفهم ولا رضينا والله, يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]؛ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:116], لو كنت قلت هذا الكلام فأنت علام الغيوب جل جلالك، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117].
هؤلاء المشركون وجدوا أنفسهم كما يقول الناس في الهواء, فما الحيلة؟ نسأل الله السلامة والعافية, ونعوذ بالله من الخذلان، سيلجئون إلى الحلف بالله كذباً, يقول الله عز وجل: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام:23], أي: حجتهم، إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، والله ما أشركنا! وما حصل منا قط.
قراءة حمزة و الكسائي و يعقوب : (ثم لم يكن فتنتهم)، على أن الفتنة تأنيثها مجازي، وقرأ الجمهور بنصب: (فتنتهم)، على أنها خبر كان، وقرأ بعضهم - وهي قراءة عاصم - بالضم على أن كان تامة.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ [الأنعام:23]، ليس والله فقط، وَاللَّهِ رَبِّنَا [الأنعام:23], الآن انتسبوا إلى الله.
يقول المفسرون: ذكرهم الرب بالإضافة إلى ضميرهم: نا، وَاللَّهِ رَبِّنَا[الأنعام:23]، مبالغة في التنصل من الشرك، أي: لا رب لنا غيره، فنحن موحدون، وقد كذبوا وحلفوا على الكذب، قال الله عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18], كما كانوا في الدنيا يحلفون كذلك يوم القيامة يظنون أنهم بين يدي بشر.
في صحيح البخاري : أن رجلاً قال لـابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، فذكر منها قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42], وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23], فقد كتموا, يعني: هذا الرجل يرى أن بين الآيتين تعارضاً وتناقضاً.
في الآية الأولى يقول الله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42], يعني أن المشركين لن يستطيعوا الكتمان، ولن يستطيعوا الكذب، ولكن هذه الآية تثبت أنهم كذبوا، فكيف التوفيق؟
قال ابن عباس : إن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم, أي: الناس الذين كانوا على التوحيد، فالذين كانوا على الإيمان سيغفر الله عز وجل لهم, نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يتوفانا على الإسلام, وفي الحديث: ( أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )، وحين يرى المشركون ذلك يقولون: تعالوا نقل: ما كنا مشركين! إذاً يخرج الموحدون من النار، فيقول الكافرون: ندعي بأننا موحدون! قال: فيختم الله على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثاً.
إذاً تحمل هذه الآيات على اختلاف المواقف؛ لأن يوم القيامة يوم طويل، ومثلها أيضاً قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77], وفي آيات أخرى يكلمهم الله عز وجل لما جلسوا في النار يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، قال: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108], هذه حال وتلك حال أخرى.
قال الله عز وجل: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24].
أي: انظر -يا محمد- كيف كذبوا على أنفسهم حين قالوا عن الأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر:3], كذبوا على أنفسهم؛ مساكين، خادعوا أنفسهم.
وقوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24], ضل بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا[السجدة:10]، أي: غبنا في الأرض, أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10], وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، شفعاؤهم حاضرون، لكنهم بمنزلة الغائبين؛ لأنهم لا ينفعونهم؛ فلا ينفعهم المسيح ولا عزير ولا الملائكة ولا الأصنام. كما لو أخذت شاهداً إلى المحكمة ثم بعد ذلك شهد عليك تقول له: ليتك ما حضرت, كانت شهادتك علينا لا لنا.
فهؤلاء المشركون لما لم ينتفعوا بهؤلاء الشركاء المعبودين من دون الله فقد ضل عليهم ما كانوا يفترون.
يقول الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25].
يحكي ربنا جل جلاله ما كان من أولئك المشركين المعاندين وما كان من أحوالهم مع النبي الأمين صلى الله عليه وسلم, ذكر المفسرون: أن من هؤلاء أبا سفيان بن حرب و عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا جهل بن هشام و الوليد بن المغيرة و النضر بن الحارث و أمية بن خلف و أبي بن خلف ، وأنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن، فلما سمعوه قالوا للنضر وهو شيطانهم الخبيث: ما يقول محمد؟ يسألون النضر لأنه كان يسافر إلى بلاد فارس ويأتي فيقص على المشركين أخبار رستم و إسفنديار ، وكانوا يستملحون حديثه، فكأنه أعلمهم وبئس العالم هو! قالوا له: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته -يعني الكعبة- ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه، فما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية, يعني: هو يشهد على نفسه -قبحه الله- بأن كلامه أساطير الأولين، لكن يريد أن يلحق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه، يريد أن يلحق الآيات الكريمات بأساطير الأولين التي كان يقصها.
يقول الله عز وجل: وَمِنْهُمْ [الأنعام:25]، أي: من هؤلاء المشركين، مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25], أي ليسوا كلهم، فمن المشركين من كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، ومنهم من كان يحشو في أذنه الكرسف -القطن- لكي لا يسمع، وكانوا يقولون: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5], يعني: حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أما تسمعون؟ كانوا يقولون: في آذاننا وقر، وهذا مثل أن تكلم إنساناً فلا يرد عليك، تقول له: أما تسمع؟ فيقول: أنا أطرش, أو أنا أعمى!
قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5], في أكنة: في أغطية، أو في أغلفة كما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88]، و قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت:5]، أي: ثقل, وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، لكن بعضهم كان يستمع: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ[الأنعام:25]، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ[الأنعام:25], الجعل هنا بمعنى الخلق، وجعلنا أي: خلقنا، عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً[الأنعام:25]، والمعنى: أن هؤلاء الناس قد بلغ بهم الهوى - والعياذ بالله - أنهم يتخيرون المنع من اتباع الحق، فالله عز وجل يقول: هؤلاء أصلاً مصروفون، كما قال موسى لفرعون: وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102]، أي: مصروفاً عنه الحق.
وقوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام:25]، جمع كنان، والكنان هو الغطاء، شبه الله عز وجل قلوبهم في عدم خلوص الحق إليها بأشياء محجوبة عن شيء، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25], يفقهوا القرآن، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً[محمد:16], أولئك المنافقون، وهؤلاء المشركون: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً [الأنعام:25] صمماً شديداً، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، كما قال ربنا سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97], وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145], وفي سورة الأنفال: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
قال سبحانه: حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ[الأنعام:25] أي: مخاطبين ومجادلين، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، أساطير جمع أسطورة، بضم الهمزة وسكون السين، وهي القصة والخبر عن الماضين، وكلمة أسطورة قيل: بأنها من الكلمات المعربة، وأصلها رومي، كما قيل في غيرها من كلمات القرآن، وقيل: أصلها أسطوريا أو إسطيرة أو أسطور أو إسطير، وكما تقول العرب: أعجمي فالعب به ما شئت! أي: يمكن أن تغير ألفاظ الأعجمية.
فهاهنا يذكر الله عز وجل عن هؤلاء المشركين أنهم لا يميزون بين القرآن العزيز الحكيم الكريم، وبين أساطير الأولين التي كان يقولها هذا الخبيث النضر بن الحارث .
أيها الإخوة الكرام! لما كان يوم بدر خرج النضر بن الحارث مع المشركين وكان من بين الأسرى السبعين، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريق العودة إلى المدينة وفي مر الظهران أمر بأن يعرض عليه الأسرى، فلما رأى هذا الخبيث نظر إليه نظرة عرف فيها الموت, عرف فيها أن محمداً صلى الله عليه وسلم قاتله، فمر به مصعب بن عمير فقال النضر : يا مصعب ! إن صاحبك قد نظر إلي نظرة رأيت فيها الموت، فاشفع لي عنده, فقال له مصعب : والله ما أنا بفاعل، فقال له: يا مصعب ! لو كنت مكاني ما تركتهم يقتلونك, قال له مصعب : والله إني لأظنك صادقاً ولكنني لست مثلك, أنت فعلاً رجل شهم لكن أنا لست مثلك, لن أتوسط لك.
وفعلاً أخرجه الرسول صلى الله عليه وسلم هو و عقبة بن أبي معيط ودفع النضر إلى علي بن أبي طالب ودفع عقبة إلى عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأمرهما بضرب أعناقهما، أما هذا فقد سكت, وأما الآخر عليه لعنة الله فبدأ يستشفق، يقول له: أنا من بين الناس يا محمد! ما زال هناك تسعة وستون واحداً, ( أنا من بين الناس يا محمد! قال: نعم، قال: ولم؟ قال: بأذيتك لله ورسوله ), ثم قال للمسلمين: ( إن عدو الله هذا رآني ساجداً عند الكعبة فوضع رجله على رقبتي حتى كادت عيناي تندران ), كادت عيناه صلى الله عليه وسلم تخرج من محجريهما, وفي يوم من الأيام والرسول صلى الله عليه وسلم ساجد عند الكعبة أتى بسلا جزور وطرحها على رأسه وظهره عليه الصلاة والسلام, قال له: يا محمد! فمن للصبية؟ يعني: أنا عندي أطفال فمن لهم؟ قال: النار.
وهذا هو جزاء من كفر وعاند ووصف القرآن بأنه أساطير الأولين.
قال الله عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26], (وهم ينهون) عن استماع القرآن كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26], (وينأون) أي: يبتعدون، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ[الأنعام:26], وفي تفسير: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، يعني: ينهون عن أذى رسول الله وفي الوقت نفسه لا يؤمنون به.
قال المفسرون: والمراد في هذا أبو طالب ؛ لأن أبا طالب كان ينهى عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى أن يؤذى عليه الصلاة والسلام.
قال أهل السير: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل لعنه الله: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانفتل من صلاته ثم أتى أبا طالب عمه فقال: يا عم! ألا ترى إلى ما فعل بي؟! فقال أبو طالب : من فعل هذا بك, قال النبي عليه الصلاة والسلام: عبد الله بن الزبعرى ، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم وهم جلوس عند الكعبة، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، يريدون أن يتفرقوا فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل جللته بسيفي, فقعدوا حتى دنا إليهم فقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني! من الفاعل بك هذا؟ قال: عبد الله بن الزبعرى ، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، فنزلت هذه الآية: وَهُمْ يَنْهَوْنَ [الأنعام:26]، أي: أبو طالب ، يَنْهَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، عن أذاه، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم! قد نزلت فيك آية, قال: وما هي؟ قال: أنت تمنع قريشاً أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي ), فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
هذا الرجل عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان وهو في كربات النزع، لكن كان آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب, قال العباس : ( يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك ويدفع عنك فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل, توضع أسفل قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، وهو يرى أنه أشد أهل النار عذاباً وهو أهونهم ).
قال تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26]، هؤلاء القوم يهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليلهم الناس، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس، وفي هذه الجملة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بـأن هؤلاء الناس لا يضرونك وإنما يضرون أنفسهم، والحال أنهم ما يشعرون لضعف عقولهم وضلال أحلامهم مع أنهم كانوا يعدون أنفسهم قادة الناس، وسادات القوم، لكن للأسف لا يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم.
نسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن العظيم, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
والحمد لله رب العالمين.
زعم المشركون أنهم سألوا اليهود والنصارى، فقال اليهود والنصارى: ليس عندنا ذكر محمد ولا صفة محمد، ولا نعرف شيئاً عن محمد عليه الصلاة والسلام, قال الله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ[الأنعام:20], يا أبا جهل ويا أبا لهب ويا عقبة ويا شيبة ويا عتبة ويا وليد بن المغيرة ويا أمية بن خلف ويا مشركون! إن كنتم صادقين في أنكم أتيتم أهل الكتاب فسألتموهم فاعلموا أنكم وأهل الكتاب سواء في الكفر, أنتم يا أهل مكة قد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق أمين، ما جربتم عليه كذباً قبل أن يقول مقالته ومع ذلك كذبتموه، وهؤلاء أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل باسمه ونسبه وصفته ومهاجره، إذا كان الواحد لا يخطئ في معرفة أبنائه فهؤلاء أهل الكتاب يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم، ويعرفون القرآن كما يعرفون أبناءهم. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43].
قال الله عز وجل: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12].
يقول الله عز وجل: هؤلاء المشركون وهؤلاء الكتابيون الكاتمون قد خسروا أنفسهم، وأوردوا أنفسهم موارد الردى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60].
المشركون كذبوا على الله وهؤلاء الكتابيون الكاتمون لصفة محمد صلى الله عليه وسلم كذبوا على الله كذلك: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21], افتروا على الله الكذب بعقيدة الشرك حين قالوا: الملائكة بنات الله، وعبدوا هذه الأصنام وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والكتابيون افتروا على الله كذباً حين قالوا: عزير ابن الله وقالوا: المسيح ابن الله، فهؤلاء افتروا على الله كذباً وأيضاً.
قال تعالى: أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [الأنعام:21]، أي: كذب بآيات القرآن، فمن ارتكب واحدة من هاتين الخصلتين القبيحتين فهو أظلم الناس، فما بالك بمن ارتكب الخصلتين جميعاً؟ وأهل مكة قد ارتكبوا الخصلتين جميعاً، فهم افتروا على الله كذباً حين قالوا عن الأصنام: هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقالوا: الملائكة بنات الله، وكذبوا بآيات الله، كذبوا بالقرآن وقالوا عنه: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5]، وقالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103].
وكذلك الكتابيون افتروا على الله كذباً بنسبة هؤلاء الصالحين إلى الله كأبناء، وكذبوا بآيات الله بجحدهم القرآن وإنكارهم لبعثة محمد رسول الله، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[الأنعام:21].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر